مايكل لوي
الحوار المتمدن-العدد: 7462 - 2022 / 12 / 14 - 12:17
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الكاتب: مايكل لوي
الفصل الثاني من كتاب:
Löwy, M. (1981) The Politics of Combined and Uneven Development: The Theory of Permanent Revolution, London: Verso.
إلى روح جون مولينيو (١٩٤٨-٢٠٢٢)
ولدت نظرية الثورة الدائمة لتروتسكي في أوج ثورة عام 1905-6 في روسيا. وكنصوص ماركس وإنغلز المؤثرة المكتوبة عامي 1848-50، والتي تضمنت مفهوم ثورة مستمرة، كتبت أعمال تروتسكي في تلك الفترة- على الأخص نتائج وتوقعات، في لحظة من الالتزام الشغوف والشديد مع مسألة إبقاء الثورة حية. فالمصلحة الكامنة فيها، هي وقبل كل شيء، هي مصدر فرادتها. شكلت طروحات تروتسكي حول ثورة عام 1905 قطيعة راديكالية مع الاعتقادات المهيمنة للأممية الثانية حول مستقبل الطبقة العاملة في روسيا. ومنذ موت إنغلز، باتت الفكرة عالمية، وتقريباً قاعدة بين الماركسيين “الأرثوذوكس”، أن الثورة الروسية الآتية ستكون من دون شك برجوازية الطابع. كل تيارات الاشتراكية الديمقراطية الروسية أخذت هذه الفكرة كنقطة انطلاق لا جدال فيها؛ وإذا تجادلوا فيما بينهم، إنما كان حيال تفسيرات مختلفة عن دور البروليتاريا وضرورة عقد التحالفات الطبقية في الثورة البرجوازية. كان تروتسكي، ولعدة سنوات، الماركسي الوحيد الذي ساءل هذه الدوغما المسلم بها. لتقدير فرادة هذه المقاربة النوعية، من الضروري مقارنته مع معاصريه في الحركات العمالية الروسية والأممية.
كما رأينا، كان ماركس وأنغلز بعيدين عن الاقتناع أن روسيا محكوم عليها اتباع مصير أوروبا الغربية، أو الثورة الاشتراكية كانت مستبعدة في ذلك البلد حتى نضوج الرأسمالية الصناعية المتقدمة. وبالتالي، من المستحيل ربط هذه العقيدة بما بات مهيمناً عند الماركسية الروسية والغربية حتى عام 1917. تكمن جذور هذه المسألة في مكان آخر: خاصة بين كتابات جورجي فالينتينوفيتش بليخانوف (1856- 1918). إنه هو الذي طوّر للمرة الأولى، بطريقة متماسكة ومنهجية، رؤية مرحلية حصرياً للثورة الروسية، التي، بدورها، تحولت إلى مثال افتراضي لتنظيرات شبيهة جرى تطبيقها على دول متخلفة أو غير نامية. هذا لا يعني، بالطبع، أن تفسير بليخانوف لا يوجد له موطئ قدم في بعض نصوص ماركس وإنغلز؛ بالفعل فقد استشهد تكراراً من مقدمة 1859 وسواها. ولكن ما وضعه بعيداً عن ملهميه كان إصراره الشديد لفرض نسخة أحادية الجانب وجامدة من “النموذج” الأوروبي الغربي للنمو في روسيا. عندما عارض ماركس وإنغلز بوضوح هذه التفسيرات، وانتقدا شكلانية بليخانوف الميكانيكية (يمكن مراجعة ذلك في رسالة ماركس عام 1877)؛ أثبت أنه مستقل تماماً من خلال إصراره الشديد على أن موقفه هو أكثر أرثوذوكسية من ماركس. ولَكَم كانت المفارقة بأن “أب الماركسية الروسية” يحمل أفكاراً تبتعد بوضوح عن تلك العائدة لماركس نفسه.
أكثر من ذلك، يتساءل المرء هل ماركسية بليخانوف لا تختلف عن ماركس من الناحية المنهجية والابستمولوجية كذلك؟ برأيي، دراسة دقيقة لكتابات بليخانوف تكشف مقاربة مختلفة جداً عن الديالكتيكية الثورية لماركس وإنغلز. إذ تتضمن ميولاً تجعل منها ما قبل ديالكتيكية، التي تشكل الأساس المنهجي لنظريته السياسية:
1. ميل لزيادة الفرق بين مادية ماركس الجديدة والمادية الميتافيزيقية القديمة لهيلفيتيوس، لاميتري، وفيورباخ… ذهب بليخانوف بعيداً في الكتابة عن أن كتاب ماركس طروحات حول فيورباخ “لا يرفض فلسفة فيورباخ إنما فقط يعدلها… تطوّر الفهم المادي لماركس وانغلز كان مستمداً من المنطق الداخلي لفلسفة فيورباخ”. (1)
2. التطبيع الميتافيزيقي للتاريخ الذي قاده إلى فهم قدري لقوانين التطور الاجتماعي حاضرٌ في كتاباته- كما عندما شدد في أهدافه البرنامجية أن الحركة العمالية ستتحقق “بشكل أكيد ومكفول كشروق شمس الصباح”. (2)
3. النظرة الاقتصادوية “الموضوعية” القائمة على أن نمو القوى المنتجة هو الأساس الوحيد للتطور الاجتماعي والسياسي: “درجة جهوزية الشعب للديمقراطية الحقيقية… مرتبطة بدرجة التطور الاقتصادي… تطور القوى المنتجة سيقودنا إلى أقرب درجة من هدفنا ويضمن انتصار البروليتاريا”. (3)
هذه الميول العامة نجدها في التحليل السياسي لبليخانوف، والتي بدورها، باتت المحور الاستراتيجي لتشكل المنشفية. كان جوهر الأخيرة يقوم على اعتقاد أن روسيا متأخرة، و”آسيوية” وبربرية تتطلب مرحلة طويلة من التصنيع و”الأوربة” قبل أن تطمح البروليتاريا بالسلطة. منذ أن روسيا كانت تتخمر فيها ثورة برجوازية ديمقراطية، فإن مهمة البروليتاريا هي دعم البرجوازية الليبرالية في إسقاط الأوتوقراطية وإقامة دولة دستورية “حديثة” (أي أوروبية). فقط بعد أن تكمل روسيا هذه المرحلة من الرأسمالية المتقدمة والديمقراطية البرلمانية يمكن أن تتوفر الشروط المادية والسياسية للثورة الاشتراكية. (4)
منذ انتقاله إلى الماركسية وحتى وفاته عام 1918 دافع بليخانوف عن هذا التوجه بحدة وشدة غير معتادة، ضد الجميع، وبعيداً عن التغييرات في الواقع السياسية أو الوضع التاريخي الملموس. كتب الكلمات الأخيرة بهذا المعنى في فلسفته السياسية عندما وصف في مذكراته عام 1881: “روسيا تقع عند تقاطع طرق في درب الرأسمالية وكل الحلول الأخرى قريبة منها. بهدف محاربة الرأسمالية، هناك طريقة واحدة لذلك: هو النمو بأسرع ما يمكن”. (5) هذه الحتمية الأحادية والرفض غير المتردد لتخيل أي بديل تاريخي عن الطريق الرأسمالي المؤدية إلى كل جذور نشاطه السياسي. ظهرت هذه المقاربة بداية عامي 1883-4 عندما أسس بليخانوف بمفرده الماركسية الروسية في سلسلة من المعارك الجدلية مع الشعبوية. في كتاباته الأولى- الاشتراكية والصراع السياسي (1883) وخلافاتنا (1885- رسم بليخانوف فيها تحليلاً علمياً لتطور الرأسمالية في روسيا لإثبات أخطاء وأوهام الشعبوية، ولكن، في الوقت نفسه رفض التوهمات الذاتية للناردونيين حيال الكومونة الريفية والاشتراكية الزراعية الروسية، كما شجب فطرتهم العقيمة والواقعية: فكرة طريق محددة للاشتراكية، وأهمية الفلاحين في مستقبل الثورة، وسوى ذلك. على الرغم من أنه يمكن تبرير رفضه لتوهماتهم، إنما قدم بديلاً ضيقاً أورومركزياً مع دوغمائية حيث شدد على أن روسيا يجب أن تعيد انتاج الأشكال الغربية للتطور الرأسمالي والسلطة البرجوازية.
بعد عام 1903، عندما تولى قيادة الجناح المنشفي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، أعاد إحياء نفس الترسانة الفكرية لمحاربة “النعجة السوداء” الجديدة: البلشفية. وطوال ثورة 1905 أكد بليخانوف ورفاقه المناشفة على أن “الدور الآن بيد البرجوازية، وأن البروليتاريا لا يمكنها تولي زمام المبادرة وتغيير التاريخ”. (6) هناك بالضبط أطروحته الطبيعانية والتشيئية للتاريخ، بحيث أن المراحل الاجتماعية-الاقتصادية والطبقات تتلاحق تبعاً للضرورة كتتابع موضوعي لا مفر له كتتابع فصول السنة. فكرة الماركسية التاريخية- أن الناس يصنعون تاريخهم، ولكن وفق شروط محددة- استبدلت في كتابات بليخانوف بفهم “موضوعي” صرف، دون أن يترك مجالاً للممارسة الثورية للبروليتاريا ولتدخلها الخلاق في المسار السياسي. باسم العلم، استبعد بليخانوف أن تتولى البروليتاريا زمام المبادرة وتغيير التاريخ.
أخيراً، عام 1917 وفي اللحظة الأكثر حسماً في تاريخ الحركة العمالية الروسية، التصق بليخانوف بكل عناد بعقائده القائمة على سياسة المراحل. وعندما نشر لينين كتابه الشهير أطروحات نيسان/أبريل، الذي تضمن قطعاً حاسماً مع المعتقدات التقليدية وقرّبه من الفكر الدائميّ العائد لتروتسكي، أطلق بليخانوف هجوماً مضاداً شديداً: “هذا الذي قطع كل تواصل مع مصالح البرجوازية، هو يدمر الثورة الاشتراكية… محاولاً استعجال الثورة الاشتراكية يمكن وصفه بأنه كمحاولة الأناركيين في مؤتمر الأممية عام 1889، عندما لم تكن البرجوازية قد نضجت بعد…” (7) كانت مأساة بليخانوف أنه كلما تجذرت البروليتاريا وكثفت من صراعها ضد البرجوازية، فإن “أب الماركسية الروسية، وبهدف الحفاظ على تماسك نظريته الجامدة والطاهرة، يجب أن تعتدل [البروليتاريا] أو حتى تتراجع إلى مواقف محافظة، مصراً على أن يقتصر عملها على التحريض الاشتراكي بين العمال. وبذلك خسر خطوة مع التطور الحقيقي للنضال الطبقي الروسي لدرجة أنه، وهو على سرير الموت عام 1918، سأل صديقه القديم ليو دوتش: “ألم نبدأ باكراً جداً التحريض الماركسي، في هذا البلد المتخلف، النصف آسيوي”؟ (8) التصاقه بتفسيره “الأرثوذوكسي” للماركسية حتى نهايته المأساوية، يبدو أن بليخانوف قد توصل إلى خلاصة غريبة عجيبة أن مثل هذا التفسير يمكن وحده تحقيق انتصار الماركسية من دون تعريف الجماهير الروسية الملتهبة بها.
بالطبع، كما أشرنا مسبقاً، فرضية أن الثورة الروسية يجب بالضرورة أن تكون ديمقراطية-برجوازية بالمضمون كانت منتشرة قبل عام 1917 ونظرياً في كل قطاعات الماركسية الروسية والأممية. عندما اختلف لينين والبلاشفة مع بليخانوف والمناشفة كان ذلك حول أي طبقة ستلعب الدور القيادي في حمل هذه المهام البرجوازية. بالنسبة للأخيرين، إن الطبقة المهيمنة التي هي البرجوازية نفسها، في حين بالنسبة إلى الأوائل فكان التحالف بين العمال والفلاحين. أكثر من ذلك، يجب التذكير أن لينين اعتبر نفسه (حتى عام 1914 على الأقل) تلميذاً فلسفياً لبليخانوف، وكتابه الابستومولوجي- المادية والنقد التجريبي- كان متأثراً بشدة بالشخصية المخضرمة. في هذه المرحلة توافق لينين مع بعض أفكار ماركسية أساسية ما قبل ديالكتيكية لبليخانوف كما استراتيجيته الناتجة عنها- الطابع الديمقراطي-البرجوازي للثورة الروسية. مع ذلك، رفض، وعلى العكس من بليخانوف، نسف التقليد الشعبوي. على الرغم من أنه رفض الحلم الاشتراكي الزراعي، نقد تمثلهم [الشعبويين] لدور الانتلجنسيا، وخاصة الفلاحين (الذين شبههم بليخانوف بالظلامية والجماهير الرجعية) في المسار الثوري. أكثر من ذلك، ومنذ البدايات المبكرة، أظهر لينين توجهاً سياسياً ملموساً أكثر من القائد الروحي للمنشفية.
تكشف قراءة متفحصة لأهم كتاب سياسي في تلك الفترة، تكتيكان للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية (1905)، وضوحاً بارزاً للتوترات في أفكار لينين بين واقعيته الثورية العميقة والحدود المقيدة المفروضة مما يسمى “الماركسية الأرثوذوكسية”. من جهة، يحتوي هذا الكتاب على تحليل لامع ومعمق لعجز البرجوازية الروسية على قيادة الثورة الديمقراطية، والتي، بالواقع، يمكن أن تقوم بها جبهة عمالية-فلاحية في ظل هيمنة بروليتارية. ومن جهة ثانية، هناك العديد من العبارات في الكتاب المصرة على الطابع البرجوازي الحصري للثورة حيث يصف “فكرة البحث عن الحل للطبقة العاملة في أي شيء قبل تطور الرأسمالية” بـ”الرجعية” (9). يدعم لينين الأطروحة الأخيرة من خلال استعمال الفكرة الأساسية للماركسية ماقبل الديالكتيكية القائلة: “درجة تطور الاقتصاد الروسي (الشرط الموضوعي) ودرجة الوعي الطبقي والتنظيم بين الجماهير الواسعة للبروليتاريا (الشرط الذاتي، غير المفصول عن الشرط الموضوعي) يجعل من تحرر فوري وكامل للطبقة العاملة مستحيلاً. فقط أكثر الناس جهلاً يمكن أن يغلقوا عيونهم عن الطبيعة البرجوازية للثورة الديمقراطية الحاصلة الآن”. (10) الموضوعي يحدد الذاتي، الاقتصاد هو شرط الوعي، وهنا وفي جملتين، زبدة التعاويذ المادية للأممية الثانية، التي عطلت حدس لينين السياسي القوي.
عبارة “الديكتاتورية الديمقراطية الثورية للبروليتاريا والفلاحين” كانت عقيدة “البلشفية القديمة” لفترة ما قبل 1917، عاكسة بذاتها تشوشات اللينينية الأولى. على العكس، البعد الراديكالي الخلاق في سياسات لينين، والذي أبعد بوضوح البلشفية عن المنشفية، جرى التعبير عنه في الأطروحة المرنة والواقعية للغاية لـ”سلطة العمال والفلاحين”. كما لاحظ تروتسكي لاحقاً، الشعار الأخير كان له الطابع “الجبري” في وزن كل طبقة والذي لم يكن محدداً مسبقاً وفق مبدأ ميكانيكي. تكشف العبارة المفارقة بشكل ظاهر: “ديكتاتورية ديمقراطية”، من جهة أخرى، الحدود المفروضة من القوالب للماركسية الرسمية للأممية الثانية: الثورة لا يمكن إلا أن تكون ديمقراطية، أي، برجوازية، هذه المقدمة المنطقية، يؤكد لينين، تنبع من “المبادئ الماركسية الأساسية” (11)- أي الماركسية كما فهمها وفكر بها بليخانوف.
يشير موضوع آخر من كتاب “تكتيكان…” إلى العوائق المنهجية للطابع التحليلي (ما قبل الديالكتيكي) للماركسية المعاصرة إلى رفض واضح لنموذج كومونة باريس كنموذج للثورة الروسية. بحسب لينين، فشلت الكومونة لأنها “كانت غير قادرة على التمييز بين عناصر الثورة الديمقراطية والثورة الاشتراكية، ولأن “ضاعت بين المهام في النضال من أجل الجمهورية مع تلك العائدة للنضال من أجل الاشتراكية. وبالتالي، تشكلت حكومة كتلك التي عندنا [الحكومة المستقبلية الانتقالية الثورية في روسيا] الأمر الذي كان يجب ألا يحصل”. (12) وكما سنرى لاحقا، العودة إلى كومونة باريس كانت من الخطوات الحاسمة في مراجعة لينين الشاملة لـ”البلشفية القديمة” في نيسان/أبريل 1917.
سأكون ظالماً لو تركت قراءتي لكتابات لينين عن ثورة عام 1905 من دون الإشارة إلى العبارات التي يبدو أنها تضمنت إشارات إلى تطور فكرة ثورة غير منقطعة نحو الاشتراكية. الأكثر إثارة للانتباه هو مقال عن الفلاحين كتبه في أيلول/سبتمبر عام 1905 حيث شدد لينين على: “من الثورة الديمقراطية يجب لمرة، وتحديداً قياساً إلى قوتنا، قوة الوعي الطبقي والبروليتاريا المنظمة، أن نبدأ بالانتقال إلى الثورة الاشتراكية. أن نقف من أجل ثورة غير منقطعة. يجب ألا نتوقف في منتصف الطريق”. (13) مع ذلك هذه العبارة استثنائية لا تتلازم مع التوجه المحدد لغالبية الكتابات في تلك الفترة. (14)
ومن مميزات لينين قبل عام 1914 أنه وخلال نقاشه لبليخانوف أثار سلطة كاوتسكي. على سبيل المثال، رأى في مقال لكاوتسكي حول الثورة الروسية (1907) “لطشة مباشرة ضد بليخانوف” وفي مكان آخر شدد على المصادفة بين الفهم الكاوتسكي والبلشفي- “ثورة برجوازية، تقودها البروليتاريا والفلاحين من دون تأثير انعدام استقرار البرجوازية- هي مبدأ أساسي لتكتيكات البلاشفة قد أكد عليه كاوتسكي”. (15) بالفعل، قدّم كاوتسكي في مقال، “القوة المحركة ومنظور الثورة الروسية” (1906)، بعض الرؤى الراديكالية التي كانت (وعلى العكس من موقفه الأخير عام 1917) متعارضاً بالكامل مع المنشفية: “طالما أن البروليتاريا تظهر كطبقة مستقلة مع أهداف ثورية مستقلة، تكف البرجوازية عن أن تكون طبقة ثورية… بذلك لا تكون البرجوازية من القوى المحركة للحركة الثورية الحالية في روسيا وبحكم امتدادها لا يمكن وصفها بأنها برجوازية”. ولكن في الوقت عينه أعاد التأكيد على دوغما أورثوذوكسية، من خلال رفض كامل إمكانية حصول ثورة اشتراكية. “هذا لا يسمح لنا الكتابة أنها حركة اشتراكية. ولن تقود بأي حال من الأحوال إلى سلطة بروليتارية بحتة، إلى ديكتاتورية [البروليتاريا]. بالنسبة للبروليتاريا الروسية هي ضعيفة وغير متطورة”. مع ذلك، يوافق كاوتسكي على إمكانية وصول الاشتراكية الديمقراطية إلى السلطة مع دعم طبقات أخرى (خاصة الفلاحين)؛ ولكن في هذه الحالة “لا يمكن أن يكون حزباً منتصراً، للمضي قدماً في تطبيق برنامجه بشكل يلبي مصالح الطبقات التي تدعم البروليتاريا”. كما لينين، يشدد كاوتسكي “من دون الفلاحين لا يمكن الانتصار في روسيا. ولكن لا يمكن التوقع أن الفلاحين سيصبحون اشتراكيين”. وبالتالي “يبدو مستبعداً أن الثورة الروسية الحالية يمكن أن تؤدي إلى إدخال النمط الاشتراكي في الإنتاج، حتى لو أن الثورة أدت إلى وصول الاشتراكية الديمقراطية إلى السلطة”. (16)
هذه الفرضية حول سلطة عمالية انتقالية كانت أيضاً في صلب تفكير روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية عام 1905. عام 1906 في مقال جدالي ضد بليخانوف حاول تحليل ظروف وحدود مثل تلك التجربة. البروليتاريا، وكالعديد من العناصر الثورية، ربما تأخذ على عاتقها مهمة تصفية النظام القديم من خلال “السيطرة على السلطة” بهدف محاربة الثورة المضادة، بهدف حماية الثورة من أن تصدها البرجوازية التي هي بطبيعتها رجعية… على ما يبدو، لا يوجد أي اشتراكي ديمقراطي يتوهم حيال إمكانية أن تبقى البروليتاريا في السلطة؛ للبقاء في السلطة، الأمر يتطلب هيمنة أفكار الطبقة العاملة، وتطبيق الاشتراكية. ولكن القوى غير كافية لذلك في الوقت الحاضر، لأن البروليتاريا، بالمعنى الضيق للكلمة، هي أقلية في الأمبراطورية الروسية… بعد سقوط القيصرية، السلطة ستنتقل إلى يد الأجزاء الأكثر ثورية في المجتمع، البروليتاريا… ولكن السلطة ليست شرعية لأنها ليست بيد من يجب أن يتولاها”. (17) هذه السلطة الشرعية، بالنسبة إلى روزا لوكسمبورغ، تمثل أغلبية الشعب الروسي- الفلاحين والبرجوازية الصغيرة الديمقراطية- ستصبح من دون شك مهيمنة. هذا الموقف يذكرنا جداً بتحذير ماركس عام 1847 من استيلاء “غير ناضج” على السلطة بواسطة البروليتاريا يمكن أن يقود إلى أن يكون مؤقتاً ومقيداً بسبب متطلبات الطبيعة البرجوازية للثورة.
على الرغم من أن أفكارها كانت أكثر تقدماً من بليخانوف- وحتى في بعض الأماكن من لينين- لم تسائل الجذور العميقة “البديهية” للدوغمائية للاشتراكية الديمقراطية: حتمية الطابع البرجوازي للثورة الروسية. كذلك، فقد توصلت في بعض كتاباتها إلى ارتقاب الأفكار الأساسية لنظرية الثورة الدائمة- الاندماج التاريخي والمزج العملي بين البرجوازية والثورات الاشتراكية. “الثورة الحالية في روسيا تذهب بعيداً عن مضمون كل الثورات السابقة… هي إذاً طريقة ومضمون، شكل جديد من الثورة. بالشكل ثورة برجوازية-ديمقراطية، وفي الجوهر اشتراكية-بروليتارية، كما هي بالمضمون شكل انتقالي بين ثورات الماضي البرجوازية وثورات البروليتاريا الآتية”. ولكن في عبارة أخرى ضمن نفس المقال أعادت تكرار الفرضية التقليدية أن “البروليتاريا لا تعرف أن تفرض بنفسها مهمة تطبيق الاشتراكية، ولكن يجب خلق شروط برجوازية-رأسمالية مسبقة من أجل تطبيق الاشتراكية”. (18)
الفرق الأساسي بين وجهات نظر لوكسمبورغ ولينين كان حول مسألة العلاقة بين البروليتاريا والفلاحين. في مؤتمرات الاشتراكيين الديمقراطيين الروس عامي 1907 و1909، تبنت لوكسمبورغ الأطروحة الأولى التي اقترحها تروتسكي عام 1905: “ديكتاتورية البروليتاريا المدعومة من الفلاحين”. (19) على الرغم من أن لينين عاد وتبنى هذا الشعار في مؤتمر عام 1909، كان هناك فارق كبير بينه وبين لوكسمبورغ لأنها لم تؤمن في فرض مشترك للسلطة من قبل العمال والفلاحين، بالنسبة لها، تركيز كل السلطة بيد البروليتاريا من شأنه اتمام مهام الثورة الديمقراطية في روسيا. (20) ربما كان ذلك بسبب المصادفات بين الصياغات، لاحقاً كتب تروتسكي في سيرته الذاتية أن مؤتمر عام 1909 “حول مسألة ما سمي بالثورة الدائمة، أخذت روزا الموقف الذي اتخذته”. (21) وهذا الأمر ليس صحيحاً، بالنسبة للسؤال الجوهري حيال الطابع البرجوازي للبرنامج الذي يجب أن تفرضه الثورة، كانت لوكسمبورغ أقرب من لينين من نظرية الثورة الدائمة. وفي بيان نموذجي، دامجاً بين الجهل والتشويه المتعمد، حاول ستالين عام 1931 المساهمة في تأريخ نظرية الثورة الدائمة من خلال الادعاء أن “بارفوس وروزا لوكسمبورغ… اخترعا نظرية يوتوبية وشبه منشفية اسمها الثورة الدائمة… بالنتيجة، نظرية الثورة الدائمة شبه المنشفية استولى عليها تروتسكي”.(22)
في الواقع، الكاتبان اللذان استعملا عبارة “الثورة الدائمة” بما خص الثورة الروسية (قبل تروتسكي نفسه) كانا كاوتسكي وفرانتز ميهرينغ. كتب كاوتسكي في المقال الأكثر حماسية وراديكالية عن ثورة عام 1905 أن “الثورة الدائمة هي … بالضبط ما تحتاجه البروليتاريا في روسيا”، ولكن على ما يبدو بالنسبة له هذا عنى ليس أكثر من أنه “بحسب الشروط الثورية تلك البروليتاريا… التي تطبع بصمتها على الدولة والمجتمع بشكل كبير، تحصل على الكثير من التنازلات منهم”. (23) بعد عدة أشهر، في مقال بمجلة نيو زيت (تشرين الثاني/نوفمبر 1905) وبعنوان “الثورة الدائمة” شدد ميهرينغ عن الفروق بين الهبات الشعبية الأوروبية عام 1848 والثورات المعاصرة في روسيا. من خلال رفض الاستسلام وتسريع التعبئة الشعبية، تصبح الطبقة العاملة الروسية القوة القيادية في الثورة. وضد شعار البرجوازية القائل “النظام بأي ثمن”، تعارض الهزيمة من خلال الهتاف “الثورة دائمة”. (24) قراءة تدقيقية لميهرينغ تثبت أنه لا يمكن اعتباره مؤيداً للثورة الدائمة وفق ما يقصده تروتسكي عامي 1905-6 (أو ماركس عام 1850)؛ (25) ولكن لحسن الحظ أن هذا المقال أوحى لتروتسكي استعمال عبارة “الثورة الدائمة”، غير الموجودة في تعابير الأممية الثانية. بالفعل، في “دروس جديدة” (1923) ذكر تروتسكي: “استعملها ميهرينغ لثورة 1905-7. الثورة الدائمة، وبترجمة دقيقة، الثورة المستمرة، الثورة غير المنقطعة”. (26) ولكن تروتسكي كان على خطأ عندما كتب أن ميهرينغ وكاوتسكي تشاركا “وجهة النظر حول الثورة الدائمة”.(27)
الجزء الأساسي من النظرية، هو مفهوم عدم الانقطاع للاتجاه الديمقراطي للثورة الاشتراكية، قد رفضه ميهرينغ (على الرغم من استعماله للعبارة) بمقدار ما رفضه كاوتسكي. ليس باليد حيلة ولكن الانطباع أن تروتسكي قد قلل من فرادة مفهومه من خلال الادعاء أنه تكون من أفكار لوكسمبورغ وميهرينغ وكاوتسكي، وإلى حد ما، لينين. من دون شك أنها كانت محاولة بمفعول رجعي للتخفيف من الطبيعة “الهرطقية” المفترضة لنظرية الثورة الدائمة. ولكن معارضي تروتسكي المعاصرين، لا أوهام لهم بشأن فرادة أفكاره. على سبيل المثال، ترجم مقال ميهرينغ فوراً عام 1905 في جريدة تروتسكي “ناشالو” في بتروغراد وفي العدد نفسه نشر المقال الأول الذي ربما استعمل فيه تروتسكي عبارة “الثورة الدائمة” لأول مرة: “بين الهدف الفوري والهدف النهائي يجب أن يوجد سلسلة ثورية دائمة”. أعاد مارتوف، القائد المنشفي، في مقال كتبه بعد العديد من السنوات، التذكير بمقال تروتسكي حيث اعتبره “انحرافاً عن الأسس النظرية لبرنامج الاشتراكية الديمقراطية الروسية. وقد ميز بوضوح بين مقال ميهرينغ، الذي اعتبره مقبولاً، وبين مقال تروتسكي الذي نعته بـ”اليوتوبيا”، منذ أنه ضخّم “المهمة التاريخية التي تبتعد عن المستوى الحالي للقوى المنتجة”. (28)
إذا كان ميهرينغ هو مصدر مصطلحات تروتسكي، ما هو المصدر النظري لاستراتيجية الثورة الدائمة؟؟ لطالما ذُكر بارفوس (ألكسندر إسرائيل هيلفاند) أنه الذي أوحى حقاً وكان ملهماً لتروتسكي وبعض أعداء الأخير (مثل ستالين) يلصقون المسؤولية الفكرية الحصرية لنظرية الثورة الدائمة ببارفوس وحده. (29) لم يخف تروتسكي يوماً فضل بارفوس. في العديد من كتاباته- خاصة حياتي- أبدى تروتسكي تقديره لبارفوس، مشدداً على “صلابة أفكاره الرائعة” ومعترفاً بفضله عليه لأنه اعتبر “أن استيلاء البروليتاريا على السلطة ليس هدفاً “نهائياً” خيالياً إنما مهمة عملية يومية”. (30) كما يجب أن نرى، مع ذلك، أن بارفوس- وعلى العكس من تروتسكي- لم يتجاوز فعلياً نقطة اللاعودة؛ لأن مفهومه الاستراتيجي لم يقطع مع العقيدة المهيمنة القائلة بضرورة حصول ثورة “برجوازية” روسية. لكنه ساهم في ثلاث موضوعات شكلت أسس رؤية تروتسكي “النبوية” للمستقبل الثورة الروسية:
1. في سلسلة من المقالات حول “الحرب والثورة” نشرت في الإيسكرا عام 1904، استعمل بارفوس التصنيف المنهجي للشمولية حيال فهم النظام الرأسمالي العالمي ككل. هذه المقالات كان لها التأثير الكبير على تفكير تروتسكي، وكاتبا السيرة الذاتية لبارفوس، زيمان وشارلو، لاحظا بشكل صحيح أن: “أطروحة هيلفاند حول تطور الرأسمالية إلى نظام عالمي، وحول تراجع أهمية الدولة الأمة، والتوسع الموازي للمصالح البرجوازية والبروليتاريا بعيداً عن إطار هذه الدول، كل ذلك أخذه تروتسكي بمجمله”. (31)
2. تحليل خصائص التشكيل الاجتماعي الروسي (خاصة المتأثرة بأعمال المؤرخ الليبرالي ميليوكوف): الطابع النصف- آسيوي للدولة والمجتمع الروسيين أنتج تطوراً ضعيفاً جداً للمدن، والتي كانت إدارية-بيروقراطية بدلاً من أن تكون مراكز اقتصادية؛ ولحق هذا ضعف القطاع الحرفي والشريحة البرجوازية الصغيرة والتي هي القاعدة الاجتماعية التقليدية لثورة ديمقراطية. التطور الفعلي للاقتصاد المُدني في نهاية القرن الـ 19 كان رأسمالي الطابع بشكل مباشر، مع المصانع الضخمة، والبروليتاريا المركزة، وسوى ذلك. بالتالي، كما كتبها بارفوس، “كل ذلك كان سلبياً لتطور ديمقراطية البرجوازية الصغيرة وعزز انتشار الوعي الطبقي البروليتاري في روسيا”. (32)
3. فكرة أن البروليتاريا يمكن ويجب أن تسيطر على السلطة السياسية بواسطة الثورة الروسية. ربما يجب تسجيل أن بارفوس هو المفكر الأول في تاريخ الماركسية الذي توقع إمكانية نشوء دولة بروليتارية في روسيا “الزراعية” و”المتخلفة” و”الآسيوية”. قدم فكرته أول مرة في مقدمته لمجموعة مقالات لتروتسكي نشرت تحت عنوان قبل التاسع من كانون الثاني/يناير: “وحدهم العمال يمكنهم إنجاز التغيير الثوري في روسيا. الحكومة الثورية الانتقالية في روسيا ستكون حكومة ديمقراطية العمال. إذا وقفت الاشتراكية الديمقراطية على رأس الحركة الثورية في البروليتاريا الروسية، من ثم ستكون الحكومة اشتراكية-ديمقراطية”. (33) على الرغم من أن تروتسكي ولوكسمبورغ، كما رأينا، قد تبنيا باكراً هذا الموقف، رفضه لينين بشكل واضح في مقال له نشر في آذار/مارس 1905. “هذا لن يكون إلا ديكتاتورية ثورية، تدعمها الغالبية العظمى من الأمة، وأن تكون لفترة أكيدة… لكن البروليتاريا الروسية اليوم لا تشكل إلا أقلية داخل الأمة”. (34)
للأسف، لم يبقَ بارفوس وسط الطريق الواضح التي افتتحها في مقالاته المميزة عامي 1904-5. بقي، في تحليله الأخير، سجيناً للاعتقادات غير المتغيرة للأممية الثانية القائلة أن الثورة الروسية يجب أن تكون غير اشتراكية (35). بالتالي فرضيته المتعلقة بحكومة عمالية لم يكن عليها اتخاذ أي إجراءات اشتراكية، إنما فقط إدخال تشريعات اجتماعية تقدمية وإصلاحات لصالح الطبقة العاملة وضمن حدود النمط الرأسمالي للانتاج، أي حسب نموذچ الحكومة “الاشتراكية” التي انوجدت وقتها في أستراليا. (36) بكلمات أخرى، أراد بارفوس تغيير عربة القطار وليس السكة الحديدية. (37)
تلخيص المفاهيم المختلفة عن الثورة الروسية التي قدمها الماركسيون الروس من نهاية القرن الـ 19 حتى عام 1917 سيساعدنا بتحديد إبداع تروتسكي النظري بشكل واضح. واضعين جانباً الأفكار الشعبوية المدعية الماركسية مثل نيكولايون كما القطب المقابل، “الماركسي الشرعي” مثل بيوتر ستروفي، الذي تبنى الحجج الماركسية لتبرير الطابع التقدمي للرأسمالية في روسيا، (38) بقيت 4 مواقف محددة داخل معسكر الاشتراكية الديمقراطية بالمعنى الضيق للكلمة: (39)
1. الرؤيا المنشفية للثورة هي أنها برجوازية بطابعها وقواها المحركة تتشكل من تحالف بين البروليتاريا والبرجوازية الليبرالية.
2. كذلك الفهم البلشفي اعترف بالطابع البرجوازي الديمقراطي الذي لا مفر منه للثورة، ولكن استبعد البرجوازية من الكتلة الثورية. وتبعاً للينين، وحدهما البروليتاريا والفلاحون هما القوى الثورية الأصيلة، ملتزمان عبر تحالفهما إقامة ديكتاتورية ديمقراطية ثورية مشتركة.
3. النظرية التي أطلقها بارفوس وتبنتها لوكسمبورغ، بحيث، وفي وقت تعترف بالطابع البرجوازي للثورة في نهاية الأمر، تصر على الدور الثوري المهيمن للبروليتاريا المدعومة من الفلاحين. تدمير الحكم القيصري المطلق لا يمكن تحقيقه إلا بإقامة سلطة عمالية تقودها الاشتراكية الديمقراطية. في الوقت عينه، مثل هذه الحكومة البروليتارية لا يمكن أن تذهب بعيداً في أهدافها البرنامجية عن حدود الديمقراطية البرجوازية. (40)
4. أخيراً، مفهوم تروتسكي، الذي لم يقتصر على الدور المهيمن للبروليتاريا والاستيلاء على السلطة، إنما أيضاً إمكانية تنامي طابعها الديمقراطي باتجاه الثورة الاشتراكية.
كيف يمكن لتروتسكي بمفرده أن يقطع مع العقدة الغوردية لماركسية الأممية الثانية وأن يشدد على الاحتمالات الثورية التي تذهب بعيداً عن دوغمائية الثورة البرجوازية- الديمقراطية الروسية التي كانت الإشكالية غير المشكك بها لكل التنظيرات الماركسية؟
قبل عام 1905 لم تبتعد كتابات ليف دافيدوفيتش برنشتين، في الواقع عن الأفق السياسي لمعاصريه. بالفعل، في كتابه مهامنا السياسية (1904)، والذي تضمن الهجوم الشهير على أطروحات لينين في ما العمل؟، حيث لم يكن يتميز عن المنشفية: “ليس ممكناً قيادة هجوم سياسي عام ضد [البرجوازية]… وحدها روسيا الحرة المستقبلية، حيث سنكون مرغمين بشكل طبيعي على لعب دور الحزب المعارض، وليس تولي الحكومة، بذلك يمكن للصراع الطبقي أن يتنامى بشكل كامل”. (41) صحيح أن بعض المقالات تضمنت عبارات بدا أنها تعلن عن مقاربات مختلفة: “كشيوعيين، لا نستطيع ولا نريد أن ننسى أو نقمع المهام البروليتارية. كل التكتيكات الثورية يجب أن تخضع لتلك المهام، ليس فقط وسط السياسات اليومية، ولكن أيضاً عشية الانفجار الثوري وخلال عمل الثورة نفسها”. (42) التوتر في كتابات تروتسكي يؤشر على القطيعة الوشيكة مع المناشفة. بعد شهر واحد على إنهاء كتابه الذي أهداه: “إلى معلمي العزيز: بافيل بروسوفيتش أكسيلرود”، تخلى تروتسكي عن حلفه المؤقت مع المناشفة من خلال رفض تبني حملتهم الداعمة لحملة الموائد الليبرالية البرجوازية. بعد أشهر قليلة (كانون الأول/ديسمبر 1904) أطلق تروتسكي هجوماً عنيفاً ضد الليبرالية البرجوازية في كتيبه بعد 9 كانون الثاني/يناير. في عمله هذا عرف البروليتاريا بأنها طليعة الشعب وقائدة الثورة الوطنية، ولكن بقيت أهداف الحركة الثورية محدودة بالمهام البرجوازية الديمقراطية مثل إقامة المجلس التأسيسي. (43)
إنه وخلال عام 1905، وفي لهيب الثورة، قام تروتسكي فعلياً بـ”الخطوة الرائعة المتقدمة” والتي، شكلت المعالم الأولى لنظريته الثورة الدائمة، ووضعته في مقدمة الطليعة السياسية والأيديولوجية للماركسية الأوروبية. في مقدمة (حزيران/يونيو) للطبعة الروسية لأحد أعمال لاسال حول ثورة عام 1848، قدّم تروتسكي للمرة الأولى مقاربته بشأن حكومة بروليتارية في روسيا، مناقضاً بذلك وجهة نظر البلاشفة. “من الواضح أن البروليتاريا وبهدف إتمام مهمتها التاريخية يجب أن تعتمد- كالبرجوازية في زمنها- على دعم الفلاحين والبرجوازية الصغيرة. بذلك ستُقاد القرية وتنضم إلى الحركة… القوة المحركة هي البروليتاريا نفسها. إنها ليست “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين”، إنما بدلاً من ذلك ديكتاتورية البروليتاريا المدعومة من الفلاحين”. (44) لاحقاً خلال الصيف بدأ بصياغة رأيه: إمكانية الثورة الديمقراطية غير المنقطعة، من دون مراحل ثابتة، حتى الثورة الاشتراكية. من خلوته في فنلندا، بين تموز/يوليو وتشرين الأول/أكتوبر عام 1905، كتب مقالاً معلناً فيه “الموقف الثوري اتخذته البروليتاريا فعلياً. وحدها الاشتراكية الديمقراطية، من خلال نضالها بين العمال، يمكن أن تجعل من الفلاحين يتبعون قيادتهم [العمالية]. وهذا ما يفتح أمام الاشتراكية الديمقراطية الروسية آفاق الاستيلاء على السلطة قبل أن تحصل إمكانية تحقق ذلك في الغرب. المهمة الفورية للاشتراكية الديمقراطية ستكون أن تنقل الاشتراكية الديمقراطية إلى مداها الأقصى. ولكن ما إن يصل إلى السلطة، لن يكون حزب البروليتاريا قادراً على إلزام نفسه حصراً بالبرنامج الديمقراطي؛ سيكون مرغماً على تبني إجراءات اشتراكية. إلى أي مدى سيذهب بهذا الاتجاه سيكون مرتبطاً ليس فقط بالعلاقات المتشابكة للقوى في روسيا نفسها، إنما في كل الوضع الأممي نفسه.” (45) سابقاً كما أشرنا رفض لينين اتخاذ كومونة باريس كنموذج لأن ذلك سيخلط بين الثورة الجمهورية-الديمقراطية مع تلك الاشتراكية. ولكن تروتسكي في كانون الأول/ديسمبر عام 1905 جعل من الكومونة مثالاً مرجعياً بالتحديد لهذا السبب. في مقدمته للنسخة الروسية لكتابات ماركس عن الكومونة، تنبأ أن حكومة العمال المستقبلية في روسيا، ستكون ملزمة، كالكومونيين عام 1871 “بمنطق وضعها، إلى المضي باتجاه ممارسة جماعية”. (46)
لماذا وصف بقية مناصري الماركسية في روسيا أطروحات تروتسكي بأنها يوتوبية ومغامرة؟ الفرق بين الأجيال الثورية ربما كان مسؤولاً جزئياً عن ردة الفعل العدائية تجاه النسخة الأولى من الثورة الدائمة. انتمى بليخانوف وأكسيلرود وزاسوليتش إلى الجيل الأول من الماركسية الروسية، التي كان عليها خوض معركة صعبة ضد تأثير الشعبوية من خلال انتقاد “الاشتراكية” اليوتوبية والتوهمات بشأن الاستثنائية الروسية. وحتى نستعمل استعارة لينين المفضلة، لقد قاموا بـ”لي القضيب” أكثر من اللازم لإثبات حتمية التطور الرأسمالي في روسيا. تروتسكي، من جهته، كان أصغر منهم بـ 25 سنة، ووجد أن الفوز بالمعركة الأيديولوجية إلى هذا الحد أو ذاك، سيسمح له باتخاذ وجهة نظر مميزة من النارودنيكيين (شَغَل لينين حيال ذلك موقعاً وسطياً). كان أقل هوساً من أسلافه ومعلميه بالحاجة لإثبات بأي ثمن أن روسيا لن تفر من مصير أوروبا الغربية نفسه. (47)
لكن هذا بالكاد يكفي لتفسير الفرق بوجهات النظر، منذ أن مناشفة مثل مارتوف أو بلاشفة مثل كامينيف كانا معاصرين كذلك لتروتسكي، لكنهما لم يؤيدا نظرياته.
بالفعل، إن دراسة متأنية لجذور المجازفة السياسية لتروتسكي ومجمل نظرية الثورة الدائمة تكشف أن وجهة نظر تروتسكي كانت مستقاة من فهم محدد للماركسية، وتفسير للنهج الديالكتيكي المادي، المختلف عن الأورثوذكسية المهيمنة للأممية الثانية. هذه الفرادة المنهجية، ميزت تروتسكي عن الاتجاهات المهيمنة للماركسية الروسية، ربما يعود الفضل إلى المفكر الذي كانت أعماله أول ما ألهم تروتسكي الشاب حول أسس المادية التاريخية- وتحديداً، أنطونيو لابريولا. في سيرته الذاتية يتذكر تروتسكي “شغفه الكبير” حين التَهَمَ كتابات لابريولا خلال سجنه في أودسيا عام 1893. (48) تعرُّفه إلى “الديالكتيكية المادية”، بالتالي، جرى على نحو نقيض ربما من أرثوذوكسية المنظرين الرئيسيين للأممية الثانية. وكما أشار غرامشي ذات مرة، احتل لابريولا مكانة مميزة في المشهد السابق للحرب في الماركسية الأوروبية باعتباره “الرجل الوحيد الذي حاول بناء فلسفة البراكسيس علمياً”. (49) متأثراً بالمدرسة الهيغلية، حارب لابريولا بلا كلل ضد اتجاهات الإيجابيين الجدد والمادية-الفظة التي انتشرت في الماركسية الإيطالية (توراتي، على سبيل المثال). كان واحداً من بين أول من رفض التفسير الاقتصادي الأورثوذكسي من خلال محاولة إصلاح مفهوم الشمولية ومن خلال الدفاع عن المادية التاريخية باعتبارها نظام نظري مستقل قائم بذاته لا تختزله بقية الاتجاهات. (50) أكثر من ذلك رفض الدوغمائية الأكاديمية والبدع الأورثوذكسية في قراءة الكتب، منتقداً بشكل واضح كل المحاولات في “اختزال العقيدة بنوع من التبسيط أو إلى وصفة لتفسير التاريخ في كل الأزمنة والأمكنة… الماركسية… ليست ولا يمكن أن تحصر في كتابات ماركس وإنغلز… منذ أن العقيدة هي نقدية، لا يمكن أن تتطور، وتطبق وتصحح إلا بطريقة نقدية”. (51)
لهذا السبب، كانت نقطة البداية عند تروتسكي نقدية وديالكتيكية ومناهضة للدوغمائية في فهم الماركسية التي ألهمت لابريولا. “الماركسية هي فوق كل شيء تحليل- ليس تحليل نصوص، إنما تحليل لعلاقات اجتماعية”. (52) في جدليته ضد المناشفة، الذين لطالما استشهدوا بماركس لإثبات أن “زمن البروليتاريا لم يحن بعد”، هاجم تروتسكي “الأكاديميين الذين يعتبرون أنفسهم ماركسيين فقط لأنهم ينظرون إلى العالم من خلال أوراق أعمال ماركس المطبوعة”. (53) في كتاب نتائج وتوقعات لم يتردد بانتقاد نص إنغلز المشهور جداً (كان منسوباً آنذاك خطأً إلى ماركس) الذي كان يرى فيه أن الرجعية التاريخية للبرجوازية الألمانية والبروليتاريا مترابطة بشدة- “كالسادة، كالرجال”. الأورثوذكسية في قراءة النصوص لم تكن تشغل باله كثيراً؛ كما يجب أن نرى أن الجزء الأساسي من حججه قائمة على تحليل دقيق للتشكيلة الاجتماعية الروسية. وبالفعل، العبارة الوحيدة التي يستشهد بها تروتسكي من عند ماركس كانت لتعزيز أطروحته حول الثورة الدائمة وهي عبارة عن مقطع من البيان الشيوعي حيث يشدد ماركس على أن الثورة البرجوازية الألمانية ستكون مقدمة فورية للثورة البروليتارية. (54)
موقف تروتسكي تجاه الآباء المؤسسين يدل على استقلاليته وأصالته، ولكن لا ينبغي التفاجؤ أنه لم يستعمل المزيد من نصوص ماركس التي تتوازى وتدل على إشكاليته، خاصة في إعلان آذار/مارس 1850، والكتابات حول روسيا بين عامي 1877 و1882. في حالة النص الأول، التفسير الوحيد أن تروتسكي لم يكن يعلم بوجوده في ذلك الوقت (1905-8) (النسخة القديمة عام 1885 في زوريخ لم تكن معروفة جيداً في روسيا والطبعة الألمانية الجديدة نشرت في عام 1914)؛ بالتالي كان عبر مقال ميهرينغ الصادر عام 1905 اكتشف عبارة “الثورة الدائمة”. ولكن في حالة الكتابات الروسية، مثل مقدمة الطبعة الروسية للبيان الشيوعي، التي لم يكن جاهلاً بها، والمرجح أنه فضل عدم استعمالها بسبب تقاربها مع بعض الأفكار الشعبوية، وخاصة دور الأبشينيا Obshchina [كومونة الفلاحين]. حتى أن أي توافق بسيط مع النارودنيكيين سيزيد من عزلته داخل الاشتراكية الديمقراطية الروسية وستعرضه لهجوم أخصامه.
ما فشل تروتسكي في استعارته من نصوص ماركس عوّضه من خلال وفائه للطريقة الماركسية. ومهما كان ثقل أعمال بليخانوف والمناشفة وسلطتها النقدية، إلا أنها افتقدت بشدة إلى مقاربة ديالكتيكية بارزة في عمل تروتسكي. دعونا نركز على 5 نقاط أساسية وحاسمة في المنهجية التي تميز نسخة تروتسكي من نظرية الثورة الدائمة:
1. من وجهة نظر الفهم الديالكتيكي لوحدة الأضداد، انتقد تروتسكي القسمة البلشفية الجامدة بين ديكتاتورية البروليتاريا الاشتراكية و”ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية” واعتبرها “منطقاً شكلانياً بشكل صرف”. هذا المنطق التجريدي بدا بشكل أوضح حين هاجم خلال مجادلته لبليخانوف، حيث يمكن اختصار مجمل تحليله إلى مجرد “قياس منطقي فارغ”: ثورتنا برجوازية، لذلك يجب علينا دعم الكاديت. أكثر من ذلك، هناك عبارة مذهلة من نقده تحليل المنشفي تشيريفانين، حيث أدان الطابع التحليلي لسياسات المناشفة (أي التجريد الشكلي، ماقبل الديالكتيكي). “يبني تشيريفانين تكتيكاته كما فعل سبينوزا مع الأخلاقيات، أي، كما يجب أن يقال، هندسياً”. (55) بالطبع تروتسكي، وعلى العكس من لينين ليس فيلسوفاً وتقريباً لم يكتب نصوصاً فلسفية، ولكن هذا ما جعل منه قابضاً بوضوح على البعد المنهجي ضمن جدليته مع المفهوم المرحلي بشكل أكثر من متميز.
2. في كتاب التاريخ والوعي الطبقي، شدد لوكاش على أن موضوعة الشمولية كانت جوهر منهج ماركس، وبالفعل هي مبدأ الثورة الأساسي ضمن مجال المعرفة. (56) تفكير تروتسكي يظهر بشكل واضح ضمن الأطروحات اللوكاشية. بالفعل، واحدة من المصادر الأساسية لتفوق نظرية تروتسكي الثورية هي واقع أنه تبنى وجهة نظر الشمولية، معتبراً فيها أن الرأسمالية والصراع الطبقي مساران عالميان. في مقدمته للنسخة الروسية من كتاب لاسال السابقة الذكر: “بجمع كل الدول معاً مع نمط انتاجها وتجارتها، حولت الرأسمالية كل العالم إلى وحدة اقتصادية وسياسية… هذا ما أعطى الأحداث الطابع الأممي، وفتح أفقاً واسعاً. التحرر السياسي لروسيا بقيادة الطبقة العاملة.. سيكون المحرك لتصفية الرأسمالية في العالم، التي خلق التاريخ كل شروطها الموضوعية”. (57) فقط من خلال طرح المشكلة بهذه العبارات- على مستوى “نضج” النظام الرأسمالي بمجمله- يجعل ممكناً تجاوز المقاربة التقليدية الاشتراكية الثورية التي ترى نضج روسيا محصوراً بالحتمية الاقتصادية الوطنية. (58)
3. رفض بشكل واضح اقتصادوية (ميل لاختزال بطريقة أحادية وحاسمة، كل التناقضات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، بـ”البنية الاقتصادية التحتية”) والتي كانت ميزة من ميزات التفسير البليخانوفي للماركسية. بالفعل، قطيعة تروتسكي مع الاقتصادوية كانت واحدة من الخطوات الحاسمة نحو نظرية الثورة الدائمة. وفي مقطع أساسي من نتائج وتوقعات عرّف بوضوح المصلحة السياسية الكامنة ضمن هذه القطيعة: “تخيل أن ديكتاتورية البروليتاريا هي بطريقة ما معتمدة على التطور التقني وموارد بلد، هذا التخيل هو مادي “اقتصادوي” مختزل للعبثية. وجهة النظر هذه لا علاقة لها بالماركسية”. (59)
مع ذلك أشارت الانتقادات الحديثة الموجهة لتروتسكي، مثل من قبل نيكولا كراسو، أن وراء هذا الرفض للاقتصادوية يختبئ أمر آخر، هو “انحراف” عميق: “يمكن أن نسمي ذلك، على سبيل المطابقة، علم الاجتماع. ولا يتعلق الأمر بالاقتصاد، إنما بالطبقات الاجتماعية، المفصولة بشكل كامل من الكلية التاريخية والمقدمة بطريقة مثالية وتعميمها على أي وضع سياسي… في كتاباته [تروتسكي]، تقدم الجماهير دائماً كمهيمنة في المجتمع، من دون منظمات سياسية أو مؤسسات بشكل ضروري وبمستويات دائمة في التشكيل الاجتماعي”. (60) في رده على كراسو، أظهر إرنست ماندل بوضوح جلي كيف أن هذا الاتهام بـ “العلم اجتماعية” لا علاقة له بكتابات تروتسكي في مرحلة ما بعد عام 1917 (على سبيل المثال، تحليله الشهير للظرف السياسي في بداية الـ 1930ات). أود توسيع هذا التوضيح والتأكيد أن اتهام كراسو لا ينطبق حتى على تروتسكي الشاب في كتابه نتائج وتوقعات (1906). كما اعترف كراسو نفسه بكل صدق، “أظهر تروتسكي وعياً رائعاً بأن الدولة هي جهاز بيروقراطي وعسكري”. (61) اليوم ليست الدولة “مؤسسة تتدخل بشكل ضروري وودائم في التشكيل الاجتماعي”. في الواقع، الحجة الوحيدة التي يمكن لكراسو تقديمها في أطروحته هو المبالغة في التقليل من شأن دور الحزب في وجهة نظر تروتسكي إزاء ثورة عام 1905- وهو خطأ وصفه تروتسكي نفسه لاحقاً بأنه الضعف الأساسي في تفكيره السياسي في تلك الفترة. معترفاً بذلك، سأبقى أتحدى دقة قول كراسو حين كتب أنه “بالفعل، عندما كتب تروتسكي عن الصراع السياسي في روسيا لم يكن يقصد دور المنظمات الثورية فقط- لقد تحدث فقط عن دور القوى الاجتماعية”. (62) لو قرأ كراسو فقط كتاب نتائج وتوقعات بشكل دقيق، سيجد العديد من العبارات حيث يشدد تروتسكي فيها على الدور القيادي للحزب الثوري في الاستيلاء والحفاظ على السلطة. “الجماعوية ستكون ليس فقط لا مفر منها طريق المضي من موقع سيجد الحزب في السلطة نفسه فيه، إنما سيعني كذلك الحفاظ على هذا الموقع مع دعم البروليتاريا”. (63)
4. طريقة تروتسكي هي بشكل أكيد تاريخية. الخصوصية التاريخية للتشكيل الاجتماعي الروسي كانت موضوعة مركزية في كتابات تروتسكي. أكثر من ذلك، تاريخيته هي تاريخية مفتوحة، أي فهم غني وديالكتيكي للتطور التاريخي باعتباره مسار متناقض، حيث عند كل لحظة تنطرح البدائل، وهي لا علاقة لها مع حتمية تفكير المناشفة العاجز، حيث الميت يحكم الحي والماضي يحدد المستقبل. مهمة الماركسية، تبعاً لتروتسكي، هي تحديداً “اكتشاف الإمكانيات” لتطور الثورة من خلال تحليل ميكانياتها الداخلية”. (64) في كتاب نتائج وتوقعات، كما في كتابات لاحقة (مثلا، جدليته مع المناشفة، “البروليتاريا والثورة الروسية” عام 1905)، بحيث مال لرؤية مسار الثورة الدائمة باتجاه التحويل الاشتراكي كإمكانية موضوعية، شرعية وواقعية، بحيث أن نتيجتها مرتبطة بالعديد من العوامل الذاتية كما بالأحداث غير المتوقعة- وليس كضرورة حتمية بحيث الانتصار (أو الهزيمة) معروفة سلفاً. اعترافه بالطابع المفتوح للتاريخانية الاجتماعية هي التي أعطت البراكسيس الثوري مكانه الحاسم ضمن هندسة منهجية تروتسكي النظرية والسياسية من عام 1905 وما تلاه.
5. انطلاقاً من اشتباكه مع الشعبوية، والماركسية الروسية وخاصة المنشفية، أصر على التشابه الذي لا مفر منه بين التطور الاجتماعي الاقتصادي في أوروبا الغربية ومستقبل روسيا. كل فرادة لروسيا رفضت ووضعت جانباً، وجرى توسيع القوانين “الكونية” للتراكم الرأسمالي، بقضها وقضيضها، إلى الإمبراطورية القيصرية. واحدة من أفضال تروتسكي هو نجاحه في تحقيق، وبدرجة مدهشة، تحليلاً ديالكتيكياً لخاصية وكونية خصوصية التشكيل الاجتماعي الروسي وللميول العامة للتطور الرأسمالي. وبفضل توجهه الديالكتيكي، كان قادراً على تجاوز-نفي-الحفاظ، بالتتالي، على التناقض بين الشعبوية والمنشفية، وتطوير مقاربة جديدة، والتي كانت في الوقت عينه محسوسة وأقل أحادية. وضمن عبارة لافتة في كتاب تاريخ الثورة الروسية (1930) شكّل تروتسكي بشكل واضح وجهة نظر كانت كامنة في نصوصه عام 1906: “في صلب مسألة الفهم المحب للسلافية، مع كل توهماته الرجعية، وكذلك النارودنيكية، مع كل الأوهام الديمقراطية، هي ليست سوى تأملات، إنما تبقى ضمن الخصائص الثابتة والعميقة لتطور روسيا، وقد جرى فهمها بشكل أحادي وقيّمت على نحو خاطئ. في الصراع ضد النارودنيكية، والماركسية الروسية، أثبتت هوية قوانين التطور في كل الدول، وعدم الوقوع في دوغمائية ميكانيكية التي ترمي بالطفل مع المياه الوسخة”. (65)
إنه وبدمجه لكل تلك الابتكارات المنهجية المشكلة لنتائج وتوقعات- كتيب كتبه في السجن عام 1906- هي التي شكلت فرادته. (66) في عرضه الممنهج الأول لنظرية الثورة الدائمة بدأه بتحليل (متأثر ببارفوس وميليوكوف) لأسس التشكيل الاجتماعي الروسي وخصوصياته- وهو تحليل أكمله تروتسكي لتطوير وإغناء أعماله في الفترة الممتدة بين 1906-1908 (حيث صدرت العديد من الكتابات خلال تلك الفترة ونشرت في مجلد 1905). ميّز تروتسكي بين الطابع المختلف للاقتصاد المُدني في روسيا والتاريخ الغربي: حيث أن المدن في غربي أوروبا كانت نواة الانتاج التجاري والحرفي، في روسيا، بقيت، حتى القرن الـ 19، مراكز بيروقراطية وعسكرية. وعندما، مع نهاية القرن الـ 19، بدأ الرأسمال الأوروبي بالتوسع نحو روسيا، دمر بذور الحرفية الروسية وبالتالي دمر الأسس الاجتماعية لحركة برجوازية-ديمقراطية جماهيرية على النمط الغربي: الشرائح المُدنية المؤلفة من العامة والبرجوازية الصغيرة. أكثر من ذلك، لم تتطور الصناعة الثقيلة في روسيا، كما في الغرب، بشكل عضوي من الحرف الصغيرة والصناعات اليدوية، ولكن كان توسعاً مباشراً مزروعاً من قبل الرأسمال الأجنبي (الألماني، الفرنسي، البلجيكي، والإنكليزي). هذا المصدر الحديث والأجنبي لقطاعات الصناعة الرأسمالية الروسية المهيمنة كان سبباً أساسياً لضعف البرجوازية الروسية الوطنية وللوزن الاجتماعي السياسي للطبقة العمالية الروسية الحديثة النشأة. “وجدت البروليتاريا نفسها فوراً مركزة وبأعداد هائلة، في حين بين تلك الجماهير والأتوقراطية وقفت البرجوازية الرأسمالية، القليلة العدد، والمعزولة عن “الشعب”، النصف-أجنبية، من دون شروط تاريخية، يلهمها فقط الجشع بتحقيق الأرباح”. (67)
أظهر تروتسكي كيف أن تركّز العمال في الصناعة الروسية قد وصل إلى نسب ضخمة حقاً، حتى وفق مقاييس الدول الرأسمالية المتقدمة. بالفعل أثبت لاحقاً أن نسبة اليد العاملة في المصانع الكبرى كانت حتى أعلى في روسيا [38،5 بالمئة] من ألمانيا [فقط 10 بالمئة]. (68) في هذا التحليل كان ممكناً رؤية انبعاث النسخة الأولى من نظرية التطور المتفاوت والمركب. لاحقاً في كتابه 1905 (الذي كتبه بين عامي 1905 و1909) أكمل هذه النسخة من خلال مفهوم أكثر تبلوراً، مشدداً على سبيل المثال، أن المجتمع الروسي تضمن تنوعاً من كل “مراحل الحضارة” من الزراعة الأكثر بدائية وفوضوية إلى الصناعة الحديثة الواسعة النطاق. انتقد المناشفة لعدم قدرتهم على التصدي للتداخل المعقد والمتداخل للرأسمالية العالمية والتشكيلة الاجتماعية الروسية. “اليوم لقد فشلوا في توحيد مسار التطور الرأسمالي العالمي الذي يسمح لكل الدول المشتركة بمصيرها والتي تخلق، بعيداً عن التطلبات الوطنية والعامة للرأسمالية، مزيجاً الذي لا يمكن فهم طبيعته من خلال تطبيق الكليشيهات التاريخية، إنما فقط التحليل المادي”. (69)
تفسير تروتسكي للواقع الروسي يتقاطع مع مفاهيم واسعة وأصيلة للحركة التاريخية العالمية. مقارنة مع 1789 و1848 و1905، لقد حقّب الصراع الطبقي الحديث إلى ثلاث حقبات مهمة: الأولى، عندما قادت البرجوازية الثورية انتفاضة جماهير العامة ضد الاستبداد؛ الثانية، عندما لم تعد البرجوازية ثورية، ولكن كانت البروليتاريا ما زالت ضعيفة؛ والثالثة، عندما باتت البروليتاريا قوة قيادية في النضال ضد الأوتوقراطية. (البرجوازية الروسية كانت أكثر خوفاً من البروليتاريا المسلحة من القوزاق، إذ جرى خيانة أفكار شبابها الثورية، تلك الأفكار باتت البروليتاريا وريثتها). (70) يمكن كذلك استعمال ترسيمة تروتسكي التاريخية لإظهار الفرق بين نظرية الثورة الدائمة ومفهوم ماركس لاستراتيجيا غير منقطعة بقيت هشة لأنه، ويجب قول ذلك، كان عالقاً في تلك الحقبة بين تحولات مراحل البرجوازية والثورة الاشتراكية. اعتبر تروتسكي، من جهة ثانية، أن الحركة العمالية تدفع باتجاه وصول حقبة الثورة البروليتارية. لقد كان واحداً من الأوائل الذين قبضوا على المعنى التاريخي الأممي. (71)
الملخص العملي لمجمل التحليل التاريخي الاجتماعي، هو أنه على مستوى الفعل السياسي، كانت المعادلة المشهورة التي قدمها تروتسكي بعد 1905: “ديكتاتورية البروليتاريا المدعومة من الفلاحين”. هذا الشعار، بالطبع، كان يعتبر هرطقة من قبل أغلب الماركسيين الروس، وخاصة المناشفة، الذين رأوا أن دور البروليتاريا لا يمكن إلا أن يكون التعبير المباشر عن مستوى التطور الصناعي، وقد دل ذلك، بالتالي، على رفض تروتسكي للاقتصادوية وفهمه للاستقلالية النسبية للمجال السياسي. (72)
ما هي التعارضات الأساسية في وجهات النظر بين تروتسكي ولينين حول الطبيعة الاشتراكية للثورة الروسية؟ توافق تروتسكي مع لينين على أنه لتأسيس السلطة الثورية في روسيا يجب قيام تحالف بين البروليتاريا والفلاحين، ولكنه أصر على أن البروليتاريا يجب أن تكون بالضرورة قوة مهيمنة في هذا التحالف. ودعماً لهذه الأطروحة، قدم ثلاث حجج: 1) خضوع الريف الحتمي للمدينة كنتيجة للتصنيع؛ 2) عدم قدرة الفلاحين على لعب دور سياسي مستقل واعتمادهم الضروري على واحدة من الطبقات المُدنية القيادية؛ 3) منذ أن روسيا تفتقد إلى برجوازية ثورية أصيلة، سيكون الفلاحون بالتالي مرغمين على دعم سلطة العمال الديمقراطية- “لا يهم إذا فعل الفلاحون ذلك مع درجة من الوعي ليست أكبر من تلك التي عادة تجمعهم بالأنظمة البرجوازية”. (73) تجادل لينين بحدة ضد هذه الأطروحة الأخيرة، مشدداً، وليس من دون سبب، أن “البروليتاريا لا يمكن أن تعتمد على جهل وأحكام الفلاحين المسبقة كما هي السلطات تحت الحكم البرجوازي، كما إن الاعتماد عليهم، لا يمكن أن يفترض أنه في زمن الثورة سيبقى الفلاحون في حالتهم السياسية المعتادة من الجهل السلبية”. (74) ولكن في التحليل الأخير، عدم اتفاقه مع تروتسكي لم يكن عميقاً، منذ أنه أصر على الحاجة إلى هيمنة البروليتاريا في الحركة الثورية. (75) على سبيل المثال، في مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي عام 1908/1909، بعد أن اقترح لينين معادلة “البروليتاريا التي يقف خلفها الفلاحون” وافق أخيراً على الشعار الذي قدمه تروتسكي ولوكسمبورغ- “ديكتاتورية البروليتاريا المدعومة من الفلاحين”- مفسراً أن هذا المفهوم ما زال يحمل نفس المعنى.
في الواقع، تشارك مع مقاربة تروتسكي للحكومة العمالية في روسيا كل من بارفوس ولوكسمبورغ، وليس بشكل متواصل لينين. الحداثة الراديكالية لنظرية الثورة الدائمة كانت أقل تمركزاً في وجهتها بالطبيعة الطبقية للسلطة الثورية المستقبلية بقدر مفهومها للمهام التاريخية. مساهمة تروتسكي الحاسمة كانت الفكرة التي تقول إن الثورة الروسية يمكن أن تزيد من حدود امتدادات التحولات الديمقراطية والبدء بأخذ إجراءات مناهضة للرأسمالية بواسطة مضمون اشتراكي متميز. كيف يمكن لتروتسكي أن يبرر أطروحته الفريدة؟ النقطة الأساسية في حجته كانت الإيمان بـ”الهيمنة السياسية للبرويتاريا ليست متناسبة مع خضوعها الاقتصادي”. لماذا- سأل تروتسكي- على البروليتاريا وهي في السلطة، وتسيطر على وسائل الاستغلال، الاستمرار في التسامح مع الاستغلال الرأسمالي؟ وحتى إذا حاولت الطبقة العاملة تقييد نفسها بتطبيق الحد الأدنى من مطالبها، البرنامج الديمقراطي، ألا يجعل “منطق هذا الموقف إجباراً على تجاوز الإجراءات الجماعية”؟ على سبيل المثال، إذا ساعدت الدولة المضربين، من الممكن إثارة ردة فعل عند أصحاب العمل على شكل عملية طرد واسعة. في مواجهة تحدي “إضراب رأس المال”، ستكون السلطة البروليتارية مجبرة على السيطرة على المصانع وتنظيم الانتاج. مختصر مفيد، “الحدود بين الحد الأدنى والحد الأقصى من البرنامج يختفي مباشرة عندما تصل البروليتاريا إلى السلطة”. (76) (تجدر الإشارة إلى أن السلطة العمالية التي يشير إليها تروتسكي لا علاقة لها بحكومة الأحزاب العمالية الإصلاحية في إطار دولة برجوازية- كما هو الحال مع جوريس والاشتراكيين الفرنسيين في نهاية القرن).
إذاً، مفهوم تروتسكي للطابع الدائم للمسار الثوري، يتبع منطقياً استكشافاً لديناميات الصراع الطبقي في “ديكتاتورية ديمقراطية ثورية”. أكثر من ذلك، إنه يتجذر بفهم عميق لكيف، في ظل تحول ثوري، يصبح المجال السياسي مهيمناً: السلطة السياسية للبروليتاريا تصبح فوراً سلطة اجتماعية واقتصادية، وتهديداً مباشراً للهيمنة البرجوازية على المصانع. في ظل مثل هذه الظروف يصبح الطرد الجماعي والأشكال المتعددة للتخريب الاقتصادي (وقف الاستثمار، هروب الرساميل، الإغلاق…) هي منطق، وتقريباً الرد الذي ستواجه به، البرجوازية إسقاط الضمانات المؤسساتية (الدولة) للملكية الخاصة والخطر الذي تشكله سلطة الطبقة العاملة. بكلمات أخرى، التناقض بين الهيمنة السياسية للبروليتاريا والسلطة الاقتصادية للبرجوازية لا مهرب منه للطبقتين: هذا الوضع غير المستقر والهش يجب حله فوراً لصالح أحد المتواجهين. أخيراً، حاجج تروتسكي كذلك أن هذا المسار نفسه لثورة غير منقطعة يمكن كذلك أن يفرض نفسه في الريف؛ ديكتاتورية البروليتاريا ستكون فعلياً مرغمة على اتخاذ إجراءات اشتراكية- مثل تنظيم الانتاج التعاوني أو المزارع الدولتية- لأن انقسام الأراضي الشاسعة سيكون تراجعاً اقتصادياً وسياسياً لا يمكن تخيله.
هذه الأطروحة- المتناقضة مباشرة مع تجربة ثورة تشرين الأول/أكتوبر- تقودنا إلى أكثر موضوعة نقاشية في مفهومه للثورة الدائمة عامي 1905-6: حتى نكون أكثر تحديداً، طبيعة العلاقة بين البروليتاريا والفلاحين في سياق الصراع الثوري. بالنسبة إلى تروتسكي التحالف بين الطبقتين، وخاصة دعم مجمل الفلاحين لديكتاتورية البروليتاريا، كان عاملاً انتقالياً يمكن أن يستمر فقط حتى إزالة الإقطاعية والاستبداد. بعد ذلك تنفتح مرحلة جديدة، مع فرض الحكومة العمالية بشكل ضروري إجراءات لصالح البروليتاريا الريفية الذين سيردون على عدائية الشريحة الفلاحية الغنية. في هذا الوقت ستعتمد البروليتاريا على قلة اهتمام أو سلبية جماهير الفلاحين، الذين سيبقون اجتماعياً غير مكترثين على إدراك الرهانات التحول الاشتراكي. بالتالي، رسم تروتسكي بشكل واضح خلاصة متشائمة أنه “كلما كانت محددة ومصرة سياسة البروليتاريا في السلطة، كلما باتت أضيق وأكثر ارتجاجاً الأرض التي باتوا يقفون عليها”. (77) في مثل هذه الظروف كيف يمكن لديكتاتورية البروليتاريا الاستمرار؟ الحل الوحيد الذي تخيله تروتسكي هو توسع الثورة إلى أوروبا. “متروكة لقدراتها، من دون شك أن الطبقة العاملة ستُسحق بواسطة الثورة المضادة عندما يدير الفلاحون ظهورهم. لن يكون أمامهم أي بديل إنما ربط مصير الحكم السياسي، وبالتالي مصير مجمل الثورة الروسية بمصير الثورة الاشتراكية في أوروبا”. (78) العقبة الحقيقية أمام تطبيق البرنامج الاشتراكي بواسطة الحكومة العمالية في روسيا لن تكون اقتصادية بمقدار تلك السياسية- إنما تخلف البنى التقنية والانتاجية في البلد: عزلة الطبقة العاملة والقطيعة التي لا مفر منها مع الحلفاء الفلاحين والبرجوازية الصغيرة. وحده التضامن الأممي يمكنه إنقاذ الثورة الروسية: “من دون دعم مباشر من البروليتاريا الأوروبية الطبقة العاملة في روسيا لن تستطيع البقاء في السلطة وتحويل الهيمنة المؤقتة إلى ديكتاتورية اشتراكية دائمة”. (79)
هذان الاثنان- التوقعان المترابطان- استحالة المحافظة على التحالف العمالي-الفلاحي بعد إقامة سلطة البروليتاريا، واعتماد هذه السلطة على الثورات الاشتراكية في أوروبا الغربية- كانا موضوعاً لانتقادات أخصام تروتكسي. من أثبت أنه على حق في نهاية الأمر؟ من الصعب إعطاء جواب حاسم عن هذا السؤال. بالطبع، إنه لأمر صحيح أنه خلال الـ 1920ات انهار التحالف مع الفلاحين وجرت مواجهات عنيفة مكانه. ولكن من دون شك، كما رأى تروتسكي عام 1906، أو ما كانت هو حال نتائج السياسات الكارثية لحكم ستالين-بوخارين خلال 1924-7 (دعم الكولاك) وستالين بمفرده 1928-30 (التجميع القسري)؟ خاض تروتسكي معركته على رأس المعارضة اليسارية ضد هذه السياسات مفترضاً بشكل واضح إمكانية حصول توجه بديل. من جهة ثانية، كان صحيحاً أن الديمقراطية العمالية في روسيا ليست قادرة على الاستمرار لوقت طويل بعد هزيمة الثورات الأوروبية (1923)؛ وعلى الرغم من أن هزيمتها لم تؤدِ، كما خشي تروتسكي عام 1906، إلى إصلاح برجوازي، إنما إلى حكم شريحة بيروقراطية كانت من أوساط الطبقة العاملة نفسها [الكلام هنا عن روسيا]. يجب ملاحظة كذلك أن سلسلة الأحداث كانت مترابطة بعمق، لأن التناقضات بين العمال والفلاحين ساعدت على انتشار البيروقراطية وكحكم أقوى من غيره، في حين سرّع قمع الفلاحين في نهاية الـ 1920ات بنمو شديد لقوة الشرطة السرية السوفياتية. وبالتالي، وعلى الرغم من توقعات تروتسكي عام 1906 التي أكدت على العلاقة الحاسمة بين ضعف التحالف العمالي-الفلاحي ومصير الثورة الأممية، كان بإمكانهم استباق أهمية أو استقلالية الصراع السياسي النسبي داخل الحزب البروليتاري في تغيير المعطى بأكمله.
بقي كتاب نتائج وتوقعات لفترة طويلة كتاباً منسياً. وعلى ما يبدو أن لينين لم يقرأه- على الأقل قبل عام 1917- (80) وتأثيره على الماركسية المعاصرة كان فاتراً بأحسن الأحوال. ككل المتوقعين، كان تروتسكي سابقاً لزمانه، وأفكاره كانت جديدة للغاية وهرطوقية حتى يتم تقبلها، أو حتى دراستها، من قبل رفاقه في الحزب. ولكن خلال فترة التراجع الثوري والاستقرار الرجعي (1907-1916)، لم يتخلَ تروتسكي عن رؤيته عن المستقبل الثوري لروسيا. كان هناك فترة، مع ذلك، إثر هزيمة عام 1906 وبمواجهة عدم فهم رفاقه، عندما حاول تروتسكي تعديل أفكاره لتصبح أقرب إلى مواقف الحزب “الأورثوذوكسية”. في خطابه أمام مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي في لندن عام 1907 وفي كتيبه دفاعاً عن الحزب، المنشور في نفس السنة، شدد هو نفسه وأعاد التأكيد على ضرورة الحكومة العمالية لضمان انتصار الثورة الديمقراطية، ولكن من دون تقديم مقاربة التحول الدائميّ باتجاه الثورة الاشتراكية. (81) ولكن خلال السنة التالية سارع إلى العودة لبرنامج الثورة الدائمة بأكمله في سلسلة من الجدالات مع المناشفة والبلاشفة. في مراجعة نقدية (نشرت عام 1908 في مجلة نيو زيت) لكتاب حول 1905 للكاتب شيرافانين، حاجج من جديد أن تحول الثورة الديمقراطية إلى اشتراكية كان إمكانية موضوعية ولا يمكن استبعاد ذلك بالقول إن هذا التفكير هو تجريدي أو شكلاني (أي ما يسمى حجة “هندسية”). الظروف الاجتماعية والاقتصادية لروسيا ستؤدي إلى وضع تاريخي يحتمل حصول انتصار ثورة برجوازية فيه سيكون ذلك ممكناً بواسطة السلطة البروليتارية الثورية. “هل يعني ذلك أنه على الثورات أن تتوقف عن أن تكون برجوازية؟ نعم ولا. الجواب لا يتعلق بالتعريف الشكلي إنما في مسار الأحداث. إذا أسقطت البروليتاريا بواسطة تحالف من الطبقات البرجوازية، من بينها الفلاحين الذين حررتهم البروليتاريا نفسها، من ثم ستكون الثورة محصورة بطابعها البرجوازي. ولكن نجاح البروليتاريا في استعمال كل الوسائل لتحقيق الهيمنة السياسية وبالتالي القطع مع الحدود الوطنية للثورة الروسية، إذاً يمكن أن تصبح مقدمة لثورة اشتراكية أممية. السؤال هو لأي مرحلة ستصل الثورة الروسية، بالطبع الجواب محصور بالظروف”. (82) في الفترة عينها، وفي مقال منشور في مجلة بولندية تحررها روزا لوكسمبورغ، انتقد تروتسكي البلاشفة ما أسماه “الزهدية الطبقية”: أي، فكرة أن البروليتاريا وهي في السلطة ستلازم حدود الديمقراطية البرجوازية. في كتاب نتائج وتوقعات، شدد على أن الحكومة العمالية لا يمكن أن تقتصر- ما عدا خيانتها لطبقتها- على دعم الإضرابات والنضالات المناهضة للبطالة؛ في مواجهة المقاومة الصلبة للبرجوازية، يجب أن اتخاذ إجراءات اشتراكية لتجنب الفوضى الاقتصادية. (83)
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وأزمة الأممية الثانية، تابع تروتسكي الدفاع عن مقاربته المتعلقة بالثورة الدائمة. في سلسلة من المقالات نشرها في مجلته ناشي سلوفو فسّر كيف أن التغييرات في روسيا منذ عام 1905 عززت وجهة نظره المتعلقة بالديناميات الطبقية المركزية للثورة الروسية. “مرحلة الردة والأزمة الاقتصادية شهدت المزيد من “الأوربة” للصناعة الروسية… المفضية إلى تعميق التناقضات الاجتماعية التي تمنع البروليتاريا والبرجوازية من محاربة مشتركة ضد النظام. البروليتاريا تتنامى أعدادها، والوعي الطبقي والتنظيم… بالتالي تتوسع القاعدة الاجتماعية للثورة وتتعزز أهدافها الاشتراكية”. (84) في تلك الفترة، مع ذلك، حاول تطوير وجهة نظره بشكل أحادي، ذاهباً بعيداً في إنكار إمكانية التحالف الثوري بين العمال ومثقفي البرجوازية الصغيرة والفلاحين. “تجربة عام 1905 علمتنا ألا نعتمد على المشاركة الفعلية للفلاحين… العمال لا يمكنهم الاعتماد إلا على العمال الريفيين شبه البروليتاريين، وليس الفلاحين. الحركة الثورية تحتاج إلى المزيد من الطابع الطبقي، وإلى القليل من الطابع الوطني، مقارنة مع 1905”. (85) على الرغم من أن هذه المعادلة لم تكن ميزة للتوجه السياسي لتروتسكي الشامل، لكنها تكشف انعدام ثقته الاعتيادي بالفلاحين (والذي كتب بشأنه نقداً ذاتياً واضحاً عام 1930). (86)
خلال سنوات الحرب، إذا كان إصرار تروتسكي على مفهومه للثورة الدائمة، ذلك أن تحديات تنظيم معارضة أممية للمجزرة الجماعية قد غيرت رؤيته حيال تنظيم الحزب؛ وسريعاً بعد ثورة شباط/فبراير، أفضت به إلى الحزب البلشفي (أيار/مايو 1917). مصالحة تروتسكي مع البلاشفة قابلتها نقلة عميقة في رؤى لينين حيال طبيعة الثورة المقبلة. لفهم كيف أن الثورة الدائمة باتت البرنامج العملي للبلاشفة، من الضروري استكشاف باختصار تطور الفكر الاستراتيجي عند لينين بين اندلاع الحرب وأطروحات نيسان/أبريل المشهورة، والتي تضمنت تبنياً لمقاربة الثورة الدائمة.
يوم 4 آب/أغسطس عام 1914 صوت الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني لصالح اعتمادات الحرب في حين دعا كاوتسكي البروليتاريا الألمانية إلى الدفاع عن الأرض. في نفس اللحظة، دعا، البطريرك الآخر للاشتراكية “الأممية”، بليخانوف كادحي روسيا إلى الدفاع عن أراضيهم. انهارت الأممية الثانية، المفترضة أنها قلعة الأممية البروليتارية الثابتة. ومن المحتمل أن الرضّة التي سببتها هذه الأحداث هي التي دفعت لينين إلى إجراء مراجعة للماركسية “الأورثوذوكسية” من جذورها. ربما لأنه كان لديه كذلك حدساً أكيداً أن منهجية سياسات الأممية الثانية تفتقد إلى الديالكتيك. مهما يكن السبب الحقيقي، بدأ في أيلول/سبتمبر عام 1914 بدراسة كتاب هيغل علم المنطق؛ وكتب ما أصبح لاحقاً يسمى بالمذكرات الفلسفية. هذه المجموعة من التعليقات والملاحظات هي ليست إلا ترسيمة لفهم جديد للمنهج الماركسي، والمتعارضة جداً مع تلك التي طورها كاوتكسي وبليخانوف. العناصر المهمة في القطع المنهجي للينين هي: 1) نقد شديد للمادية الميتافيزيقية، والتي اعتبرها لينين “سخيفة وخاطئة وميتة”، وبكلمات محترمة أكثر، أقل من “ذكاء” مثالية هيغل؛ 2) تفريق واضح بين التطورية الفظة والفهم الديالكتيكي للتطور (وحده الأخير يمكن له “أن يعطينا مفتاح القفزات… والقطع مع الاستمرارية”)؛ 3) حل “التعارض الصلب والمتجرد” بين الذاتي والموضوعي؛ 4) نقد إطلاقية وفيتشية مفهوم القانون؛ 5) فهم الشمولية- “تطور مجمل المجموع في لحظات الواقع”- باعتبارها صلب المعرفة الديالكتيكية؛ 6) وجهة نظر ديالكتيكية للمتعارضات التي تتجاوز الجمود الميتافيزيقي والقابضة على تحولاتهما. (87)
قطيعة لينين المنهجية مع الماركسية ماقبل الديالكتيكية حضّرت الطريق نحو قطيعة مع نتيجتها السياسية: أي الدوغما القائلة أن الظروف الموضوعية والمادية في روسيا ليست “ناضجة” بشكل كافٍ من أجل ثورة اشتراكية. بعبارات أخرى، كانت المذكرات الفلسفية نوعاً من مقدمة فلسفية لأطروحات نيسان/أبريل 1917: من دمج التعارضات في واحد، إلى تحويل الثورة الديمقراطية إلى ثورات اشتراكية؛ من نقد التطورية الفظة، إلى “القطيعة” مع الاستمرارية عام 1917؛ وهكذا دواليك. ولكن ما هو أكثر أهمية، أن القراءة النقدية لهيغل قد ساعدته على التخلص من الصرامة التي فرضتها الأورثوذوكسية الفلسفية البليخانوفية على تفكيره (والتي كانت ما زالت بادية في تأمله الفلسفي الرائع الآخر: (1909 المادية والنقد الأمبريقي). وقد سمح له ذلك بتجاوز المحظور وتطوير في نيسان/أبريل 1917 “التحليل الملموس للواقع الملموس” والذي اقترح فيه على البلاشفة مقاربة للنضال من أجل سلطة بروليتارية واشتراكية في روسيا. في هذا الوقت كتب لينين كذلك كتابه الامبريالية، أعلى مرحلة من الرأسمالية، والذي، موضَعَ الرأسمالية في شموليتها الملموسة كنظام عالمي، ما سمح له بمقاربة مسألة الثورة الروسية من زاوية جديدة. بشكل محدد، قاده ذلك إلى نظرية “الرابط الأضعف”، والتي جعلت مسألة “النضوج” الثوري مسألة يحكم عليها ضمن إطار النظام العالمي للامبريالية، وليست فقط على مستوى بلد معزول.
مع ذلك، فقط بعد اندلاع ثورة شباط/فبراير حيث أن الانطلاقة المنهجية الجديدة للينين ونظرية الامبريالية قد تآلفت ضمن مفهوم المسار الثوري الدائم. في آذار/مارس، وفي حين كانت غالبية البلاشفة في بتروغراد ما زالت مقتنعة بأن الثورة الجديدة محدودة بالمهام البرجوازية، أرسل لينين من المنفى “رسائل من بعيد”، والتي تضمنت الإجراءات الاشتراكية التي كانت أصلاً من المهام اليومية. (88) وعند لحظة عودته إلى روسيا يوم 3 نيسان/أبريل، ألقى خطبة رائعة في محطة فنلندا أمام جماهير العمال، والجنود والبحارة. “يجب أن تناضلوا من أجل الثورة الاشتراكية، نضالاً حتى النهاية، حتى انتصار كامل للبروليتاريا. عاشت الثورة الاشتراكية!” (89) هذه الكلمات، والشعار السياسي الذي اقترحه لينين- “كل السلطة للسوفيات!”-، تردد، وفق شهادة المنشفي سخانوف، “كبرق في سماء زرقاء”، بحيث “تفاجأ وتشوش حتى من هم الأكثر وفاء لتعاليمه”. يوم 8 نيسان نشرت البرافدا، جريدة البلاشفة الأساسية، افتتاحية من توقيع كامينيف، مشدداً فيها على أن “الصورة العامة التي قدمها الرفيق لينين، تبدو لنا غير مقبولة، والتي يفترض فيها أن الثورة البرجوازية الديمقراطية قد انتهت، والقائمة [الصورة] على تحويل فوري لهذه الثورة إلى ثورة اشتراكية”. وبحسب سوخانوف، رحب المناشفة بموقف البرافدا ترحيباً شديداً، “يبدو أن القاعدة الماركسية للحزب البلشفي تقف واثقة وغير مهتزة، أن جماهير الحزب كانت مناهضة للينين بهدف الدفاع عن المبادئ الأساسية للاشتراكية العلمية القديمة؛ ولكن، عبثاً، لقد كنا مخطئين!” (90) في الواقع، أطروحات لينين الجديدة سببت قطيعة عميقة مع “الاشتراكية العلمية القديمة” وللفهم الخاص لـ”المبادئ الأساسية” للماركسية، التي ألهمها بليخانوف وكاوتسكي، والتي كانت مشتركة للبلاشفة والمناشفة في الوقت عينه. في تعليق نقدي حول كتاب سوخانوف كتبه عام 1923، شدد لينين على الجذور المنهجية لهذه القطيعة: أشخاص مثل سوخانوف “يسمون أنفسهم ماركسيين، ولكن… فشلوا بالكامل بفهم ما هو الأساسي في الماركسي، أي ديالكتيكيتها الثورية”. (91)
بمواجهة الإدانة الجماعية شبه الشاملة لوجهة نظره المهرطقة، عدّل لينين مواقفه: أطروحات نيسان/أبريل لم تتحدث عن الثورة الاشتراكية، على الرغم من أنها تثير مسألة دولة الكومونة عام 1871 كشكل للجمهورية السوفياتية. تقليدياً، لطالما فُهمت كومونة باريس، نتيجة لتحليل ماركس في كتابه الحرب الأهلية في فرنسا، كمثال على ديكتاتورية البروليتاريا؛ أكثر من ذلك، كان لينين نفسه من انتقد سابقاً الكومونة (في كتابه تكتيكان) وفق مقاربة مراحلية لأنها خلطت بين المهام الديمقراطية والاشتراكية للثورات. فتقديم طرحه الداعي إلى قيام “دولة الكومونة”، عنى ذلك، وفق هذا التحليل، النضال من أجل ديكتاتورية البروليتاريا في روسيا ومن أجل ثورة تجمع بين المهام الديمقراطية والاشتراكية. وكما كتبها إدوارد هاليت كار، “حجة لينين القوية… فرض التحول إلى الاشتراكية، على الرغم من أنه توقف لوقت قليل عن الدعوة إليها”. (92) ولكن البلاشفة لم ينتظروا طويلاً حتى جعل لينين من نقطته مسألة صريحة، قبل نهاية نيسان/أبريل، كان يصارع داخل الحزب للتخلي عن الشعار التقليدي “ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية”. بحسبه، من كان ما زال مصراً على المعادلة القديمة (كامينيف، مثلاً) كان قد “ذهب بعيداً في وضع البرجوازية الصغيرة بمواجهة مع الصراع الصراع الطبقي البروليتاري” و”يجب أن يسلموا إلى أرشيف “البلاشفة” ما قبل الثوري (ويمكن أن نسميه “أرشيف البلاشفة القدماء”)”. (93) لاحقاً لخّص في نص، على شكل سؤال- جواب، مواقف الأحزاب الروسية المختلفة، وقد قدم جواباً على هذا السؤال “ما هو موقف [البلاشفة] تجاه الاشتراكية؟- بالنسبة للاشتراكية، على السوفيات أن يبدؤوا فوراً باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيقها”. (94)
في الجزء الأخير من القرن، جاهدت أجيال من الأيديولوجيين الستالينيين و”ما بعد الستالينيين” لإثبات أن تصورات لينين عام 1917 لا علاقة لها مع نظرية تروتسكي للثورة الدائمة، والتي كانت بالكاد نسخة “معدلة ومحسنة” من الاستراتيجية التي صاغها عام 1905. النقطة الأساسية لهذه المحاججة العمالية هي أن أطروحة إقامة سوفيات الجنود والعمال في شباط/فبراير إلى جانب الحكومة المؤقتة، كان التجسيد لديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية”. (95) ولكن هل من الممكن ليّ أحداث عام 1917 لتتناسب مع مخططات 1905 الأنيقة. بالدرجة الأولى، إذا اعتبر لينين سوفيات بتروغراد بأنه “ديكتاتورية ديمقراطية”…، كان ذلك فقط لحدود معينة… ومع عدد كبير من التعديلات المهمة”؛ وتبعاً لواقع أن هذه المؤسسة- التي هيمن عليها في البداية المناشفة والاشتراكيين الثوريين- “سلمت سلطتها طوعاً لصالح البرجوازية”. (96)، وبالتالي، حرمها هذا القرار من القدرة على تنفيذ المهام التاريخية؛ والأكثر أهمية هو الحل الثوري للمسألة الزراعية عبر مصادرة أملاك كبار الملاكين. ولكن حتى نقطة أساسية جرى التمحيص فيها من قبل المنظرين الستالينيين ومابعد الستالينيين: في حين أنه في كتاب تكتيكان كان لينين ما زال مقتنعاً بأن الثورة الروسية “ستهيء الأرض فقط لتطور أوروبيّ وليس آسيوي، للرأسمالية بشكل سريع وواسع”، (97) في آذار/مارس نيسان/أبريل عام 1917 انتقل إلى مقاربة تشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات اشتراكية ثورية ومناهضة للرأسمالية. عام 1905 اعتقد أن “درجة تطور الاقتصاد الروسي… تجعل من تحرر فوري وكامل للطبقة العاملة أمراً مستحيلاً”؛ (98) ولكن عام 1917 قدم استراتيجيته الرامية إلى ليس أقل من “تحرر كامل”. كيف، بالتالي، من الممكن إنكار التقارب العميق بين أطروحات نيسان/أبريل ونظرية الثورة الدائمة لتروتسكي؟
أكدت أحداث عام 1917 بشكل درامي توقعات تروتسكي التي كتبها منذ 12 سنة. أولاً، البرجوازية الروسية (وحلفاؤها السياسيين: المناشفة، والشعبويون المعتدلون…) أثبتوا عن عجزهم إتمام ثورة ديمقراطية، وخاصة تلبية التطلعات الثورية للفلاحين. ثانياً، كانت المهام الديمقراطية الملحة، بالتالي، تنجز فقط بعد سيطرة البروليتاريا على السلطة، والتي ظهرت كالمحرر الحقيقي للفلاحين. وكما لاحظ لينين، “كان البلاشفة، الذين، بفضل نصر الثورة البروليتارية، من ساعد الفلاحين على أخذ الثورة البرجوازية الديمقراطية إلى نهايتها بشكل فعلي”. (99). ثالثاً، ما إن وصلت إلى السلطة كانت الطبقة العاملة غير قادرة على حصر نفسها باتمام الإصلاحات الديمقراطية؛ أجبرتها دينامية الصراع الطبقي- كما توقع تروتسكي- على اتخاذ إجراءات اشتراكية واضحة. بالفعل، في مواجهة مقاطعة اقتصادية قادتها الطبقات المالكة والتهديد المتنامي لشلل كامل للانتاج، قادت السوفيتات- أبكر مما توقع- إلى مصادرة رأس المال، في حزيران/يونيو 1918، عندما أصدر مجلس مفوضي الشعب مرسوم تأميم الفروع الأساسية للصناعة. (100) بالتالي سارت ثورة عام 1917 وفق مسار متطور غير منقطع من مرحلة برجوازية- ديمقراطية (غير منجزة) في شباط/فبراير إلى مرحلة بروليتارية-اشتراكية بدأت في تشرين الأول/أكتوبر. مع دعم الفلاحين، دمجت السوفيتات المهام الديمقراطية (الثورة الزراعية) مع المهام الاشتراكية (تأميم البرجوازية)، وفتح “طريق غير رأسمالي” للانتقال إلى الاشتراكية. ولكن الحزب البلشفي، مع لينين وتروتسكي على رأسه، تمكن فقط من تولي قيادة هذه الحركة الاجتماعية الضخمة التي “هزت العالم”، بسبب إعادة التوجيه الاستراتيجية الراديكالية التي أعلنها في نيسان/أبريل عام 1917 المتوافقة مع نظرية الثورة الدائمة.
أدانت ماركسية الأممية الثانية “الأرثوذوكسية” ثورة تشرين الأول/أكتوبر لتحديها “قوانين التاريخ الحديدية”. عام 1921 وفي مقال بالبرافدا حول الذكرى الرابعة على ثورة تشرين الأول/أكتوبر، لخص لينين بشكل لامع المساحة السياسية-النظرية الشاسعة الفاصلة بين الفكر المراحلي وفكر الثورة الدائمة. “الكاوتسكيون، الهيلفردينغيون، المارتوفيون، الشيرنوفيون، الهيلكيتيون… وسواهم من أبطال ماركسية “الاثنين ونصف” كانوا غير قادرين على فهم هذه العلاقة بين الثورات الديمقراطية-البرجوازية والثورات الاشتراكية-البروليتارية. الأولى تتطور إلى الثانية. الثانية، خلال حصولها، تحل مشاكل الأولى. الثانية تعزز عمل الأولى. النضال، ووحده النضال، يقرر إلى أي مدى تنجح الثانية في التقدم أكثر من الأولى”. (101) بالطبع، حاول المناشفة وأنصارهم في الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية تركيز نقدهم للبلاشفة على حجة ماركسية متسقة: إقامة الاشتراكية تتطلب وجود أعلى مستوى من تطور قوى الانتاج. ولكن لينين وتروتسكي لم يجادلوا هذه المقولة، إنما بدلاً من ذلك، التحليل الخاطئ الذي حاول المناشفة اختزالها به. في مذكراته سأل المؤرخ المنشفي سوخانوف: “كيف يمكن مصالحة هذا التخلف الاقتصادي، هذه البنية الفلاحية والبرجوازية الصغيرة للمجتمع، مع التحول الاشتراكي…؟” (102) في مراجعته لكتاب سوخانوف، رد لينين على الشكل التالي: “تقول إن الحضارة ضرورية لبناء الاشتراكية. جيد جداً. ولكن لماذا لا نخلق ضرورة تدليلية سابقة للحضارة في بلدنا عبر طرد ملاك الأراضي والرأسماليين الروس، ومن ثم نمضي باتجاه الاشتراكية؟ أين، في أي كتب، قرأت أن هذه التنويعات من الحقبات التاريخية هي مستحيلة أو غير ممكنة؟” (103)
وعلى ضوء خبرة الثورة الروسية، حاول لينين والأممية الثالثة بناء استراتيجية شاملة للمجتمعات المتخلفة، والنامية والمستعمرة وشبه المستعمرة. هنا كذلك، عدّل وحسّن لينين من وجهة نظره السابقة للحرب. على سبيل المثال، في مقال حول الصين صدر عام 1912، تجادل مع سون يات-سين (وليس من دون التبشير بالصدق الديمقراطي الثوري)، وهاجم أيديولوجيته الشعبوية و”حلمه” بأن الصين ستتمكن بطريقة ما من “تجنب الطريق الرأسمالي”. في ذلك الوقت آمن لينين بأن مفهوم الطريق غير الرأسمالي في الصين ليس أكثر من نسخة أخرى من “نظرية رجعية البرجوازية الصغيرة الاشتراكية”، والتي هاجمها الماركسيون الروس بلا هوادة وخاصة النارودنيكية. أكثر من ذلك، لقد توقع أنه خلال 50 عاماً سيكون لدى الصين العديد من المدن الشبيهة بشانغهاي: “وهذا يعني، مراكز ضخمة من الثورة الرأسمالية والبروليتاريا الفقيرة والبائسة”. (104) بعد 8 سنوات، في المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية، عدل لينين جذرياً وجهات نظره حيال مقاربة حركات التحرر الوطني في الدول المستعمرة. وبعد سلسلة من النقاشات والجدالات الموسعة (عام 1920 كانت الكومنترن ما زالت مكاناً حيث النقاشات والخلافات مُعتَبرة صحية وطبيعية)، الاستراتيجيتان الأساسيتان التي قدمها كل من لينين والشيوعي الهندي م. ن. روي اندمجتا بحصول نوع من التوافق أو التسوية. الطرفان، وافقا على أن الاستراتيجية الأساسية تهدف في الدول “الشرقية” (وهو تعبير يعني في الواقع كل الدول المستعمرة وشبه المستعمرة) يجب أن تكون نضالاً لإقامة سلطة سوفياتية عمالية وفلاحية، والتي بدورها تفتح الطريق نحو تحول اشتراكي وغير رأسمالي. (105) بقي الخلاف على التكتيك الذي يجب تبنيه تجاه البرجوازية الوطنية: رأى لينين إمكانية بناء “تحالفات مع البرجوازية الديمقراطية في الدول المستعمرة والمتخلفة”، (106) في حين روي وسلطان زاده وسواهما كانوا متحفظين حيال قيام مثل هذا التحالف. (107) أخيراً، توصلوا إلى اتفاق مشترك حول الحاجة إلى التمييز بين البرجوازية الديمقراطية الإصلاحية والحركات الشعبية الثورية التحررية في الدول المستعمرة وشبه المستعمرة. (108)
مع ذلك، بقيت وجهة نظر لينين غير واضحة، لا بل حتى متناقضة حيال السؤال المركزي المتعلق بمسألة الفلاحين. من جهة، اقترح إقامة سوفيتات الفلاحين، حتى في الدول التي فيها بنية زراعية ما قبل رأسمالية؛ في حين، من جهة ثانية، ادعى أنه: “لا يوجد أدنى شك أن كل حركة وطنية لا يمكن إلا أن تكون حركة ديمقراطية برجوازية لأن الأغلبية الساحقة من جماهير الشعب في الدول المتخلفة تتألف من فلاحين يمثلون العلاقات البرجوازية الرأسمالية” (109) هذا بالضبط مفهوم “متأورب” للفلاحين- يشاطره تروتسكي بذلك- لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية التاريخية للبنى الطبقية الريفية والمناخ الثقافي-الأيديولوجي في الدول المستعمرة وشبه المستعمرة. وعلى وجه التحديد، إنه يبالغ في تقليل تقدير إمكانية الفلاحين وفقراء الريف الاشتراكية الثورية تحت قيادة الطليعة الماركسية البروليتارية، كما ظهر على مستوى عالمي مراراً وتكراراً في هذا القرن.
في “أطروحات حول المسألة الشرقية” المقدمة في المؤتمر الرابع للكومنترن (كانون الأول/ديسمبر 1923) جرى تطوير وإضافة على تلك المقدمة في [الأممية الثانية]. في حين اعترف المؤتمر بـ”التحالفات المؤقتة مع البرجوازية الديمقراطية معتبراً ذلك مقبولاً وضرورياً”، شدد على “أن المهام الموضوعية للثورة [ضد] الكولونيالية أن تصعد من إطار البرجوازية الديمقراطية وأنه “في اللحظة التي تنخرط فيها جماهير الفلاحين والبروليتاريا في الحركات الثورية في المستعمرات، تنسحب العناصر من البرجوازية الكبيرة وملاك الأراضي منها”. كانت المقاربة الاستراتيجية للمؤتمر هي إقامة سلطة شبيهة بالسوفيتات في الشرق؛ سلطة مجالس العمال والفلاحين التي ستنقذ البلاد من مراحل التطور والاستغلال الرأسمالي. (110) على الرغم من أن المصلحة الأساسية للأممية الثالثة كانت في الكتلة الآسيوية للدول المستعمرة وشبه المستعمرة، بقية المناطق الواقعة تحت الهيمنة الامبريالية لم تكن منسية. على الرغم من عدم وجود قرارات محددة في المؤتمر، إلا أن هناك الكثير من الوثائق والدعوات الصادرة عن اللجنة التنفيذية للكومنترن المتضمنة استراتيجية ثورية دائمة- توحيد النضال المعادي للامبريالية، والتحرر الزراعي والثورة الاشتراكية- في أميركا اللاتينية. على سبيل المثال، في كانون الثاني/يناير 1921، شددت اللجنة التنفيذية على أن الحركة الثورية المعبرة عن مصالح البروليتاريا والفلاحين يمكن تحرير أميركا اللاتينية من اضطهاد المستغلين المحليين ومن الامبريالية الأميركية. أكثر من ذلك، بعد تحليل لافت للثورة المكسيكية، ختم التقرير بالتشديد على ضرورة قيام تحالف مناهض للرأسمالية بين البروليتاريا والفلاحين. (111) لا يوجد في هذه النصوص أو ما يشبهها في بيانات الكومنترن الشبيهة الصادرة في السنوات 1921 إلى 1923 ما يشير إلى “مرحلة ديمقراطية برجوازية” أو إلى دور ثوري للبرجوازية الوطنية في أميركا اللاتينية. بالفعل لا يوجد إشارة حتى إلى قيام محتمل لتحالف بين العمال والفلاحين مع البرجوازية الديمقراطية.
تحليل مفصل لسياسات الكومنترن حول المسألة القومية والكولونيالية خلال الفترة اللينينية- في أول أربعة مؤتمرات 1919-22- ليست ضمن مجال هذا الكتاب. تكفي الإشارة إلى أن التوجه العام لأغلب التقارير والقرارات للمؤتمرات واللجنة التنفيذية كان نحو النصح بشن نضال في الدول المستعمرة وشبه المستعمرة بهدف تحقيق سلطة العمال والفلاحين متبعة النموذج السوفياتي، وذلك تحت هيمنة البروليتاريا، مع برنامج يجمع بين الإجراءات الثورية الديمقراطية والقومية والمناهضة للرأسمالية (اشتراكية): بعبارات أخرى، استراتيجية متضمنة التوجهات العامة لنظرية الثورة الدائمة. السؤال ما زال مفتوحاً وخاضعاً للنقاش حول طبيعة التكتيكات التي ينبغي اعتمادها حيال التيارات القومية البرجوازية. إذا كانت فكرة قيام “تحالف مؤقت” كانت مقبولة إلى هذا الحد أو ذاك في قيادة الكومنترن، فإن التطبيق العملي لذلك في كل دولة كان أكثر جدلية. (112)
كيف تطورت أفكار تروتسكي بما خص الثورة الدائمة خلال السنوات الأولى التي تلت ثورة تشرين الأول/أكتوبر؟ كما يمكن للمرء التوقع، اعتبر تروتسكي أن الثورة أكدت على تفكيره وتوقعاته عامي 1905-6. في مقدمة كتبها سنة 1919 في طبعة جديدة من نتائج وتوقعات، كتب: “الاختبار الأخير للنظرية هو الممارسة. الدليل الذي لا يمكن نقضه لكوننا طبقنا بشكل صحيح النظرية الماركسية هي وقائع الأحداث التي نشارك فيها الآن، وحتى طرق مشاركتنا فيها، والتي كنا قد توقعناها بخطوطها الأساسية منذ 15 سنة”. (113) وكان قد عبر عن وجهة نظر مماثلة عام 1922 في مقدمة طبعة جديدة من كتاب 1905 ومن جديد، بعد سنة في كتاب “دروس جديدة” عندما ردّ على الموجة الأولى من الانتقادات التي تدعي أن الثورة الدائمة كانت “نظرية غير لينينية”. “أصر على اعتبار أن الأفكار التي طورتها خلال ذلك الوقت (1905-5)، بمجملها هي أقرب من جوهر اللينينية الأساسي أكثر بكثير من الكتابات البلشفية في أيامنا هذه… نظرية الثورة الدائمة تقودنا مباشرة إلى اللينينية وخاصة أطروحات نيسان/أبريل 1917”. (114) ولكن مع ازدياد الضغوطات، والهجمات على نظرية الثورة الدائمة باتت عنصراً هاماً متزايداً من عناصر حملة الترويكا (زينوفييف وكامينيف وستالين) ضده، تراجع تروتسكي إلى موقع أكثر دفاعية. “في اختلافاتنا” (كتبه في تشرين الثاني/نوفمبر 1924، ولكن لم ينشر أبداً)، أعلن، على سبيل المثال، أن صيغة الثورة الدائمة “تعكس فقط مرحلة من تطورنا والتي سبق لنا أن مررنا بها من وقت طويل”. (115) لاحقاً، في كانون الثاني/يناير 1925 وفي رسالة إلى اللجنة المركزية للحزب، ذهب بعيداً في إعلانه أن “”صيغة الثورة الدائمة”… تنطبق بشكل كامل في الماضي… إذا كنت في أي وقت بعد [ثورة] تشرين الأول/أكتوبر، ولأسباب خاصة، قد عدت إلى صيغة “الثورة الدائمة”، وذلك فقط للاستشهاد بتاريخ الحزب، أي إلى الماضي، ولم أكن أعني بذلك مسألة المهام السياسية الآنية”. (116)
من جهة ثانية، من المفيد اعتبار بشكل موجز وجهات نظر تروتسكي، في أول خمس سنوات تلت [ثورة] تشرين الأول/أكتوبر، حول معنى الثورة بالنسبة إلى الدول الرأسمالية الطرفية. إلى أي مدى يمكن توسيع نظرية الثورة الدائمة وتعميمها إلى مناطق حيث تطور الرأسمالية متأخر أو إلى مناطق خاضعة للقمع الكولونيالي؟ من دون شك مع بداية الثورات ضد الكولونيالية في الـ 1920ات كانت بعيدة عن مجال اهتمامه، لأنه كان منشغلاً بمواجهة مصير اليسار الثوري الغربي ووسط أوروبا. مع ذلك، نادراً ما أعلن مواقف بشكل نسبي بما خص “المسألة الشرقية” متخذاً بدلاً من ذلك موقفاً سلبياً تجاه دور البرجوازية المحلية في البلاد المهيمن عليها. في خطاب له أمام المؤتمر الثالث للأممية (1921)، حاول تطبيق دروس التجربة الروسية الثورية على النضال من أجل التحرر الوطني في آسيا. “أساس النضال التحرري في المستعمرات يكمن في الجماهير الفلاحية. ولكن الفلاحين في نضالهم يحتاجون إلى القيادة. مثل هذه القيادة عادة ما كانت تقوم بها البرجوازية المحلية. النضال الأخير ضد الهيمنة الامبريالية لا يمكنه، مع ذلك، أن يكون حيوياً ومتسقاً، طالما أن البرجوازية المحلية نفسها مرتبطة برأس المال الأجنبي. فقط من خلال نهوض البروليتاريا المحلية القوية بشكل كافٍ عددياً والقادرة على النضال يمكن أن تؤمن دفعاً حقيقياً للثورة. بالمقارنة مع عدد سكان البلد، حجم البروليتاريا الهندية بالطبع قليل، ولكن أولئك القابضين على معنى تطور الثورة في روسيا لم يفشلوا أبدا في الأخذ بالحسبان أن دور البروليتاريا الثورية في الدول الشرقية يتجاوز قوة عددها الفعلي”. (117) على الرغم من أن هذه العبارة تعطينا دليلاً على انطباق نظرية الثورة الدائمة ضمن سياق دول أخرى، سيكون خاطئاً اختصار أن تروتسكي قد امتلك في بداية الـ 1920ات نظرية كاملة ومتسقة لديناميات الثورة في الدول المستعمرة. فقط مع تراجيديا الثورة الصينية عام 1926-7 وفي وسط النضال ضد عقيدة ستالين “الاشتراكية في بلد واحد” حاول تروتسكي تعميم نظرية الثورة الدائمة واعتبارها نظرية الثورة العالمية.
الهوامش:
1. Les questions fondamentales du marxisme, Paris 1953, pp. 32-3
2. A. Walecki, ‘le problème de la révolution russe chez Plekhanov’, in Histoire du marxisme contemporain, Paris 1977, p. 87
3. Nos controverses, Oeuvres philosophiques, Paris 1970, p. 286.
4. Sochinennya, ed. Riazanov, vol. 12, Moscow 1923-7, pp. 101-2, Perry Anderson, ‘The Antinomies of Antonio Gramsci’, New Left Review 100, January 1977, pp. 15-16.
5. Liternaturnie nasledie G.V. Plekhanov, vol. 1, Moscow 1939-40, pp. 206-7.
6. Letter to the Menshevik members of Nachalo (18 December 1905) quoted in Ella Feldman-Befler, ‘The Conflicts and Dilemmas of the Marxist Path of G.V. Plekhanov’, Ph.D. thesis, Tel Aviv University, 1972, p. 222.
7. Edinstvo, 11 (12 April 1917) and 18 (20 April 1917), quoted in ibid, p. 365
8. Quoted by Feldman-Befler, p. 388
9. Two Tactics of Social-Democracy in the Democratic Revolution, Collected Works, vol. 9, Moscow 1962, p. 49
10. Ibid., p. 28
11. Ibid., p. 49
12. CW, vol. 9, pp. 80-81, Critique 6 (Spring 1976)
13. CW, vol. 9, p. 237
14. Norman Geras, The Legacy of Rosa Luxembourg, London 1976, pp. 92-3
15. CW, vol. 11, pp. 372-3; Massimo Salvadori, Karl Kautsky and the Socialist Revolution, 1880-1938, London 1979, pp. 100-8
16. Neue Zeit (25 Jahrgang), Stuttgart 1907, pp. 330-33
17. Blanquisme et Social-démocratie, Czerwony Sztander 82 (June 1906) translated in Quatrième Internationale, 2 (April, 1972), p. 55
18. Die russische Revolution (1649-1789-1905), Gesammelte Werke, vol. 2, Berlin 1970, pp. 8-9
19. Trotsky, The Permanent Revolution (1930), London 1962, p. 73
20. Dei Lehren der Drei Dumas, Przeglad Socjaldemokratcyzny, 3, (May 1908) in Luxemburg, Internationalismus und Klassenkampf, Luchterhand 1971, pp. 359-71
21. My Life, New York, 1960, p. 203
22. “Some Questions Concerning the History of Bolshevism”, in Leninism, London 1940, p. 392
23. Die Folgen des janpanischen Sieges und die Sozialdemokratie, Neue Zeit, 23, 1904-5, vol. 1, p. 462, quoted in Salvadori, op. Cit. , p. 102
24. Neue Zeit, (24 Jahrgang), Band 1 1904-5, pp. 169-71
25. Ibid, p. 171
26. The New Course (1923) in Trotsky, The Challenge of the Left Opposition, 1923-1925, New York 1975, p. 102
27. Preface (1922), 1905, London 1971, p. 8
28. Die Geschichte der Russischen Sozialdemokratie, Berlin 1926, pp. 164-5.
29. L. Deutscher, The Prophet Armed, London 1954, pp. 102-3
30. My life, New York, 1970, p. 167
31. Z. A. Zeman and W. B. Scharlau, The Merchant of Revolution: The Life of Alexander Israel Helphand (Parvus) 1867-1924, London 1965, p. 66
32. Preface to Trotsky’s pamphlet, Before the 9th January, in Zeman and Scharlau
33. Ibid., p. 358
34. Quoted in Zeman and Scharlau, The Merchant of Revolution, p. 79
35. Ibid., p. 358
36. The Three Conceptions of The Russian Revolution (1939), Writings 1938-39, New York 1969, p. 115
37. Brossat p. 101
38. Uber den Marxismus in Russland, Neue Zeit, 26, Band 1, Stuttgart 1908, p. 8
39. See note 36
40. See note 15 and 16
41. Nos Tâches Politiques, Paris, p. 120
42. Ibid., p. 44
43. The Proletariat and the Revolution, in I. Deutscher, The Age of Permanent Revolution: A Trotsky Anthology, New York 1964, pp. 42, 44, 49; Brossat, pp. 87, 90
44. Preface To Lassalle, Rech Pered Sudom Prisyarnikh, St. Petersburg 1905, p. 27
45. Quoted in My Life, pp. 171-2
46. Preface To Marx, Pariszkaya Kommuna, St Petersburg 1906, p. 10
47. Denise Avenas, Economie et politique dans la pensée de Trotsky, Paris 1970, p. 7
48. My Life, p. 119
49. Prison Notebooks, London 1971, p. 387
50. Antonio Labriola, La concepción matrialista de la historia [1897], Havana 1970, p. 115
51. Ibid., p. 243
52. Results and Prospects, London 1962, p. 196
53. The Proletariat and the Russian Revolution, in 1905, p. 295
54. Results and Prospects, pp. 217-8
55. Loizos Michail, The Theory of Permanent Revolution, London 1977, p. 28
56. London 1971
57. Rech Pered Sudom Prissyarnich, p. 27
58. Avenas, pp. 12-15
59. Results and Prospects, p. 195
60. Krasso, p. 22
61. Ibid., p. 17
62. Ibid., p. 17
63. Results and Prospects, p. 212
64. Ibid., p. 168
65. Vol. 1, London 1965, p. 427
66. The Prophet Armed, p. 161
67. Results and Prospects, p. 183
68. 1905, pp. 21-2
69. Ibid., p. 54
70. Results and Prospects, p. 186, 193
71. Brossar, p. 16
72. Results and Prospects, p. 197
73. Ibid., p. 205
74. CW, 15, p. 374
75. Geras, p. 75
76. Results and Prospects, pp. 232-4
77. Ibid., pp. 208-9
78. Ibid., p. 247
79. Ibid., p. 237
80. Permanent Revolution, p. 42
81. 1905, p. 294. Trotsky, Zur Verteidigung der Partei (1907), in Schriften zur revolutionãren Organisation, Hamburg 1970, p. 154
82. 1905, p. 289
83. Our Differences, in ibid., pp. 314-6
84. Catastrophe militaire et perspectives politiques, Nashe Slovo (September, 1915), in Trotsky, La Guerre et L’internationale, Paris 1974, pp. 166-9
85. Ibid., p. 167
86. Permanent Revolution, pp. 47-8
87. Philosophical Notebooks, cw, vol. 38, pp. 151, 157-9, 179, 187, 260, 276-7 and 360. From the Great Logic of Hegel to the Finland Station in Petrograd, Critique, 6 (Spring 1976)
88. Letters from Afar, cw, vol. 21, p. 34
89. Stenographic notes by the Bolchevik Bonch-Bruevitch in G. Golikov, La révolution d’octobre, Moscow 1966
90. N. Sukhanov, La révolution russe de 1917, Paris 1964, pp. 139-43
91. Our Revolution, cw, vol. 33, p. 476
92. The Bolshevik Revolution, vol. 1, London 1950, p. 82
93. On Tactics, cw, vol. 24, p. 45
94. Political Parties in Russia and Tasks of the Proletariat, cw, vol. 24, p. 97
95. Monty Johnstone, Trotsky- Part One, Cogito, 5, pp. 11-2; and Michail, pp. 31-40
96. Letters on Tactics, pp. 43-8
97. Two Tactics, p. 48
98. Ibid., p. 28
99. Cw, vol. 28, p. 314. See also The Permanent Revolution, p. 109
100. Marcel Liebman, The Russian Revolution, New York 1970, p. 324
101. Cw, vol. 33, p. 54
102. Sukhanov, p. 14
103. Our Revolution? Cw, vol. 33, p. 480
104. Democracy and Narodism in China, cw, vol. 18, p. 163-9
105. Lenin, The Report of The Commission on the National and Colonial Questions (26 July, 1920), in Lenin on the National and Colonial Questions, Peking 1967, p. 35
106. Ibid., p. 27
107. Henri Carrière d’Encausse and Stuart Schram, Le marxisme et l’Asie, Paris 1965, pp. 44-5, 205-22
108. Preliminary Draft Theses on the National and Colonial Questions, Theses, Resolutions and Manifestos of the Third International, London 1980, pp. 76-81
109. Lenin on the National and Colonial Questions, p. 32
110. CF. Theses, Resolutions and Manifestos, pp. 409-18
111. L’Internationale Communiste, 15 January 1921, pp. 321-2. Aux ouvrières et paysans de l’Amérique du sud, La correspondante internationale, 2 January 1923, pp. 26-7
112. Trotsky, On China, New York 1976, p. 490. Ibid., p. 122
113. Permanent Revolution, p. 164; and 1905, p. 8
114. Challenge of the Left Opposition, pp. 101-2
115. Ibid., p. 299
116. Ibid., p. 305
117. Report on the World Economic Crisis and the New Tasks of the Communist International (23 June 1921), in the First Five Years of the Communist International, vol. 1, New York 1972, p. 223
#مايكل_لوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟