|
مبارك .. وعام من تاريخ مصر
أحمد فاروق عباس
الحوار المتمدن-العدد: 7364 - 2022 / 9 / 7 - 04:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
انتهي عصر مبارك فعلياً عام ٢٠١١ ، وانتهي الرجل نفسه وذهب إلي خالقه في فبراير ٢٠٢٠ ، ولم يعد لأحد أدني مصلحة في تلميع الرجل أو عصره ، علي العكس ، ما زال الأمر مجلبة للمتاعب من بعض الأطراف التي تري في مبارك شيطاناً يجب رجمه علي الدوام .. وللرجل أخطاءه طبعاً، ولم ينكرها أحد ، وهي متاحة للباحثين والدارسين ، ولكن بعد أن هدأت العواصف حول الرجل وعهده أرجو أن تبتعد السياسة وأن يتقدم العلم ، وأن يوضع الرجل وعصره تحت مشرط البحث التاريخي ، يقل في الرجل - كما يقولون - ما له وما عليه ..
وموقع أرشيف archive.org من المواقع المهمة علي شبكة الإنترنت ، وبه مجموعات الصحف العالمية والعربية والمصرية القديمة ، وأحيانا في أوقات فراغي ما أتصفح هذا الموقع المهم وما به من كنوز ..
فتحت بالصدفة صفحة الصحف العربية القديمة ، واخترت صحيفة النهار اللبنانية ، الأعداد الخاصة بعام ١٩٨٦ ، وصحيفة النهار من أهم وأرقي الصحف اللبنانية ، وهي صوت معتدل وسط الصحافة اللبنانية واتجاهاتها شديدة التباين ..
اخترت بالصدفة عدد ١ أبريل ١٩٨٦ ، ولفت نظري خبر يقول " مصر رفضت 3 مرات طلباً من أمريكا لعمل ضد ليبيا " وفي تفاصيل الخبر أن منتصف الثمانينات شهدت صداما أمريكيا ليبيا شديدا ، وأن أمريكا كانت مصممة علي إنهاء حكم القذافي أو علي الأقل تقليم أظافره بقوة ، وكعادة الأمريكان يفضلون أن يقوم غيرهم بهذه المهام القذرة ، وفعلا طلبت أمريكا من مبارك أن يتحرك لضرب ليبيا والقذافي مقابل مساعدات اقتصادية وعسكرية كبري ، وان أمريكا أرسلت الوفود والمبعوثين لإقناع القاهرة أو إغراءها دون جدوى ، وقد تكرر ذلك الطلب ثلاث مرات ، وكان من ضمن من أرسلتهم واشنطن للقاهرة جون بويندكستر مستشار الأمن القومي الأمريكي في رئاسة ريجان ، الذي زار مصر في صيف عام ١٩٨٥ لإقناع مبارك ، تلاه مبعوث أخر ذو مستوي رفيع في يناير ١٩٨٦ ، ثم مبعوث أخر بعد فترة بسيطة ، وكان الرد في كل المرات الرفض الصريح .. انتهي الخبر الذي أوردته الصحيفة ..
ولفهم ذلك الموضوع كاملاً ينبغي الرجوع إلي قصة ما حدث خلال ذلك العام الملتهب :
١ – كانت الأزمة الاقتصادية في ذلك العام قد وصلت في مصر إلي ذروتها ، ويعد عام ١٩٨٦ من أصعب واقسي سنوات مبارك اقتصاديا علي مصر ، ففي ذلك العام انخفضت بشدة أسعار البترول – وكانت مصر مازلت حينها دولة مصدرة للبترول – وكان نتيجة ذلك أن انخفضت إيرادات مصر بنحو ٣٠ % بضربة واحدة ، وطبقا للأرقام المعلنة أيامها تجاوزت خسائر مصر من وراء ذلك ١٤٠٠ مليون دولار ..
وكان للأمر تأثيره الشديد علي دول الخليج البترولية ، التي انخفضت إيراداتها بشدة من انهيار أسعار البترول ، مما أثر بشدة علي العمالة المصرية – عدداً ودخلاً - في تلك البلدان ، وانخفضت بالتالي تحويلاتها إلي مصر ، وقدرت الخسارة في هذا البند بنحو ٧٠% من المتوقع ، وكانت تلك الضربة القاسية الثانية ..
وكان تخفيض أسعار البترول – كما كشف بعدها بسنوات - اتفاقا أمريكياً سعودياً لضرب اقتصاد الاتحاد السوفيتي وتركيعه ، وهو ما أحدث أثره فوراً ، وانتهي الأمر بعد 5 سنوات بنهاية الاتحاد السوفيتي ذاته كدولة من الوجود .
وجاءت الضربة الثالثة من التباطؤ الحاد في التجارة الدولية ، مما أثر بشدة في إيرادات قناة السويس ، وكان نتيجة كل ذلك أن كادت الخطة الخمسية الثانية في عهد مبارك أن تتوقف ، وأصبح الاقتصاد المصري في موقف شديد الصعوبة ، وقد وصف مبارك الأمر بعدها بسنوات بأن الخزينة المصرية وقتها لم تكن تحوي أكثر من ١٠٠ مليون دولار ، وان الاحتياطي من السلع الأساسية كاد ينضب ..
يأتي بعد كل ذلك موقف مبارك برفض العرض الأمريكي بتوجيه ضربة للقذاقي مقابل تحمل أمريكا لنفقاتها الحربية من السلاح ، بالإضافة إلي مساعدات اقتصادية سخية ، وفي ظروف شديدة القسوة تمر بها البلاد كموقف مشرف لمبارك ..
٢ – ظهر الغضب الأمريكي من الرفض المصري هادراً ، ولم تكتف أمريكا بجراح مصر علي المستوي الاقتصادي ، بل تعددت ضرباتها بقسوة ومنها :
أ – دخلت الإدارة المصرية في براثن مؤامرة حيكت لها بذكاء ، وهي حادثة الباخرة الايطالية أكيلي لاورو في أكتوبر ١٩٨٥ ، وكان جزاء سنمار الذي جناه مبارك بتدخله لإنقاذ الركاب الأجانب هو اعتراض الطائرة المصرية التي أقلت مختطفي السفينة وإنزالها في ايطاليا ، وقد خرج مبارك بجرح غائر لكرامته ، وللأسلوب الأمريكي في معالجة الأزمة ، ولم يكد مبارك يلتقط أنفاسه حتى كانت الضربة الثانية باختطاف الطائرة المصرية نفسها من قبل مجموعة غير معروفة ، ليتخذ مبارك قراراً باقتحام الطائرة ، ويضيع نصف الركاب قتلي !! وكان مجمل الموقف الأمريكي من الأزمة، بما فيها التجسس الأمريكي علي اتصالات مبارك بمساعديه وإذاعتها علي الملأ قرصة أذن شديدة القسوة .
ب – ضرب مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس في أكتوبر ١٩٨٥ ، وبالرغم من أن الضربة الإسرائيلية استهدفت ياسر عرفات وقادة المنظمة ، إلا أنها كانت ضربة موجهة بقوة للسياسة المصرية وقتها ، فمصر كانت دائمة الدعوة والإلحاح أن تتقدم أمريكا وتتحرك خطوة تجاه منظمة التحرير وياسرعرفات ، باعتبارها بديلا فلسطينيا معتدلا يمكن التفاوض معه للوصول لحل لقضية فلسطين ، وعندما زار مبارك واشنطن في بداية عام ١٩٨٥ كان ذلك في اهتماماته الأولي ، وكانت علاقات منظمة التحرير وقتها بأغلب البلدان العربية سيئة ، فصدام مشغول في حربه مع إيران ، وحافظ الأسد بالإضافة إلي الكره التقليدي بينه وبين عرفات كان مشغولا في لبنان ، ووالقذافي مشغول بصراعه مع ريجان ، والأردن وتونس وباقي البلدان العربية كل مشغول بحاله ، وكان مبارك شبه الراعي دولياً وإقليمياً لعرفات ومنظمة التحرير ، فجاء ضرب مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس إحراجاً بالغاً لمبارك ..
٣ – جاءت الضربة التالية بالغة الضراوة وشديدة الخطورة ، وعلي الرغم من أن اليد الأمريكية فيها ليست ظاهرة إلا أن استغلالها في رسم صورة للنظام المصري دوليا كان واضحاً ، وهي أحداث الأمن المركزي في ٢٥ فبراير ١٩٨٦ ، عندما تركت قوات الأمن المركزي أماكنها وثكناتها ونزلت إلي شوارع القاهرة ، في تحدي بالغ العنف للنظام ، ولما لم تستطع قوات الشرطة التعامل مع الأحداث كان رد مبارك تكليف القوات المسلحة بالتعامل مع الأمر ، ولولا وجود المشير أبو غزالة إلي جانب مبارك لأنتهي حكمه في فبراير ١٩٨٦ ولم يكن لينتظر إلي فبراير ٢٠١١ .
تلك لمحة سريعة عن عام صاخب من تاريخ مصر، ينتظر من يبحث ويدقق ويتأمل، كما كان يقول دائما الموسيقار الموهوب عمار الشريعي في مقدمة برنامجه غواص في بحر النغم ، وأمام الدارسين تاريخ مصر الاقتصادي والسياسي ، القريب منه والبعيد ، يقرأون ويفهمون ويستوعبون ، كما تفعل كل الأمم المحترمة ، بعد أن سكنت العواصف ، وبعد أن هدأت النفوس ، أو المفروض أنها أصبحت كذلك ، وان يتنحي أهل السياسة ويتقدم أهل البحث ، وان يبتعد تاريخ مصر عن العواطف ، ويترك لمن يبحث ومن يدقق ومن يتأمل ..
#أحمد_فاروق_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصين وأمريكا
-
لماذا المصرى كثير الشكوى ؟
-
عطور باريس وساندويتشات الفول ..
-
حيرة
-
رد الإعتبار شعبيا لمبارك .. لماذا .
-
من الذي يرسم السياسة الإقتصادية فى مصر ؟
-
مدينة الذكريات ، الإسكندرية .. الرحلة الأولى
-
الريف المصرى فى زماننا ... العمل
-
مناقشة هادئة لقضية ساخنة
-
عالم يتغير
-
عصر الشعوب .. وزيارة إلى أمير قديم .
-
على هامش التعديل الوزارى
-
مصر وتركيا ... وفلسطين
-
المصروفات السرية
-
السلطة والمجتمع .. وحرية الرأي
-
المال السياسي
-
السياسيين .. ومذكراتهم التى لم يكتبوها
-
السادات .. مجرد ملاحظات
-
الجانب الآخر من الصورة
-
الانقطاع والاستمرارية فى السياسة والاقتصاد المصرى
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|