|
السقف المنخفض للوطنية القطرية في مواجهة اسرائيل
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 1697 - 2006 / 10 / 8 - 11:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ الساعات الاولى للعدوان الاسرائيلي الوحشي الاخير على لبنان، وحتى هذه الساعة، كانت ولا تزال الحجة الرئيسية التي تمحورت حولها غالبية حجج معارضة المقاومة الوطنية (الاسلامية) التي يقودها "حزب الله" هي حجة الثمن الباهظ، بالارواح والممتلكات والاقتصاد ونمط الحياة الخ، الذي تحمله وقد يتحمله ايضا وايضا لبنان. والملفت للنظر، وانما غير المستغرب، ان شتى الوان معارضي المقاومة وحزب الله، اللبنانيين والعرب والاجانب (اصدقاء لبنان!)، قد التقوا موضوعيا مع اسرائيل (وطبعا اميركا) على استعمال هذه الحجة بشكل مشترك. بل ان بعض انصار "الشرعية الدولية" و"الليبيراليين" وحتى "الوطنيين" و"التقدميين" و"اليساريين" و"الماركسيين"، "الصادقين" والمزيفين، اللبنانيين والعرب، قد بزوا اسرائيل ذاتها في استعمال هذه الحجة الفرنكشتينية المبتذلة. فإن ابواق الجزارين الاسرائيليين كانت تتباهى بتمزيق اوصال لبنان، وكان مجرم الحرب الدولي إيهود اولمرت يتباهى بأنه حينما يتحدث هو الى جمهوره بحرية، فإن "الارهابي" حسن نصرالله لا يستطيع الخروج من مخبئه(!)، ولكن في الوقت ذاته فإن كل المؤسسات الاعلامية والبحثية والسياسية والامنية والمخابراتية والعسكرية الاسرائيلية كانت تعترف بأن جيش اسرائيل لم يستطع، لاول مرة في تاريخه "المجيد"، ان يحقق اهدافه العسكرية، وانه فشل في هزيمة حزب الله ميدانيا، وفشل في حماية العمق الاسرائيلي وحماية المستوطنين الاسرائيليين من ضربات المقاومة. ولكن في المقابل، فإن انصار "الشرعية الدولية" اللبنانيين والعرب، على اختلاف الوانهم والاقنعة السياسية والفكرية التي يضعونها على وجوههم او اقفيتهم (وهما صنوان)، اصيبوا بـ"مغص سياسي" لم يبرأوا منه حتى الان حينما اجتاز مقاتلو المقاومة "الخط الازرق" (يا للهول!) واسروا مسعورين ـ عفوا، جنديين اسرائيليين لا ندري كم من الجرائم سبق وارتكباها مع جيشهما النازي ضد شعب لبنان وفلسطين. وقد أغشى هذا المغص "الشرعي الدولي" عيون اصحابه الى درجة انهم لم يعودوا يرون اي انتصار للمقاومة، بل فقط التضحيات التي تحملها لبنان، والتي اخذ انصار "الشرعية الدولية" يحملون مسؤوليتها ليس لمرتكبيها الاسرائيليين وسادتهم الاميركان، بل للمقاومة وحزب الله. لقد اصبح من المتعارف عليه دوليا ان الادارة الاميركية تنظر بمنظارين، وتقيس بمقياسين. اما انصار "الشرعية الدولية" اللبنانيين والعرب، فإنهم يوفرون على انفسهم مشقة هذه الازدواجية وتعقيداتها، حيث اخذوا يقيسون بمقياس واحد فقط هو مقياس "مصلحة اسرائيل"، و"امن اسرائيل" و"حقوق اسرائيل". وفي هذا الصدد لا ننسى ما قاله الفرنكشتين بولتون (المندوب الاميركي في ما يسمى "الامم المتحدة")، معلقا على مجزرة قانا الثانية: "انه لأمر لاأخلاقي المقارنة بين القتلى من اطفال اسرائيل واطفال لبنان!". كما ان موناليزا رايس، الخارجة لتوها من "شيفرة دافنشي" صرحت، تعليقا على مجزرة قانا ايضا: "انه لا بد من وقوع ضحايا مدنيين في الحرب، ولكن هذه هي آلام مخاض ولادة "الشرق الاوسط الجديد"!" (هنيئا لكم يا عرب ويا مسلمي العالم بهذه البشرى الاميركية "الدمقراطية" و"الانسانية" في شهر رمضان المبارك!). ولكن اذا اشحنا بوجوهنا عن "الإسهال الدمقراطي" الاميركي المقزز كوجوه اصحابه وانصاره، وتركنا جانبا اصحاب الاهداف السياسية المشبوهة والمغرضة من ارباب الانظمة العربية العميلة، ومعهم او الى جانبهم او في مؤخرتهم اصحاب النفوس المريضة في صفوف بعض "المعارضات" "الدمقراطية" و"العلمانية" العربية، فإننا نجد بالفعل اننا امام مسألة سياسية في غاية الاهمية، هي ما يمكن تسميته "مسألة السقف المنخفض للوطنية القطرية عامة، وفي مواجهة اسرائيل خاصة". فهناك قطاع واسع جدا من الوطنيين الصادقين والجماهير الشعبية اللبنانية، ومنها بالاخص الجماهير الملتصقة بشكل مباشر بالمقاومة وحزب الله، التي قدمت ولا تزال اقسى التضحيات، تتساءل: هل ان لبنان هو عربي اكثر من العرب؟ وهل يتوجب على لبنان، بعد ان انسحبت اسرائيل من غالبية اراضيه المحتلة، ان يقاتل مجددا ويتحمل الاهوال لاجل مزارع شبعا ومرتفعات كفر شوبا؟ وهل يتوجب على لبنان فقط ان "يحمل صليب" القضية الفلسطينية، دون سائر العرب، خصوصا اذا افرجت اسرائيل عن الاسرى، وانسحبت، بالدبلوماسية "المأمولة"، من مزارع شبعا؟! لا شك ان مستوى الوعي الوطني ـ القومي في لبنان هو ارفع منه في بلدان عربية اخرى، نظرا للضعف التاريخي للنظام الطائفي اللبناني، وما كان يتيحه هذا الضعف من دمقراطية وحريات اعلامية وثقافية وسياسية نسبية، الامر الذي اسهم في رفع مستوى الوعي الوطني ـ القومي للجماهير الشعبية المناضلة وقواها السياسية المنظمة، اكثر بشكل ملحوظ مما هو في البلدان العربية الاخرى ـ ضحية الاستبداد والدكتاتورية وانظمة الطوارئ والاحكام العرفية، التي حولت تلك البلدان من "ساحات قتال وطنية" ضد اسرائيل الى "معسكرات اعتقال عامة" لصالح اسرائيل، بحيث اصبحت "الاوطان" العربية اشبه شيء بزرائب عبيد للسلاطين والنخاسين او محاجر محكومين بالمؤبد والاعدام، "يعيش" فيها "المواطنون" في المساحة الضيقة الخانقة بين القهر والقبر. ولكن نظرا لصغر حجم لبنان، جغرافيا وديموغرافيا، ومحاصرته بين البحر (المفتوح للاساطيل الاستعمارية)، واسرائيل واستباحيتها وعدوانها المستمرين، والدكتاتورية السورية التي اذاقت الحركة الوطنية اللبنانية والشعب اللبناني الامرين لاكثر من ثلاثين سنة، فإن ميزة الوعي الوطني ـ القومي المتقدم في لبنان تصبح مسألة نسبية جدا، في خضم الاوضاع العربية الشاملة، المتردية. ومع كل موافقتنا على اطروحة السيد حسن نصرالله في خطبته يوم النصر في 22 ايلول الفائت، بأن لبنان لم يعد بلدا صغيرا بل اصبح، بمقاومته البطولية وبالصمود الاسطوري لشعبه، بلدا عظيما يحسب له حساب في السياسة الدولية؛ ـ نقول: مع كل موافقتنا على هذه الاطروحة وصحتها، فإنها تبقى مسألة نسبية في موازين القوى العامة بين العرب واسرائيل واميركا، التي هي في الحساب الاخير موازين قوى دولية. فلبنان استطاع ويستطيع ان يفشل المخططات الاسرائيلية ـ الاميركية على ارضه، ولكنه لوحده، بقواه الذاتية وايا كان الدعم الذي يمكن ان يتلقاه، لن يستطيع محو "وعد بلفور" وتحطيم الكيان الصهيوني مرة والى الابد وتحرير العرب واليهود والعالم بأسره من هذه القاعدة الامبريالية الكبرى في المنطقة. وبدون تحقيق هذا الهدف الستراتيجي الرئيسي، فإن الخطر على لبنان والامة العربية والشعوب الاسلامية وشعوب العالم باسره سيظل رابضا على الصدور. وعلينا ان نشير هنا ان التردي العربي لا يقتصر فقط على الجانب الرسمي، بل انه ترد مجتمعي عام ذو شقين متلازمين: الاول ـ هو شق الانظمة، سواء كانت ملكية او جمهورية، تقليدية او تقدمية و"ثورية". فجميع الانظمة العربية مارست، كخط عام، سياسة الدجاجة امام الديك الاسرائيلي. واصبح "التفوق" الاسرائيلي، على "كل العرب"، مسلمة عربية لا جواب عليها سوى طأطأة الرؤوس. وحتى حينما تم شن حرب تشرين 1973، واقتحم الجنود والضباط العرب الاشاوس قناة السويس وخط بارليف والخطوط الامامية الاسرائيلية في الجولان المحتل، فإن "دجاجة" القيادات النظامية العربية سرعان ما "قفـّت" امام "الديك" الاسرائيلي (ولو كان هذا "الديك" امرأة اسمها غولدا مائير)، وأعلن "السادات" (يا للعظمة!)، وفي اثره "الاسد" (يا للجبروت!) الموافقة على وقف اطلاق النار، خوفا من سقوط مدن السويس والقاهرة ودمشق في يد الجيش الاسرائيلي. وهذا الخوف الظاهري على المدن المليونية، الذي يضمر الخوف الحقيقي على الانظمة، يدل على مدى ثقة هؤلاء القادة العظام بإخلاص "رعاياهم" وبقدرات المقاومة لدى هؤلاء "الرعايا". وقد تمخضت اخيرا حرب تشرين عن: أ ـ اتفاقية فصل القوات السورية ـ الاسرائيلية، التي حولت الجيش العربي السوري، موضوعيا، الى "حرس حدود" لاسرائيل وحام للاحتلال الاسرائيلي للجولان ضد اي مقاومة محتملة. ب ـ اتفاقية كامب دايفيد التي وقعها السادات (والتي تكرست حتى بعد مقتل السادات على ايدي الوطنيين المصريين)، التي اعادت لمصر قناة السويس ونفط ابو رديس وسيناء وشرم الشيخ، مقابل اخراجها من معادلة الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وتحويل مصر كلها الى "منطقة نفوذ اسرائيلية". ونرى بكل اسف وحسرة كيف تحولت مصر من بلد عربي الى بلد "أرابوفوني" (اي بلد ناطق باللغة العربية) يسير في ركاب اسرائيل حتى وهي تحول ما تبقى من فلسطين الى "سجن جماعي" و"مقبرة جماعية"، وحتى وهي تقتل اطفال قانا بالصواريخ الذكية لغونداليزا رايس. ونرى بالعين المجردة كيف ان نظام الانظمة العربية يتوزع الادوار لتكريس الهيمنة الامبريالية الاميركية على المنطقة عامة، ولتكريس وتدعيم الكيان الصهيوني خاصة: 1 ـ الانظمة الدكتاتورية، "الثورية" و"التقدمية" و"الوطنية" و"العروبية"، مثل النظام المصري (وريث الناصرية) والنظام السوري والنظام العراقي السابق، تشغل آلاتها الاعلامية الديماغوجية التي تعمل بتنسيق كامل مع اجهزتها القمعية، لاجل خداع الجماهير وتضليلها، ولاجل قمع واخراس المعارضة، وخصوصا لاجل التحطيم المسبق لاي مقاومة محتملة ضد اسرائيل. وتبلغ الوقاحة و"قلة الحياء" على هذا الصعيد حدودا لا توصف. وللمثال، في الوقت الذي كان فيه النظام السوري يعتقل بالجملة المثقفين المعارضين الذين وقعوا على عريضة ورقية لا اكثر، هي ما اعطي اسما سورياليا مأخوذا من الفن التكعيبي هو "اعلان بيروت ـ دمشق، دمشق ـ بيروت"، فقد شاهدنا وسمعنا "الممثل" السوري المعروف وليد المعلم، الذي يحمل لقب "وزير الخارجية السورية"، حينما جاء الى بيروت ابان العدوان لحضور الاجتماع المتأخر لوزراء الخارجية العرب، كيف اخذ يزايد على اللبنانيين في مسألة المقاومة من اجل... مزارع شبعا. ولكن لكثرة "حماسه" لمزارع شبعا نسي المعلم او تناسى الجولان المحتل. ونريد ان نصدق ان هذا "المعلم" قد "نسي" فقط الجولان، حتى لا نقول ان النظام السوري قد تخلى نهائيا عن الجولان لاسرائيل، التي اعلنت ضمه قانونيا الى اراضيها، مثله مثل القدس، وهي تعمل جاهدة لفرض الهوية الاسرائيلية على بقية سكانه. وللمثال ايضا، فقد شاهدنا وسمعنا مسرحية الاقتحام "الاسلاموي" الفاشل للسفارة الاميركية في دمشق، والتي تشير كل الدلائل انها ليست اكثر من مسرحية دراما ـ كوميدية من تأليف واخراج وتمثيل الاجهزة العفنة للمخابرات السورية، وهدفها ارسال رسالتين: الاولى رسالة الى اميركا لاعلان وقوف النظام السوري الى جانبها في "الحرب على الارهاب الاسلامي" (وفي القاموس الاميركي ـ الاسرائيلي "حزب الله" ايضا و"حماس" هما على قائمة "الارهاب الاسلامي" ـ والنظام السوري يعلن استعداده الضمني لبيع جلد "حزب الله" و"حماس"، في الوقت المناسب وبالثمن المناسب، كما باع سابقا جلد عبدالله اوجلان وحزب العمال الكردستاني ـ التركي). والرسالة الثانية هي رسالة تهديد: الى الجماهير الشعبية والقوى الوطنية السورية والفلسطينية والعربية عامة، باستعداد النظام السوري لوصم اي تحرك بتهمة "الارهاب الاسلامي" ولمواجهة وقمع وسحق اي محاولة مقاومة ضد اسرائيل في الجولان، واي تصد او تحد للمصالح الاميركية في سوريا وغيرها من البلدان العربية، وذلك طبعا على وقع الجعجعة الكلامية والاعلامية الفارغة ضد اسرائيل واميركا. 2 ـ جوقة "الشرعية الرسمية العربية"، وهي ما تسمى بالقاموس الاميركي ـ الاسرائيلي "الدول المعتدلة"، وعلى رأسها السعودية ومصر والاردن، قامت بتأمين التغطية السياسية للعدوان الاسرائيلي على لبنان، باتهام "حزب الله" منذ اليوم الاول بـ"المغامرة"، وقد انضمت الحكومة اللبنانية، في الايام الاولى للعدوان، الى هذه المعزوفة المشبوهة، نظرا للارتباطات المصلحية المالية وغيرها، بين الطبقة المتسلطة في لبنان والسعودية بوجه خاص. ولولا اليقظة الوطنية لحزب الله والحزب الشيوعي اللبناني وغيرهما من القوى الوطنية اللبنانية الصادقة، لكان لبنان مهددا باندلاع حرب اهلية جديدة، على وقع القصف الاسرائيلي ذاته. 3 ـ ان الدول العربية النفطية المتمولة، لا سيما السعودية، قامت وتقوم بتمويل اي حرب عدوانية تشنها او تديرها اميركا ضد شعوب المنطقة. فقد قامت هذه الدول بتمويل حرب صدام حسين ضد ايران الاسلامية في حرب الخليج الاولى. ثم قامت بتمويل "عاصفة الصحراء" لتحجيم واحتواء وتطويع صدام حسين، في حرب الخليج الثانية. ثم اسهمت بتمويل احتلال العراق في 2003. وآخر مآثر نظام الانظمة "العربية" هو قيام السعودية بعقد صفقة اسلحة بالمليارات مع اميركا، في اوج العدوان الاسرائيلي الاخير على لبنان. ولا يستطيع احد ان يقول ان السلاح الذي تشتريه السعودية هو لمواجهة اسرائيل وتحرير الارض المحتلة، هذا اذا استلمت السعودية هذه الاسلحة. ذلك ان الارجح هو انها صفقات "تسلح صوري" لا اكثر، اي ان الاسلحة تبقى في المستودعات الاميركية لصالح اسرائيل، ولكن الحسابات المالية تتحول من الرصيد السعودي الى الرصيد الاميركي، وبالتالي الاسرائيلي. ولا يحتاج المرء لكثير ذكاء حتى يستنتج ان الهدف من هذه الصفقة انما كان تمويل الاسلحة الاضافية، خصوصا الصواريخ الذكية الموجهة، التي زودت بها اميركا اسرائيل ابان العدوان الاخير. اي ان اسرائيل كانت تقصف وتقتل اللبنانيين، والسعودية تدفع ثمن القنابل والصواريخ، واميركا تقبض. وبعد نهاية "الجولة الحربية" جاء طوني بلير الى المنطقة للتعبير عن "دعمه" وفي الوقت ذاته لتقديم "الشكر لمن يلزم" لان بريطانيا كانت محطة ترانزيت لنقل القنابل الاميركية لاسرائيل، وقد نالت بالطبع "قومسيونها" من الصفقة "الدولية" على حساب دماء اللبنانيين واطفالهم. الثاني ـ والشق الثاني من حالة التردي العربي هو الشق المتعلق بالمجتمعات العربية ذاتها: بالرغم من كل ما تتصف به الانظمة العربية من استبداد ودكتاتورية ودموية، تجاوزت فيه كل المقاييس في ممارسة الارهاب والعنف ضد التحركات الجماهيرية والتعذيب الوحشي والاضطهاد الساحق للمعارضة ايا كانت، وبالرغم من ان البلدان العربية تأتي على رأس قائمة الدول التي تمتهن حقوق الانسان على جميع الاصعدة، وبلا حسيب وبلا رقيب، وقد بلغ الاضطهاد حدود ارتكاب "جرائم الحرب" و"الجرائم ضد الانسانية"، التي تنطبق عليها المعاهدات الدولية المتعلقة بالحروب بين الدول، ومن ذلك، للمثال وحسب، "مجزرة حماة" و"مجزرة سجن تدمر" في سوريا، و"مجزرة حلبجه" و"مجزرة الانفال" في العراق، وهي مجازر قام بها نظام "البعث" الذي كان يتشدق بـ"التقدمية" و"الاشتراكية" و"الرسالة الخالدة" للامة العربية (يا للعار!)؛ نقول إنه بالرغم من كل هذه الجرائم والمخازي التي يندى لها جبين الوحوش ذاتها، فإنه مما يلفت النظر، ولكن من غير المستغرب ايضا، اننا نجد ما يشبه "التماهي" بين الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية العربية وبين الحركات السياسية العربية، بما فيها المعارضة ذاتها، في الاستخذاء امام اسرائيل، والسير على ايقاع الانظمة ذاتها في مواجهة اسرائيل، بل والتمسك بالانظمة ورموزها بهذا الشكل او ذاك. ولنتأمل بروية الامثلة التالية وهي غيض من فيض: 1 ـ بعد الهزيمة المدوية في 5 حزيران 1967، والتي تتحمل مسؤوليتها بالكامل الانظمة الحاكمة في مصر وسوريا والاردن، ماذا كانت ردة فعل الحركات السياسية العربية، بمن فيها المعارضة "الاسلامية" و"اليسارية"؟: أ ـ في مصر اصيب عبدالناصر بالهلع، حينما اكتشف طبيعة النظام الذي بناه فوق جثث فرج الله الحلو وشهدي عطية وسيد قطب وعمال النسيج في كفر الدوار الذين اطلقت عليهم شرطته الرصاص، فقام في 9 حزيران بتقديم استقالته. وعوضا عن قبول استقالته شعبيا والمطالبة بفتح كل الحسابات مع النظام، وشن مقاومة شعبية مسلحة ضد المحتلين الاسرائيليين وضد اجهزة النظام والطبقة الرأسمالية الجديدة الفاسدة، المتسترة باللباس العسكري، عوضا عن ذلك نزلت المظاهرات العارمة في 9 و 10 حزيران للمطالبة ببقاء رأس النظام في السلطة. وعاد النظام الدكتاتوري المصري، متسلحا بالدعم "الشعبي"، للاستمرار في ممارسة سياسته بدفن القضية العربية والقضية الفلسطينية، وكان من الطبيعي ان تكون اخيرا كامب دايفيد "تطورا طبيعيا" في مسيرة هذا النظام، الذي كانت الجماهير العربية في يوم ما تهتف له من المحيط الى الخليج، والذي شق الطريق امام الاعتراف باسرائيل بما تعنيه من تكريس الهزيمة العربية وسحق الشعوب العربية الى اجيال عديدة لاحقة (قبل خيانة "اوسلو"، يوم اعلن السادات في ما يسمى "مجلس الشعب" المصري نيته في زيارة اسرائيل، كان ياسر عرفات حاضرا الجلسة، وصفق مع المصفقين!!! طبعا سيصفق، أليس هو القائل في خطابه امام الامم المتحدة في 1974 "انني احمل البندقية في يد وغصن الزيتون في اليد الاخرى، فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي". وقد صدقت اسرائيل وزبانيتها في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مع عرفات، فقتلوه بالسم حينما رفض التخلي عن القدس واللاجئين، ووضعوا غصن الزيتون على قبره، رحمه الله وغفر له). ب ـ في كتابات لاحقة لمحمد حسنين هيكل ان الملك حسين كان، في حرب حزيران 1967، متواطئا في عملية تسليم القدس والضفة الغربية. ومن ذلك انه اخفى طائرات الفانتون التي كان يملكها الاردن، قبل نشوب الحرب بايام. (راجع هيكل). ومع ذلك فإن المعارضة الاردنية ذاتها، بمن فيها الفلسطينيون في الاردن، التفوا حول النظام، بعد نهاية الحرب، خصوصا بعدما اطلق حسين عبارته الديماغوجية الشهيرة "كلنا فدائيون". واطلق الشيوعيون الاردنيون على حسين اللقب الشرفي "سيهانوك العرب". ج ـ في الستينات كان حزب البعث العربي الاشتراكي لا يزال يعتبر من القوى الوطنية والقومية والتقدمية الرئيسية على الساحة العربية عامة وفي سوريا خاصة. ولكن قياديين من هذا الحزب (حافظ الاسد، وعبدالحليم خدام وغيرهما) قاموا بتسليم الجولان لاسرائيل بدون قتال في حرب حزيران 1967، فأعلن عن سقوط مدينة القنيطرة (التي كان خدام يشغل مركز المحافظ فيها) قبل وصول اي جندي اسرائيلي اليها، كما اعطيت الاوامر لسبعين الف جندي سوري متحصنين في الجولان بكل اسلحتهم الخفيفة والمتوسطة والثقيلة وتحصيناتهم التي بناها السوفيات ضد القنابل الذرية ذاتها، اعطيت لهم الاوامر بالانسحاب الكيفي، حتى قبل ان يشتبكوا مع العدو. ومع ذلك فإن حزب البعث العربي الاشتراكي لم يجد في نفسه القوة الاخلاقية والسياسية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الفضيحة الوطنية، بل انه كافأ "ابطال حزيران" = "ابطال الجولان"، بأن اوصلهم الى قيادة الدولة والحزب (حافظ الاسد اصبح الامين العام لحزب البعث، ورئيس الجمهورية مدى الحياة والتي اصبحت جمهورية وراثية، وعبدالحليم خدام اصبح نائب الرئيس حتى "انسحابه الكيفي"). 2 ـ مر على تأسيس اسرائيل واغتصاب فلسطين، حتى الان، اكثر من 58 سنة بالتمام والكمال، اي تقريبا 3 اجيال ديموغرافية و6 اجيال سياسية. ولا شك ان المعارضات العربية، بمن فيها الاحزاب الشيوعية التي وافقت سنة 47 على قرار تقسيم فلسطين (تعبيرا عن الطاعة لستالين)، تعارض تماما السياسة الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والعدوانية والتوسعية والاحتلالية لاسرائيل. ومع ذلك (وباستثناء المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية)، فإن جميع المعارضات العربية لاسرائيل لم تخرج الى الان عن دائرة "المعارضة الصوتية" و"الحكي بحكي" و"يا رب يا عزيز تهلك الانكليز" و"خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سسسسسوووووف يعود". 3 ـ عندما اقدمت اجهزة النظام السوري على اغتيال كمال جنبلاط، قام بعض عملاء اسرائيل اللبنانيين (من جماعة بشير الجميل وسمير جعجع) بقرع اجراس بعض الكنائس فرحا. وردا على قرع الاجراس، قام بعض الدروز "الغاضبين" والاصح المشبوهين بقتل حوالى 300 مواطن مسيحي بريء لا ناقة لهم ولا جمل. ولكن بعدما اتضحت الامور، ماذا فعل وليد جنبلاط ودورز لبنان وسوريا؟ ذهب وليد جنبلاط الى سوريا وصافح حافظ الاسد، ولاذ دروز لبنان وسوريا بالصمت عشرات السنين، ولم يتحرك الحزب التقدمي الاشتراكي والدروز الجنبلاطيين ضد النظام السوري الا بعد اغتيال الحريري، علما انهم يدفعون مقابل هذا الموقف "الشجاع" ضريبة سياسية عالية جدا، بالمقاييس الوطنية والقومية، وذلك بمماشاة الخطة الاميركية ـ الاسرائيلية ومناصبة العداء للمقاومة وحزب الله. 4 ـ تحمل "الاخوان المسلمون" الامرين من النظام السوري، وخاضوا ضده حربا حقيقية، ولكنهم ـ حتى الساعة ـ لم يفكروا في ان يرموا حجرا على قوات الاحتلال الاسرائيلي في الجولان، وبحجة عجيبة هي ان النظام "يمنع". 5 ـ يقوم "الاسلاميون!" المعارضون في مصر بتفجير السواح الاجانب، الذين هم مواطنون عاديون يونانيون والمانيون وغيرهم متعاطفون او على الاقل غير معادين للعرب (والا لما جاؤوا للسياحة في مصر)، ولكنهم ـ اي الاسلاميين المصريين ـ لم يفكروا الى الان بتنظيم مقاومة شعبية مسلحة ترفد عرب النقب وسكان غزة الذين يتحملون يوميا الويلات من اسرائيل. 6 ـ ترك الزرقاوي الاردن، وذهب الى العراق لممارسة "قطع الرؤوس" على "طريقته الاسلامية!"، وأتى "الزرقاويون" من العراق الى الاردن لنسف الفنادق وقتل مصطفى العقاد وابنته؛ فيما الجيش الاسرائيلي يسرح ويمرح على امتداد مئات الكيلومترات من الحدود الاردنية مع فلسطين المحتلة ويقيم مئات المستعمرات الجديدة في الضفة الغربية. 7 ـ يعيد بعض المعارضين السوريين "الدمقراطيين" الاعتبار لرفعت الاسد ذاته، ويعيد بعض المعارضين السوريين "الاسلاميين" الاعتبار لعبدالحليم خدام ذاته. في حين يبقى الجولان المحتل منسيا من الجميع. وهذا يدل موضوعيا وضمنا على ان المعارضة السورية هي معارضة "لاوطنية" و"لامبدئية"، بل معارضة كراسي حكم، حتى مع جزارين وفاسدين وانهزاميين ـ خيانيين، مثل رفعت الاسد وعبدالحليم خدام. 8 ـ حينما اجتاحت اسرائيل لبنان في 1982، قامت بعض المظاهرات التضامنية العربية مع الشعب اللبناني الشقيق، وان كانت لم تخرج عن نطاق البكاء على الاطلال والنحيب على الاموات. ولكن اكبر مظاهرة احتجاج على الحرب على لبنان قامت في تل ابيب ذاتها، وذلك خصوصا بعد مجزرة صبرا وشاتيلا. والتفسير الارجح لذلك هو ان المجتمع الاسرائيلي يعاني من "عقدة الهولوكوست"، التي تمثل كابوسا مرعبا بالنسبة لكل يهودي. ولهذا فأمام اي مجزرة بشعة ومفضوحة يرتكبها المتطرفون الصهاينة، تستيقظ في نفوس اليهود عقدة الخوف من نشوء قوة فاشستية جديدة تبادلهم "التحية بمثلها" (حينما تحدث جورج دبليو بوش مؤخرا ليس فقط عن "الارهاب الاسلامي" بل تحديدا عن "الاسلاموفاشيزم"، فهو والاصح مستشاروه كانوا يعرفون على اي وتر يعزفون!). ولكن عقدة الهولوكوست اليهودية لا تبرر تقاعس المجتمعات العربية عن نجدة الشعب اللبناني. وحتى حينما احتلت بيروت، عروس العواصم العربية، ظل العلم الاسرائيلي يرفرف في القاهرة، وظلت المصالح الاميركية على حالها، بل تعززت، في جميع البلدان العربية. 9 ـ في الحرب الاخيرة، السادسة من حيث تراتبيتها ـ الاولى من حيث فعاليتها العربية، صمدت المقاومة الوطنية (الاسلامية) صمودا اسطوريا يذكر بفيتنام وستالينغراد ولينينغراد وقلعة سيباستوبول. وبهذا الصمود قدمت المقاومة نموذجا ساطعا يقتدى به. ومن المنطقي جدا ان يسهم ذلك في رفع معنويات الجماهير الشعبية العربية والقوى الوطنية المناضلة، ولا سيما الاسلامية (بحكم "اسلامية" حزب الله). وكان من المفروض ان نشهد موجة كاسحة من العمليات النوعية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية والاميركية في فلسطين والعراق، وضد اشكال التواجد والمصالح الاسرائيلية والاميركية والبريطانية في كافة البلدان العربية. ولكن ماذا كانت المحصلة، الى الان، على ارض الواقع؟: أ ـ في ما يسمى "الاراضي الفلسطينية المحتلة" او "مناطق السلطة الفلسطينية"، بدلا من ان نشهد تناميا نوعيا وكميا في العمليات الفدائية ضد اسرائيل وقواتها، فإن اسرائيل كثفت "نزهاتها" العسكرية، الجوية والبرية ضد الفلسطينيين، بحيث اصبح الموت خبزهم اليومي. اما "حماس" فاخذت تتخبط اكثر فأكثر في فخ "الشرعية" الذي سعت اليه بظلفها. فبعد ان نالت الاكثرية في الانتخابات وشكلت الحكومة، وبدلا من ان تعمل فورا لتعبئة الجماهير الفلسطينية حول الشعار الستراتيجي الوحيد الصحيح حاليا، وهو رفض "اوسلو" بقضها وقضيضها، والنزول تحت الارض، والشروع في ثورة فلسطينية جديدة لتحرير فلسطين من البحر الى النهر، بدلا من ذلك بدأت "حماس" تناضل من اجل "الاعتراف" بها و"بشرعيتها". في البدء اعترف الروس بشرعية حماس، دون ان يطلبوا منها، على الاقل علنا، الثمن وهو الاعتراف باسرائيل. اما الاتحاد الاوروبي، وما يسمى "جامعة الدول العربية"، والامم المتحدة، وطبعا الدب الاكبر الولايات المتحدة الاميركية، فهي لا يمكن ان تعترف بحماس بدون ان تعترف حماس باسرائيل. وقد بدأ وضع شتى العراقيل امام حماس، بدءا من الحصار الاقتصادي (الذي لم تستطع ايران، لاكثر من سبب، "اختراقه" بشكل جدي، هذا اذا كانت تريد ذلك فعلا ولم تجعل الحصار على حماس مادة مساومة سرية مع اميركا)، وليس انتهاء بحرق بعض الكنائس في رام الله ونابلس، وهو ما يحدث مثله لاول مرة في الاراضي الفلسطينية). والان وضعوا امام حماس خسة "حكومة الوحدة الوطنية" التي يمسك بها الرئيس ـ الدمية الاميركية ـ محمود عباس، الذي يحرك هذه الخسة امام انف حماس كي تعدو بسرعة اكبر نحو الاعتراف بـ"اوسلو" والاعتراف باسرائيل وكل اشكال "الخيانة الوطنية". والهدف: ان تصطف حماس الى جانب فتح على مسطبة اوسلو (وما حدا احسن من حدا!). وفي الوقت ذاته يجري تحريك المواطنين المحتاجين الذين يطالبون بقبض معاشاتهم المحرومين منها منذ شهور، كي تصطدم بهم حماس وتضع الشعب الفلسطيني على شفير الحرب الاهلية. ب ـ في اليوم الاول للعدوان الاسرائيلي المتناهي الوحشية على لبنان، وجه السيد حسن نصرالله نداء خاصا الى الشعب العراقي لتعزيز الوحدة الوطنية ومواجهة المحتلين، وقال بالحرف ان من يدبر الاقتتال الطائفي في العراق هو الاميركيون والموساد الاسرائيلية. فماذا كانت النتيجة؟ لا شك ان المقاومة الوطنية العراقية ضد قوات الاحتلال استمرت، ولكن ليس بوتيرة اشد مما كان. كما ان نداء سيد المقاومة الوطنية (الاسلامية) اللبنانية ودعوته للوحدة الوطنية العراقية وجد صداه، وخرجت بعض المظاهرات الشعبية العراقية تحمل الاعلام اللبنانية واعلام حزب الله وصور السيد حسن نصرالله. ولكن بالمقابل شهدنا ارتفاعا ملحوظا في موجة العمليات الارهابية الوحشية ذات الطابع المذهبي، ضد الاسواق الشعبية والمدارس والجوامع والحسينيات والكنائس. وهذا يدل اما على المستوى المتدني جدا والمتزايد التدني للوعي الوطني لدى الحركات الاسلامية في العراق، واما على ضعفها الشديد امام الجيوب المشبوهة للموساد والمخابرات الاميركية التي تفتعل الفتن الطائفية وتخطط للحرب الاهلية ولتقسيم العراق و"فدرلته" و"كنتنته"، من ضمن مخطط الشرق الاوسط الجديد. ج ـ وفي المدة الاخيرة، وبالتزامن ـ ولكن ضد ـ النموذج الرائع الذي قدمته المقاومة الوطنية (الاسلامية) اللبنانية في مواجهة اسرائيل وفي التمسك الشديد بالوحدة الوطنية، في هذا الوقت اخذت تطفو على السطح (في مصر والعراق بالاخص) ظاهرة "اسلامية!!" جديدة، بعيدة كل البعد عن ابسط معاني الشرف والكرامة والايمان الاسلامي الصادق، ناهيك عن الوطنية والقومية، وهي ظاهرة الاعتداء على النساء المسيحيات. لقد تم اغتيال راهبة مسيحية في مقديشو بالصومال، من اجل كسر "الطابو الاخلاقي" حول التعدي على النساء المسيحيات، حتى ولو كن راهبات، نذرن انفسهن لخدمة الله والانسان المحتاج. ولكن الصومال المظلومة اصبحت نسيا منسيا، وبالكاد يتذكر من يتوجب عليه ان يتذكر ان فيها عربا او انها بلد عربي. فلنترك الصومال تموت جوعا، ولننظر الى ما يجري في مصر والعراق، بكل ما لهما من موقع مميز ومن عراقة عربيين: بدأت في المدة الاخيرة تنتشر في البلدين "موضة اسلامية!!!" جديدة هي خطف واغتصاب الفتيات المسيحيات. وفي مصر يجري "اسلمة" المخطوفات، زيادة في "الايمان!!". وتتم عمليات الاختطاف في العراق بوحشية، في وضح النهار، امام كل الناس، وتحت سمع وبصر وتغاضي السلطات القائمة، بما فيها بالاخص الاجهزة الامنية، المركبة حديثا في طبخات مشتركة اميركية ـ "ايرانية". من نافل القول التساؤل: هل ان القائمين بهذه الارتكابات هم "مسلمون" حقا، او "عقلانيون"، او يمتلكون ذرة من الشرف والكرامة والانتماء العربي؟!!. ولكن ما لا يحتاج للتساؤل هو ان هذه الارتكابات الوحشية هي شكل من اشكال الصراع ضد القوى الوطنية والتقدمية لان غالبية المسيحيين، العراقيين بالاخص، هم تاريخيا شيوعيون ووطنيون تقدميون. ابان الحكم الدكتاتوري الصدامي قام جزاروه الذين نفذوا "حملة الانفال" ضد الشعب الكردي المظلوم، بأنفلة عدد من النسوة والفتيات الكرديات، وبيعهن في اسواق الترفيه والدعارة في مصر. ولكن المجرمين الصداميين كانوا "اشرف" من "الوحوش البشرية" الحالية، لأن الاولين قد ارتكبوا ما ارتكبوه باسم زعيمهم صدام ونظامهم الدكتاتوري وحزبهم البعثي، اما هؤلاء فيرتكبون جرائمهم المنحطة باسم الدين الاسلامي الحنيف. ومما يثير الانتباه، ولكن ليس الاستغراب، انه في حين قامت القيامة، في كل ارجاء العالم الاسلامي، ضد الصور الكاريكاتورية الدانمركية المنحطة المسيئة للنبي العربي، وضد تصريحات البابا الاخيرة، فإنه لم يتناه الى علمنا ان المراجع الدينية الاسلامية ذاتها، المؤتمنة على نقاوة وطهرية الدين الاسلامي، من الازهر الشريف، الى العلامة القرضاوي، الى آية الله الخامنئي الى آية الله السيستاني، قد نبست الى الان ببنت شفة لشجب هذه الممارسات. وطبعا ان المؤسسات "الانسانية" مثل "الهيومن رايت ووتش" و"لجنة العفو الدولية"، التي تتأثر بالسياسة الاميركية، لم تحرك ساكنا ايضا على هذا الصعيد، ضد نظام مبارك وضد النظام "الدمقراطي" الاميركي في العراق. وعلينا ان نؤكد هنا ان احد اهم اهداف هذه الارتكابات المنحطة هو تشويه وجه الاسلام والمسلمين بشكل عام، توصلا الى تشويه وجه "حزب الله" الاسلامي وشرشحة رصيده الكفاحي بشكل خاص. وربما، وإن بعض الظن إثم، يكون هذا هو السبب الحقيقي خلف الصمت المطبق حول هذه الارتكابات التي تعيدنا، باسم "الاسلام!!!"، الى عصور ما قبل الجاهلية. XXX سبق وقلنا ان لبنان، بتعدديته الدينية والثقافية، وبدمقراطيته النسبية الناشئة عن عدم التماهي القسري بين النظام والمجتمع، وقوة الحراك الاجتماعي مقابل ضعف الدولة، شكل حالة مميزة في الوضع العربي. وبهذا التميز استطاع لبنان، بشخص المقاومة الوطنية والاسلامية، اختراق حالة التردي العربي المزري. ولكن لبنان هو، في الحساب الاخير ، جزء لا يتجزأ من العالم العربي، متبادل التأثير معه. وفي العرض الذي قدمناه آنفا نستطيع القول: ان النموذج الذي قدمه لبنان عموما وحزب الله خصوصا، في مواجهة اسرائيل، سينعكس ايجابا في تحريك المستنقع العربي الآسن. ولكن في الوقت نفسه فإن لبنان عامة، وحزب الله خاصة، هما الآن، وسيكونان لاحقا اكثر واكثر، محاصرين بشدة من حالة التردي العربي، على المستويين الرسمي و"الشعبي" معا. فنحن نواجه ليس فقط حالة العمالة والتآمر والمساومات مع الامبريالية والصهيونية، من قبل الانظمة العربية، بل ـ واخطر من ذلك بكثير ـ نواجه ثقافة الاستخذاء والجبن وروح الانهزام المسبق والزبائنية والوصولية وشتى انواع الانحرافات لدى القوى العربية اليسارية والاسلامية "المناضلة" ذاتها. ومن المحتم ان تنعكس هذه الحالة على لبنان ايضا. وهو ما لا يستطيع حزب الله تجنبه وعدم اخذه بالاعتبار. واذا اخذنا، مثالا، الاطار العربي الاقرب للبنان، وهو الاطار السوري والفلسطيني، فإننا نجد بسهولة ان حزب الله يتوجب عليه ان يأخذ بالاعتبار: 1 ـ ان صيحة "تعيش سوريا الاسد" في مهرجان "8 اذار 2005"، هي بصقة سياسية في وجه على الاقل 90% من الشعب السوري وعلى الاقل 50% من الشعب اللبناني. واذا كنا نفهم لماذا تناسى السيد حسن نصرالله ذكر الجولان المحتل في خطبته العصماء في 22 ايلول 2006، فإن هذا لا يمكن ان يمنع زعزعة الثقة والتشكيك من قبل كثرة من اللبنانيين (والسوريين!) بمصداقية المقاومة في قضية مزارع شبعا المحتلة. وسيكون من شبه المستحيل على حزب الله (اللبناني) ان يقنع كثرة من اللبنانيين بـ"هضم" مسألة التعاون "الاخوي" مع المتهمين (على الاقل) بقتل كمال جنبلاط ورينيه معوض وحسن خالد ورفيق الحريري وسمير قصير وجورج حاوي وجبران التويني وغيرهم. كما سيكون من شبه المستحيل عليه ان يقنع كثرة من اللبنانيين بفتح معركة جديدة، بكل تبعاتها التدميرية، لاجل مزارع شبعا، في حين ان "حليفته" الستراتيجية سوريا تترك مسألة الجولان للمفاوضات والدبلوماسية، وحزب الله ذاته يجاريها في ذلك، الى درجة ان السيد حسن نصرالله ذاته يتناسى الجولان في خطبة يوم النصر. اما اذا اراد حزب الله ان يفتح ايضا معركة لاجل الجولان، وان يقاتل اللبنانيون ويقدمون التضحيات لاجل استرجاع الجولان لنظام الاسد الدكتاتوري المأفون، فسيكون من شبه المستحيل عليه ايضا وايضا ـ اي حزب الله ـ ان يقنع احدا بأن يكون مواليا لنظام "سوريا الاسد" اكثر من السوريين انفسهم. 2 ـ ان حزب الله لا يستطيع البتة ان يقف "محايدا" (ولو على طريقة "الحياد الايجابي") حيال ما يجري على الارض الفلسطينية، ان لجهة المذبحة اليومية لشعبنا الفلسطيني المظلوم، وان لجهة المساعي المحمومة لفرض الاستسلام عليه (الذي سماه في حينه الخزعبلاتي عرفات "سلام الشجعان!!") عن طريق محمود عباس وفتح، او عن طريق حماس، او عن طريق "حكومة الوحدة الوطنية". وبما ان منظمة التحرير قد دخلت منذ سنوات طويلة في الفخ، وتبنت تجليطة "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني" (التي هي مصيدة سياسية لمحاصرة الثورة الفلسطينية وقطعها عن امتدادها الشعبي العربي، عن طريق أسرها وتقييدها بـ"شرعية" نظام الانظمة العربية في اطار مزيف لدولة فلسطينية موهومة)، فإن حزب الله (اللبناني) لن يستطيع ان يقنع كثرة من اللبنانيين، بمن فيهم كثرة من جمهوره الحزبي والطائفي المباشر، بأن يكون فلسطينيا اكثر من الفلسطينيين، في مواجهة مؤامرة "الحل السلمي!!!" للقضية الفلسطينية، الذي يقوم ـ اي هذا "الحل" ـ على تهميش الشعب الفلسطيني وحصر بقية منه في "محمية بشرية" (تسمى "دولة فلسطينية") لا حول لها ولا طول، وتكريس اسرائيل بوصفها القوة الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، وطبعا "الدمقراطية"، الرئيسية في المنطقة. XXX ان الانتصار الذي حققته المقاومة الوطنية (الاسلامية) اللبنانية بقيادة حزب الله، قد جاء كفعل معاكس للتيار "الشرعي" و"القطري" (الرسمي والى حد كبير "الشعبي") العربي، ونعني به تيار المفاوضات و"السلام!" الاستسلامي مع اسرائيل. ولا شك، كما تدل كل القرائن، ان حزب الله قد اعد نفسه ذاتيا للمعركة بشكل ممتاز تماما، فاجأ الاعداء قبل الاصدقاء. ولكن القوة الذاتية لحزب الله لم تكن لوحدها كافية لتحقيق هذا الصمود وهذا الانتصار. فمصدر القوة الرئيسية لحزب الله قد تمثل في الدعم الذي حصل عليه من جماهير الشعب اللبناني، الذي كان كله عمليا منخرطا في المعركة، بمختلف وجوهها العسكرية والسياسية والاعلامية والاقتصادية والانسانية. ولو لم تكن جماهير الشعب اللبناني "مقتنعة" بصوابية خوض هذه المعركة، لما استطاع حزب الله متابعتها والانتصار فيها، بل ربما لما استطاع الشروع بها من الاساس. ان جماهير الشعب اللبناني، بوحدتها الوطنية، هي مصدر القوة الاستراتيجية الرئيسية لحزب الله. و"مفتاح" المحافظة على هذه القوة، اي على الثقة الجماهيرية، هي "الاقتناع" الجماهيري. وهذا يعني: انه اذا كان حزب الله يمثل الان "طليعة" الجماهير الشعبية اللبنانية، في مواجهة اسرائيل، فعلى هذه "الطليعة" ان لا تبتعد كثيرا في اطروحاتها وفي ممارساتها عن مدى رؤية جسمها الرئيسي، كي تظل محتفظة بعامل التعبئة الرئيسي وهو "الاقتناع". وفي المرحلة الراهنة، فإن حزب الله يتعرض لضغط نوعين من الضرورات او القناعات: اولا ـ شتى اشكال الضغوط "الشرعية" و"القطرية"، اللبنانية والعربية والدولية، كي يخفض رأسه الى المستوى القطري ـ اللبناني وحسب ـ للمواجهة مع اسرائيل. وهو مضطر لمسايرة هذ الضغوط، لعدم الابتعاد عن القطاع الاوسع من الجماهير الشعبية اللبنانية التي دعمته في تحقيق النصر. وثانيا ـ القناعة الاساسية بأن اسرائيل هي مخلب قط للامبريالية العالمية، وان المواجهة معها هي مواجهة عربية شاملة، وان "السلام!!" معها هو مستحيل، لان اي "سلام!!" معها من قبل اي طرف عربي، يعني تركها تتحكم وتستبد وتتوسع على حساب شعب عربي آخر. وفي الاخير سيأتي ايضا دور الطرف الذي وافق على "السلام!!!" معها كي تنقض عليه من جديد. وفي حالة لبنان، المجاور تماما لاسرائيل، والذي تطمع اسرائيل بمياهه وشواطئه وسياحته ودوره الاقتصادي والثقافي، فإن اي "سلام!!!" مع اسرائيل لا يعني شيئا آخر سوى تأجيل الانقضاض على الشاة بضعة ايام كي "يطمئن" صاحبها وينام، قبل افتراسها. وامام هاتين الضرورتين، فإن على حزب الله ان يوفق بين المهمتين التاليتين، المتناقضتين في الظاهر، المتكاملتين في الجوهر: 1 ـ عدم الابتعاد عن مدى الرؤية السياسية للقطاع الاوسع من جماهير الشعب اللبناني، وخوض المعركة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، ضمن الشروط والظروف اللبنانية. 2 ـ ايجاد الاشكال التنظيمية، السياسية والكفاحية المناسبة لتثمير "النصر اللبناني" المحرز، في عملية "تعريب" المعركة مع اسرائيل، وهو ما تخلت عنه جميع الانظمة العربية وجل اذا لم يكن كل الحركات السياسية العربية، بما فيها تنظيمات المقاومة الفلسطينية التي غرقت واخذت تتلاشى في مستنقع القطرية "السايكس ـ بيكوية" ونسختها الجديدة "الاوسلوية"، التي لن تعطي الشعب الفلسطيني "دولة قطرية" كما باقي الدول العربية، بل ستعطيه لا اكثر من خيمة بدون عنوان ومقبرة بدون شاهد. ـ
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وليد جنبلاط... اعتذار كلامي لا يكفي!
-
لبنان اسرائيل: من سيقتلع من؟
-
....والافلاس التاريخي ل-الوطنية النظامية- العربية
-
نصر...! وأما بعد...!
-
الافلاس التاريخي لستراتيجية الحرب النظامية العربية
-
الخطة الاميركية الاسرائيلية لتطويع لبنان... امام المفاجآت!!
-
لبنان ليس الجولان ولن يكون ارمينيا
-
العدوان لا يستهدف فقط لبنان
-
المسيحية: البوتقة الايديولوجية القومية، الاولى والاساسية، ل
...
-
ويبقى السؤال: من سلّم الجولان بدون قتال، وهادن الاحتلال، ولم
...
-
المسيحية: الديانة القومية الاولى للعرب
-
أول أيار والدور الاممي الخاص للطبقة العاملة العربية
-
الارمن ضحية العنصرية التركية والتآمر الغربي على مسيحيي الشرق
-
بكركي محاورا تاريخيا
-
المأزق الوجودي لاسرائيل!
-
بعد تجربة الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة السورية: القوى الوطني
...
-
الأكراد شعبنا الثاني
-
الصفقة الاميركية السورية الجديدة: اعادة انتاج -سايكس بيكو-
...
-
الانقلاب الكياني في التركيبة اللبنانية
-
من هم المرتدون الذين سيحاكمون لينين؟ كريم مروة واصحابه نموذج
...
المزيد.....
-
شاهد لحظة قصف مقاتلات إسرائيلية ضاحية بيروت.. وحزب الله يضرب
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير ا
...
-
جامعة قازان الروسية تفتتح فرعا لها في الإمارات العربية
-
زالوجني يقضي على حلم زيلينسكي
-
كيف ستكون سياسة ترامب شرق الأوسطية في ولايته الثانية؟
-
مراسلتنا: تواصل الاشتباكات في جنوب لبنان
-
ابتكار عدسة فريدة لأكثر أنواع الصرع انتشارا
-
مقتل مرتزق فنلندي سادس في صفوف قوات كييف (صورة)
-
جنرال أمريكي: -الصينيون هنا. الحرب العالمية الثالثة بدأت-!
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|