|
صراع العقيدة والمعتقد : بين الفتاوى الدينية والتعاويذ الطائفية !!
ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 7428 - 2022 / 11 / 10 - 08:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ثامرعباس
كثيرا"ما يتساءل الناس عن الأسباب الكامنة وراء فشل المرجعيات الدينية ، على حمل أتباعهم من الطائفتين السنية والشيعية حيال التقيد بفحوى الفتاوى التي تصدرها ؛ سواء لجهة الامتناع عن القيام بعمل ما أو اتخاذ موقف معين ، يتعارض مع جوهر العقيدة الدينية التي يؤمنون بها وينخرطون في طقوسها ويمارسون شعائرها ، أو بالعكس لجهة تشجيعهم على لعب دور من الأدوار الوطنية والاجتماعية ، أو حثهم على ممارسة ضرب من ضروب السلوكيات الأخلاقية والإنسانية . باعتبار إن محور العقيدة الدينية قائم على مراعاة حسن التعامل بين الذات والآخر على أسس من الفضيلة من جهة ، ونبذ كل ما من شأنه إثارة الكراهية بين الناس وإشاعة الرذيلة بينهم من جهة أخرى . والواقع إن تساءل كهذا ناجم عن جهل الفارق النوعي القائم ما بين العقيدة الدينية والاعتقاد الطائفي أو المذهبي ، بحيث تختلط الأمور في أذهان من يندهشون لتصرفات أتباع الطوائف المعنية خلافا"لفتاوى مراجعهم . وإذا ما وضعنا نصب أعيننا مسلمة تفيد بان العقيدة الدينية تعنى بالعبادات اللاهوتية ، في حين يهتم المعتقد الطائفي – أو أي معتقد – بالمعاملات / التعاملات الاناسية ، أدركنا من فورنا سرّ هذا التناقض بين أقوال المريدين والأتباع وأفعالهم ، دون أن يشعر أحدهم بالحرج أو بالندم حيال هذا التصرف المنافي لأبسط القواعد المنطقية ! .
ولكن لماذا يحدث هذا الأمر ، أو بمعنى آخر لماذا يتغلب الدافع الإنساني على الوازع الديني ؟! الواقع إن الإنسان – كما هو معروف – تتنازعه الكثير من العوامل وتتقاذفه العديد من الأهواء ؛ منها المادي والروحي ، الغريزي والثقافي ، الشخصي والاجتماعي ، النفسي والاجتماعي ، العاطفي والعقلي ، الأسطوري والتاريخي ، الأناني والإنساني .. الخ . وان غلبة عامل على آخر وترجيح عنصر عن سواه رهبن بعدة عوامل منها ؛ ظروف اجتماعية متنوعة ، وأوضاع اقتصادية مختلفة ، ومعطيات سياسية متباين ، وسياقات حضارية متفاوتة . فإذا ما وضع الإنسان في بيئة حاضنة للعوامل الايجابية تهذب وعيه وتشذب سلوكه ،استطاع من ثم التمييز ما بين الشر والخير ، ما بين الحق والباطل ، ما بين الأخلاق والنفاق ، ما بين التحضر والتبربر .أما إذا ما اضطر للعيش في محيط يساعد على نمو العوامل السلبية ؛ تخلف في العلاقات ، وتطرف في الذهنيات ، وعنف في السلوكيات ، فان هذا سيكون مدعاة لتحوله إلى فاعل أثرة فردية أكثر منه إيثار اجتماعي ، وعنصر رذائل أكثر منه فضائل ، وعنصر هدم أكثر منه بناء .
صحيح إن الإنسان لا يعيش على رغيف الخبز وحده ، كما جادلت أدبيات نقد الطروحات الاقتصادية للماركسية ، ولكن بنفس المقدار من الصحة إن الإنسان ذاته ، لا يحيى بالمثل الأفلاطونية وحدها ،إذ انه أولا"وأخيرا"كائن اجتماعي فيه من الغرائز والنوازع بقدر ما فيه من الموانع والروادع ، لا بل إن الأولى أسبق في الوجود من الثانية فيما لو نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر فلسفية . ولما كانت الأجواء التي يعيش في كنفها الإنسان أجواء ملبدة بكل مبوقات الحاضر ، ويتغذى من تصورات موبوءة بكل عفونات الماضي ، فقد تتشبع شخصيته بنظرة للأمور ملئها الازدراء والاحتقار لكل ما يتسامى بعقله عن الخرافات والترفع بسلوكه عن الطفيليات ، وبالتالي قياس الواقع بمنظار المصلحة الشخصية حتى وان كانت تتعارض مع المصلحة العامة ، والتعامل مع المجتمع بمعيار الفائدة الآنية حتى وان كانت تتقاطع مع الشرعية الأخلاقية . وهكذا فهو لا ينخرط بأي نشاط سياسي إلاّ بمقدار ما يدر عليه من مناصب أو مكاسب ، ولا يتورط بأي عقيدة دينية إلاّ بكفالة شرعنة انحرافاته أو تجاوزاته ، ولا يقوم بأي نشاط ثقافي إلاّ بعد أن يتأكد انه سيكرّم وينعّم . وإذا ما نظرنا إلى تجربة المجتمع العراقي في هذا المضمار ، لاسيما حيال ازدواجيته الفاضحة بين الدين والتدين (العقيدة الدينية والمعتقد الطائفي) ، فان الشخصية العراقية ستضرب لنا أسطع الأمثلة وستقدم لنا أبلغ البراهين . فعلى مدى زمن العقدين المنصرمين - بعيد سقوط النظام السابق - وقعت أحداث رهيبة وحصلت مواقف مفزعة ، بحيث استدعت هذه وتلك تدخل المرجعيات الدينية من كلا الطائفتين ، ليس فقط بإعلان رفضها ومعارضتها لتلك الممارسات اللاانسانية واللاأخلاقية فحسب ، وإنما والإفتاء بتحريم تعاطيها والدعوة لتجريم مرتكبيها . إلاّ أن كل تلك الفتاوى والدعوات – بصرف النظر عن جدية إطلاقها - لم تجد لها آذان صاغية وذهب صداها أدراج الرياح من لدن الأتباع والمريدين ، بحيث تتحول لديهم إلى سلوك ملتزم ومواقف مسؤولة ، لأجل إيقاف عمليات السلب والنهب للمؤسسات والإقلاع عن ممارسات القتل على الهويات ، بعد أن غلبت مكاسب (المعتقد الطائفي) على مطالب (العقيدة الدينية) . ولما كانت هذه الأخيرة تهتم بالعبادات / الروحانيات ، وان الأول يميل نحو المعاملات / الماديات – كما أوضحنا سابقا"- فان معظم الذين يرجحون كفة (التدين) عل (الدين) – وهم في الغالب أصحاب المعتقد الطائفي – سيكونون على استعداد ذهني ونفسي وأخلاقي ، لتقبل ما يتمخض عن رجال الدين / الطوائف من فتاوى تلامس نوازعهم الدفينة وتلبي رغباتهم المكبوتة من جهة ، وإهمال وتجاهل كل ما يشعرون انه يتعارض وتلك النوازع ويتناقض وتلك الرغبات من جهة أخرى . طالما أنهم يحتكمون إلى قناعة راسخة مؤداها ؛ إن الأولى (العقيدة) لا تستجيب لما يتوقعونه منها من طموحات ويعولون عليها من آمال ، هذا في حين إن الثاني (المعتقد) لا يبرر لهم فقط مواقفهم الشائنة ولا يسوّغ لهم ممارساتهم المدانة فحسب ، بل وكذلك يحضّهم على تعاطيها تحت غطاء الدين ومن خلف ستار المحرّم . ولهذا فحالما ينطق رجل الدين / الطائفة بفتوى معينة تحمل معنى المعتقد الطائفي ، حتى تستحيل سلطتها - بالنسبة للأتباع - إلى ما يشبه التعاويذ السحرية ، التي ما أن يطلقها الساحر من عقالها حتى يفقد السيطرة عليها ، ولا يعود يمتلك زمام أمورها والتحكم بها ، بل إنها تتبع قوانينها الخاصة وتنصاع لمنطقها الذاتي .
وكما في كل أنماط التعاويذ السحرية التي تستهدف عادة إلحاق الأذى بالخصوم وإيقاع الضرر بالأعداء ، فان فتاوى المعتقد الطائفي سرعان ما تنتظم ضمن هذا النسق من الإيحاءات المحفزة لطاقة الأتباع والمريدين ، بحيث يغدو اللجوء إلى العنف ضد (الآخر) الطائفي نوع من أنواع التطهر الذاتي من الدنس ، كما ويصبح انتهاج سياسة استئصال (المغاير) ضرب من ضروب التعالي المذهبي والتماهي بالمقدس . وهكذا ينشأ صراع خفي بين مضامين (العقيدة الدينية) و (المعتقد الطائفي) ، لا يلبث سعاره أن ينتشر صوب العلاقة بين (الدين) و(التدين) ،غالبا"ما تكون النتيجة لصالح الأخير على حساب الأول وبالضد من مبادئه وقيمه ورموزه . وهو الأمر الذي يصعّد لهجة العداء بين الطوائف كجماعات سوسيولوجية مختلفة ، وبين المذاهب كفقهيات دينية متباينة ، وبالنتيجة حصول التخاصم في الخطابات والتصادم في العلاقات ، على خلفية دعاوى التكفير الديني والتنكير الاجتماعي والتنفير النفسي . ولعل تعاطي بعض ممثلي الطوائف / المذاهب مع الفتاوى الدينية ، بصور لا تنم عن الحذر والتفكر يقدر ما تشي عن التهور والتنمر ، أفضى إلى غلبة العامل المصلحي / النفعي على العامل الأخلاقي / الإنساني ، وبالتالي اكتساح المعتقد الطائفي لمواقع العقيدة الدينية في الوعي الاجتماعي . ولذلك نلاحظ إن نمط العنف الطائفي يعتبر من أخطر أنماط العنف الأخرى على الإطلاق ، من باب كونه يعفي المنخرطين بسعاره من الإحساس بالذنب حيال أنين الضحايا وصراخ المعذبين من جهة ، يطلق العنان لغرائز الإبادة الجماعية من جهة أخرى ، تحت راية الدين (العقيدة) ويمنح تفويض القتل المجاني على الهوية باسم التدين ( المعتقد) ، وكلاهما يحتكمان إلى الله ويلوذان بالمقدس ، بحيث يصبح الدين في خدمة التدين وليس العكس !! ، وتغدو العقيدة صورة من صور المعتقد وليس العكس !! ، وتتفوق التعويذة الطائفية على الفتوى الدينية وليس العكس !! . وهنا يكون المجتمع قد بلغ حافة الهاوية !! .
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثقافة والديمقراطية .. تزامن أم تعاقب ؟
-
صلاحية الديمقراطية في المجتمعات المتخلفة !
-
العقد الاجتماعي بين اهمال الدولة وتجاهل المجتمع
-
الصراع على السلطة : مقاربة في سوسيولوجيا التداول السياسي
-
تتريث العقل وتوريث الجهل
-
اللغة السياسية والكتابة الصحفية
-
ثقافة البراكسيس : الضرورة التاريخية والاضطرار السياسي (الحلق
...
-
الميتودولوجيا الماركسية وثقافة البراكسيس ( الحلقة الأولى )
-
الزعيم الدكتاتوري ونزوع عسكرة المجتمع
-
علي الوردي ومقدمات عصر البدوقراطية
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة الخامسة
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة الرابعة
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة الثالثة
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة الثانية
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة الحادية
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة العشرون
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة التاسعة
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة الثامنة
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة السابعة
...
-
مفهوم العنف الاجتماعي : دلالاته وأشكال تجليه (الحلقة السادسة
...
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|