أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا















المزيد.....

معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1697 - 2006 / 10 / 8 - 11:09
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا (1 / 2)
أولاً ـ حولَ الرواية الفنتاسية

ما كان لمحاولات سليم بركات ، الروائية ، إلا أن تثيرَ إشكالية بينة في مسألة الشكل الفني للسرد ، كما في تقنيته ومعماره ، على حدّ المساواة ؛ وهيَ محاولات ، أخذت القاريء العربيّ ، على حين غرة ، بما إعتمل فيها من لغة بليغة ، عصيّة ، وأجواء سحرية ( فنتاسية ) ، غير مألوفة : صفتان ، إعتاد قارئنا مصادفتهما خلال مطالعاته في كتب التراث ؛ كما في تصانيف المتصوفة ، على سبيل المثال . على أنّ ذلك الإشكال ، الموصوف ، في واقع الأمر ، مرده تغرّب الرواية المكتوبة بالعربية عن الحداثة ، والمعبّر عنها في تلك الصيغ التجريبية ، التجديدية ، المكتنفة للأعمال الروائية الأوروبية ، بشكل خاص . فلطالما راهن روائيونا على المدارس الكلاسيكية ، كالرومانسية والواقعية والرمزية وغيرها ، وخاضوا على هديها تجاربهم الكتابية أسلوباً ومضموناً ؛ مما نتج عنه بالتالي " رهن " ثقافة قرائهم ، الأدبية ، في حدود تلك التجارب ، حدّ الإدمان عليها . حقيقة أنّ الرواية ، كبنية أدبية متكاملة معمارياً ، هيَ حالة مستجدة على ثقافتنا ، بما كان من بداياتها ، المتأخرة ، العائدة إلى مستهل القرن العشرين ؛ هكذا حقيقة ، ليست بالمبرر المستوفي شرط الإقناع ، فيما تشهده معظم الأعمال الروائية العربية ، المتأخرة ، من مراوحةٍ في مواقعها الرومانسية أو الواقعية ، وما يستتبعه ذلك من الجمود والبلادة . وعلى هذا يكون الفنتاستيك ، في الرواية العربية : " نصاً كفيلاً للإطاحة بالواقع وتمريغه في لوثة رماد الإنهيار ، من أجل إغتساله ، قصد تحريره من سكونيته ، وليس لتقديم أجوبة جاهزة ، لأن الفنتاستيك سؤال يتعيّن ، بدءاً ، إمتحانه لتلمس تجلياته ، وتجليات كل من ساهم في رفده أيضاً " . (1)

ما سلف من تأكيدنا على حقيقة حداثة عهد الرواية بأدبنا ، يضيء أيضاً حقيقة اخرى : أنّ ثقافتنا المشرقية ـ المعاصرة زمناً ، لا تفاعلاً ـ قد تقبلتْ الرواية ، كشكل أدبيّ جديد ، فيما تقبلته من جهة الغرب ؛ وفي الآن ذاته ، رفضتْ أيّ مواكبة للحداثة ، القادمة من الجهة نفسها . هذا الرفض ، له أسباب شتى لا مجال هنا لعرضها ومناقشتها . بيْدَ أنه من المفيد ، إستطراداً ، القول بأنّ تلك الحقيقة ، الموصوفة ، كان لا بد لها ترسيخ حالة " التغرب " في الرواية ، ليس لكونها شكلآ أدبياً ، مستحدثاً / مستورداً ، حسب ؛ بل وخاصة لتموضعها في بيئة إجتماعية ، متخلفة ، رافضة للحداثة ومستنفرة على الدوام للمنافحة عن كل " تابو " ، محتمل ، دينياً وسياسياً وثقافياً . إلا أنّ المرء ليستغرب حقا ، حينما يعلم مدى تأثير كلاسيكيات تراثنا المشرقي ، كألف ليلة وليلة ، على بواكير الكتابات الغربية ، الحداثوية . فحكايات شهرزاد تلك ، بما هيَ عليه من تماهٍ بين التاريخيّ والخياليّ ، وبين الواقعيّ والميتافيزيقيّ ، كان من الطبيعي أن تلهمَ أولئك الكتاب الأوروبيين ، ( كافكا ، مثلاً ) ؛ ممن إهتدوا إلى ما صار يُعرف نقدياً بـ " الرواية السحرية " . إننا لا نرفعُ هنا أسواراً مصطنعة بين الغرب والشرق ، في هذه المسألة أو في غيرها . على أنّ واحدنا ليثير عجبه ، خصوصاً ، إهمال أغلب كتابنا ، الفادح ، لتراثهم العظيم الذاخر بالأجواء الفنتاسية ؛ كما في حكايات الجان ، الذين يتلاعبون بمصائر البشر الأنسيين ويشاركونهم مأكلهم ومشربهم ومسكنهم ، وحتى عشق حبيباتهم .. !

بدا سليم بركات ، منذ بداية تجربته ، الروائية ، كما لو أنه قرر القطيعة التامة مع أشكال الكتابة العربية ، السائدة في هذا المضمار . لكأنه " ولدٌ لقيط " ، متروكٌ بإهمال على حافة الكون الأدبيّ ؛ أو بالأصح ، ربما ، " ولدٌ عاق " يرفضُ الإعتراف بأيّ أبوّة أدبية . الصفة الأخيرة ، المفترضة ، تحيلنا إلى الكاتب نجيب محفوظ ؛ الذي خرجت الرواية العربية ، مجازاً ، من " معطفه " : فكاتبنا هذا ، الراحل ، وبالرغم من مرور تجربته ، المديدة ، بمعظم الإتجاهات الأدبية ، الروائية ، المعروفة ؛ إلا أنه كان واقعياً ، لدرجة أن نصوصه ملتصقة بشدة بواقع المدينة الكبرى ، ( القاهرة ) ، وخصوصاً الحيّ الشعبيّ العريق ، ( الحسين ) ، الذي فتح عينيه فيه وألفه وتغنى به ؛ حدّ أنّ رواياته تدعوه ببساطة بـ " الحارة " . وواقعية محفوظ ، إنعكست حتى في رواية " أولاد حارتنا " ، المستلهمة لقصص الأنبياء بشكل جليّ لا يمكن لأحد دحضه ؛ واقعية ، أحالتْ رموزاً دينية ، معروفة ، إلى مخلوقات بشرية ، فانية ، تسكن تلك الحارة القاهرية نفسها جيلاً بعد الآخر . بيْدَ أنّ الخيال والتناص والرؤى ، الخاصة بأسلوب كاتبنا المحفوظيّ ، ظلتْ في حدود ذلك الواقع ودونما أن يخترقها حضورُ الفنتاسيا ، بشكلها الغيبيّ ، على الأقل . لا غروَ والحالة هكذا ، إنّ تكون " أبوة " محفوظ ، المفقودة ، بالنسبة للكاتب سليم بركات ، إشكالاً آخر لهذا الأخير . فتأثير الأعمال الأدبية العالمية ، المترجمة للعربية ، على الكاتب المنتمي لبيئتنا ، ثقافة ولغة قبل كل شيء ، لا يغنيه عن التكون على ما تراكم في ثقافته ولغته من أعمال أدبية ، كلاسيكية أو معاصرة . هذا الإشكال ، الموصوف ، تثيره فيما يتعلق بمحاولات بركات ، الروائية ، الإيحاءاتُ المعلنة ، أو الخفية ، المستمدة ثيماتها من تراث " الواقعية السحرية " الغربيّ والأمريكي اللاتينيّ ، سواءً بسواء . وفي روايته هذه ، قيد القراءة ، " معسكرات الأبد " ، ما كان لبعض النقاد إلا التساؤل عن مغزى خلفيتها التاريخية ، الضائعة في زحمة من الكائنات والأحداث والأحلام ، الفنتاسية بمعظمها : " يخيب هنا مسعى من يبحث في هذا العمل عن تسجيل روائيّ لفترة من تاريخ الشعب الكرديّ في المنطقة ، خصوصاً عندما يرى في الحدث وحده العلامة الفضلى لهذا التاريخ " . (2)

ثانياً ـ اللحظة التاريخيّة

كنا في دراسة سابقة ، قد أشرنا إلى الملامح الفنية التي يتسم بها أدب سليم بركات إنطلاقاً من عرضنا لأعماله الأولى . وفي روايته الرابعة هذه ، " معسكرات الأبد " ، نتتبّع تلك الملامح ، الموسومة ، منطلقين بدءاً من شكل الحكاية . هذه الحكاية ، نجدُ أنها تسجيلٌ فنيّ لحقبة زمنية ، معينة ، أكثر منه تاريخياً . أبطال وشخصيات تسجيله ، الموصوف ، هيَ كائنات بشرية أو بهيمية ، إستمدّها الكاتبُ من بيئته وبالتالي مما ترسّب من وجودها في وعيه ولا وعيه ، على السواء . وعطفاً على إشارتنا لما سلف من أعمال بركات ، كان لنا في حينه ملاحظة حول روايته الثالثة ، " الريش " ، كونها العمل المبرز بجلاء للمسألة التاريخية . وهيَ المسألة ، المرتبطة بأحداث فترة زمنية ، سابقة للحدث الراهن المبني سرد الرواية عليه : بمعنى أنها مرحلة ساقها المؤلف في إتجاه واحد ، مضطرد ، بما يجسّد تاريخيتها وكونها خلفية مصاحبة / ومتوازية لمصير شخصيات تلك الرواية . هكذا مرحلة ، تاريخية ومطوية ، يسترجعها سليم بركات في روايته ، " معسكرات الأبد " . وهوَ هنا ، يُعيد قارئه إلى حقبة من تاريخ منطقته ، لا لكونها حلقة مفقودة في أدب بلاده حسب ؛ بل ولرغبته الإفضاء بما عرفه عن أشخاص حقيقيين ، يمتون إلى داخل نفسه وخارجها ، أيضاً . هؤلاء الأشخاص ، وإن وجدوا مرة في بيئة الكاتب ، المحلية ، بيْدَ أنهم سيحظون بنعمة " الخلود " في أدبه ، بوصفهم نماذج فنية .

" معسكرات الأبد " ، كرواية تتمثل شخصيات حقيقية أو متخيلة ، يمتون للواقع بعديد من الروابط ، فهيَ تعالج فترة زمنية لا يصحّ فيها القول ، أنها صدىً لتجربة ذاتية . بيْدَ أنّ كاتبنا ، لم يقحم الوقائع التاريخية ، في عمله هذا ، دونما تمهيد ؛ كما إعتدنا من بعض روائيينا في مواضيع متشابهة . لا بل ، ليحق للقاريء الدهشة ، حقاً ، حينما ينتهي من الفصل الأول من رواية بركات هذه ، دونما أن تتاح له إلتقاط إشارة واحدة دالة على الإطار الزمني ، المفترض . يكاد القاريء ، المراقب لصراع الديكيْن ، " المهرجيْن " ، أن ينتابه الضجر من تلك التفاصيل الأكثر دقة ؛ على الرغم من كونها مشغولة ببلاغة كاتبنا ، الأخاذة . إلا أنّ إقتحام الغرباء ، الأربعة ، للهدوء والرتابة في حياة بنات " موسى موزان " ، في هذه الهضبة المتوحّدة ، يأخذ القاريء على حين فجأة ، وبالتالي يشده للنصّ : إنه عنصر المتعة ، الذي طالما أكد عليه " بارط " ، الناقد الفرنسي ، مؤكداً أن لا غنى عنه في بنية السرد القصصي (3) . يتكرر ، إذاً ، في الفصل الثاني ، مشهد الصراع الضاري بين الديكيْن ، وكذلك الأمر فيما يخصّ لقاء الغرباء ببنات " موزان " . على أنّ إشكالاً وجودياً ، سيدهَمُ الحكاية بظهور أشباح الموتى ، من آل هاته البنات : وهم " موسى " وزوجته وصهره ؛ إشكالاً يتفاقمُ ، بتمكن هؤلاء الأخيرون من محادثة الغرباء ، الطارئين على حياة الهضبة والذين يُضفى عليهم منذئذٍ الغموض والإلغاز .

الإطار الزمني ، المبنيّ عليه السرد في روايتنا ، لن يتأخرَ كثيراً لكي يجذب القاريء إليه ؛ وهوَ الإطار ، الشاهد لحدثٍ تاريخيّ في حياة المكان ( الهضبة ) ، متمثلاً بثورة الأهلين ضد الفرنسيين ، المستعمرين للبلاد ، في أواخر ثلاثينات القرن العشرين . بل إن التحديد الزمنيّ هنا ، صار من الآن فصاعداً عنصراً بالغ الأهمية في بناء الحدث التاريخيّ ، الموصوف ، وتطويره : كأن نعلم ، مثلاً ، بأنّ تلك الثورة ، التي قادها " سعيد آغا " ، في بلدة " عامودا " ، قد نشبت قبل ستة أعوام ، تماماً ، من حلول الغرباء في الهضبة ولقائهم بأشباح الموتى من آل " موزان " (4) . هكذا تحديد زمنيّ ، ما كان مسألة إعتباطية ، أو مفتعلة ، في بنية الرواية ؛ إنما هوَ تجسيدٌ لتنظيمها الداخليّ ، فيما يخصّ العلاقة بين الشخصيات والحدث . هذا ، دونما إغفال ملاحظتنا ، المبنية على حقائق تاريخية ، والتي تجعلنا لا نتفق مع الروائي ، فيما ذهبَ إليه من أنّ " سعيد آغا " قد إنطلق في ثورته على الفرنسيين من هذا الإعتبار : " ريثما يتحول إستقلال فعليّ لـ " عامودا " على الأرض إلى إمتدادٍ لنسبه العريق ، البهيّ ، في شمال سورية " ( معسكرات الأبد ، الصفحة 87 ) . علاوة ً على تأكيد السرد ، بأن قائد الثورة ذاك ، قد إلتجأ مع عدد من رجاله إلى جبال الأكراد ، في الجهة الأخرى ، الغربية ، من الإقليم الكردي . وفي المقابل ، يلقي السردُ الروائيّ ظلالاً قاتمة من الريب على تحركات الأمير " جلادت بدرخان " ؛ أبرز شخصية كردية ، متنورة ، في النصف الأول من القرن المنصرم . ذلك الأمير ، كان قد سعى لإقناع العشائر في الإقليم الكرديّ ( الجزيرة ) ، لقبول العرض الفرنسيّ المقدم لهم بشأن إقامة دويلة هناك ، على غرار ما إشترعَ للأقاليم الاخرى في دمشق وحلب وجبليْ العلويين والدروز . هذه التحركات ، العامل في إطارها أميرنا ذاك ، كانت وفق السرد من قبيل : " دخول عشيرة كردية ـ دمشقية على خط المصالحة بين الإفرنسيين وعشائر الجزيرة " . ( ص 93 )

لسنا هنا بصدد تفنيد معلومات الكاتب ، التاريخية ، أو مناقشة آرائه بخصوص ما سلف من أحداث . فهذا ، يُعتبر خارج حدود دراستنا . فالرواية ، بشكل عام ، هيَ خلق فنيّ قبل كل شيء ، يغض الطرفَ ، أحياناً ، عن مطابقة ثيماتها للواقع المستمدة منه موادها . إلا أنّ تلك الحقيقة ، الموصوفة ، لا تسمحُ بالتعميم ، الإعتباطيّ ، بما يودي بالرواية إلى فوضى الزمان والمكان . وإذ تحتفظ رواية بركات هذه ، بقيمتها الفنية ، إسلوباً وبنية ، فإنها لن تصمدَ أمام مسألة التأريخ ، علمياً : بمعنى أن ينبري أحدهم ، ليكشف بأنّ ثورة " سعيد آغا " في أواخر ثلاثينات القرن المنصرم ، كانت بمنأى عن الوعي القومي ، الكردي ، وأنها تلبّست شكلاً طائفياً واضحاً . هذا الشكل ، عبّر عنه طرفا النزاع من سكان الإقليم ؛ بدءاً بتبادل الإتهامات بين مسلميه ومسيحييه ، ومروراً بالصدامات المسلحة وإنتهاءً بالنزوح شبه الجماعي لأولئك الأخيرين من بعض بلداتهم وقراهم . ما كانت تركية الكمالية آنئذٍ ، ببعيدة عن مجرى الصراع ذاك ؛ هيَ التي أججته للضغط على المنتدبين الفرنسيين ، كيما يتخلوا لها عن لواء إسكندرون . هذه الحقيقة ، يؤكدها لجوء الزعيم " سعيد آغا " ، إلى الأراضي التركية وطلبه حق اللجوء هناك : فيما تذهب رواية بركات بالآغا نفسه ـ إعتباطاً أو جهلاً ـ إلى حِمى الجبال الكردية ، في سورية . دون أن ننسى الإشارة ، بإن العقلية العشائرية لهذا الزعيم الثوري ، كانت معروفة للملأ ، وقد أفضى بها السردُ بكل بساطة . إذ نقرأ في روايتنا ، عن سبب إنضمام " موسى موزان " للثورة تلك : " لأنه دقوري النسَب " ( ص 92 ) : أيْ أنه ينتمي لعشيرة الاغا ، نفسها .

ملاحظاتنا ، آنفة التوصيف ، قد تبدو كما لو أنها قناعة ٌ بصدع ما ، في البناء الفني لرواية " معسكرات الأبد " . على أنه رغم تلك الثغرات هنا وهناك ، فيما يخصّ واقعيتها التاريخية ، تبقى رواية بركات هذه ، عملاً فنياً على قدر وافر من الصدق والشفافية . فها هو بطلها " موسى " يقع صريعاً وزوجته برصاص دورية فرنسية ، عابرة : فيما أنّ روائياً آخر ، غير سليم بركات ، ربما ما كان في تلك الحالة من أعمال الثورة ، ليقبل بأقل من عرضهما كشهيديْن ، وطنييْن ، في ميدان المعركة أو خلال الغارة الجوية ، مثلاً . ثمة صورة صادقة اخرى ، طريفة ، عن سذاجة القرويين ؛ حينما يتوقع الناسُ إندفاعَ أولاد " حسين آغا " ، الذي إعتقله الفرنسيون ، بخيولهم ورجالهم للثأر من هؤلاء المستعمرين . ولكن المتحاورين ، يحيرهم هذا السؤال : " أين تقع فرنسة ؟؟ " ( ص 155 ) . بيْدَ أن إشكالية الرواية تاريخياً ، تتقلب من وقائعها إلى لغتها وأسلوب سردها . هكذا إشكال ، يستبينه المرءُ في توقفه أمام لغة الحوار وأسلوب السرد ، بشكل خاص . كما في إلتقاء " سعيد آغا " ، إثر عودته للإقليم ، بأشباح الموتى من آل " موزان " ، فتجري بينهم محاورة على جانبٍ من العمق بلاغة ً وفلسفة : وهمُ القرويون ، أنفسهم ، الذين ما إنفك السرد يبوح بخلقهم البسيط ، الساذج . ثمة أيضاً ، تلك الأسطورة المتداولة ، عن مرور " تيمورلنك " في الإقليم ؛ والتي ترويها زوجة " موسى " لبناتها وبأسلوب غاية في الطرافة والمأساوية في آن : وهوَ أسلوب بركات ، بطبيعة الحال .

هاتان الملاحظتان ، الأخيرتان ، نحيلهما إلى ما سبق وأكدناه من كون الرواية ، أولاً وأخيراً ، بنية فنية يتماهى فيها التاريخ بالفنتاسيا . و " معسكرات الأبد " ، إذاً ، تعيد تسجيل حقبة زمنية ، مطوية ، تسجيلاً فنياً أكثر منه واقعياً . فضلاً على أنّ شخصيات الرواية ، قد خضعت لصنعة الكاتب ، الحاذقة ، كيما يتسنى لها التجسّد كنماذج فنية : أيْ ما كان بوسع هذه الشخصيات ، ربما ، إلا أن ترْسَمَ من الخارج بريشة الكاتب وأن تتكلم بلغته العربية ، البليغة ؛ بالرغم من حقيقة أنها لم تجدْ غير لغتها القومية ، الكردية ! من جهة اخرى ، الروائيّ كما يعلمنا النقدُ ، يقولُ ما يعجز التاريخُ عن قوله . فها هوَ بركات ، يتقمص أيضاً دور المؤرخ الإجتماعيّ ، فيجلي لنا مغامض عنوان روايته هذه ؛ " معسكرات الأبد " : حينما بُفاجيء قارئه ، بأنّ تلك المعسكرات الحاوية لأبنية متعددة الطبقات ، وسط العراء المحيط بالهضبة ، ما هيَ سوى منشآت المطار العسكريّ . معسكرات ٌ ، إقتحمت به الحضارة الحديثة عتمة َ ذلك الإقليم ، الكرديّ ، الغارق في لجة الجهل والتخلف والبؤس والظلم . فلا غروَ ، أن يحظى ذلك الإكتشاف المتمثل بتحليق الطائرة ، الأولى ، في أرض ذلك المطار ، بتسجيل فريد ، معبّر عن مشاعر سكان الإقليم . إذ نتابع بنات " موزان " ، وهنّ يرقبْنَ بذهول هبوط ما إعتقدنَ لوهلةٍ ، أنه طائرٌ ما ، من السماء إلى الأرض المستوية ، المرصوفة ، الملاصقة للهضبة . ( ص 266 )

الهوامش

1 ـ شعيب حليفي ، شعرية الرواية الفنتاستيكية ـ مجلة " الكرمل " الصادرة في قبرص ، العدد 40 / 41 لعام 1991 ، ص 116
2 ـ كاظم جهاد ، " معسكرات الأبد " لسليم بركات ـ مجلة " الكرمل " ، العدد 48 / 49 لعام 1993 ، ص 330
3 ـ رولان بارط ، درس السيميولوجيا / الترجمة العربية في الدار البيضاء 1986 ، ص 40
4 ـ سليم بركات ، معسكرات الأبد ـ الطبعة الأولى في بيروت 1993 : وجميع إستشهادات دراستنا ، مأخوذة من هنا



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامُ المواطَنة ، سورياً
- الوحدة الوطنية ، المفقودة
- حوارُ أديان أمْ حربٌ صليبيّة
- نصرُ الله والعَصابُ المُزمن للفاشية الأصولية
- سليم بركات ؛ الملامحُ الفنيّة لرواياته الأولى
- خيرُ أمّةٍ وأشرارُها
- إعتذار بابا الفاتيكان ، عربياً
- وليم إيغلتن ؛ مؤرخ الجمهورية الكردية الأولى
- الثالوث غيرَ المقدّس
- الحادي عشر من سبتمبر : خمسة أعوام من المعاناة
- الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 3 / 3
- الأعلام العراقية والإعلام العربي
- علم الكرديّ وحلمه
- الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 2 / 3
- محفوظ ؛ مؤرخ مصر وضميرها
- الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 1 / 3
- كردستان ، موطن الأنفال
- ثقافة المقاومة أم ثقافة الطائفة ؟
- المقاومة والمعارضة 2 / 2
- المقاومة والمعارضة


المزيد.....




- بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن ...
- مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية ...
- انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
- أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ ...
- الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو ...
- -يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2 ...
- الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
- عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم ...
- فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ ...
- لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - معسكراتُ الأبَد : إلتباسُ التاريخ والفنتاسيا