أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الفقي - الأسلوب الفني في (المومياء) و(الأرض)















المزيد.....


الأسلوب الفني في (المومياء) و(الأرض)


محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)


الحوار المتمدن-العدد: 7415 - 2022 / 10 / 28 - 20:46
المحور: الادب والفن
    


**
مع كل مشاهدة جديدة لفيلم (المومياء، شادي عبد السلام، 1969) أو لفيلم (الأرض، يوسف شاهين، 1969)، يجد المرء إغراءً لا سبيل إلى مقاومته لعقد المقارنات بين الفيلمين، فمشاهدة أحدهما تستدعي تداع للأفكار مع الآخر، ربما لأنه لم يُصنع في تاريخ السينما العربية فيلمان متضادان فنياً مثلهما، على الأقل من وجهة نظرنا، فما بالك والاثنان يحتلان قمة الأروع عربياً.

السطور التالية هي محاولة نطمح فيها إلى قراءة مختصرة للأسلوب الفني لكلا الفيلمين في صورة ملاحظات سريعة، قد تشجع المُشاهد المحب لهما، أو لأحدهما، على الشروع في عملية تداع للمعاني خاصة به أثناء المشاهدة، أو حتى على تطوير رؤيته المضادة لتأملاتنا، أو لبعضها.

السياق الزمني والفكري
صُور الفيلمان في عام 1968، وُطبعت نسخة العرض الخاصة بكل منهما في عام 1969، وبينما عُرض (الأرض) بالفعل في عام 1969، تأخر عرض (المومياء) حتى عام 1975 لظروف قيل وقتها إنها "اقتصادية" تتعلق بطبيعة الفيلم "اللاجماهيرية".

السياق الزمني إذن واحد ومتشابه؛ هو الحالة النفسية والفكرية التي سادت بين المثقفين والفنانين العرب في أعقاب هزيمة 1967. ثقل الحدث الجلل أثر بشدة في عقل ووجدان النخبة الفكرية والفنية العربية، وضاعف من تأثيره الأحلام والآمال العريضة، والثقة الكبيرة التي كانت لدى أبناء الطبقة الوسطى العربية تجاه أنفسهم أوطانهم. هذا الشرخ العميق في نفوس أبناء تلك المرحلة، حاولوا، وبكل إخلاص وصدق مع النفس، البحث عن أسبابه وعلاته. كانت المسألة بالنسبة لهم أكبر من مجرد إدارة خاطئة للمعركة مع العدو، وآمن معظمهم بأن هناك شيئاً آخر خطأ، أشياء أخرى أكبر وأهم خاطئة في المجتمع نفسه؛ أخطاء هيكلية وبنيوية لولاها لما أدرنا معركتنا على هذا النحو. وفي رحلة البحث عن الأسباب والعلات، صُنع (المومياء) وصُنع (الأرض).

حبكة الفيلمين
الحبكة في السينما هي لب القصة بصورة مختصرة. بالنسبة لفيلم (المومياء)، انتهى شادي من كتابة النسخة النهائية لسيناريو الفيلم عام 1968، وساعده في كتابة الحوار بالفصحى الأديب علاء الديب. ورغم أن أصل القصة كان واقعياً؛ هو حادثة أسرة عبد الرسول في صعيد مصر التي ظهرت في الفيلم كقبيلة "الحربات"، إلا أن شادي أضاف للقصة تخييلات أكسبت القصة الواقعية أبعاداً وجودية أكبر من مجرد قصة عن مجموعة لصوص للآثار.

تدور حبكة الفيلم في عام 1871، حول محاولة مجموعة من الأفندية: "جاستون ماسبيرو" مدير الآثار المصرية، وعلماء المصريات والآثار بالمتحف المصري، ومن ضمنهم "أحمد أفندي كمال"؛ أول عالم مصريات وآثار مصري، بالتعاون مع الحرس المكلف بحراسة منطقة طيبة الأثرية (الأقصر) بقيادة الضابط "البدوي بك"، كشف لصوص الآثار الذين يسرقون المقابر الفرعونية، ومحاولة إنقاذ تلك الآثار وإحضارها سالمة إلى القاهرة.

يصل أحمد كمال إلى طيبة ويتواصل مع قائد حرس المنطقة "البدوي بك"، في نفس الوقت الذي يموت فيه "سليم" زعيم قبيلة الحربات التي تقوم بسرقة الآثار وبيعها إلى التاجر "أيوب"، الذي يبيعها بدوره في السوق العالمية للآثار. أشقاء سليم يقومون بإبلاغ أبناء سليم عن سر الخبيئة ومكان الآثار التي كان الكهنة المصريون قديماً قد أخفوها عن أعين اللصوص في مكان سري في الجبل. ابن سليم الأكبر يفاجئ لأول مرة بنشاط القبيلة الإجرامي، ويعلم للمرة الأولى مصدر رزقهم؛ بيع جثث الموتى للأغراب، فيرفض الاستمرار في هذه التجارة البائسة. يقرر الأعمام وباقي الكبار في القبيلة قتله. بينما يظل "ونيس" الابن الأصغر لسليم متردداً متخبطاً، حتى يعلم بجريمة قتل الأعمام لأخيه، فيقرر في النهاية الذهاب للأفندية (أحمد كمال، والضابط البدوي بك) وإخبارهم عن مكان الآثار المدفونة في الجبل، حارماً قبيلته من مصدر رزقها. يستخرج الأفندية 40 تابوتاً لأشهر فراعنة مصر؛ من الأسرة 17 إلى الأسرة 21، بمساعدة فلاحين من الوادي، ويعودون بها سالمة إلى القاهرة.

أما فيلم (الأرض)، فهو عن رواية لعبد الرحمن الشرقاوي بنفس الاسم. ساعد يوسف شاهين في كتابة سيناريو وحوار الفيلم السيناريست والصحفي والناقد والفنان التشكيلي والمخرج حسن فؤاد. تدور حبكة الفيلم في عام 1933، في إحدى قرى الفلاحين المصرية في الوادي. يعلم الفلاحون أن الإدارة الحكومية قد قلصت من حصة مياه الري الخاصة بأراضيهم، العطشى أساساً، فيغضب الفلاحون ويقررون بعد مداولات، وباقتراح من المتعلم المثقف "محمد أفندي"، أن يقدموا عريضة احتجاج إلى الإدارة الحكومية. يسافر محمد أفندي إلى القاهرة ويقدم العريضة إلى "محمود بك"؛ الذي هو نفسه إقطاعي في قريتهم ذاتها. تتفاقم الأمور عندما يقرر محمود بك أن يستخدم توقيعات الفلاحين لتقديم عريضة أخرى للحكومة تقترح إنشاء طريق يربط قصره في القرية بالطريق الرئيسي، مما يستلزم انتزاع ملكيات أراضي بعض الفلاحين. يثور الفلاحون، فترسل الحكومة قوات الهجانة للسيطرة على القرية وفرض حظر للتجول، ثم ترسل فيما بعد قوات شرطية بزعامة مأمور القسم التابعة له القرية. يبيع مثقفو القرية (محمد أفندي والشيخ حسونة) أهاليهم من الفلاحين مقابل وعد بتحويل الطريق الجديد عن أرضهم الخاصة. في النهاية، يستسلم الفلاحون للأمر الواقع، إلا زعيمهم "محمد أبو سويلم" الذي يتشبث بأظافره بأرضه، فيتم سحله بحصان المأمور على الأرض.

المعنى والمغزى
يصارع فيلم (المومياء) فكرة البعث والإحياء لعناصر النهضة في حضارتنا القديمة من أجل الصحوة الجديدة للوعي والانطلاق في مسيرة الحضارة والتقدم في زمننا الحالي. بتعبيرات شادي نفسه: "أردت أن أعبر عن شخصية الإنسان المصري الذي يعيد أصوله التاريخية وينهض من جديد... وأتصور أن الأفلام التاريخية التي أصر على تقديمها هي نوع من البحث التاريخي بلغة الكاميرا عن هموم وأشواق الحاضر... أنا أرى الحياة في استمراريتها، وإذا أردت أن أرى ما يجري اليوم جيداً، فلا يمكن أن أعزل اليوم عن الأمس، فما نحن فيه اليوم هو نتاج لتاريخنا."

إذن هناك تاريخ قديم من الحضارة والتقدم، ثم سلسلة طويلة من التاريخ الأحدث من التخلف والتقهقر، كان سببه الأساسي، كما يظهر في (المومياء)، هو جهل الآباء بقيمة حضارة الأجداد. الآباء في قبيلة الحربات لا يعرفون شيئاً عن ماضي المومياوات التي يبيعونها للأغراب، هي بالنسبة لهم ليست إلا جثثاً لا يعرفون لها أماً ولا أباً، وتستطيع الواحدة منها إطعام مئة فم. مهمة الأبناء إذن هي استعادة الوعي المفقود بعظمة حضارة الأجداد ومنابعها، وهذه العملية تستلزم القيام بفعل عنيف من قبل نخبة مثقفة وواعية (الأفندية)، بانتزاع المومياوات من أيدي الآباء الجهلة وحرمان القبيلة كلها من مصدر رزقها، لأنهم هم القادرون على الحفاظ على هذه الحضارة من العبث والسرقة.

الهدف الأكبر ليس إعادة إحياء الأجداد، ولكن إعادة بعث الأحياء الجاهلين الهائمين الضائعين. القضية الكبرى في (المومياء) هي الوعي، والشر الأكبر هو الجهل، وهو شر هيكلي يعم على جميع قبيلة الحربات وليس مسؤولاً عنه أفراد بأعينهم. إن الوعي والمعرفة بعناصر قوة الأجداد هي الشرط لتحقيق البعث والنهضة للأحفاد.

يبدأ (المومياء) بالموت، وينتهي بالحياة. يبدأ بموت الإنسان الجاهل؛ الموت الجسدي لسليم زعيم قبيلة الحربات الذي يتنزع لقمة عيشه ببيع جثث موتاه وماضيه وتاريخه. وينتهي الفيلم بالبعث والولادة من جديد؛ تماماً مثل الانفجار العظيم الذي أسس النظام من رحم الفوضى. ربما لذلك يبدو ونيس في النهاية ضائعاً هائماً، كمولود جديد وجد نفسه وحيداً في هذا العالم وعليه أن يبدأ السير في طريق مجهول لا يعرفه.

القضية بالنسبة لفيلم (الأرض) ليست في الوعي أساساً، ولكن في أهمية فعل المقاومة، والتي ُتجهض في النهاية بسبب دناءات وخيانات صغيرة وتغليب للمصالح الخاصة. خيانات المثقفين والنخبة المتعلمة تحديداً.

جميع الفلاحين في (الأرض) واعون بأهمية المقاومة وضرورتها. ليس هناك خلاف على ذلك حتى بين أكثرهم جهلاً. ولا هناك خلاف بين الأجيال؛ الشباب يحمسون الآباء على المقاومة، والآباء يستدعون من ماضيهم القريب في ثورة 1919 روايات تحمس الشباب، وتحمس أنفسهم هم أيضاً على الاستمرار في المقاومة، الاستمرار في الدفاع عن الأرض المهددة بالجفاف وبالسطو عليها. لولا خيانات النخبة، الذين هم أنفسهم "الأفندية" في فيلم (المومياء).

الأسلوب الفني في (الأرض)
يمثل (الأرض) نموذجاً فريداً لتفاعل عدة اتجاهات فرعية للمدرسة الواقعية معاً في ضفيرة واحدة متماسكة ومتناسقة. الواقعية، أو الواقعية الاجتماعية كما تسمى أحياناً، مضفرة في (الأرض) مع الواقعية النقدية، والواقعية الطبيعية، والواقعية الاشتراكية. الفروق النظرية ليست شاسعة بين الواقعية واتجاهاتها الفرعية الثلاثة، بل هي فروق دقيقة، لكن ما يميز العمل الفني الكبير هو الوعي بالتفاصيل والفروق الدقيقة، لا الاقتصار على العموميات ورؤوس الموضوعات.

ربما من المفيد قول كلمة بخصوص المدرسة الواقعية وما يتفرع عنها من اتجاهات فنية. الواقعية ظهرت بجلاء في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كرد فعل رافض للحركات الرومانسية والمثالية والقوطية في الفن والأدب، ونادت بأن الفنان والأديب ينبغي أن يتناول موضوعات الواقع والحياة اليومية، بدلاً من موضوعات الأساطير والكلاسيكيات اليونانية والرومانية. فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تفرعت عن الواقعية عدة اتجاهات، على رأسها: الواقعية النقدية، والواقعية الطبيعية، والواقعية الاشتراكية. وتتفق جميع الاتجاهات الواقعية بمختلف تنوعاتها على عدة أساسيات لا ينبغي الخروج عنها، أهمها:

- الالتزام بتصوير عناصر البيئة المحلية بصدق. في حالة السينما، يشمل هذا الالتزام الواقعية في الملابس والإكسسوارات، والمباني والديكورات، واللغة والحوار، والأداء التمثيلي.
- الوعي بأثر العوامل الهيكلية والبنيوية على السلوك الفردي والطباع الشخصية.

- إدانة التصورات الغيبية واستغلال الدين في تزييف وعي الجماهير.

- الموقف الصريح ضد الظلم والفساد.

- الأمل في انتصار الحب والحرية.

هذا عن الأساسيات المتشابهة، أما عن الفروق الدقيقة فيكمن ذكاء وحصافة يوسف شاهين في (الأرض) في الجمع بين أفضل وأقوى ما في الاتجاهات الواقعية المختلفة، مع تجاهل عناصر الغلو والتطرف التي تتسم بها تلك الاتجاهات، وعلى نحو يخدم رؤيته الفنية هو، لا على نحو تابع لاتجاه فني بعينه.

على سبيل المثال، يأخذ من الواقعية النقدية فكرة وجود طبقة خفية غير ظاهرة تحت طبقة الواقع الإمبريقي المحسوس والمباشر؛ أي فكرة "نمط إنتاج الفلاحين"، أو"نمط الثقافة النهرية"، أو "نمط الإنتاج الآسيوي" إن شئت، والذي يميز الثقافة العامة المصرية، والمحبط بطبيعته لأية ثورة. هناك خصيصتان أساسيتان تميزان نمط إنتاج الفلاحين؛ الأولى هي اعتماد الفلاحين بشكل كامل على سلطة مركزية قوية تقوم بتوزيع المياه على الجميع. والثانية هي انعزال مصالح الفلاحين عن بعضها البعض مكتفية فردياً بذاتها، على عكس عمال المصانع الذين تجبرهم طبيعة العمل الصناعي المترابطة والمعتمدة في أجزائها على بعضها البعض على التضامن. بل ربما كان من مصلحة الفلاح أن يتضرر محصول جيرانه حتى يحقق محصوله هو أكبر ربح ممكن. نمط إنتاج الفلاحين ظاهر في النتيجة الحتمية التي يصل إليها فيلم (الأرض). بل ونلمس تفهماً من صانع الفيلم لمأزق الشيخ حسونة ومحمد أفندي اللذين باعا القضية من أجل المصلحة الخاصة لأرضهم. الأهم هو تفهم الفلاحين أنفسهم في الفيلم لتلك الحقيقة وعدم إدانتهم للنخبة التي باعت.

إذن الطبقة الخفية غير الظاهرة تلك هي التي تشكل آلياتها التأثير الأكبر على دوافع سلوك وخيانة الشيخ حسونة ومحمد أفندي، وليس مجرد أنانية فردية نابعة فقط من نفس ضعيفة ُتغلب الخاص على العام. الشر الأكبر هنا هو هيكلي بنيوي، والشرور الفردية هي استجابة طبيعية وإنسانية له، ويتفهم الفلاحون في القرية، وعلى رأسهم محمد أبو سويلم وعبد الهادي، موقف الشيخ حسونة، برغم حزنهم. يقول عبد الهادي في نهاية الفيلم رداً على تساؤل لعلوان (الذي هو من خارج "طبقة" الفلاحين):

- علوان: إزاي الشيخ حسونة يعمل العملة المهببة دي؟!

- عبد الهادي: إنت ماتقدرش تفهم اللى عمله الشيخ حسونة يا علوان، إنت ماعندكش أرض.

في نفس الوقت يتجاهل يوسف شاهين شطحات الواقعية النقدية التي تذهب إلى المغالاة بالقول بإنه لا توجد حقيقة موضوعية وإنما هي مجرد تصورات عقلية بحتة تحاول عقولنا من خلالها إضفاء طابع النظام على اللامنتظم، وإن هناك تفسيرات لانهائية لكل سلوك إنساني تبدأ من التفسيرات المادية الملموسة وتصل إلى التفسير بالتفاعلات الكيميائية والعصبية التي تحدث داخل جسم الإنسان.

من الواقعية الطبيعية يأخذ يوسف شاهين في (الأرض) الجنس كأحد محركات السلوك الإنساني، دون شطحات الطبيعيين باعتباره المحرك الأساسي والوحيد. ويهمل أيضاً غرامهم الدائم بعقدتي فرويد؛ "أوديب" (اشتهاء الولد لأمه)، و"إلكترا" (اشتهاء البنت لأبيها). يأخذ أيضاً من الطبيعيين الواقعية في اللغة والحوار، دون التدني إلى غرامهم بفاحش القول وبذيئه.

ومن الواقعية الاشتراكية يأخذ الوعي بالصراع الطبقي وتناقض المصالح بين الفلاحين وبين الرأسمالية والبرجوازية، وضرورة كشف جرائم الأخيرة. ويأخذ منها أيضاً الاهتمام بفكرة إبراز النموذج البطولي للفرد من أجل الإبقاء على الأمل والتفاؤل في نفوس المشاهدين. ويأخذ كذلك من الواقعية الاشتراكية سهولة الأسلوب الفني ووضوحه في عرض القضية على نحو تفهمه كافة قطاعات الجماهير.

لكن يوسف شاهين لا يطبق مبادئ الواقعية الاشتراكية تماماً كما نعرفها، وكما أوصى بها "اتحاد الكتاب السوفييت" الذي تأسس في عام 1934، وطبعت منذ ذلك الوقت خصائص ما سُمي بـ "الفن البروليتاري." إن يوسف شاهين في (الأرض) يبدو كمن انحاز إلى فريق ليون تروتسكي في الجدل الذي ثار بينه وبين فريق جوزف ستالين. كان فريق ستالين من الفنانين والكتاب يصر على القطيعة التامة مع الفن البرجوازي، بينما كان فريق تروتسكي يحاجج بأنه لابد وأن يستوعب الفنان الاشتراكي كل دروس وإنجازات الفن البرجوازي قبل المضي إلى الأمام. انتصر طبعاً فريق ستالين بإعلان قيام "اتحاد الكتاب السوفييت." إن يوسف شاهين يعتني كثيراً بالصورة السينمائية في (الأرض)، وبالكادرات، وبأداء الممثلين، وبتقنية ومعدات التصوير ذاتها، على نحو نشعر معه بالصلة الواضحة مع منجزات الفن السينمائي الأمريكي في أرقى صوره وحالاته.

الأسلوب الفني في (المومياء)
أما الأسلوب السينمائي في (المومياء) فهو نقيضه في (الأرض). يمكن أن نطلق على أسلوب شادي عبد السلام في (المومياء): "المثالية" أو "الكمالية." المثالية طبعاً هي نقيض الواقعية بكل اتجاهاتها كما تقدم. لكن مثالية أو كمالية شادي ليست ابنة التراث اليوناني-الروماني في الفن، ولا الكلاسيكية، ولا حتى القوطية الأوروبية. إنها "المثالية الفرعونية".

فعلى خلاف أسس الفن اليوناني-الروماني الذي كان فناً إدراكياً وتعبيرياً، كان الفن المصري القديم فناً مفاهيمياً ومثالياً. الفن الإدراكي التعبيري يتميز بأساليب فنية تعتمد المنظور الواحد بهدف خلق أبعاد ثلاثية متوهمة، بحيث يعرض الفنان الموضوع من وجهة نظره هو وكما يراه. الفن المفاهيمي المثالي على العكس، يسعى لتصوير الموضوع من وجهة نظر الموضوع نفسه، وليس من وجهة نظر الفنان. لذلك يهتم الفن الفرعوني بنقل كل المعلومات الممكنة عن الموضوع إلى المشاهد من ناحية، ويهتم أيضاً وفي الأساس بأن يعرض الموضوع في شكله المثالي، أي الشكل الذي يتوق الإنسان نفسه، أو حتى الحيوان أو الجماد، إلى أن يبعث على صورته.

بالنسبة للشق الأول؛ أي نقل كل المعلومات الممكنة عن الموضوع إلى المشاهد، يجمع الفنان المصري القديم في سبيل تحقيق ذلك بين المسقطين الأفقي والرأسي فيظهرهما معاً في نفس اللوحة. بإمكانك أن تلاحظ في (المومياء) حرص شادي على تطبيق نفس القاعدة في بعض اللقطات التي أخذها من المساقط الرأسية (أو ما يُسمى في السينما بلقطة "عين الطائر".) قد يفسر البعض المسقط الرأسي لهذه اللقطات تفسيراً سينمائياً كلاسيكياً برغبة صانع الفيلم في إظهار ضعف وضآلة واغتراب الشخصية المصورة، لذلك يصورها من أعلى بلقطة "عين الطائر"، لكننا نراه التزاماً فنياً من شادي بالأسلوب المصري القديم في الفن والتصوير، وإن كان هذا لا ينفي ذاك.

بالنسبة للشق الثاني؛ أي قاعدة أن يصور الفنان الشخصيات في أكمل صورة، فنرى أقوى تطبيق لها في (المومياء) في طريقة تصوير جميع شخصيات الفيلم. إن المشاهد للفيلم لأول مرة، وإذا حاول أن يلغي الصوت ويتفرج فقط على الصورة، من المستحيل عليه أن يخمن أن (المومياء) هو فيلم عن لصوص آثار وعصابة تسرق المقابر، فجميع أفراد قبيلة الحربات يظهرون في أكمل وأبهى وأفخم صورة، وهي الصورة التي يتمنى كل منهم في ذهنه أن يكون عليها، أو أن يبعث عليها وفقاً للاهوت الفرعوني. حتى إن اللص الحقيقي في الفيلم؛ أي التاجر أيوب، يعرضه لنا شادي في أفخم صورة ممكنة، برغم أنه يعلم قيمة التوابيت وما تحويه، وليس جاهلاً كقبيلة الحربات؛ أي أنه الشرير الحقيقي في الفيلم. إن شادي هنا لا يستخدم مطلقاً الأسلوب التعبيري في الحط من شأن شخصيات الجهلة واللصوص والأشرار، بل يلتزم بالفن الفرعوني في عرض صورة الشخص كما يتمنى هو نفسه أن يكون عليها، حتى إن علامات الضعف أو كبر السن لا تظهر على شيخي القبيلة المسنين، بل نراهما في كامل الصحة والقوة والعنفوان؛ منتصبي القامة، يتسلقان الجبل مثل الشباب، حتى إن العصى في أيديهما هي دليل على القوة والمكانة، لا على الضعف والعجز.

تأكيداً لهذا الالتزام بقواعد الفن المصري القديم، دعنا نضرب مثلاً آخر؛ شكل البيوت في قبيلة الحربات. ويحق لنا أن نعتبرها امتداداً لبيوت المصري القديم من عامة الشعب، لأننا نلمح كتابات هيروغليفية بوضوح على بعض حجارتها، والتي قد تكون من آثار فرعونية جرى إعادة استعمالها في بناء بيوت القبيلة.

قرى الناس العاديين في مصر الفرعونية كانت عبارة عن تجمعات عنقودية شبكية بسيطة من المساكن، دون أسوار دفاعية، وتأخذ القرية الشكل الدائري أو البيضاوي، وتتكون من منازل مستطيلة الشكل، حادة الزوايا، من الطوب اللبن أو الحجارة أو الصخور (بحسب ما هو متوفر في البيئة المحيطة، وفي حالة قبيلة الحربات البيوت مبنية من الحجارة)، وتحيط بتلك المنازل شوارع وأزقة ترابية ضيقة. كان المنزل في الداخل يتكون من مدخل للبيت، ينتهي إلى حجرة استقبال، خلفها عدد من الغرف الخاصة لحمايتها من عيون وآذان الضيوف. كانت منازل العامة من المصريين القدماء في العموم أقل جمالاً ومثالية بشكل صارخ عن المباني الملكية والحكومية والمعابد الدينية المهيبة والمقابر. هذا الشكل من القرى والبيوت مطبق بشكل صارم على منازل قرية الحربات.

حتى إن بساطة وتقشف البيوت من الداخل، والذي يظهر جلياً في قاعة استقبال بيت سليم زعيم القبيلة المتوفى، هو عينه بساطة وتقشف بيت المصري القديم من الداخل. إننا نعلم أن معظم الأنشطة الحيوية للمصري القديم كانت تتم خارج البيت، لا داخله؛ في الشوارع، وأمام البيت، وعلى جانبيه، وعلى أسطح المنازل، بل إن تناول الطعام ذاته كان يتم خارج البيت لا داخله. كان الفضاء العام بالنسبة لعامة الشعب في مصر القديمة أكثر أهمية بكثير من الفضاء الخاص، والذي خصص فقط للنوم وتخزين الطعام والجعة. هذا هو سبب التقشف الشديد لديكورات بيوت أهالي الحربات من الداخل، ولا يستثنى بيت كبيرهم، لدرجة اقتصار قاعة الاستقبال على كرسيين من الخشب وفراء وحيد لماشية.

من مظاهر التزام شادي في (المومياء) بقواعد الفن المصري القديم أيضاً، حرصه على تطبيق قاعدة مهمة في الفيلم؛ ألا وهي قاعدة "عدم الحجب." لا توجد شخصية تحجب الأخرى في الصورة. حتى إن مشاهد المجاميع في الفيلم؛ مثل مشهد دفن سليم، أو مشهد نقل التوابيت، أو مشهد خروج نساء قبيلة الحربات لوداع التوابيت، حرص شادي على أن تظهر المجاميع فيها كفرادى كلٌ ظاهر بذاته لا يحجب أحدهم الآخر، بالرغم من الصعوبة العملية الكبيرة في تنفيذ ذلك أثناء التصوير وحركة المجاميع.

كان الفنان المصري القديم يحرص حرصاً دينياً على ألا تحجب شخصية شخصية أخرى في الرسم. كل شخص له احترامه وتوقيره وأهميته، ويجب أن يظهر بكامل تفاصيل وجهه وملابسه وإكسسواراته. حتى وإن كان في خلفية الرسم ويقف خلف من هو في مقدمة الصورة. ومن أجل ذلك اخترع الفنان المصري أسلوباً مغايراً لأسلوب المنظور في الفن الغربي، فهو لا يرسم الشخص أو الشيء البعيد في الخلفية وعلى نحو أصغر، ولكن يرسمه في نفس حجم الشخص الذي في مقدمة الصورة، مع وضعه أعلى منه في الرسم، دلالة على أن هذا يقف خلف ذاك. بهذه الطريقة أتيح للمشاهد أن يرى كل تفاصيل وألوان وجه وجسد وملابس الشخص الذي يقف في الخلفية، لا كالفن الكلاسيكي الذي يكتفي برسمه في الخلف على نحو صغير فقير في التفاصيل، أو على نحو يحجب فيه من في المقدمة جزءًا من جسد من في الخلفية. إن شادي يحافظ على مبدأ عدم الحجب، والذي يتضمن بداخله مبدأ آخر هو إعطاء نفس الأهمية في التصوير لجميع الشخصيات والأشياء في الصورة.

وهناك قواعد أخرى كثيرة للفن الفرعوني المثالي مطبقة في (المومياء)؛ مثل إعطاء أهمية كبرى للقطات البروفيل (تصوير الوجه الإنساني من الجانب) وهو ما كان ينتهجه الفنان المصري القديم للتعبير عن الملامح بصورة أقوى. أو تصوير الأعين مفتوحة وناظرة للأمام. أو تصوير اليد البشرية بشكل تظهر معه كل الأصابع. أو تصوير الرجل الذي يقف بجوار المرأة بحيث يكون هو أكبر منها. أو تصوير الرجل بحيث يقف إلى يسار المشاهد ومتجهاً ببصره إلى اليمين حيث تقف المرأة؛ أي يكون الرجل في الموقع الأقوى والمسيطر في تكوينات الصورة، اللهم إلا إذا كانت المرأة أعلى منه شأناً، وأحد الأمثلة على ذلك هو مشهد اجتماع زوجة سليم بأخويه وبإبنها في حجرة الاستقبال: تكون هي أولاً جالسة إلى يسارهما (يمين المشاهد)، بينما يقف الإبن إلى يسارها (يمين المشاهد)، حتى يغادرا المنزل وتنفرد بابنها، فيتيح لها شادي حرية الحركة لتصبح إلى يمين الإبن (يسار المشاهد.) وغير ذلك من القواعد الفنية الفرعونية المطبقة في (المومياء) والتي تحتاج إلى تفصيل أكثر إيفاءً.

إن شادي لم يكن يذهب إلى أي مكان دون أن يعود إلى الفن الفرعوني، والذي، وعلى خلاف الفن الغربي الكلاسيكي الذي يعتني بالأبعاد الجمالية من أجل المتعة البصرية أو الإشادة بالمهارة الفنية للفنان، كان دافعه أن يؤدي دوراً أشبه بالحقيقة. فالفن الفرعوني المثالي لم يكن يثمَّن بسبب جماله المطلق، لأنه يتجاوز وظيفة الزخرفة والتجميل، وحتى وظيفة التعبير، إلى الوظيفة "الإحلالية" التي يحل فيها الفن مكان الحقيقة. استجابة لتلك الفلسفة الفنية المصرية القديمة يحق لنا القول بإن شادي في (المومياء) لم يكن همه الأكبر هو الجماليات البصرية بقدر ما كان فكرة وقيمة الإحياء؛ إحياء المضمون وإحياء الشكل معاً.

-----
** النسخة القصيرة.



#محمد_الفقي (هاشتاغ)       Mohamed_Elfeki#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- The Wire لماذا (الشَرَك) هو مسلسل عظيم؟
- نتفليكس وأخواتها
- عادل إمام.. فنان الشعب
- سينما روي آندرشون*
- وحيد حامد التنويري
- تسليع البطولة في مسلسل (الفتيان)
- بيلي وايلدر.. الإنسان والقناع
- الفصل الأول من رواية الخرتية
- الطفيلي في النيولبرالية
- نأسف للإزعاج
- ديفيد لنش.. البحث عن الذات
- عضو الكوكلوكس كلان الأسود
- ياسوجيرو أوزو.. فن التثبيت
- قواعد اللعبة
- مايكل أنجلو أنطونيوني.. ظاهريات الغياب
- هتشكوك.. الإنسان بوصفه طريدة
- نموذج للسخافة الهوليودية في عصر النيولبرالية
- عن اللوحة الاستهلالية لفيلم المومياء
- البطل الهوليودي في عصر النيولبرالية
- تشارلي .. فسيولوجيا الإنسان الأول


المزيد.....




- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الفقي - الأسلوب الفني في (المومياء) و(الأرض)