قالت لي أمي لا تشرب القهوة

حنضوري حميد
كاتب وباحث في التاريخ
(Hamid Handouri)

الحوار المتمدن-العدد: 7408 - 2022 / 10 / 21 - 00:47
المحور: سيرة ذاتية
    

لم أعرف متى و كيف ولماذا؟ لكن شاء القدر أن ألد في رحم المعناة، لم أبلغ من العمر العشرين؛ حتى رحلت أمي وتركتني، لم تقل لي شيئا لكنها غادرت إلى دار الصمت الأبدي، لن تعود بعد اليوم، ولن أرها بعد هذه اللحظة، غادرت لتسكن حفرة مظلمة، استسلمت لأمر ربها وفاضت روحها عن غير عادة، غادرت وسكنت ثغر موحش لا صديق فيه، سكنت بغير موعد، ليكون الأرض فراشها واللحد غطائها، والكفن لباسها والدود مؤنسها. رحلت عنّي أمي سريعاً وكأن "حكاية رحيلها كانت حلما، والوداع كان وهماً، لم أصدّق هذا الحدث ولم أتقبل الفراق... جرح الوداع لا زال مفتوحا، ولهذا لا تحسبوا أن الفراق هيّن... لكن اطمئني يا أمي نحن بموتك مصدقون، ونحن على فقدان إن شاء الله صابرون ومحتسبون.
لم يكن سهلا على ما مرّ على أمي من حياة قاسية وظروف صعبة، كانت ضحية الأسرة وفريسة لمجتمع لا يرحم، لم أعمل بيدي شيئا حتى أعيش هذه القسوة مثل أمي، لكن شاء القدر أن يعيد التاريخ نفسه، فجاء دوري وهذا قدري دائما. غادرت أمي وغادر الحنان والصبر، والعطف، والصدق... وغادر حضنها الدافئ، لمن أقول أمي ولمن أشكي همي و من يخفف أوجاعي، الصمت بداخلي يوجعني، والشوق إليك يرهقني، فأملي قد انقطع ودم من عروقي قد انتحر.
أوصتني أمي قبل الممات أن أدرس جيدا وألا أشرب القهوة السوداء،كانت تخاف عني أموت بفقر الدم، وأغادرها قبل الوقت، وعدنا بعضا أن نبقى على نفس الدرب نسير، ونكون سندا لبعضنا البعض، نتعاون عن المصاعب والمتاعب، ونبقى جنبا إلى جنب، وعدتني أمي ألا تتركني بدون سبب لكن خذلتني، لم يكن بودّها هذا لكن فعلت، الأمر أقوى منها واستسلمت، مناعتي لم تتحمل الفراق، فقدان أمي أعدم ابتسامتي وأقبر أملي، وأذهب الطعم لحياتي، تغيرت حياتي إلى خريف بعد أن كانت ربيعا، لا حياة بيضاء ولا نعيما ولا أمل ولا تفاءلا، كل الزهور احترقت ورجعت أشواك بعد أن ضاعت أمي. تذوقت طعم اليتم ومرارة الحياة، لا جحيم ولا صدمة أكثر من هذه، شعور مأساوي عذاب وجحيم، شعور يعاش ولا يوصف، من سوء حظي وقدري رحلت قبل أن أكبر، قبل أن تنضج أفكاري ويتضح أفقي، رحلت ولم تقل لي سوى وصيتن أن أدرس جيدا و ألا أشرب القهوة. أمي تعي أن الدراسة هي سبيل الرشد والارتقاء وأن القهوة مضرّة لضعفاء جسديا مثلي. سلاما على عينك النائمة، سلاما على جسمك النحيف المختبئ في بطن الأرض وسلاما على شوقي وحنيني المستمر إليك. فلا تخف عني يا أمي فسوف أدرس جيداً ولن أشرب القهوة أبدا.

#حنضوري_حميد (هاشتاغ)       Hamid_Handouri#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات