أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الكتب كالأبناء يصعب الانفصال عنهم















المزيد.....

الكتب كالأبناء يصعب الانفصال عنهم


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7429 - 2022 / 11 / 11 - 09:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


نقل لي أحدُ الأصدقاء العراقيين المتوطنين في القاهرة سنوات طويلة، يقول: زرتُ أحدَ المؤلفين المصريين المشهورين في بيته، وفي سياقِ حديثنا عن الكتابةِ والتأليف، سألتُه عن كيفية مراجعته وتنقيحه لمؤلفاته المطبوعة عندما يريد إعادةَ نشرها، فقال لي: لا أعودُ للكتاب الذي أنشره بعد صدوره أبدًا، لأن العودةَ إليه تضطرُني لإعادة تحريره، بالشكل الذي يدعوني لتغييره جذريًّا، عند مراجعته أشعر كأني أقومُ بتأليف كتابٍ غيره، وذلك لا يشجعني على النظر في مؤلفاتي الصادرة مجددًا.
يقول الجاحظ: "ينبغي لمن كتبَ كتابًا ألّا يكتبُه إلا على أنَّ الناسَ كلَّهم له أعداء، وكلَّهم عالمٌ بالأمور، وكلَّهم متفرغٌ له، ثم لا يَرْضَى بذلك حتى يَدَعَ كتابَه غُفْلًا، فإذا سكنتِ الطبيعةُ وهَدَأتِ الحركةُ، وتَرَاجَعَتِ الأخلاطُ، وعادتِ النّفسُ وافرةً، أعاد النظرَ فيه، فيتوقّف عند فصوله تَوَقُّفَ مَنْ يكون وَزْنُ طَمَعِهِ في السلامةِ أنقصَ من وزن خوفِه من العَيْب". حين أقرأ ما كتبتُه بعد سنوات، أحيانًا أكتئب، وأبتهج أحيانًا أخرى. أكتئبُ لشعوري بوهن شيء من كلماتي، وثغراتِ شيء من أفكاري، ولشعوري بما يفكر فيه القارئُ الذكيُّ، وكيف يتأمل ويدقق ما تقوله الكلماتُ وما لا تقوله وتحجبه. أبتهجُ حين يبادرُ قراءٌ أذكياء في الحديث عن الوثبة الروحية التي عاشوها بعد قراءة هذه الكتابات، وما شاهدوه من ألوان مضيئة لصورة الله في شيء من كلماتها، وانبعاث الثقة بداخلهم في أن الدينَ يمكنُ أن يحيي كلَّ معنى جميل في الحياة، ويمكن أن يوقظَ الضميرَ الأخلاقي، ويُكرِّس التكافلَ العائلي، والتضامنَ المجتمعي، ويخفض طاقةَ الشر التدميرية، ويبعث منابعَ الخير في الأرض، ويجعل صناعةَ السلام والعيشَ المشترَك والتراحم هي المشروع الأبدي للتديّن.
الكتبُ كالأبناء يصعبُ على الإنسان العاطفي الانفصالُ عنهم، مهما كانوا، ومهما تقدّمَ به وبهم العمر. أحيانًا تصير الكتبُ أشدَّ صلة بذلك الكاتب الذي نذرَ عمرَه للكتابة وتفرغَ لها، وأعطاها كلَّ ما يملكُ من وقت وطاقة وجهد وصحة، وتنازل لأجلها عن مباهج الحياة ومتعها المتنوعة، وسجن نفسَه في منفى اختياري، بعيدًا عن الأقرباء والأصدقاء، وتجاهلَ ايقاعَ الحياة اليومية وتفاصيلها، وانسحبَ من الواقع بكلِّ ما يحفلُ به من أحزان وأفراح.
كثيرٌ مما ينشرُ لا تنطبقُ عليه شروطُ الكتابة الحقيقية. الكاتبُ الجاد الذي يهمُه حمايةُ صورته أمامَ نفسه أولًا وأمامَ القراء ثانيًا، لا ينفك من تهيب الكتابة مادام منهمكًا بهذه المهمة الشاقة. يقول همنغواي: "إنّ الكتابةَ تبدو سهلة، غير أنّها في الواقع أشقّ الأعمال في العالم". أحيانًا أكون محرجًا أمام القراء بما أحدثه من تنقيح وتهذيب متواصل في كتاباتي، ومحاولات تصفية متكررة لتنقية العبارات، لئلا تشوبها أكدار. ما يتعبني في الكتابة هو انتقاء الكلمات الحساسة، وبناء العبارات الصافية. حين أكتب أمارس عملية كالمهندس المعماري الذي يهمه الوجه الجمالي للبناء. المعاني حاضرة أحيانًا، ‏ما يرهقني هو استيراد الكلمات العذبة ‏مما هو مختزن في الذاكرة، وأحيانًا أعود إلى قواميس اللغة ومعاجمها عسى أن أجد الكلمات الملائمة لسياق النص. يقول الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير".
‏ حاولتُ الخلاصَ من عادة استئناف النظر في كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي" وغيره في الطبعات الجديدة إلا أني فشلت. ما يدعوني لاستئناف قراءة ما أنشرُه وأعملُ على إعادة تحريره وغربلته وتنقيحه وإثرائه كلّ مرة، هو شعوري بأني دائمًا في حالة امتحان أمام القراء الأذكياء. القارئُ الذكي بالقدر الذي يجعلُ الكاتب حذرًا، وخائفًا إلى حدّ الذعر لدى بعض الكتاب، لهذا القارئ بالقدر نفسه منّةٌ وفضلٌ على كلِّ كاتب يريد لكتابته أن تظلَّ قيد التداول، إذ يجعله متيقظًا مسؤولًا عن كلِّ كلمة يكتبُها وفكرة يبوحُ بها. يثيرُ القارئُ الذكيُّ الكاتبَ فيضطره لإعطاء الكتابةِ كلَّ طاقته ووقته، ويستفزُ مواهبَه ومهاراتِه وخبراتِه لحظةَ يكتب. يجعلُ هذا القارئُ عقلَ الكاتب دائم الهمّ بما يعتزمُ كتابته، متى لاحت في ذهنه فكرةٌ تزامنت بمعيتها الكلماتُ المعبرة عنها، وأردفها مخزونُه اللغوي بخيارات لصيغ متناوبة متبادلة للكلمات والعبارات الأقرب لذوقه في بيان تلك الفكرة والكشف عن مضمونها للمتلقي.
ما يشعرني بالرضا وأنا أعمل على إعادة النظر في كتاباتي هو الإدراكُ بأن هذا تقليدٌ تفرضه عليّ مسؤوليتي الأخلاقية تجاه القراء، ويلزمني به ضميري الذي يدعوني لأن أتعاملَ مع كتابتي مثلما أتعاملُ مع ما يكتبُه غيري، الذي أقرأ ما يقولُ على مَهَل، أتفحصُ كلماتِه وأفتشُ عن ثغراتِ أفكاره. عندما أقرأ ما يكتبُه كاتبٌ بعيون الناقد، أبادر لنقد أفكاري وغربلتها بعيون الناقد أيضًا، ولا أترددُ بتمحيصها وتهذيبِ كلماتِها. أعرفُ جيدًا أن الكلماتِ التي تمكث طويلًا في ذاكرة الكتابة تتطلب الكثير من الغربلة والتمحيص والصقل.كلُّ كتابةٍ يتسع عمرُها بمقدار ما تستجيب لعملية التكثيف بالتمحيص والحذف والاختزال.
أحاول كتابةَ تجاربي الذاتية، مشغولٌ على الدوام برحلتي في أعماق نفسي، واستكشافِ الإنسان بدءًا من ذاتي. هذه رحلةٌ لا تنتهي، ولن تقف عند نهايات مغلقة.كلُّ يوم يتكشفُ لي في هذه الرحلة الأبدية ما كنت أجهله في نفسي وغيري، وما لا أعرفه عن العالَم من حولي.
أعرفُ أن كلَّ مَنْ يفكر يخطئ، لا يخطئ إلا مَنْ لا يفكر. لا يتحرر الإنسان من الخطأ غالبًا إلا بعد وقوعه فيه. مَنْ يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ يمتلك القدرة على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.كلُّ مرة أريد تجديد طباعة أحد أعمالي الذي مضت على صدوره سنوات أتحمس لإعادة بنائه، حين أبدأ بالمراجعة أقع في مغامرة لم أكن أحتسبها، وكأني أكتب كتابًا جديدًا، إذ أقومُ بعمليات تحرير وتنقيح وشطب وإضافات متنوعة. أظن هذه عادة مؤذية يعاني منها كلُّ كاتب يدركُ أن عقلَ الإنسان مهما فكّر وتأمل وراجع تظلُّ النتائجُ التي ينتهي إليها اجتهاداتٍ بشريةً ناقصة وليست نهائية. طبيعةُ البشر النقص، وهو ما يدعو الإنسانَ لطلب الكمال والكدح لبلوغه. الحكيمُ يدركُ أن بلوغَ الكمال متعذر؛ وذلك ما تشي به الآيةُ القرآنية: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ". يوسف، 76.
موضوعاتُ هذا الكتاب تنشدُ التدليلَ على الحاجة الأبدية للدين، بوصفه حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية، وتشتركُ في بيان هذه الفكرة المحورية الواحدة بمداخل وتنويعات وبيانات متنوعة، إلا أن فصولَه يمكنُ أن تُقرأ خارجَ تسلسلها في الكتاب، بلا أن يخلَّ ذلك كثيرًا بفهم واستيعاب فصل سابق أو لاحق. وإن كنت أقترح على القارئ أن يصبر على القراءة المتوالية، لأن ترتيب الفصول ومواضعها يعكس سياقها المنطقي وليس عشوائيًّا.
في طبعته الرابعة خضعَ كتابُ "الدين والظمأ الأنطولوجي" لبناءِ شيءٍ من أفكاره، وتهذيبِ شيءٍ من عباراته، وأُعيد ترتيبُ فصوله، واغتنت فقراتُه بإضافات رأيتها ضرورية.

مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي". يصدر قريبًا عن دار الرافدين في بيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين في بغداد.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اقتصاديات الكلام
- مفهوم الاغتراب الميتافيزيقي
- الخلاصُ من احتكارِ الخلاص في علم الكلام الجديد
- يولَدُ الإنسانُ مُكرّمًا ولا يكتسبُ الكرامةَ بعدَ ولادته
- الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم
- الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم (1)
- هاني فحص: روحانية متسامحة في زمن الطوائف
- مناقشة -الرؤى الرسولية- لعبد الكريم سروش (2)
- مناقشة -الرؤى الرسولية- لعبد الكريم سروش
- نسيان الله في تفسير حسن حنفي
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 8
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 1
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 7
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 6
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 5
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 4
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 3
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 2
- السياسةُ في الاستبدادِ إلغاءٌ للسياسة
- كتابٌ لمَنْ يريدُ تعلُّمَ التفلسف


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الكتب كالأبناء يصعب الانفصال عنهم