سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 7456 - 2022 / 12 / 8 - 14:02
المحور:
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
الحزب والتاريخ
ان تاريخ أى حزب من الاحزاب ينبثق من خلال رسم صورة مركبة للمجنمع والدولة ككل ، وتتوقف أهمية أى حزب على نشاطه والى اى حد كان حاسما فى تقرير تاريخ ذلك البلد ، والمؤرخ سوف يؤكد قبل كل شئ على الفاعلية الحقيقية للحزب ، على قوته الحاسمة ، فى وقوع احداث بعينها وفى منع وقوع احداث اخرى – على حد تعبير جرامشى فى كراسات السجن .
التقى تمرد هذا الجيل - الذى أسمى آنذاك بجيل الغضب ، أوجيل الطموحات التى لاتعرف التوقف - بتلك الموهبة الفذة ( إبراهيم فتحى ) حتى قيل أنه " الأب الروحى لجيل بأكمله ".
وفى ظل لواء الافكار السياسية الجذرية الماركسية التى طرحت انتظمت حركة طلابية وعمالية وجهت بنضالها الجماهيرى المنظم ضربات قوية ضد السلطة القائمة ، وذادت عن قضية الثورة الاشتراكية ، والقضية الوطنية ، وقضية الديموقراطية بالرغم من كل اساليب القمع البوليسى التى ووجهت بها . وينبغى ان نفهم بوضوح أنه اذا كان هناك فاارق كيفى فى واقع الفكر السياسى ، والنشاط الجماهيرى العملى فى مجالى العمال والطلاب قبل السبعينات وبعدها فإن ذلك يعود الى الدور الذى اضطلع به هذا الوعى السياسي الجديد - وان لم يكن منفردا - فى تطوير الحركة الطلابية والعمالية ، والذى وضع فى أولوياته صدامية الصراع الطبقى بديلا عن التعاون الطبقى الذى روج له يمين الحركة الشيوعية المنتحرة .
يكتب إبراهيم فتحى " لقد عرف هذا الجيل الحلم الملح بتحقيق واقع آخر ، وإعادة تشكيل المجتمع الذى يتسم بتراتب صارخ وبيروقراطية ، ومنطق بوليسي تشكيلا سياسيا وديموقراطيا ، والحلم بمعيار مختلف للواقع ، وهندسة جديدة للمجتمع . ان تضحيات هذا الجيل بالكثير جعلهم يطالبون بحقهم فى التعبير والفاعلية وفى بداية جديدة "
لقد كان أغلبنا وقبل التقاءنا بالكتابات السياسية التأسيسية لإبراهيم فتحى نقرأ بكثافة وهذا ماسهل لنا استيعابها وتبنيها ، خاصة أهم مؤلفات مادعى باليسار الجديد ، ريجى دوبريه وبؤرته الثورية ، ودعوته للكفاح المسلح ، فرانز فانون وافلاس بورجوازيات العالم الثالث ، وزعماءها الوطنيون وتمجيده الرومانسي للعنف ، هربرت ماركيوز ، وانسانه ذو البعد الواحد ، وافساد الطبقة العاملة فى البلدان الرأسمالية المتقدمة ، ماو تسى تونج ومناظرته حول الخط العام للحركة الشيوعية العالمية ، ورفضه للسياسات السوفيتية حول التعايش السلمى ، والانتقال السلمى للإشتراكية ، وخرافة طريق التطور الرأسمالى .. الخ وماتلى ذلك من وقائع الثورة الثقافية الصينية ، وبالطبع جيفارا الذى مثل بالنسبة لجيلنا نموذجا ثوريا ملهما ، وكذلك كلاسيكيات الماركسية المتوفرة مثل رأس مال كارل ماركس فى طبعتين عتيقتين لراشد البراوى المصرى ، ومحمد عيتانى اللبنانى ، وايضا ماتوفر من انجلز ولينين آنذاك خاصة كتابيه ماالعمل ، وخطوة الى الأمام ، وبعض انتاج الحلقة الثانية ، مثل المبادئ الأولية فى الفلسفة لجورج بوليتزر ، ترجمة اسماعيل المهدوى ، أسس الاقتصاد السياسي لجان بابى وترجمة محمد خليل قاسم ، والكتب التاريخية التى أنتجها ، شهدى عطية الشافعى ، فوزى جرجس ، ابراهيم عامر . اضافة لقراءات فى التاريخ المصرى الحديث ، وتطور مصر الاقتصادى ، وتاريخ الطبقة العاملة المصرية ومنظماتها النقابية ( ليس هذا حصرا لكل ماقرأناه ) ، وقلة قليلة منا كانت قد لحقت العربة الأخيرة فى قطار وحدة الشيوعيين المصريين . أشير هنا بصفة خاصة لهؤلاء الذين كانوا مشاريع مثقفين وأدباء وكتاب ، وشكلوا كوادر التنظيم الشيوعى الجديد واعطوه زخما شديدا منذ لحظات ميلاده الأولى .
ويكفى تدليلا على ذلك انه فى عامى 1971-1972 وبشكل شبه متزامن مع الكتابات التأسيسية كتب خليل كلفت كراسا نقديا لكتاب صادق جلال العظم : النقد الذاتى بعد الهزيمة ، وتولى صلاح العمروسى فى كراس بيان : الموقف من القائلين بسلطة البورجوازية الصغيرة ، وكتب سعيد العليمى كراس : الدولة البوليسية والصراع الطبقى فى مصر . وفى الحقل الأدبى برز الشعراء والكتاب زين العابدين فؤاد بديوانه " وش مصر " ، ومحمد سيف و " ستة أناشيد لمصر " ، وعزت عامر و" مدخل للحدائق الطاغورية " وحسن عقل و" الحلم " ومحمود الوردانى ، ومحمد ابراهيم مبروك بقصصهما القصيرة ، وغيرهم . كان كل مايحيط بنا من أحداث ووقائع على المستوى العالمى والاقليمى العربى والمصرى يدعونا لتوسيع مداركنا وتعميق وعينا أمميا . ونشط الرفاق فى حقل التنظيم والعمل الجماهيرى الطلابى والعمالى فى جامعتى عين شمس ، والقاهرة ، وفى مصنعى الحديد والصلب ، والكوك بحلوان .
ولم يكن ظهورنا على الساحة السياسية ليمر غير ملحوظ فمع توسع النشاط السياسي والإنتشار النسبى فى مواقع عمالية وطلابية ، وبصفة أخص بعد تعمق نفوذنا فى صفوف الحركة الطلابية ، وتتابع إنتفاضاتها بدأ يمين الحركة الشيوعية المصرية فى إعادة تنظيم صفوفه تدريجيا الى ان شكل ماأسماه "الحزب الشيوعى المصرى " المعترف به أمميا ( سوفيتيا ) عام 1975 ، وأدعى زورا أنه الوريث التاريخى للحزب الشيوعى المصرى القديم الذى تأسس فى 1922 . وسرعان ماشن حملة منظمة تتهمنا بأننا " يسارمغامر " متضافرا مع السلطة التى اعتبرتنا حليفا للألوية الحمراء اليابانية ، وبادر ماينهوف الألمانية وكلتاهما منظمتان إرهابيتان ، ووصفنا طارق اسماعيل ورفعت السعيد " بالشبان المتطرفين والمفتقرين الى الخبرة السياسية " بينما كنا فى الواقع " صانعى محاولة التجديد والانقطاع عن التقليد الماركسي المصرى " ، ولم تستطع مواقف المصرى ان تقف فى مواجهة مابات "ممثلا للطليعة المثقفة لليسار الجديد فى مصر" على حد تعبير ج . جيرفازيو فى كتابه المعروف ص 262 ، ص 319 .
وربما كان من المفيد التوقف قليلا عند مؤرخهم الكورييلى العتيد بوصفه نموذجا ، وبصفة خاصة كتابه : الحركة الشيوعية فى مصر -- 1920 -- 1988 () ماذا كتب عن حزب العمال الشيوعى المصرى فى الصفحتين 146 – 147 من كتابه المنوه عنه, وقد بلغ إجمالى ماكتبه حوالى صفحة وربع من القطع الصغير ! , من كتاب بلغ عدد صفحاته 218 صفحة . يقول مامعناه فى ترجمة غير حرفية : إن إعلان تأسيس (ح ع ش م ) جاء كرد فعل على إعلان جماعة " بلا إسم " عن نفسها بوصفها الحزب الشيوعى المصرى ... وهو يتكون من مجموعة من الشباب المتطرف ... أصدر (ح ع ش م) مجلة " الشيوعى المصرى " بوصفها لسان حال نظرى وسياسى , وقد صدر العدد الأول منها فى مصر فى سبتمبر 1975, وظهرت طبعة بيروتية منه بعد شهرين . وقد تضمن اللائحة الحزبية ، وبيانا بمواقفه النظرية على الصعيدين الأممى والمصرى . ونوه الى أن المجموعة إعتادت أن تصدر وثائق بمواقفها من 1972 – 1975 تحت اسم شيوعى مصرى , واسماعيل محمود فى مجلات الهدف , والراية , ودراسات عربية فى بيروت , وفى مجلة الطليعة الكويتية . ثم تصدى لتلخيص إفتتاحية العدد الأول . ومما ورد فيها : لن تتخلى المجلة عن دورها الأممى بالذات حين يتعلق الأمر بالوضع المأساوى الراهن للحركة الشيوعية العالمية , وخاصة فيما يتعلق بالمراجعة السوفيتية اليمينية , والمراجعة الصينية اليسارية , ويجب على مجلتنا أن تؤكد الخط الثورى الماركسى الذى تم تشويهه على يد المراجعتين المتناحرتين .. وبعد تلخيصه لجزء من الإفتتاحية إنتهى إلى أن هذا الحزب : ( تحدى شرعية الحركة الشيوعية على المستوى القومى , والإقليمى , والأممى , متقمصا دورا طليعيا فى إصلاح الحركة . وقد مثل برنامجه خطا راديكاليا تأسس على قطيعة مع الماضى , ورفضا للشرعية القائمة للحركة الشيوعية ( كم تطيب نفسى لسماع هذه الكلمات ! ) . وقد مثلت مجلته السلاح النظرى لبرنامج الحزب . وظلت تطبع فى القاهرة , وبيروت حتى إنتفاضة يناير 1977 . لعب الحزب دورا بارزا فى الإنتفاضة , منظما الطلاب والعمال ...
دعونى هنا أورد رأى بعض الكتاب ممن لم يكونوا على أية صلة بحزب العمال الشيوعى المصرى ممن ذكروه فى كتاباتهم . يقول الكاتب الراحل د . غالى شكرى فى كتابه الثورة المضادة فى مصر , الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1997 , وبعد تقويمه النقدى لإتفاقية سيناء وماورد بصددها فى مجلة الطليعة القاهرية – إفتتاحية عدد أكتوبر 1975 , وتوجيه نقد صارم مبدئى , وحاد , لموقف ( التيار الثورى – مجموعة محمد عباس فهمى وطاهر البدرى وآخرين ) الذى أيد سلطة السادات , والإتفاقية , ودعا لعدم التظاهر ضدها , ودعا لضرورة مساندتها وتأييدها , إنتقد بيان الحزب الشيوعى المصرى بسبب تشوشه بشأن الطبيعة الطبقية للسلطة التى رأى فيها عناصر عميلة وخائنة , وعناصر مزدوجة ومترددة , وعناصر تؤمن بالخط الوطنى الناصرى , وأبصر فى ذلك ثغرات قاتلة واصفا إياه بأنه " تحديد ينتمى جوهريا الى العقلية اليمينية التى سادت بعض أوساط الشيوعين المصريين فى الستينات وقادتهم الى حل تنظيماتهم " ص 280 , وقد إنتهى بعد عرضه لمواقف عدة قوى حزبية , وغير حزبية إلى : ( وتنظيم حزب العمال الشيوعى المصرى أكثرها يسارية منذ أصدر مجموعة من الموضوعات كتبت بين عامى 1970 و 1971 تحت عنوان طبيعة السلطة , وقضية التحالف الطبقى , وفى هذا الكتيب مقولات صحيحة منهجيا , وبعض مقولاته تنطوى بغير شك على نبوءة علمية ... ثم يتناول البيان الذى أصدره الحزب بمناسبة اتفاقية سيناء السابقة على كامب دافيد , وهو البيان المعنون : فلنقاوم إستسلام النظام المصرى أمام الإستعمار الأمريكى وإسرائيل فى 13 – 9 – 1975 الذى إنتهى إلى طرح شعار الإطاحة الثورية بحكم السادات , وبعد تقويمه للبيان , ورفضه لشعار الإطاحة الذى طرحه حزبنا وبرهن كامل تطور مجرى الأحداث اللاحق على صوابه وصحته , إنتهى الى القول بأن هناك وجها ايجابيا لامعا فى تحليل ح ع ش م لايجوز تجاهله بل التأكيد عليه وتطويره دائما , هو الإطار العربى الذى تفرضه اتفاقية سيناء سلبا وإيجابا ... . وقد أشار الكاتب الراحل أحمد صادق سعد فى دراسته المعنونة : حاجتنا لإستراتيجية إشتراكية جديدة - قراءة ثانية فى أحداث يناير 1977 – التى نشرت نشرة مدققة حسب ماصدر فى الكتاب الدورى – الراية العربية - من قبل د . شريف يونس ، والأستاذ عادل العمرى – الإنترنت , إلى أنه بالنسبة لحزب العمال الشيوعى المصرى , يأتى التذكير بإستراتيجية الحزب الإشتراكية بصورة أقوى وأكثر تكرارا من أى من المنظمات الأخرى القائمة جميعا , ويورد من جريدة الإنتفاض فى عددها الصادر بتاريخ 7 – 8 – 1976 تحت عنوان حول إنتخابات مجلس الشعب , واستفتاءات السادات , وفى العدد الصادر بتاريخ 31 – 7 – 1976 بعنوان لا للسادات ، وفى غيرهما موقف الحزب حول ضرورة الإطاحة بالنظام القائم ( بأساسه السياسى والإقتصادى والإجتماعى – الرأسمالى الرجعى دون أية تحفظات .. ولايحول بيننا والنضال المباشرحول شعارات إسقاط النظام الرأسمالى القائم من أجل الجمهورية الإشتراكية سوى الوزن الضعيف للطبقة العاملة وحلفائها من الجماهير الشعبية ... إلا أن هذا لن يتم إلا عبر النضال حول شعار مرحلى , شعار الجمهورية الديموقراطية الذى يحقق إسقاط شكل الحكم الرجعى الفردى مطلق السلطات وإقامة شكل ديموقراطى جديد .. ) . وفى التقرير الإستراتيجى العربى الصادر عن مركز الدراسات السياسية , والإستراتيجية بالأهرام لعام 1987 , الذى أشرف عليه الأستاذ السيد ياسين يرد فيه عن حزب العمال الشيوعى المصرى من ضمن مقال عنوانه : القوى المحجوبة عن الشرعية مايلى فى مواضع متفرقة : ( يعد حزب العمال واحدا من أكثرالمنظمات الماركسية فى مصر تشددا من حيث الموقف السياسى , فى رؤيته لنظام الحكم , ومن حيث المهام التى يطرحها على الطبقة العاملة من أجل تغيير هذا النظام .. فى مواقفه النظرية بل وحتى ذات الطابع البرنامجى التفصيلى .. ولعب حزب العمال فى خضم أحداث الإنتفاضة الطلابية فى عامى 1972 و 1973 دورا بارزا وكان أقوى فصائل الحركة الماركسية تأثيرا وسط صفوف الطلاب فى ذلك الحين , بل ونجح فى إدارة الإنتفاضة الطلابية بما فى ذلك ربط القيادات الطلابية غير المنتمية له بخطط وحركة الحزب .. إمتلك حزب العمال منذ نشأته ... أساسا نظريا متينا نسبيا , ومقولات سياسية راديكالية أعطت لعناصره روحا حماسية , وأحيانا قتالية عالية , وخاض حزب العمال بلاشك كثيرا من المواجهات العنيفة ضد نظام حكم الرئيس السادات , وتعرضت عناصره لإعتقالات كثيرة ، وربما بنسب أكبر مما تعرضت له فصائل أخرى – وأضيف من عندى أن هذا كان ملحوظا فى قضية إنتفاضة يناير 1977 بصفة أخص . حيث فاق عدد " المتهمين " من الأعضاء المنتمين إلى حزب العمال أعداد الرفاق من تنظيمات أخرى . ويعرف القراء المطلعين مواقف ونظرات الاستاذ سيد ياسين التى لايمكن وصفها بالتعاطف مع الإتجاهات الماركسية الثورية ، ولا حتى التحريفية , ولم يكن ماورد فى التقرير الآنف يأتى إلا فى سياق سلبى عموما .
نشأ حزبنا كما هو معروف فى 8 ديسمبر 1969 بمبادرة عناصر من المثقفين الثوريين وهى ظاهرة موضوعية تعرفها شتى الاحزاب وبالاخص حزب الطبقة العاملة الذى ينقل لها الوعى من خارجها ، ذلك الوعى الذى لاينبثق عن نضالاتها الاقتصادية العفوية ، وانما من النظريات الاقتصادية والفلسفية والاجتماعية ، وفق المفهوم اللينينى الذى كنا نتبناه آنذاك . ومن المعروف ان هذه الفترة لم تكن تشهد حركة جماهيرية بعد إخماد انتفاضتى فبراير ونوفمبر 1968 الطلابيتين اللتان جرتا على ارض النظام السياسية الايديولوجية ، ومثلت رفضا لهزيمة يونيو 1967 ، وحيث عرفت الطبقة العاملة اول نهوض جدى لحركتها العفوية عام 1971 فى اضرابات حلوان المعروفة ، وبالاخص الحديد والصلب والكوك ( وقد كانت لنا ركائز مبكرة فيهما ) . اى ان حزبنا لم ينشأ محاطا بحركة جماهيرية بل على العكس نشأ فى مرحلة سمتها تصفية الحياة السياسية ، وتأميم الصراع الطبقى على الطريقة الناصرية – البونابرتية ( ومثلما كان الصراع السياسي يخاض فى المانيا اليونكرز الإقطاعية فى المجال الفلسفى كان الصراع السياسي يخاض فى بلادنا فى المجال الأدبى إبان هيمنة الناصرية ) – ولم يكن حزبنا كأى حزب شيوعى ثورى – افرازا لحركة تلقائية ، لأن الحركة التلقائية لاتصنع احزابا شيوعية ولاتحل المعضلات النظرية ، ولم يبدأ حزبنا فى طوره الحلقى من فراغ ، فقد جاءت المبادرة من مناضلين من المثقفين الثوريين الذين حددوا موقف الرفض الثورى من النظام الراسمالى القائم ، على اساس قدر محدد من الوعى الماركسي ، والذين وصلوا الى هذا الموقف كحل لمشاكلهم الفكرية والسياسية من خلال نضالاتهم الفردية المبعثرة فى المجالات التى وجدوا فيها أولا ( ربما وجبت الإشارة لإعتقال الأديب أحمد الخميسى ، ومحمد عبد الرسول ، والكاتب صلاح عيسى ، وسعيد العليمى بتهمة الإسهام فى المظاهرات الطلابية عام 1968 فى قضية واحدة معا ) ، و كذلك تيمور عبد العزيز الملوانى القائد الطلابى فى هندسة الإسكندرية الذى أرسل مع مجموعة من الشبان لمنطقة حدودية بعد تجنيدهم فى البحر الأحمر ، بدلا من إعتقالهم مع عدم التصريح لهم بحمل السلاح أو التدريب عليه ، وتعريض حياتهم للخطر فى منطقة سبق لها التعرض للقصف والهجوم الإسرائيلى ، و الإشارة كذلك لمؤتمر الأدباء الشبان فى 1969 حيث نددت الراحلة الدكتورة رضوى عاشور بأوضاع الحريات الديموقراطية ، وحضر المؤتمر إبراهيم فتحى وادباء الجيل الشبان الثوريين )، والذين عانوا بصدق وجدية قضايا بلادهم ، والواجب الثورى الذى يلقيه عليهم فكرهم الماركسي ، والذين كانوا يملكون من روح المبادرة الثورية مادفعهم الى الممارسة العملية لفكرهم الثورى، وللسياسة النابعة من تطبيقه على ظروف بلادهم ، وقد تحقق فى هذا الطور الاول من النشأة ( من 8 ديسمبر 1969 حتى يناير 1972 اى تاريخ انفجار الحركة الطلابية ) انجازات هامة ولكن هذه الانجازات كانت محكومة بظروف البداية القاسية . وعلى سبيل المثال فإن الوثائق الاساسية : سلطة البورجوازية البيروقراطية ، طبيعة الثورة المقبلة ، قضية التحالف الطبقى فى مصر ، ترجع الى ذلك الزمن ، لقد جرت فى نفس الفترة احداث هامة ( مبادرة روجرز ونتائجها ، حركة "التصحيح " ، " الاتحاد الثلاثى " ... الخ واستطاعت الحلقة ان تطبق الخط الذى بلورته الوثائق المعروفة ) ، ايضا شهدت نفس الفترة اندماج حلقتين فى هذه الحلقة الاساسية التى ابتدأت بأفق واسع نسبيا ( أهمهما حلقة الإسكنرية العمالية التى ضمت فتح الله محروس ، وسعيد ناطورة ، وحسين شاهين ، وجمال عبد الفتاح وعضوية عمالية واسعة ) . ويمكن القول اننا لم نعان من حلقية بمعنى الولاءات المتعددة لأصول حلقية ذات نظرات سياسية مختلفة ذلك ان الاندماج كان مبكرا . اما وضعنا الخصوصى فقد كان اننا فى النهاية حلقة أولية تتطلع الى الانتقال الى طور التتنظيم الحزبى على اساس لائحتنا وهى من انتاج تلك الفترة . وفى خلال شهور قليلة (لاتتجاوز الثمانية ) استطاعت هذه الحلقة ان تستكمل فى منطقتها الاساسية شكلا يتجه الى تجاوز بدائية تقسيم العمل فى الحلقة من زاوية المستويات ( الحزبية ) . ففى البداية تكونت الحلقة من مركز وخلايا ، ثم انشئ مستوى لجنة القسم ، ثم انشئ مستوى لجنة المنطقة فى تلك الفترة المحدودة . باختصار اخذ تنظيمنا الشيوعى المصرى وضع الاستعداد للمعارك القادمة معتمدا على تاثيره المحدود فى بعض المجالات ، مطورا مستوى اعضائه فكريا وتنظيميا من خلال الانتاج الفكرى والسياسي ، وكان هضم هذا الانتاج ضروريا من اجل تلك المعارك. وهذا الاستعداد الفكرى والسياسي والتنظيمى المحدد هو الذى يفسر لماذا التحم حزبنا الوليد بالحركة الجماهيرية حاملا اليها شعاراته وبرنامجه الوطنى الديموقراطى ، وان النضج المفاجئ للحركة الطلابية الديموقراطية عام 1972 – و 1973 بالنسبة لعام 1968 ، بل التغير الكيفى فى برنامجها وشعاراتها لايمكن تفسيره بمعزل عن هذا الحدث الهام ، عن واقع نشأة حزبنا الذى لعب دورا قياديا بارزا فى الانتفاضات الطلابية التى حملت برنامجه وشعاراته واخرجتها من الغرف السرية المغلقة الى الجماهير الشعبية ، وقد ساهمت نقاط التماس المعروفة بين المثقفين الثوريين والطلاب فى انشاء قنوات جاهزة الصنع كى يلقى تنظيمنا الصغير بكل ثقله فى الانتفاضة وحيث تضاعف الجماهيرالمنتفضة من قوة حفنة من الثوريين .
ويمكن ان نشير هنا الى اننا كنا نرى انذاك ان علاقتنا المكثفة بالحركة الطلابية تعود الى الوقائع والاسس التالية :
أتت أهميتها السياسية الكبرى من أنها لاتركز على المطالب النقابية والاقتصادية بل تعطى كل طاقاتها للقضية الوطنية ، وقضية الحريات ، والحقوق الديموقراطية ، وهى لذلك تقوم بدور مباشر فعلى لم تكن الحركة العمالية تقوم به فى مجال المقاومة السياسية المستميتة لخط السلطة الطبقية فى القضية الوطنية خط الردة والاستسلام والخيانة والكارثة .وقيامها بهذا الدور يعنى دورها المباشر فى ايقاظ الطبقة العاملة ، وبقية الطبقات الشعبية على القضية الوطنية فى علاقتها الوثيقة بقضية الحريات الديموقراطية فهى حركة لاتحتفظ بمواقفها السياسية داخل أسوارالجامعة. ولأن الحركة الطلابية تكون فى الوضع الانتقالى الذى تحتله الدراسة الجامعية فان طاقاتها الكامنة لاتقف بها عند دورها المباشر فى مقاومة الكارثة الوطنية ، وفى ايقاظ شعبنا على ضرورة مقاومتها بل تمتد الى عمليات اوسع نطاقا بانتقال العناصر التى تنصهر داخل هذه الحركة الوطنية الديموقراطية بعد التخرج الى مختلف القطاعات والطبقات فى المجتمع . وهذه الحركة كانت تمثل فى تصورنا آنذاك حلقة وسيطة بدورها المباشر، وبطاقاتها الكامنة فى مجال التوجه للطبقة العاملة ، وبقية الطبقات الشعبية. كنا نملك القدرة على التأثير المباشر فى هذه الحركة بصورة مكثفة اى انها حركة نوجد فيها وهذا مايعنيه واقع اننا تنظيم غالبية افراده من المثقفين الثوريين ، الأمر الذى حتمه بصورة تاريخية بالطبع ظروف نشأتنا وتطورنا ، وظروف طبقتنا العاملة وظروف بلادنا وهى وجهة نظر قد رفضها بعض الرفاق وعبر عنها رفيقنا عبد الله بشير فى كراسه :" حلقة دعائية أم حزب شيوعى " آخر 1976 .
ومنذ سني النشأة الاولى كان للحزب صلات حية ببعض تجمعات الطبقة العاملة فى المواقع العمالية الاساسية فى بلادنا ، ومن خلال تطور نفوذ الحزب فى الحركة العمالية مع اشتداد ساعدها ، فى مصنع الحديد والصلب ، والكوك بحلوان ، وبعض مصانع النسيج فى شبرا الخيمة ، وفى مصانع الغزل والنسيج ، والكتان ، والنحاس ، والترسانة البحرية بالاسكندرية ، وفى بعض مصانع دمياط ، ومصنع الألمونيوم بنجع حمادى . وقد كان لحزبنا دور رائد فى بلورة البرامج النقابية لحركة عمال النسيج فى الاسكندرية بقيادة عضو اللجنة المركزية فتح الله محروس عام 1973 التى وضعت اساس البرنامج النقابى لعمال القطاع العام باكمله ، وهى الحركة التى هددت بالانتشار فى قطاعات عمال النسيج خارج الاسكندرية ، لولا التصدى البوليسى الارهابى للسلطة لهذه الحركة بالاعتقال والتشريد لعشرات النقابيين ، ولولا مستوى النضج العام للحركة العمالية . وتعددت معارك الحركة العمالية التى لم يعدم حزبنا سبل التاثير فيها فى العديد من المواقع العمالية الاساسية ، بل ان التاثير المكثف المباشر فى بعض الاحيان كان احد ثماره الاساسية توسع صفوف الحزب من العمال بنسبة كبيرة بالمقارنة مع نقطة الانطلاق . وبالاضافة لحركة المثقفين بكل فروعها ، والحركة الطلابية ، وبعض النقابات المهنية ، والحركة العمالية عرف حزبنا منذ فترة مبكرة طريقه الى بعض المواقع الفلاحية بالحدود التى سمحت بها حركتها الضامرة ( فى محافظة الدقهلية ، ومنطقة العمار ) ، وعضوية الحزب وامكانياته بالطبع ، وايضا فى مواقع محدودة بالقوات المسلحة . باختصار فان حزبنا لم يتشرنق فى مجال بعينه بل مد شباكه السرية ، واندمج فى المجتمع بكل فئاته ضمن حدود قدراته التى حكمها قانون الأعداد الصغيرة الذى حاولنا تجاوزه ، ضمن الشروط التاريخية لحركة الصراع الطبقى التى لاتشهد مهرجانا مقيما من الانتفاضات ، اى اننا كنا مازلنا بعيدين عن التحدث عن اوسع توسع وتغلغل فى صفوف العمال والطبقات الشعبية .
وقد كانت انتفاضة يناير 1977 الكبرى ترمومتر الانتشار المحدد للنفوذ المحدد لشعارات حزبنا فى الاوساط الشعبية وبالاخص فى المعاقل العمالية فى حلوان والاسكندرية .. الخ وقد رفضنا فى بيان الحزب الصادر فى اعقاب الانتفاضة وسام السلطة بزعم أننا كنا مدبرى ومخططى الانتفاضة – رفضنا التمتع بالديماجوجية التى يضع اساسها اتهام السلطة وكل اجهزتها ( راجع كتاب حسين عبد الرازق عن انتفاضة 18 ،| 19يناير ) وبيان حزبنا فى عدد الانتفاض 7 طبعة الخارج ، لكن هذا الاتهام لايخلو بدوره من مغزى – لأنه يعكس مستوى نشاط الحزب وتشعبه الذى ازعج السلطات البوليسية والسياسية ( ) . ومنذ انتفاضة يناير 1977 حتى إندماج الحزب فى بدايات التسعينات فيما عرف ب " الموحد" تعددت محاولات السلطة لتلفيق القضايا لحزب العمال واتخذت محاكمها العسكرية قرارين بحل الحزب ومصادرة ممتلكاته . واستخدمت المحاكم العسكرية فى عهد السادات لأول مرة ( فيما عدا تنظيم التكفير والهجرة الإسلامى ) لسجن خمسة مناضلين لاعتقاد السلطة انهم جميعهم اعضاء بحزب العمال منهم قائدنا العمالى فى دمياط على زهران ، او لأن الاتهام بعضوية حزب العمال هو الكفيل بعقد المحاكم العسكرية، وتطبيق اقصى العقوبات بدون أدلة .
ويجب الإشارة الى ان الحزب قد اصدر حتى اواخر عام 1979 فى الداخل 49 عددا من المجلة النظرية السياسية ( الشيوعى المصرى ) وحوالى 200 عددا من جريدة الانتفاض السياسية الاسبوعية ، فيما عدا المطبوعات والنشرات الداخلية التى كنا نسمح بنشرها خارجيا عندما لاتتعارض مع امن الحزب ، وقد تجاوزت اعداد النشرة الداخلية الأساسية ( الصراع ) ال 55 عددا . وهكذا يمكن للقارئ ان يكتشف نشاط الحزب الكبير فى المجال السياسي ، والنظرى ، والتنظيمى ، والجماهيرى ، والذى لم يتعرف الكثيرون سوى على القليل منه بسبب امكانياتنا المادية والمالية المحدودة آنذاك التى لم تكن تسمح بمواكبة اعداد الطباعة الا بسرعة السلحفاة : فلابد هنا ان اشير الى ان الجزء الاعظم من ادبنا الحزبى لم ينشر وهو يتضمن من بين مايتضمن
- كتابات نظرية ومناظرات ضمن نضالنا ضد الفكر البورجوازى وضد التحريفية العالمية والمحلية ( كالانحراف الصينى – ورد على كتاب بعد ان تسكت المدافع لمحمد سيد احمد – ورد على القائلين بمرحلة الدعاية فى الكفاح الجماهيرى .. الخ
- وقد كان هناك ادب عمالى كبير ، وبرامج عمالية ، وتقييم لمعارك جماهيرية عمالية سواء ساهم الحزب في قيادتها المباشرة ام لا ، كراسات تشهير باوضاع العمال الاقتصادية .
- تشهير اقتصادى باوضاع الفلاحين ، وشتى الفئات المهنية ومتابعة لمعارك الانتخابات فى مختلف المؤسسات النقابية والمحلية .
-فضلا عن كتابات ومناظرات داخلية حول القضايا التنظيمية وقضية بناء الحزب ومن اهمها كراس الرفيق بشير ( حلقة دعائية أم حزب شيوعى ؟ ) والرد المطول عليه من الرفيقين أروى صالح وسعيد العليمى ، وحول خبرة الازمة وتجاوز الازمة التى عاشها حزبنا بين عامى 73 -75 وتعميمات الحزب حول النشاط التكتلى 1976 .
- توجيهات الحزب المتوالية بصدد قيادة الحركة الجماهيرية فى المجالات المتنوعة ومناقشات خبرات المعارك الجماهيرية وخبرات قيادتنا لها وبالاخص فى مجال التوجه للطبقة العاملة .
-توجهات الحزب وخبراته فى مكافحة البوليس وفى النضال السرى .
- مقالات حول تطور القضية الوطنية .
- مقالات حول السلطة ومؤسساتها وقيادتها وشكل حكمها وقضايا ومعارك الديموقراطية .
- كتابات حول الموقف من فصائل الحركة الشيوعية المصرية ومن الناصريين .
- كتابات حول المقاومة الفلسطينية والحرب الاهلية اللبنانية .
- مقالات حول افريقيا وضد التدخلات العسكرية المصرية فى العالم العربى وافريقيا .(
وبعد ...كان يمكن لهذه النصوص التى ستقرأها ان تكون قليلة الفاعلية والأثر لولا كوكبة فريدة من الرفاق من الكوادر والأعضاء حولتها لقوة مادية بتبنيها لها ، وترجمتها لحركة جماهيرية ، وقدمت تضحيات جسيمة فى سبيل تجسيدها، وهى تسعى لتغيير عالم الرأسمالية الكئيب . فتحية للأحياء منهم ، وتحية لمن رحلوا وبقيت معنا ذكراهم العطرة ، فقد كان لهم جميعا شرف المحاولة على الأقل .
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟