|
بدائل الوضعية (1)
مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)
الحوار المتمدن-العدد: 7394 - 2022 / 10 / 7 - 14:01
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المؤلّف: ايغور زينوفييفيتش ناليتوف*
ترجمة مالك أبوعليا
المُقدّمة أثبتت الثورة العلمية التكنيكية التي بدأت في منتصف القرن العشرين أنها محك احتبار جاد ليس فقط للعديد من النظريات، ولكن أيضاً لعددٍ من الأفكار والمفاهيم والاتجاهات الفلسفية الرئيسية. لقد أثرت، أولاً، وقبل كل شيء، على تلك المدارس الفلسفية التي كانت، أو يُزعَم أنها كانت مُرتبطة بالعلوم الطبيعية. أدى الطابع العالمي للعديد من المُشكلات العلمية، ومستوى التجريدات النظرية العالي، ونطاق التعميمات الواسع، والتمايز العميق وتكامل المعرفة العلمية التي عززتها الثورة العلمية التكنيكية، الى زيادة اهتمام العلماء التقدميين بالجوانب الأخلاقية والانسانية لهذه البحث، وشَحَذَ شعورهم بالمسؤولية الاجتماعية عن مصائر البشرية. أدى تسارع التقدم العلمي التكنيكي الى تكثيف اهتمامهم الطبيعي بأحدث مُنجزات الفكر الفلسفي وأكّدَ على الحاجة الى نظرية فلسفية علمية حقيقية من شأنها أن تجعل من المُمكن فهم المُشكلات العلمية الملموسة في سياق نظري ومنهجي واجتماعي واسع، وتقديم مُفتاح حل لأهم قضايا عصرنا. لذلك، ليس من قبيل الصُدفة أن من بين جميع الاتجاهات الفلسفية الرئيسية والمدارس التي كانت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلم الى حدٍ ما وتُمثله بشكلٍ أو بآخر هي أول ما اجتاز العاصفة. ولا عَجَب في أن الوضعية والمادية الدياليكتيكية، وهما التعاليم اللتان طالما اعلنتا التزامهما بالعلم، قد أبدتا استعدادهما لتأدية رسالتهما وخدمة مُثلها. فقد اتضح أنهما قُطبان جاذبان لعلماء الطبيعة، بشكلٍ مُتزايد. أيٌّ من المدرستين الفلسفيتين ستكون قادرة على اجتياز بوتقة الزمن وطرح تعاليم موثوقة للفكر الابداعي في عصر الثورة العلمية التكنيكية. يتعهد مؤلف هذا الكتاب بالاجابة على هذا السؤال الحاسم واثبات صحة الاجابة بقدر ما يُمكن انجاز هذه المُهمة ذات الأبعاد الشاسعة في نطاق كتاب واحد. يعتقد العديد من الفلاسفة السوفييت والأجانب، أن الوضعية المُعاصرة، وعلى الرغم من تمسكها المُعلَن بالتفكير العلمي، تمر بأزمة أيديولوجية عميقة بسبب الصدع الواضح والمُتزايد في برنامجها المنهجي ومهام وتوجهات مبادئ العلوم الحديثة الذي تتمسك به. ان طبيعة هذه الأزمة التي شحذتها الثورة العلمية التكنيكية تستحق اهتماماً خاصاً، وتزداد هذه الأزمة بقدر ما يظهر هُناك تناقض صارخ بين النتائج الفعلية لتطور الوضعية وأهدافها المُعلنة، وبين ادعاءاتها الطنانة ومُساهمتها الفعلية في التقدم العلمي. سنُركّز بشكلٍ أساسي، عند الحديث عن الوضعية وأزمتها، على المرحلة الثالثة من هذه الفلسفة المعروفة باسم الوضعية المنطقية، وغالباً ما يُشار اليها باسم التجريبية المنطقية أو الفلسفة التحليلية، وسنقوم بين الحين والآخر بالعودة الى المراحل السابقة من أجل تتبع منابع بعض مفاهيمها الحالية. من المعروف أن الوضعية كإتجاهٍ فلسفي، مُشتقة من التجريبية الراديكالية التي تُعَد واحدةً من ركائز هذه التعاليم بجميع أشكالها. يبدأ العلم، وفقاً لبرنامج الوضعية المنطقية الذي طرحته مدرسة فيينا، بمُلاحظة أوجه التشابه والاختلافات بين الظواهر، أي يبدأ العلم بمُلاحظة الحقائق Facts الفردية. توفر الحقائق الراسخة أساساً للتعميمات التجريبية الأولية، والتي تتحول، بعد مزيدٍ من دراسة ظواهر وأحداث فردية مُنفصلة، الى تعميماتٍ أوسع. لا يُمكن الوصول الى شمولية التصريحات الا على المستوى النظري، وتُعتَبَر هذه الحقائق العالمية بمثابة قوانين تجريبية تُشكل أساس وجوهر كل المعرفة النظرية. وبالتالي، فإن تطور العلم يتشكّل من التوسّع التدريجي للتعميمات التجريبية، والاستنتاجات الاستقرائية هي الأداة الرئيسية لمثل هذا التطور. كَتَبَ رودولف كارناب Rudolf Carnap، أحد قادة الوضعية المنطقية مُعبراً عن مفهوم التجريب empiricism في شكلٍ منطقيٍ موجز: "...يبدأ العلم بمُلاحظات مُباشرة لوقائع مُفردة، ولا شيء آخر يُمكن مُلاحظته. بالتأكيد لا يُمكن مُلاحظة الانتظام بشكلٍ مُباشر، وانما يتم اكتشاف الانتظامات عندم نقوم بمُقارنة العديد من الملاحظات الواحدة بالأُخرى"(1). أظهَرَ التطور السريع للبحوث الأساسية في القرن العشرين عدم صحة الوضعية المنطقية القائمة على التجريبية الراديكالية. في واقع الأمر، فإن تاريخ العلم الحديث بأكمله، بدءاً من تطور نظرية الكم ونظرية النسبية، وانتهاءاً بالسبيرنتيك، هو تفنيد لمبدأ التجريبية. ليس من قبيل الصُدفة أن يرفض مُعظم فلاسفة العلم المُعاصرين اختزال المعرفة النظرية الى معرفة تجريبية. انهم يعتقدون أن المعرفة لا تبدأ المُلاحظات والتجربة الحسية، لأن المُلاحظة دائماً ما تسبقها أو تُصاحبها المفاهيم النظرية. ومع ذلك، لا تزال هذه المُقدمة العامة التي تقول بأن المُلاحظة هي جوهر العلم بعيدة عن النقد باعتبارها جوهر الوضعية. ان العلاقة الفعلية والوحدة بين التجربة والنظرية في الادراك العلمي وتفاعلهما الملموس في تاريخ ومنطق العلم، والانتقال من المستويات الأدنى الى المستويات الأعلى، تتطلب بحثاً تفصيلياً. احدى علامات المأزق الذي تعيشه فلسفة العلم الغربية في أعقاب التقاليد الوضعية، هو التغير الجذري في موقفها تجاه "الميتافيزيقيا". كان للنضال ضد "الميتافيزيقيا" ومحاولات اخراجها من العلم والفلسفة جوانب ايجابية وسلبية. كان الأثر الايجابي للحملة ضد الميتافيزيقيا والتي كانت سمة مُميزة للوضعية المُبكرة كان نضالها ضد الفلسفة التأملية التقليدية، وخاصةً الدينية والمثالية، والتي، أي هذه الأخيرة، أظهرت القليل من الاهتمام بمسائل الادراك العلمي الملموسة والحياة العملية. من ناحيةٍ أُخرى، رفض الوضعيون جميع المسائل العامة والخاصة في الفلسفة باعتبارها "ميتافيزيقية" وغير مُرتبطة بالعلم. شَمِلَت هذه المسائل: الموضوعية، الضرورة، السببية، الجوهر وما الى ذلك. مثل هذه المسائل، وفقاً للوضعيين، والتي تتجاوز حدود التجربة، لا تتوافق مع المبادئ والمعايير الأساسية للتجربة، وبالتالي تم اعلان أنها تأملية ولا معنىً لها وغير علمية، الخ. على عكس النُقّاد ما قبل الوضعيين لما يُسمى بـ"الميتافيزيقيا" والذين لم يكونوا في مواجهة النظرية الفلسفية التي تتناول المسائل التقليدية بشكلٍ أو بآخر، يرفض "الوضعيون "الميتافيزيق" من حيث المبدأ كمنهج ومجال معرفي مُحدد ويُعلنون أن كل هذه المسائل لاعقلانية بطبيعتها. ينظر الوضعيون الى موقفهم السلبي تجاه الفلسفة التقليدية على أنه سمة تُميّز مفهومهم كأحد مبادئه الأساسية. يكتب موريس شليك: "إن رَغِبَ المرء في توصيف وجهة النظر التي تُنكر امكانية الميتافيزيقيا بأنها وضعية، فهذا أمر لا يُمكن الاعتراض عليه تماماً كمُجرّد تعريف، وبهذا المعنى يُمكنني أن أُطلِقَ على نفسي وضعي مُتشدد"(2). طَرَحَت الوضعية المنطقية برنامجاً واسع النطاق من أجل التغلّب على "الميتافيزيقيا"، يوفر إعادة بناء منطقية لصرح العلم بأكمله من أجل توحيد لُغة العلم، وتوضيح بُنيته المنطقية، وتحديد العناصر الأساسية للمعرفة، وإرجاع كل مفاهيم وفرضيات العلوم الأُخرى لهذه العناصر. كان من المُقرر انجاز هذه المهام، وفقاً لمؤيدي النظرية الجديدة، من خلال وسائل المنطق الرياضي. في هذه المرحلة، تم طرح فلسفة العلم على أنها منطق العلم، مُدّعين تشكيل بُنية العلم بمُساعدة المنطق الرياضي. ومع ذلك، فإن كل مُحاولات الوضعية لتُصبح منهجية خالصة محكومٌ عليها بالفشل. لا يُمكن للوضعية في مُحاولة انشاءها لفسلفة العلم الا أن تنطلق من مجموعة من مبادئ فلسفية مُعينة، أي من "ميتافيزيقيا" جديدة للعلم. قدّمَت هذه "الميتافيزيقيا" بمُقدماتها المثالية صورة مشوهة عن العالم حيث تم جعل وجود الشيء مشروطاً بادراكه الحسي الذاتي، وتم تفسير الواقع على أنه مجموع الحقائق الأولية، الخ. تتمثل إحدى أعراض أزمة الوضعية الحالية في أن دُعاة فلسفة العلم قد تخلوا عن مبدأ آخر من تعاليمهم ويتوجهون الى ما يسمونه بالميتافيزيقيا. يتم، على أساس مُنتَظَم الى حدٍ ما، طرح اقتراحات للبدء في تطوير ميتافيزيقيا جديدة. ومع ذلك، مفهوم الميتافيزيقيا واسع للغاية، ويعكس أحياناً اهتماماً ثابتاً بالنظر الى مسائل المادية والدياليكتيك. ان محاولات حل هذه المسائل، رغم كُل بُعدها عن الاتساق، تشهد على بحثهم عن أساس منهجي ونظام قِيَم جديدين. يُدافع الفيلسوف النمساوي-الأمريكي هربرت فايغل Hebert Feigl، على سبيل المثال، عن الوضع العلمي لهذه المسائل "الميتافيزيقية" مثل مسألة العلاقة بين الوعي والدماغ. يعتقد الفيلسوف والفيزيائي الأرجنتيني الأمريكي ماريو بونجي Mario Bunge أن المُهمة الرئيسية لـ"الميتافيزيقيا الجديدة" هي بناء أنطولوجيا علمية. يكتب الفيلسوف الأمريكي ماركس فارتوفسكي Marx W. Wartofsky أن "الميتافيزيقيا تُمثل الطريقة الأكثر عموميةً للتعبير، بشكلٍ نقدي ومنهجي، عن الأُطُر المفاهيمية البديلة التي من خلالها يُصبح الفهم النظري مُمكناً. تكمن قوة الميتافيزيقيا في قُربها من أنماط الفهم والتفسير لدينا (عن طريق السرد القصصي واعادة تمثيل الطبيعة في شكل درامي)(3). مُعترفاً بالدور المنهجي للميتافيزيقي، فَشِلَ فارتوفيسكي في تقديم فكرة واضحة عن مُحتواها. على الرغم من التوجه الواضح نحو مُقاربة أكثر واقعية لبُنية المعرفة العملية ومبادئ ومقولات الفلسفة العامة ودورها في تطور العلم، الا أنه من الواضح أن فلسفة العلم لا تزال وستظل وفيةً لبعض الأساسيات والتقاليد التي أرستها الوضعية الكلاسيكية، مع التركيز على مسائل منطق الادراك العلمي ولغة العلم والمُشكلات الخاصة بمنهجية العلم وفي المقام الأول العلوم الطبيعية. مُبتعدين عن بعض عقائد الوضعية الكلاسيكية، لا يتراجعون عن مزاعهم بتسمية تعاليمهم بـ"فلسفة العلم"، وهكذا، يتحدد مجال اهتماماتهم. سنستخدم مُصطلح "فلسفة العلم" لاحقاً أيضاً بقدر ما يتربط الأمر بالفلسفة الغربية، وخاصةً الانجلو-أمريكية. سنقوم أيضاً بتحديد موقفنا من مُصطلح "الميتافيزيقيا" الذي سيُستخدم كثيراً في النص التالي. على الرغم من أنه يكتسب معنىً ايجابياً في الأدب المُعادي للوضعية كونه مُرادف تقريباً للمشاكل الفلسفية العامة، يجب علينا أن نمتنع عن مُطابقة هاتين الفكرتين، وبالتالي سنستخدم هذا المُصطلح بشكلٍ صارم بالمعنى الذي يعنيه في سياق المذاهب الفلسفية قيد الدراسة: بمعنىً سلبي في الفلسفة الوضعية، وبمعنىً ايجابي في مفاهيم مذهب "الواقعية العلمية"، الخ. ستتم مُعالجة كُلٍ من هذه المذاهب بشكلٍ مُنفصل ولن يجد القارئ صعوبةً في تحديد السياق الذي يُستخدم به ذلك المُصطلح، مما يجعل وضعها بين شارتين غير ضروري. أما فيما يتعلق بالمسائل المنهجية التي ستُناقش في هذا الكتاب، فسوف نسميها كلها فلسفية، ونُميز في كل مرة بين أنواعها الخاصة، مثل المسائل النظرية والفلسفية والمنهجية والأنطولوجية والمعرفية والمنطقيى، وغيرها. يبدو أن أكثر المسائل اثارةً للجدل، في الأدبيات النقدية حول الوضعية، هي تلك المُتعلقة بالعلاقة بين النظرية والتجربة الحسية، والموقف من الميتافيزيقيا وموضوعية المعرفة. على النقيض من ذلك، سنضع مفاهيم السببية والحتمية الى مرتبة ثانويةً وعادةً ما سنُناقشها كمسائل مُنفصلة بالاستقلال عن المسائل الأساسية الأُخرى، على الرغم من أن أبرز دُعاة الوضعية كانوا يُركزون دائماً، في جميع مراحل تطورها، على الاهتمام بالسببية وطبيعة القوانين العلمية والتفسير العلمي. ليس هناك شك في أنه يجب إعادة تقييم وجهات نظرهم حول هذه المسائل بشكلٍ نقدي. الى جانب ذلك، من الواضح أن مسائل السببية والحتمية مُرتبطة بعددٍ من القضايا الابستمولوجية والمنهجية العامة وتتأثر بالتجريبية الراديكالية والاختزالية والمنطق الاستقرائي، الخ، وأن هذا الحل أو ذاك لهذه القضايا العامة-على الرغم من أن هذه الحلول كانت ترفض أو تتهرب بشكلٍ صريح من الميتافيزيقيا، الا أنها لم تستطع ذلك- كان لها تأثير مُباشر على مفاهيم السببية والقانون العلمي. على العكس من ذلك، فإن أي تفسير لمفاهيم السببية والحتمية لا يُمكن الا أن يؤثر على الاستنتاجات العامة لنظرية المعرفة ومنهجية المعرفة الوضعية. وبالمثل، حدد الموقف السلبي تجاه "الميتافيزيقيا" مُسبقاً رفض السببية والحتمية كونها مُشكلاتٍ زائفة. بدوره، كان التفسير الوضعي للسببية مسؤولاً جُزئياً عن موقف الوضعية السلبي بشكلٍ عام والوضعية المنطقية بشكلٍ خاص تجاه المسائل الفلسفية العامة (الميتافيزيقيا). أشار الرياضي والفيلسوف النمساوي فريدريك وايزمان Friedrich Waismann أحد أعمدة الوضعية في مُحاضرةٍ أُلقِيَت في اكسفورد عام 1958، الى عام 1927 باعتباره عام جنازة السببية(4). مُفسراً مُحتوى مُحاضرته التي تحمل عنوان "انحلال وسقوط السببية"، أكّدَ أن انهيار مبدأ السببية لم يكن غير متوقع، لأنه قد أُعِدَّ لذلك خلال فترة طويلة من الاعتراف به. وفقاً لوايزمان، يعود هذا الاعتراف الى القرن الثامن عشر، أي الى المفهوم اللابلاسي للحتمية الذي ألهم العلماء وقدّم لهم وعداً بإمكانية التنبؤ بمواقع جميع الأنظمة المُمكنة في الزمان والمكان، بالاضافة الى إمكانية التنبؤ بحالتها الفيزيائية بدقة ان استطعنا معرفة حالتها الأولية. أصبَحَ لابلاس، في رأي وايزمان، داعيةً لمبدأ الحتمية السببية لذي ساد لأكثر من قرن ونصف، ومثالاً يُحتذى به للتفسير العلمي. على الرغم من كُل قوة العقل البشري، الا أن هذا المثال بعيد المنال حتى في عالم الميكانيكيا الكلاسيكية التي كانت مدينةً للابلاس بشكلٍ كبير. خضعَ هذا الأخير للشكوك بمُجرّد أن وجدَ العلماء أنه من المُستحيل قياس القِيَم المادية بدقة متناهية مثل ما هو مُتضمن في أفكار لابلاس. كلا لا بُدَّ لمفهوم السببية اللابلاسي من الانهيار كما كان الحال بالنسبة لمفهوم لابلاس حول المعرفة العملية. وفقاً لوايزمان، تعرضت السببية لضربة قاتلة نهائية في عام 1927 من قِبَل مبدأ هايزنبرغ Heisenberg في اللايقينية uncertainty والذي قال بعدم امكانية التنبؤ بأحداث على مُستوى الذرّة. لم يتوانى الفلاسفة الغربيون عن مُهاجمة أفكار وايزمان، ولكن حتى في الستينيات لم يقف مُعظم خصومه الا من أجل إعادة اعتبار محدودة لمبدأ السببية. في الآونة الأخيرة، أصبَحَ نقد الآراء الوضعية فيما يتعلق بالسببية والحتمية أكثر وضوحاً وأوسعَ نطاقاً وأكثر تفصيلاً. تميل المفاهيم المُعارضة، على الرغم من عدم اتساقها، الى إعادة بعض الحقوق المنهجية والنظرية لمفهوم السببية. مع ذلك، لا يزال من الصعب تحديد المسار الذي ستتبعه فلسفة العلم في مُعالجة هذه القضايا. ليس هناك شك في أنه يُمكن أن يُنسَب للوضعية المنطقية طرح عدد من المسائل العلمية المُثيرة للاهتمام. ليس أقل وضوحاً المساهمة التي قدّمها مُمثلوها في تطوير منطق الادراك العلمي، والبحث في بعض مسائل اللغة والعلم، وما الى ذلك. ولا يُمكن انكار حقيقة أن هذه المدرسة قد ساعدت العلم في التخلص من التأملات الدوغمائية وغير المُثمرة. نحن لا نُركّز بشكلٍ مُتعمد على الأماكن التي تكون الوضعية المنطقية فيها فقيرة، لأن اهتمامنا لا يكمن بالوضعية بحد ذاتها، بقدر ما يكمن في الدروس التي يُمكن أن نتعلمها من خلال تحليلنا لنقاط ضعفها وأخطاءها ومحدوديتها. ليس تزايد نقد الوضعية هو العرَض الوحيد لأزمتها الحالية. ينبغي أن يولي المرء أهميةً خاصةً لظهور العديد من المفاهيم المنهجية الوضعية للعلم وتطالب بنموذج منهجي جديد. انها في الواقع، تسعى جاهدةً، لتطوير بديل منهجي للوضعية كاملٍ الى حدٍ ما، وطرح برنامج فلسفي يتحدى الوضعية في بعض أو جميع القضايا الرئيسية تقريباً. يُمثّل هذه البرامج البديلة "العقلانية النقدية" (كارل بوبر، ايمري لاكاتوس Imre Lakatos وبول فيريباند Paul Feyerabend )، و"الواقعية العلمية أو (النقدية)" (ويلفريد سيلارز Wilfrid Sellars، جـ. سمارت، ماريو بونج Mario Bunge) و"الاتجاه التاريخي" (توماس كون Tomas Kuhn وجوزيف اغاسي Joseph Agassi وستيفان تولمين Stephen Toulmin) ومدارس أُخرى، ربما أقل تأثيراً، في فلسفة العلوم المُعاصرة في الغرب. ما هو المسار الذي ستتبعه فلسفة العلم، ما هي النظرية الجديدة، إن وُجِدَت، التي من المُحتمل أن تنشأ نتاجاً للأزمة الحالية؟ يجب على المرء، من أجل الاجابة على هذه الأسئلة الحاسمة، أن يكشف، أولاً وقبل كل شيء، العلاقة الحقيقية بين المدارس المذكورة أعلاه والفلسفة الوضعية، أي عُمق الاختلاف بينها والروابط التقليدية والمفاهيمية الموجودة بينها، وقُدرة هذه المدارس على ايجاد حلول للمسائل المنهجية والنظرية المُتعلقة بالعلم المُعاصر ومدى كفاية الحلول المُقترحة من وجهة نظر التقدم العلمي والتكنيكي. لقد نشأت أزمة الوضعية ليس فقط من خلال تناقضات برنامجها الداخلية، ولكن أيضاً بسبب عدم كفاية فهمها لطبيعة البحث العلمي الحقيقية، لقوانين وتاريخ المعرفة العلمية. لذلك، لن نُركّز على القضايا التي شَغِلَت الوضعية في مراحل مُختلفة من تطورها، لكننا سنولي اهمامنا الرئيسي للمشاكل الأساسية الأكثر عموميةً المُتعلقة بالنظرة الى العالم والمنهجية والتي هي في بؤرة اهتمام العلماء والفلاسفة في الوقت الحاضر. ما نعنيه هو العلاقة بين الفلسفة والعلوم الطبيعية، وطبيعة المعرفة العلمية، ومُحتوى المفاهيم والنظريات الموضوعي، أي علاقتها بالعالم "الخارجي"، ودور الذات في بناء النظريات العلمية، وموثوقية وصحة المفاهيم العلمية وإمكانية التحقق منها، ودور مبادئ السببية والحتمية في البحث، الخ. ان حقيقة أن الوضعية طوال تاريخها كانت إما تتجاهل بعض هذه المسائل تماماً أو تُحاول تجاهلها باعتبارها غير مُهمة في البحث العلمي، هي، في الواقع، ذات عواقب قليلة. سواءاً كانوا يريدون ذلك أم لا، فقد اضطر جميع عقول الوضعية، بدءاً من أوغست كونت وهربرت سبنسر، وانتهاءاً برودلف كارناب وآلفريد آير Alfred Ayer الى مُعالجتها والتعرض لها. علاوةً على ذلك، فإن هذه المسائل الرئيسية بالذات، وليس القضايا الوضعية مثل البُنية المنطقية للبيانات، ومعنى الاختزال وبُنية التفسير، وما الى ذلك، هي التي أثبتت أنها ساحة المعركة الرئيسية التي قررت مصير الوضعية، كتعاليم فلسفية. تجدر الاشارة الى أنه لن يتم في الكتاب النظر في المسائل المذكورة أعلاه بطريقة مُنفصلة عن بعضها البعض وعن مشاكل أُخرى، ولكن سنُعالجها في ارتباطها المنطقي بالمشكلات الأُخرى في سياق منهجية المعرفة العلمية. على سبيل المثال، يُحدد حل مسألة مصدر المعرفة، مُسبقاً، الى حدٍ كبير، حل مسألة السببية وعلاقة الفلسفة بالعلم. على العكس من ذلك، سيؤثّر حل مُشكلة السببية على شكل تحليل المسائل الابستمولوجية. ومن ثُم، سنحاول أن نتعامل ليس مع بعض المُميزات العشوائية لهذه المدرسة أو تلك أو بعض الخصائص المُميزة لتفسير مسألة ما من قِبَل مُفكرين مُختلفين، ولكن سنقوم بمُعالجة منظومة مبادئ أساسية مُشتركة لديهم. لذلك سنُركّز إما على السمات المُشتركة الأساسية في المفاهيم الفلسفية لمُمثلين مُختلفين من نفس المدرسة، أو، على العكس من ذلك، على الاختلافات الأساسية في آراء أتباع المدارس المُختلفة. من المفهوم أن بعض سمات الاتجاهات الفلسفية المُختلفة وبعض الخصائص المُميزة في وجهات نظر مُمثليها ستكون خارج الاعتبار بالضرورة. ان الجدل حول المسائل الأساسية للمنهجية الفلسفية مُفيد للغاية لأنه يُسلّط الضوء على أهيمتها المُعاصرة. وهكذا، الموقف من العلم من جانب دُعاة الوضعية هو نتيحة منطقية لإضفاء صفة الإطلاق على مناهج الادراك التجريبية، في حين أن موقف "العقلانية النقدية" من العلم ينبع من تفسيرهم لمسائل التحقق. تعتبر "الواقعية العلمية" كإتجاه فلسفي مادة العلم بأنها المصدر الوحيد للتحليل الفلسفي ولأي مفاهيم حول العالم. يكشف صراع الآراء هذا عن نقاط ضعف في كُلٍ من التعاليم الفلسفية المذكور أعلاه، ويوضّح كيف أنها تُشوه عملية الادراك الفعلية. تُصبح الأهمية الحالية لمسألة السببية أكثر وضوحاً أيضاً، ان اكتشفنا، من جهة، سبب موقف الوضعيين السلبي تجاهها، ومن جهة أُخرى، إن اكتشفنا سبب إحياءها في "العقلانية النقدية" كما طرحها بوبر الذي أبدى اهتماماً خاصاً بأشكال التفسير النظري وفي النماذج الاستدلالية لعملية الادراك. من المُفيد للغاية أيضاً التعارض بين مفهوم السببية الذي تمت اعادة الاعتبار اليه بواسطة "الواقعية العلمية" بروح المادية، والمفهوم المنطقي الذي يُميّز المُقاربة الوضعية، حيث أن هذا التعارض يُسلط الضوء على مُتطلبات العلم المُعاصر المُحددة من الوسائل النظرية ويكشف جوهر مبدأ السببية. سيكون من المُستحيل تحديد آفاق منهجية الادراك العلمي دون القاء نظرة على المواجهة بين الوضعية والفلسفة الماركسية اللينينية. يمتد تاريخ "العقلانية النقدية" و"الواقعية العلمية" وغيرها من الاتجاهات الجديدة في فلسفة العلم الى عدة عقود على الأكثر، في حين أن الصراع الايديولوجي بين الماركسية والوضعية يعود الى منتصف القرن التاسع عشر وهو في الواقع قديم قِدَم الفلسفة الماركسية نفسها. على الرغم من أهميتها، الا أن المعارك الفلسفية القديمة لن تستحوذ على اهتمامنا، لأن اهتمامنا الرئيسي يكمن، كما أشرنا سابقاً، في التحليل المُقارن للمنهجية المادية الدياليكتيكية و"ما بعد الوضعية"(5). فيما يتعلق بالمسائل التي ستتم مُعالجتها في ضوء المادية الدياليكتيكية، لم ينصب المؤلف لنفسه مُهمة شرح المفاهيم الماركسية المعروفة أو آراء كلاسيكيات الماركسية اللينينية حول هذه القضايا بشكلٍ منهجي. حاول المؤلف، انطلاقاً من المبادئ الأساسية لحلها المعروفة في الأدبيات الماركسية، الكشف عن الأشكال الجديدة لتفسيرها وحلها وفقاً لأحدث البيانات العلمية والمهام الفلسفية الجديدة التي طرحتها الثورة العلمية التكنيكية. لذلك، لا يدّعي الكتاب عرض أي مجموعة من الحقائق، بل يؤكد الحاجة الى مزيدٍ من البحث في المسائل المطروجة التي يعتقد المؤلف أنها هي الأكثر اثماراً وأهميةً. ان المؤلّف مُقتنع تماماً بأن الفهم المُتبادل للفلاسفة الذين يبحثون في منهجية الادراك العلمي أصبحَ حقيقةً حقيقةً واقعةً أكثر فأكثر.
يتبع...
* ايغور زينوفييفيتش ناليتوف 1941-2010 فيلسوف ماركسي سوفييتي، مُتخصص في حقل الفلسفة والعلوم الطبيعية ونظرية المعرفة ومناهج البحث، ودكتور في فلسفة العلوم. تخرّجَ ناليتوف من كُلية الفيزياء والرياضيات من معهد اوسورييسك التربوي 1963، ودرس بعد التخرج في جامعة موسكور الحكومية في قسم فلسفة العلوم الطبيعية 1971. كان عنوان اطروحته للدكتوراة (مقولة الترابط في معارف العلوم الطبيعية) 1971، واطروحة الدكتوراة الثانية (المفهوم المادي الدياليكتيكي في السببية في معارف العلوم الطبيعية) 1979. عمِلَ في دار التقدم للنشر كمُحرر علمي أول 1971-1974 ومُستشاراً في مجلة (الشيوعي) 1974-1980. كان أُستاذاً في قسم الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم الاجتماعية التايع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي 1984-1987، ومستشار قسم الفلسفة في مجلة (السلام والاشتراكية) منذ عام 1989، ورئيس قسم الحوار الفلسفي في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية. من أعماله: (السببية والابستمولوجيا) 1971، (عيانية المعرفة الفلسفية) 1986، (تطور العلم كقضية عالمية) 1987، (تاريخ العلوم الطبيعية والتكنيك) 1991.
1- الأسس الفلسفية للفيزياء، رودلف كارناب، ترجمة السيد نفادي، دار الثاقفة الجديدة 2003، ص22. 2- Moritz Schlick, “Positivism and Realism”, in: Logical Positivism, Ed. by A. J. Ayer, The Free Press, Glencoe, Ill., 1960, p. 83 3- M. Wartofsky, “Metaphysics as Heuristic for Science”, in: Boston Studies in the Philosophy of Science, Vol. III, Dordrecht, 1967, p. 123 4- See A. C. Crombie, Turning Points in Physics, North-Holland Publishing Company, Amsterdam, 1960, pp. 84–154 5- سنستخدم هذا المُصطلح أحياناً للاشارة الى جميع المدارس الحديثة في فلسفة العلم، من أجل أن نوفر مساحةً للكتابة فقط، دون أن نعني بأنها كُلها تُشكل كُلاً واحداً مُتجانساً.
ترجمة لكتاب: Naletov, Igor (1984). Alternatives to Positivism. trans by Vladimir Stankevich: Progress Publishers Moscow
#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)
Malik_Abu_Alia#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجوانب الاقطاعية في الدولة البيزنطية
-
الماركسية اللينينية والثورة الكوبيرنيكية في الفلسفة
-
تلخيص كتاب (كاليبان والساحرة: النساء والجسد والتراكم البدائي
...
-
الانسان واغترابه
-
الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 2
-
الحقيقة التاريخية: بُنيتها وشكلها ومضمونها
-
انجلز والداروينية
-
من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد
...
-
الكاليبان العظيم: النضال ضد الجسد المتمرد 1
-
قوانين الوضعيات التاريخية
-
الحقيقة والقيمة
-
من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد
...
-
نهضت من الأنقاض: التاريخ الاقتصادي للاشتراكية في جمهورية ألم
...
-
مساهمة في منهجية دراسة الثقافة ونقد مفاهيمها المثالية
-
الماركسية ومسألة القيمة: مُقاربة نظرية
-
من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد
...
-
الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة
-
مُلاحظات حول معنى التاريخ
-
الفلسفة الماركسية ومسألة القيمة
-
مُبادرة يلا نتفلسف: هيا نُسخّف أداة من أدوات التغيير
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|