|
الخوف من التقدم
شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7463 - 2022 / 12 / 15 - 17:11
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
----------------------------------- استيقظت على صراخ امرأة يرتفع فى ظلام الليل حادا ، متصلا يتكرر على نفس الوتيرة دون تغيير . انتظرت راقدا تحت الغطاء ، ظننت انه سينتهى بعد قليل .. مشاجرة من تلك المشاجرات التى تنفجر فى أى من شقق العمارة بين الحين ، والحين . لكن صراخها استمر رفيعا ، مفزعا ، مشحونا بألم فظيع ، كأنه يصدر عن حيوان جريح يعانى من عذاب وصل إلى أقصاه ، ولم يبق بعده سوى الانفجار الأخير . تسللت إلى رهبة المجهول لا أعرف أبدا ما يمكن أن يختزنه لى . من الأفضل أن أبقى هكذا راقدا فى السرير . ما شأنى أنا ، وشأن هذه المرأة تصرخ فى ظلام الليل ؟. ترى ما الذى يعذبها إلى حد الصراخ كأنها فى الجحيم ، وما هذه الأصوات الرجولية ترتفع متعجرفة ، زاعقة ، تريد أن تسكت صراخ الضحية ؟. قمت من رقدتى واضأت مصباح السرير . ألقيت نظرة على الحجرة بدت خالية ، موحشة بالنسبة إلى . أدركت أن " نوال " سبقتنى لتلحق بالمرأة الصارخة فى الليل . الصالة مضاءة ، وباب الشقة مفتوح ، كأنها فقدت الحرص الذى اعتادت عليه .. الآن توقف الصراخ ، والزعيق ، وحل محله صمت ثقيل . هبطت على سلم العمارة ، أبوابها كلها مغلقة على منْ فيها . وصلت الى الدور الرابع . جاءنى شىء كالبكاء الأنثوى المكتوم . لمحت بابا مفتوحا ، وامرأتين بدا لى قوامهما طويلا. إحداهما شابة ممشوقة والأخرى حول رأسها منديل . وجهها شاحب ، نحيل ، ترتدى فستانا وردى اللون ، وخفا مطاطيا كبيرا حول قدميها ، يبدو أنها ارتدته فى عجلة دون أن تنتبه إليه . سمعتها تقول للشابة فى صوت مرتعش : جسمها كله أتفحم يا نيفين . تنبهت إلى " نوال " ، تقف إلى جوارها وتربت عليها ، وفى وجهها أسى العاجز عن فعل شىء . فى أنفى رائحة حريق . وقفت مترددا وبدأت أدرك ماذا حدث .. اقتربت " نوال " وهمست لى : " دى أمها قفلت باب المطبخ وولعت فى نفسها ... ما تدخلش المنظر فظيع ". أبواب الشقق مازالت مغلقة على نفسها . صعدنا إلى شقتنا ، وأغلقنا بابها علينا . هذه المرأة المجهولة لا نعرفها ، ولا نعرف عن أسرتها شيئا . فتحنا نافذة حجرة النوم المطلة على الشارع الرئيسى . أسفل العمارة سيارة إسعاف ، وسيارة حريق . عدنا إلى داخل الحجرة ، وجلسنا على السرير . وجه " نوال " شاحب ، وأصابعها فى يدى باردة كالثلج تحتمى فيها . قالت : " لم تكن كبيرة . لاتقبل على شىء كهذا سوى امرأة مازلت فيها قدرة على الجنون ، والتضحية بكل شىء . حياة النساء فظيعة ". **************************** فى اليوم التالى جلست على مكتبى أتصفح الجرائد . لفت نظرى تصريح عن تيار فى الحركة النسائية ، يطلق عليه بعض المثقفين من الرجال والنساء تعبير النسوية . وكلمة النسوية هذه يقصد بها ، تيار فى الحركة النسائية موجود فى الغرب يعتبر أن المعركة الأساسية للمرأة هى معركة ضد الرجل للحصول على المساواة بينهما داخل الأسرة ، وخارجها ، أى فى البيت وفى العمل ، وفى مختلف المجالات الاقتصادية ، والاجتماعية . هذا التيار يتكون أساسا من نساء بيض ينتمين إلى الطبقة المتوسطة ، أى إلى المراتب الاجتماعية المتميزة ، لكنهن يعانين من التفرقة بينهن ، وبين الرجل ، فى حياة الأسرة ، وفى العمل ، وفى الحقوق الاقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية ، رغم التقدم الذى أحرزنه فى حياتهن . ولذلك فالصراع الذى تخضنه للحصول على المساواة مع الرجل ، مشروع إلى حد كبير ، وله ما يبرره من وجهة نظر العدالة فى المعاملة . والنسوية من هذا المنظور حركة متقدمة ، لأنها تسعى إلى معالجة جانب من جوانب التفرقة الإنسانية المرتبطة بالبعد الأبوى للاستغلال فى المجتمع ، وإلى معالجة الخلل القائم فى العلاقات بين الرجل ، والمرأة والوضع المتدنى الذى تعانى منه . هذا الاستغلال الأبوى عانت منه المرأة منذ قديم الزمان ، وصارعت ضده دون أن تعى جذوره ، و آثاره فى الحياة ، وفى المجتمع ، ودون أن تتولد عن صراعها حركة نسائية واعية ، ومتبلورة إلا فى العقود الأخيرة من تاريخها . لكن هذا التيار النسوى لا يهتم ببعد آخر مهم ، وهو ما يسمى بالبعد الطبقى . فالمرأة فى المجتمع لا تعانى فقط من انعدام المساواة بينها وبين الرجل . وإنما تعانى أيضا من جميع المشاكل التى يعانى منها الرجل . تعانى من الاستغلال الاقتصادى والفقر ، ومن غياب الديمقراطية ، ومن عدم المشاركة فى اتخاذ القرارات وتنفيذها . وهذان النوعان من القهر الأبوى والطبقى ، مرتبطان أشد الارتباط ، ولا يمكن التخلص من أحداهما دون الآخر ، كما لا يمكن الصراع ضد أحدهما دون الآخر . وهكذا فان الرجل والمرأة ، متضامنان فى الصراع ضد الاستعمار الجديد فى سبيل الحقوق الوطنية ، وضد جميع أشكال الاستغلال فى سبيل إقامة مجتمع ديمقراطى متقدم . والتيار النسوى يمثل رافدا من روافد الحركة النسائية ، حيث توجد روافد أخرى لا تهمل البعد الطبقى ، وتعمل مع النساء الفقيرات أو السود ، أو نساء الأقليات ، وتتضامن مع الحركات النسائية فى بلاد الجنوب . وهى تقف ضد الاستعمار الجديد ، ومع نزع السلاح بما فيه السلاح النووى ، وضد الحرب ، من أجل سلام عادل بين كل الشعوب . وهناك درجات من الوضوح والوعى تختلف وتتباين فى صفوف الحركة النسائية ، التى تعتبر حديثة النشأة مقارنة بالحركات التقدمية الأخرى ، ومن المهم عدم أخذ مواقف جامدة منها حتى يتزايد التضامن ، والتفاهم المتبادل بين مختلف تياراتها . فمعركة النساء صعبة ومعقدة ، والمعارضون لها عن وعى أو بغير وعى ، يشكلون قوة ضخمة لها تاريخ قديم متأصل ، فى حرمان المرأة من حقوقها . أما فى بلاد الجنوب ومنها مصر ، فتظل الاتجاهات النسوية ، محدودة النطاق، والخطر الحقيقى يأتى من تجاهل قضية المرأة وطمسها ، وإضعافها ، والازدراء بها والتقليل من شأنها بمختلف الحجج الدينية أو الوطنية ، أو التراثية ، أو بحجة مقاومة تغلغل الثقافة الغربية إلى صفوفنا . لذلك يبدو لى غريبا أن يتردد ذلك الحديث المتكرر عن النسوية فى بلادنا ، وكأنها الخطر الأكبر . بينما ما نشهده اليوم ، هو هجوم سلفى خطير على المرأة ، وعلى كل ما يتعلق بحقوقها كانسان ، وحتى على بعض المكاسب التى نالتها . هجوم أصبحت تشارك فيه قطاعات واسعة من المجتمع . يجد تشجيعا فى كثير من الأوساط الحاكمة المهيمنة على الدولة ، ومؤسساتها وعلى وسائل الإعلام ، والتعليم والثقافة ، وغيرها . هجوم يشارك فيه الاستعمار الجديد بوسائل أخرى ، تهدف إلى تحويل المرأة إلى أداة للجنس ، والاستهلاك فى السوق الدولى . فالتيارات السلفية ، وتيارات ما بعد الحداثة التى يتبناها راس المال الدولى ، تلتقى فى اعتباره المرأة جسدا بلا عقل ، يغطى أو يعرض عاريا . إن الحديث عن النسوية فى رأيي ، يدل فى كثير من الأحيان على الاستمرار فى التأثر بفكر رجولى متخلف ، يوجد حتى فى صفوف الذين ينادون بالتقدم ، بعقلية الرجال القائمين على شئون الاقتصاد والسياسة والاجتماع فى بلادنا ، المشاركين فى تسيير أمور السلطة ، والأحزاب بمختلف اتجاهاتها . أو يدل على غياب الإدراك الحقيقى بأهمية قضية نصف المجتمع أو أكثر ، أى أن قضية المرأة كجزء من قضية الوطن وبنائه ، وكقضية لها ذاتيتها الخاصة فى أدق تفاصيل حياة الأسرة ، وأكبرها ، وفى كل ما يتعلق بالمجتمع ومستقبله . إن الاهتمام بقضية المرأة جزء من إصرارنا على ألا يظل المجتمع أعرج ، كالذى يسير على ساق واحدة دون الأخرى ، ثم يظن أنه يستطيع أن يدخل فى سباق العصر ، وأن يتغلب على التخلف . إن المرأة شأنها شأن الطبقات والفئات الأخرى مثل العمال أو الفلاحين ، أو المهنيين ، أو المثقفين ، لها أهمية كبيرة فى مستقبلنا ، فى وحدة الصفوف وتعاونها من أجل حياة اخرى ، لا نشم فيها رائحة جسد المرأة يحترق فى ظلام الليل، لأنها ُقهرت طوال حياتها . إن التغاضى عن هذه القضية المهمة ، هو خضوع للابتزاز الواقع على المجتمع كله . يتخذ أشكالا مختلفة ، ومنها الحديث عن الخطر النسوى ، ذلك الابتزاز الذى تمارسه كل القوى السلفية فى المجتمع بمختلف فروعها ، ويجعل المرأة ويجعلنا معها ضحية . هو الخوف بعينه ، أو الانتهازية التى تسربت إلى حياتنا . الخوف هو العدو الأول لكل تقدم . من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002 -----------------
#شريف_حتاتة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاغراء الأخير
-
هل أصبح المستقبل للجواسيس ؟
-
شجاعة الابداع
-
الابداع وتجربة الوعى الباطنى
-
يوميات ايطالية
-
أدراج الحياة المنسية
-
الرضا بالمقسوم .. حوار مع سائق تاكسى اسمه - ممدوح -
-
آفة الفكر الأحادى فى النقد الأدبى
-
- مارادونا - خواطر غير كروية
-
رجل مثل شجرة الجميز
-
- عطر - قصة حياة قاتل
-
شقة الى جوار الكنيسة
-
هل انطفأت الشعلة الأدبية فى مصر ؟؟
-
أحلام الطفولة
-
اللورد - كرومر - يعود الى مصر
-
قرصنة فى ثوب جديد
-
على مقعد الحلاّق
-
- ماكياج -
-
لن نفترق
-
عالم بلا جدران
المزيد.....
-
نداء اليوم الوطني 20 للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة الت
...
-
بيان حول متابعة ومحاكمة الأستاذ محمد الكشكاش على خلفية مناهض
...
-
وثائق سرية تكشف: الملكة إليزابيث لم تكن على علم بتورط مستشار
...
-
تجديد حبس شباب «بانر فـلسطين» 45 يومًا
-
«المفوضية»: للمرة الثانية المحبوسين بـ«العاشر 6» يديرون أجسا
...
-
إضرابها دخل يومه السابع بعد المئة.. نظام الاستبداد يقتل ليلى
...
-
صوفيا ملك// حتى لا تبتلعنا أمريكا..
-
مذكرة من «البلشي» للنائب العام بعد إحالة «صحفيين» محبوسين إح
...
-
“المبادرة” تطالب بالتحقيق في شكاوى معتقلي العاشر 6
-
جنايات “المنصورة” تقضي بحبس معتقلي حادث المطرية 45 يومًا
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|