|
البحث عن البيزنس في جزيرة أفروديت 3
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1695 - 2006 / 10 / 6 - 10:22
المحور:
الادارة و الاقتصاد
عندما تتمكن جزيرة صغيرة، لا يزيد إجمالي عدد سكانها عن 840 ألف نسمة، أن تجتذب سياحا يزيد عددهم علي ثلاثة أضعاف عدد السكان (2.6 مليون سائح). وعندما تتمكن هذه الجزيرة من ان تحتل مرتبة متقدمة في قائمة التنمية البشرية التي تصدرها الأمم المتحدة وتضعها في خانة الدول مرتفعة الدخل. وعندما تتمكن هذه الجزيرة من ان ترتفع بمتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي الي 19 ألف يورو في السنة. وعندما تتمكن هذه الجزيرة من ان تفعل ذلك كله ليس فقط رغم ضآلة عدد سكانها، وصغر حجم سوقها، وانما ايضا رغم خضوعها لأزمة سياسية لا يستهان بها من جراء احتلال 37% من مساحتها منذ عام 1974 حتي الان، وما يترتب علي هذا الاحتلال المصاحب لانقسام سكان الجزيرة طائفيا بين قبارصة يونانيين وقبارصة أتراك.. فلابد ان هناك سرا كامنا خلف هذه النجاحات الاقتصادية الاستثنائية. فما هو سر قبرص، تلك الجزيرة التي تقول الأسطورة الشائعة والسائدة انها مسقط رأس إلهة الحب والجمال ذائعة الصيت أفروديت؟ حاولت الامساك بالخيوط التي يمكن ان تؤدي الي الاجابة عن هذا السؤال خلال رحلة خاطفة الي قبرص هذا الاسبوع قابلت خلالها وزير التجارة والصناعة والسياحة انطونيس ميخاليديس، ومدير التجارة بالوزارة اندرياس سوفوكليس، والمدير العام لاتحاد البنوك التجارية القبرصية الدكتور ميخائيل كماس، ومدير التسويق بهيئة السياحة القبرصية خرستوس موستراس، والمسئولة عن قطاع الاستثمار الاجنبي في وزارة التجارة السيدة نيللي كوليا، ومدير الطاقة بالوزارة صولون كاسينيس، والمدير العام المساعد لاتحاد الصناعات وارباب العمل اندرياس كريستو فيديس، والامين العام لغرفة التجارة والصناعة القبرصية بنايوتيس لويزيدس، ورئيس رابطة البيزنس المصرية القبرصية اندرياس كريستوفيديس. ومن خلال آلاف الارقام وآلاف التفاصيل التي انتجتها ساعات متصلة من الحوار مع هذه الشخصيات الحكومية وغير الحكومية.. وتأمل تفاصيل الحياة اليومية للناس العاديين مثلي ومثلك.. وجدت ان بداية الخيط هي نفسها الموجودة في معظم التجارب الناجحة في سائر قارات الدنيا. هذه البداية تتمثل باختصار في التعليم. بحيث نستطيع ان نقول »اعطني تعليما جيدا أعطيك اقتصادا متقدما«. وبهذا الصدد نجد ان قبرص - تلك الدولة الصغيرة سوقاً وسكاناً - تحتل مكانها بين اوائل بلدان العالم من حيث عدد الحائزين علي شهادات جامعية بالنسبة الي عدد السكان، وتوضح الارقام بهذا الصدد ان 70% من خريجي التعليم الثانوي يواصلون تعليمهم الجامعي ونصف خريجي المدارس الثانوية يتلقون دراستهم الجامعية خارج البلاد، وبالذات في اليونان (53%) وانجلترا (23%) والولايات المتحدة الامريكية (14%). اما الجامعة القبرصة فتقبل صفوة خريجي المدارس الثانوية ومستوي التعليم بها محترم جدا. هذه النوعية من التعليم الجامعي وما قبل الجامعي هي الاساس في هذه النقلة الكبيرة التي حققتها قبرص رغم التحديات الكثيرة التي تواجهها محليا وإقليميا. وهي نفس الحقيقة التي »اكتشفناها« من قبل في المعجزة الآسيوية بماليزيا وغيرها من »النمور« التي بح صوتنا في التشديد عليها من اجل اصلاح نظام تعليمنا المنهار. العامل الثاني وراء التجربة القبرصية هو الديمقراطية.. فبعد سنوات من النضال من اجل التحرر الوطني الذي تم تكليله بالحصول علي الاستقلال عام 1960، وبعد اضطرابات كثيرة، سياسية وطائفية وعرقية في بلد تتنازعه الثقافة اليونانية والثقافة التركية، استطاعت الجمهورية القبرصية ان تخطو بثبات نحو نظام ديمقراطي واضح الملامح وراسخ الدعائم يضمن تداولا سلسا للسلطة، ويضمن قدرا عاليا من الشفافية، ويتيح للمدن والقري ادارة بلدية منتخبة تمثل القاعدة العريضة والجماهيرية لهذا البناء الديمقراطي. وبعيدا عن الكلام النظري والشعارات العمومية.. شعرت بحضور هذه الديمقراطية من خلال مشاهدات تبدو تافهة، وليس فقط من خلال المظاهر الاساسية لنظام الحكم. من هذه المشاهدات انني بعد المقابلات الرسمية دعاني احد المثقفين اليساريين علي العشاء في نادي الحزب التقدمي للشعب العامل »أكيل«. وبينما كنا نتجاذب اطراف الحديث في دردشة ودية علي العشاء جاءته مكالمة علي تليفونه المحمول، فسألني عما اذا كنت امانع ان ينضم الينا وزير الداخلية؟! قلت له: وهل يحضر وزير الداخلية الي هذا النادي المتواضع لذلك الحزب التقدمي اليساري؟! فأجابني ببساطة لا تخلو من الدهشة: ولماذا لا.. انه صديقي الشخصي.. فضلا عن انه ابن الحزب، وقد احتل منصبه كوزير للداخلية بناء علي خلفيته السياسية واستنادا الي النتيجة التي احرزها الحزب في الانتخابات البرلمانية الاخيرة؟! تصورت ان المكان ستتم محاصرته بقوات الامن المركزي بمناسبة حضور الوزير، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، حيث وصل الرجل في سيارة عادية جدا، ربما تويوتا يابانية، ومع سائق فقط لاغير.. بدون حراسة او سيارات مقدمة او مؤخرة.. وببساطة اشد وجدت الوزير يصافح »المواطنين« الجالسين في النادي لتناول العشاء ويتبادل معهم الكلمات والقفشات قبل ان يصل الي المائدة التي نجلس اليها.. وصافحني بحرارة وقدم نفسه الي شخصي الضعيف قائلا: انا نيكولاس سيليكيوتيس وزير الداخلية وعضو اللجنة المركزية للحزب التقدمي للشعب العامل.. وظللنا نأكل ونشرب ونتحدث في كل شيء حتي الثانية صباحا، ولدي انصرافنا تطوعت »اليني مافرو« عضو البرلمان والمرشحة في السباق الانتخابي علي منصب عمدة العاصمة نيقوسيا (أو ليفقوسيا كما يسمونها أيضا) بتوصيل وزير الداخلية الذي كان قد طلب من سائقه الانصراف. هذا الجو.. وهذه التفاصيل البسيطة التي تبدو تافهة.. ليست تافهة في نظري، وإنما هي مؤشر قوي علي ان ماكينة الديمقراطية تعمل بالفعل، وليس بالقول فقط، وان عملها بهذه البساطة هو احد عوامل النجاح الواضح للتجربة القبرصية. الامر الثالث هو الثقافة العامة في المجتمع.. فرغم الانقسام الطائفي بين قبارصة يونانيين وقبارصة اتراك، ومنطقة عازلة بين الجانبين، واحتلال تركي للشمال، وقوات حفظ سلام ثابتة للامم المتحدة تفصل بين الجانبين.. فانني لمست ان الثقافة السائدة، التي تشكل احد اهم محددات سلوك الافراد هنا وهناك، تدور عجلتها عكس اتجاه هذا التقسيم السياسي المفروض، فهي ليست ثقافة كراهية بأي حال من الأحوال. وعلي سبيل المثال فان احد اصدقائي »وهو من القبارصة اليونانيين« اخذني الي الحاجز الامني الذي يقسم نيقوسيا »بالضبط مثل حائط برلين من قبل« وهناك كان ينتظرنا احد اصدقائه من القبارصة الاتراك الذي اخذ منا جوازات السفر وحصل لنا علي تأشيرة دخول الي ما يسمي بـ»الجمهورية التركية لقبرص الشمالية«، التي هي الجانب الذي تحتله القوات التركية ويقطنه القبارصة الاتراك. وتصورت اني سأدخل الي منطقة معادية ومختلفة لكن ما رأيته كان مذهلا. فنحن في رمضان وتخيلت ان الامر سيكون مختلفا عن الجانب الاخر.. لكنني فوجئت بان المطاعم والبارات مفتوحة نهارا وعامرة بالرواد.. وعندما اتجهت الي مسجد (SELIMYE) الموجود في الجانب التركي من نيقوسيا »والتي تسمي بالتركية ليفقوشا« وجدت اللافتة التي تحمل اسم المسجد مكتوبا عليها بين قوسين تحت اسم المسجد عبارة تقول »كاتدرائية سانت صوفيا« اي ان هذا المسجد كان كاتدرائية تم تحويلها الي جامع، بالضبط مثلما حدث بالعكس في اماكن اخري حيث تم تحويل مساجد الي كنائس. لكن الجامع الفسيح جدا لم يكن به اثناء صلاة المغرب سوي عدد من المصلين لا يزيد علي اصابع اليد الواحدة! المهم.. اننا واصلنا سفرنا الي مدينة كاريليا الفائقة الجمال المطلة علي البحر وهناك انضم الينا اصدقاء مشتركون للصديقين الاول والثاني.. ودار حوار بالغ الود والعمق والتحضر بين الجميع طوال اربع ساعات قضيناها في هذه البلدة البديعة. وعندما سألتهم في دهشة واستغراب: لماذا إذن هذه التقسيمات العرقية مادام الناس العاديون مشبعين بثقافة التسامح والمودة وتربطهم وشائج حميمة اكثر مما يفرقهم؟! ضحكوا من السؤال واضافوا قائلين: ان العمال من الشمال يتجهون يوميا في الصباح الي العمل في الجنوب ويعودون في المساء، وربات البيوت من الجنوب يقمن بالتسوق في الشمال الارخص اسعارا ويعدن بعد القيام بشراء احتياجاتهن. ولكن المشكلة لها اطراف خارجية.. كما ان بعض عناصر الطبقة السياسية المحلية مستفيدة من استمرار التقسيم.. بيد أن هذا لايمنع العقلاء من الجانبين من استمرار البحث عن حل، والي ان يحدث ذلك فان ثقافة التسامح والمودة والانتصار لحب الحياة تضمن استمرار العيش بأقل قدر من المنغصات.. وهكذا يتطور الاقتصاد وتتحسن احوال العباد. وللحديث بقية
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قواعد اللعبة
-
لماذا يتلذذ البعض بالدعوة لتكميم الأفواه؟!
-
الفنقلة!
-
الجماهير .. احدث صواريخ حزب الله
-
رجال الأعمال .. وأرباب السياسة
-
صاحبة الجلالة تستعيد تاجها الضائع
-
الانتماء والمواطنة:كلام جاد بعيداً عن الشعارات المستهلكة (2)
-
الإعلام جزء من المشكلة.. والحل
-
البقية في حياتكم!
-
سخافات بوش
-
الصحافة ليست قلة أدب .. وحملة الأقلام ليسوا شتامين
-
الانتماء والمواطنة: كلام جاد بعيداً عن الشعارات المستهلكة
-
»صاحبة الجلالة« حافية علي جسر من الذهب
-
مأساة -المواطن- أمجد حسين
-
رشيد يعيد الاعتبار لآليات رأسمالية القرن التاسع عشر!
-
هل ندافع عن لصوص الرغيف .. بسبب الدعم؟!
-
ماذا أنت فاعل يا وزير الثقافة؟
-
هل جامعات مصر عضو غريب في جسم يرفضه؟!
-
الفساد .. وسنينه 6
-
الفساد .. وسنينه 7
المزيد.....
-
إحداها عربية.. تصنيف للمدن من حيث كثافة المليارديرات بين سكا
...
-
بيتكوين ترتفع إلى أعلى مستوى على الإطلاق قرب 98 ألف دولار مد
...
-
صعود أسعار النفط مع استمرار التوترات الجيوسياسية
-
دبي تنتج أكبر سبيكة ذهبية في التاريخ (فيديو)
-
مؤتمر -كوب 29-: أنشطة سوكار للطاقة...بين المصالح الاقتصادية
...
-
إسراكارد تحت ضغط التضخم وخسائر القروض المتعثرة تفوق 33%
-
إسرائيل تفرض عقوبات اقتصادية متعلقة بتمويل حزب الله اللبناني
...
-
-أفتوفاز- الروسية المالكة لعلامة -لادا- تحدد هدفا طموحا للعا
...
-
أرباح -لولو للتجزئة- ترتفع 126% في الربع الثالث
-
سعر الذهب اليوم الخميس 21-11-2024.. اشتري شبكتك دلوقتي
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|