|
قطار آخن 40
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 7464 - 2022 / 12 / 16 - 23:13
المحور:
الادب والفن
مع سفر الأطفال كانت فرصتي عظيمة في الدراسة الجامعية التي حُرمتُ منها وأَثقلتْ كاهلي، جاءت الفرصة لأنهض من جديد، لأنفض الغبار عن أحلامي الضائعة علّني أتلمّس نبضَ حياةٍ في أحدها فأهطل فيه.
حين كنت في المرحلة الإعدادية وقف الموجه التربوي قرب مقعدي وحدّثني أن موضوع الإنشاء الذي كتبته قد قرأهُ مدرّس اللغة الألمانية في غرفة المدرّسين وطبع على دفتري ختم "النحلة الحمراء" مشجّعاً، كما كان الأمر معتاداً في المدرسة الإبتدائية، إلاّ أنّني لم أنتبه لهذا الأمر جديّاً.
في المرحلة الثانوية ازداد اهتمامي وشغفي بالأدب والإعلام، شدّتني اللغة الإنكليزيّة، رغبت بالصحافة والأدب كدراسة، لكني لم أفعل بسبب الزواج، كل من عرفني شجّعني على كتابة القصة ودراسة اللغات. حسمت أمري أخيراً، ذهبت إلى جامعة آخن وسجلت فيها بعد حصولي على قبولٍ لدراسة علوم الآداب واللغات، بعت البيت الذي ورثته من أهلي واشتريت بثمنه وبمساعدة مادية من أخي منزلاً ريفياً في ضواحي آخن.
**
في الجامعة تعرفت إلى جوزيف، رجل جذّاب بشكلٍ لا يصدق، لعب معي دور المراهق الضائع، كان ساحراً ومحبوباً ومثيراً، كان فوضوياً بشكل تام، دخل جوزيف إلى حياتي، أحببته، في غضون فترة زمنية قصيرة نشأت بيننا علاقة رائعة، لأكتشف بعد عدة شهور بأن الشيطان يكمن في شخصه، رغم هذا انبغى عليّ العيش معه لعدة سنوات دون أن أفارقه حتى موته.
كان مدمناً على شرب الكحول وتعاطي الهيرويين، بدأ بضربي لكنني سامحته مراراً وتكراراً وبقيت معه، صرت عمياء حُبٍ، أساء معاملتي على مدى سنوات بشكل قاسٍ لدرجة أنني كنت مرات ومرات عاجزة عن الذهاب للجامعة، ما زلت إلى اليوم أحمل ندبات جسدية من ضرباته في حالات السكر.
بعد عام واحد فقط معه أيقنت أنّ شيئاً ما يسير بطريقة خاطئة، كان يكذب عليّ باستمرار، يطبخ الحيل كي يهرب من البيت ليأتي إليه من جديد زاحفاً خائفاً، ومع هذا تعلقت به بشكل مرضي، احتجت لوقت طويل كي أجد تفسيراً لما يحدث، كي أعرف ما الذي يدور في ذهنه، كان قد تطوّر لديه رهاب الأيدز، أخذ يعتقد بأنه مصاب بفيروس نقص المناعة المكتسبة، أدمن الذهاب إلى المخابر لإجراء اختبارات الأيدز مرة إلى مرتين في الشهر، وعلى الرغم من النتائج السلبية للاختبارات كان خوفه يتعاظم من اختبارٍ إلى آخر.
في تلك الأثناء أخبرني أن أحد مدمني المخدرات قد حقنه بإبرة غير نظيفة في عضلة ساقه، لكن سرعان ما تبخرت كذبته بعد مرافقتي له في زيارة مشتركة للطبيب المعالج، بعدها اعترف لي والدموع تسيل على خديه بأنّه اُغتصب من قبل رجلين في وقت واحد، لم أصدّقه وشككت بأمره، إنني على قناعة راسخة اليوم بأنّه كان يمارس الجنس دون وقاية مع رجالٍ أجانب، هم من سببوا له الذعر في حياته، علمت هذا من دفتر مذكراته الذي نسيه ذات يوم في السيارة، لقد قمت بالاتصال بأشخاص ثلاثة من قائمة أصدقائه الذكور، أثناء المكالمات الهاتفية تبيّن لي أنهم يعملون في بيوت للدعارة، تكلمت مع جوزيف لكنه نفى كل شيء، مع هذا لم أرغب في التخلُّص منه، لأنه كثيراً ما جعلني سعيدة في الليل.
ذات يوم وجدت في درج مكتبه عشرات الرسائل والنصوص عن قصص الآخرين وقصصه مع الاستشاريين، وجدت أيضاً عشرات الصور الجنسية مع الأولاد، حينها تأكدت بالدليل القاطع من حياته المزدوجة، من تفكيره المُضاعف، كان يُؤمن بفكرةٍ ما ونقيضها بآنٍ واحد ويدافع عنهما بضراوة على عكس الحقيقة البادية للعيان، كأن يقول مثلاً: الأبيض أسود أو الفيل طير.
حين واجهته بما وجدته نفى كل شيء مرة أخرى، نفى أن يكون له علاقات مع الرجال أو مع الأولاد، كذب عليّ بعيونٍ باردة، تكلم بشكل واضح منتقداً المثليين واليبدوفيليين، استخف بهم، احتقر أسلوب حياتهم، سمّاهم حثالة جنسية، نعتهم بأبشع الصفات، سمّاهم أبناء العاهرات، أقزام، عاشقي الثقب ومصاصي العضو.
كان متناقضاً مع نفسه كما أعتقد، على العكس تماماً من الرجال مزدوجي الرغبات الجنسية رغم أنّه واحد منهم، كان يلعب ذلك الدور وكأنه لا ينتمي الى وسط الجنسية المثلية، في النهاية لم يكن هناك من ضحايا سواي.
**
اعترف جوزيف لي أن لديه ومنذ سنوات علاقة مع اِمرأة متزوجة على التوازي لعلاقته معي، لكن لا العلاقة معها ولا معي كانت تشبعه، اعترف لي أيضاً بأنه يجمع حوله علاقات مع كل الناس فقط لمواجهة مخاوفه من أن يتركه الناس وحيداً، والسبب يكمن في فقدانه لوالده في وقت مبكر، هذا ما شرحه لي طبيبه النفسي فيما بعد.
سلبني كل شيء بسبب إدمانه، عندما أقول كل شيءٍ أعني تماماً ما أقول، أجبرت على إعادة تجهيز بيتي من جديد، الشيء الذي كلفني مالاً ووقتاً كثيراً.
عزيزي إبراهيم، أعتقد أنك تفهم ما أعنيه فقد أخبرتني أنك تنقّلت في الغربة من شقة لأخرى ومن مدينة لأخرى وفي كل مرة كنت أيضاً تبدأ من جديد. بطبيعة الحال طرحت على نفسي أسئلة، ماذا حلّ بأثاث منزلك ومطبخك وأدواته عندما كنت تتنقَّل؟ طبعاً لن أطرح هذه الأسئلة عليك مباشرةً، أنا أعلم أنني لن أتلّقى الجواب، على الأقل تستطيع الآن أن تتخيّل ماذا حصل لي كما آمل.
يجب أن أعترف في نهاية المطاف بأنني أحببت شخصاً يعاني من المرض النفسي، كنت بالنسبة له مجرد "شرطوط" في مطبخ، ينظف به ما شاء متى شاء، كان يستمتع بإذلالي، يقتل روحي، كنت متأكدة بأنه سوف لن يتوقف عن تعذيبي حتى ألقى حتفي، كان يشعر بنفسه كبيراً من خلال معاناتي، كانت معاناتي معه شريان حياته، لم أرغب طلب المساعدة من أخي، بقيت معزولة عن الوسط المحيط أتستر على إساءاته لي لأحافظ قدر الإمكان على ماء وجهي، طفح الكيل أخيراً فتوجهت إلى طبيب نفسي.
اتهمني مراراً بأني طردته من البيت، الشيء الذي لم يحدث، على العكس تماماً لقد فكرت للحظة بأهمية بقائه إلى جانبي رغم فقدانه لتوازنه كرجل لساعات طويلة، عرضتُ عليه مساعدته في تجهيز القبو ليكون سكنه الجديد، كانت مساحة القبو حوالي أربعين متراً مربعاً، وافقتُ أن يأتي إلى شقتي للزيارة، عرضتُ عليه أن أنظف له، أن أطبخ له أحياناً، أن أخدمه كما أعتاد، وافقتُ على كل شيءٍ إلا أن يشاركني غرفة نومي.
بالطبع رفض كل عروضي، لن يكون أبداً الرجل الذي يعيش في قبو بيتي وتحت رحمتي، بل تطاول قائلاً: أنت من يجب أن ينتقل إلى الطابق السفلي.
لم أفهم كيف استطاع نطق هكذا تفاهات، هذا بيتي، لقد رضي أن يعيش معي لسنوات في هذا البيت القديم دون أن يدفع فلساً واحداً، دون أن يفكر يوماً في ترميم عطل صغير، لم ينفق أي نقود، فالبيت بحسب رأيه ليس بيته، لقد تجاوز بطلبه هذا حدود بساطتي وطيبتي وسذاجتي، أليس كذلك؟
صار مريضاً، منهكاً وعاجزاً عن الجنس والحب، بعد ذلك ببضعة شهور قتل نفسه في حقل مهجور، في قسم الشرطة قدَّمت إفادتي بأن انتحاره جرى ضمن جنون رهاب الإيدز الذي يعاني منه منذ سنوات، الشيء الذي أكده طبيبه المعالج.
مات جوزيف بعمر الأربع والأربعين عاماً بعد أن ترك لي خلفه جبلاً من الأزمات النفسية، وقعت في أزمة وجودية، مضى وقت طويل حتى استطعت تسوية أموري والعودة إلى توازني، ما يعزيني هو أني لم أضيّع حلمي وهدفي بالدراسة رغم كل المصائب، أنهيت دراسة الماجستير وحصلت على منحة مالية لتمويل دراساتي العليا وكتابة أطروحة الدكتوراه في الأدب.
بعض ما يحدث مع الإنسان لا يمكن دائماً تفسيره ببساطة.
الشخص الذي تطوّرت حياته بشكل صحي ولم يشهد الاستغلال في طفولته سوف لن يلتقي أبداً بمثل هؤلاء المجرمين ولن يمضي معهم السنوات كما حدث معي.
ماذا يمكن أن أضيف بعد!؟ **
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قطار آخن 39
-
قطار آخن 38
-
قطار آخن 37
-
قطار آخن 36
-
قطار آخن 35
-
قطار آخن 34
-
قطار آخن 33
-
قطار آخن 32
-
قطار آخن 31
-
قطار آخن 30
-
قطار آخن 29
-
قطار آخن 28
-
قطار آخن 27
-
قطار آخن 26
-
قطار آخن 25
-
قطار آخن 24
-
قطار آخن 23
-
قطار آخن 22
-
قطار آخن 21
-
قطار آخن 20
المزيد.....
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|