|
بول بريمر العراقي في الميزان
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 1687 - 2006 / 9 / 28 - 10:17
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
• اهمية الكتاب
الكتاب يتألف من ثلاثة اقسام ويحتوي على أربعة عشر فصلاً ويغطي اكثر من ثلاثة عشر شهراً قضاها بريمر في العراق، بين 12 أيار " مايو" 2003 و 28 حزيران (يونيو) 2004، ويشتبك الكتاب مع ما سبقه وما لحقه من أحداث. الكتاب وثيقة مهمة وتاريخية من موقع الحدث الميداني لأرفع شخصية امريكية حكمت العراق. وتعكس مداخلاته واستعاداته الرؤية الرسمية الأمريكية لتلك الفترة الزمنية، التي تشمل اكثر من عام على احتلال العراق وما تلاه من ترتيبات ادارية وسياسية في ظرف معقد ومتداخل ومتناقض في الآن ذاته.
ولم يكن بول بريمر سفيراً او مسؤولاً امريكياً حسب، بل انه معتمدٌ ومبعوث قريب من الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش، الذي منحه صلاحيات واسعة تكاد تكون مطلقة لحكم العراق. يقول بريمر عن خلفيات تعيينه في منصبه من خلال حواره مع فرانسي زوجته: أبلغتها بأن سكوتر ليبي كبير موظفي نائب الرئيس ديك تشيني، وبول وولفويتز نائب وزير الدفاع الامريكي اتصلا بي " بعد انتهاء الاعمال العدوانية" لاتوّلى منصب " ادارة العراق المحتل" مبعوثاً دائماً للرئيس في العراق " وكنت أمتلك المهارات والخبرة المطلوبة لهذا المنصب" (مقارنة مع الفريق المتقاعد جاي غارنر" (ص- 13 و14) ثم يروي القصة بعد ذلك حين يقول: ان الرئيس بوش برّ بوعده وسلمني في 9 ايار (مايو) رسالة بتعييني مبعوثاً رئاسياً الى العراق ومنحني سلطة تامة على موظفي الحكومة الامريكية وانشطتها واموالها هناك، وتبعه رامسفيلد بتعييني مدير سلطة الائتلاف الموقتة وتفويضاً " بكل الاعمال التنفيذية والتشريعية والقضائية" في العراق (ص- 21) بعد احتلاله وخلفاً للقائد العسكري المخضرم جي غارنر(J.Garner).
الكتاب يغطي هذه الفترة المليئة بالاحداث والاسرار والخفايا والتحديات التي ما تزال غامضة وغير مكشوفة ولم يترشّح منها سوى القليل، ويعرض العديد من المفاجآت والآراء سواء ما يتعلق بالسياسة الامريكية او بانطباعاته إزاء طاقم الحكم والقوى والشخصيات التي تعاونت مع المحتل أو تقديراته لمستقبل العراق وآفاقه، خصوصاً وان الاوضاع الامنية خلال فترة حكمه ازدادت تدهوراً وشهدت البلاد نوعاً من الارهاب لم يعرف له مثيلا، ناهيكم عن تعاظم الرفض الشعبي للاحتلال وبدايات التصدي له عبر عمليات مقاومة سلمية ومسلحة أخذت تتسع وتتعاظم وتشكل تحدّياً حقيقيا للاحتلال.
الكتاب اذن ومن موقع المسؤولية الاولى يعتبر مرجعاً خطيراً على المستوى العراقي والدولي لحاكم بأمره ومسؤول للقوات المحتلة التي اصبح اسمها الرسمي القوات المتعددة الجنسيات خصوصاً بعد قرار مجلس الامن الدولي رقم 1546 الصادر في 8 حزيران (يونيو) 2004.
* * * • الوثيقة" خبرٌ وشهادة!
نقول في الاعلام ان الصورة " خبرٌ" و " شهادة " بمعنى انها تُغني عن الكثير من المقالات والتحليلات والكلمات، اذ هي بحد ذاتها موضوعاً موثقاً ليس فقط على نحو مقروء وانما على نحو مُشاهد او منظور ايضاً، وملامح الصورة تكشف الكثير من التفاصيل الضرورية منها وغير الضرورية، بحيث تجعل الناظر اليها يستطيع فرز الالوان والتمييز في حدود تلك الملامح والتضاريس. وعندما نتحدث في المحافل الاكاديمية والعلمية، فنقول ان " الوثيقة خبرٌ" و "شهادة" ايضاً، اذ انها تبوح بالكثير من الاسرار وتكشف المستور عن الكثير من القضايا، التي تبدو ظاهرياً بملامح أخرى. وكتاب بريمر هو من النوع الذي يزيح الستار عن الكثير من الخبايا والخفايا فيعلّق وينقل نصوص تعليقات كان قد سمعها من الفريق الذي تعاون مع الولايات المتحدة او من تابعيته الادارية من الموظفين والعاملين.
ولعل اهمية هذه الوثيقة او " الشهادة " تتأتى ايضا من راهنية احداثها ناهيكم عن شخصية ومكانة من يدلي بها وسعيه لتدوين بعض تفاصيلها في وقتها باقترابها من اليوميات، وهو ما كان يفعله عندما يُرسل رسائله في نهاية اليوم الى زوجته فرانسي عن طريق الـE mail.
ويُسلّط الكتاب الضوء على معلومات وعلاقات خاصة وتسريبات وتواطؤات وتكتيكات يمارسها بريمر بحق الفريق العراقي المتعاون معه. وبغض النظر عن صحة او عدم دقة ما ورد فيه، الا انه يأتي استكمالاً واضافة خطيرة ومهمة لمحاضر جلسات مجلس الحكم الانتقالي المنشورة في بيروت، وبالتالي فهو يتحدث عن قضايا مسكوت عنها او انها ما تزال بعيدة عن دائرة الضوء خصوصاً بعد مداهمة الدولة العراقية وحل مؤسساتها العسكرية والامنية، بما فيها حرس الحدود وشرطة مكافحة الجريمة وشرطة النجدة وشرطة المرور وغيرها. وبسبب ذلك حدث فراغ امني وسياسي مرعب ومخيف.. ان تعويم الدولة شجع الهويات التجزيئية التقسيمية على الانتعاش على حساب الهوية الوطنية الجامعة، فبدلاً من مواطنة تامة ومساواة كاملة وحريات عامة وشخصية، وهو الطموح الذي كان ينتظره العراقيون بعد حكم شمولي ونهج تسلطي استبدادي "أقلّوي"، واذا بهم يُدفعون دفعاً للاحتماء بمرجعيات تقليدية طائفية ومذهبية وعرقية وعشائرية وجهوية ومناطقية ومحلية ساهمت في تكريس التشظي والتفتيت، حتى وان بقى العراق موحداً شكلاً.
• خبايا وخفايا واسرار ! من يقرأ شهادة بريمر " العراقية" يتولد لديه شعور بالحيرة حتى اذا افترضنا انه حاول ان يدق الاسافين أو أن يستغيب البعض او يسعى للتقليل من شأنه، او أن ينسب اليه شيء او ان يدعي شيئاً لنفسه، الا انه يبقى شهادة شاملة متوفرة في ظل غياب شهادات اخرى قريبة من قلب الحدث او ملامسة له لفترة مليئة بالمصاعب والتحديات والانهيارات السياسية والاخلاقية. ورغم محاولة الحاكم بأمره بول بريمر أو كما اسماه العراقيون وكما شبهوه بماك آرثر نائب الملك الياباني أو لوسيوس كلاي الالماني، الظهور كمن يتحدى المخاطر، بل انه يذهب اليها بنفسه الاّ انه يعترف بأن آرثر وكلاي لم يكونا بنفس ظروفه وتعقيدات الوضع العراقي!! (ص 52- 53). عام" بريمر العراقي" الذي يقدمه لنا باسلوب أنيق ولغة جذابة لا تخلو من طرافة ومن لسعات لبعض الشخصيات وسخرية ازاء البعض الآخر وازدراء إزاء ثالثة، يمكن اعتباره دراسة سايكولوجية وسوسيولوجية لبعض اتجاهات القوى والزعامات السياسية التي جاءت مع الاحتلال ناهيكم عن انه عرض حال نموذجي للشخصية الامريكية الاستعلائية، التي لا تفهم في احيان كثيرة الخصوصيات الثقافية والدينية والوطنية للشعوب. "عام بريمر العراقي" يتحدث عن احداث ما تزال طازجة وطرية وان اختلطت رائحتها بالدم والعنجهية، وبشيء كثير من الصخب والايديولوجيات الرثة وبأكاذيب اصبحت شائعة وكأنها جزء من لعبة ألكترونية لا قلب لها، حاولت الولايات المتحدة ان تتدرب عليها وان تبحر فيها ازاء شعب اعزل وبريء عانى طويلاً، سواءاً بسبب حروب لا مبرر لها او بسبب تبديد للطاقات والاموال دون مساءلة، وهذان الامران استمرا على نحو درامي وكأن العراق، الذي اجترح عذابات لا حدود لها لا يُراد له ان ينهض بانتظار ان تتحول روحه الى طائر عنقاء جديد يخرج من الركام والرماد لينثر ما تبقى فيه من لعبة لا تبدو لها نهاية!!
لكن الذي يردُ في الكتاب بخصوص الاحداث والاشخاص والاسرار والخبايا بحاجة الى تدقيق، فهو يمثلّ رواية للحدث من منظور خاص للمنتصر المزهو، الذي يريد باستعلاء ان ينشر الديمقراطية ويبشر بربيع الحرية، الذي يقول ان العراق ينعم ( لعلها نشوة النصر، التي تحوّلت الى كوابيس) فيه وهو ما ينبغي تعميمه على دول المنطقة. قد تكون الرواية خصوصاً الاحداث التاريخية وتسلسلها وعرضها ومنهجتها تمثل جانباً من الحقيقة، ولكن جزءاً منها بلا ادنى شك سيرويه فريق مجلس الحكم الانتقالي اذا امتلكوا جرأة بريمر او تحرروا من التزاماته ، وهو المجلس الذي أسسه بول بريمر وفقاً لصيغة أثنية- مذهبية ومحاصصات وتقسيمات ما انزل الله بها من سلطان، والرواية الثالثة للحدث قد تكون من خارجه وان تداخلت بعض حيثياتها ممانعةً او رفضاً او مقاومة، لكن لها رؤيتها التي تختلف وتتقاطع مع رؤية بول بريمر، سواء امتلكت علاقات سرية او معلومات لوجيستية او لقاءات خاصة مباشرة او غير مباشرة. المطلوب ان يقدّم اللاعبون رؤيتهم لاحداثٍ مريرة كلٌّ من زاويته، والاهم من ذلك ان يطلع العراقيون والعالم اجمع على تلك الروايات، ليس فقط كفضول علمي وشغف معرفي وبحثاً عن الحقيقة حسب، بل ليقرأوا بانفسهم تاريخهم وتاريخ زعامات او قيادات تعاطت مع المحتل سلباً او ايجاباً! وما زال بعضها " يزهو" بانجازاته وكأن الامر يتم في اطار الغيب وليس المنظور والمرئي والمسموع.
ولا بد من توضيح مهم، هو ان من ترد اسماءهم في الكتاب بحاجة الى اجلاء موقف وتبيان رأي وكشف للحقيقة، خصوصاً وان البعض كان يظهر العكس ويوحي بالضد مما يذكره بريمر من مواقف او آراء علنية او سرية، بما فيها تواطؤات وشغب وتحريضات ووشايات. يمكن القول حتى عكس ما يذهب اليه الكتاب من استنتاجات التي قد تدخل في باب الدعاية السياسية ومحاولة تبييض صفحة الولايات المتحدة، وتسويد صفحة ووجوه العراقيين الذين تعاونوا معها، الاّ أن بريمر رغم كل ذلك يبقى مسؤولا عما يقول وما يكتب،صدقاً او مبالغة او افتراء، ومع ذلك فهناك حدود لنظرية " المؤامرة" التي ستجد من يواجهك بها كأن ما يكتبه بريمر يدخل ضمن مخطط يستهدف النيل من البعض وتشويه سمعته، وقلب الحقائق كاملة!! لكن لماذا اذن يعترف بريمر بان العراقيين حتى في الايام الاولى لم يكونوا مع الاحتلال، وهو ما يذكره بريمر نفسه، عندما يقول ".. كان غالبية العراقيين مسرورين للاطاحة بصدام ورجاله، لكن القليل منهم سُرّ لاحتلال جيش اجنبي غير مسلم بلدهم" (ص-53) وفي ذلك مقارنة لما يذهب اليه السفير المتقاعد هيوم هودان لما حصل لالمانيا واليابان، حيث لم يرحب الالمان واليابانيون بالاحتلال، لكنهم كانوا يعرفون ان الاحتلال هو ما يحدث عندما تخسر حرباً. وهذا الاقرار يعني فيما يعنيه ان العراقيين حتى في الايام الاولى رفضوا مجرد التفكير ان بلدهم يقع تحت الاحتلال، لانهم لم يكونوا يشعرون بالهزيمة في حرب محسومة النتائج سلفاً، ولحرب لم يشعروا انهم دخلوها، ولذلك كان هناك نوع من المفارقة والحيرة. وفي العلم العسكري والسياسي عندما لم يكن هناك شعوراً عاماً شعبياً بدخول الحرب يصعب التفكير بالهزيمة، فما بالك بالنتائج التي تترتب عليها، كالاحتلال مثلا، وهو ما حاول المحتلون وبعض ذيولهم وحواشيهم العزف عليه عندما اعتبروا ان مجرد سقوط النظام السابق يعني " تحريراً " او ما شابه ذلك. ويبرر بريمر تعاون الالمان واليابانيين مع الامريكان المحتلين لانهم لا يرغبون احلال الجيش الاحمر محل الجيش الامريكي (ص-54) متناسياً ان ذلك التعاون والمساعدة سواء كانت مشروع مارشال او غيره انما يعود الى ظروف الحرب الباردة والصراع الايديولوجي العالمي في ظل القطبية الثنائية. * * * • نظرة بريمر للدولة العراقية! النقطة المهمة والخطيرة التي حاول بريمر ان يرسخها وربما اخذ البعض يرقص على هذه النغمة هي: ان الدولة العراقية الحالية ملفقة، فقد انشأها البريطانيون في اعقاب الحرب العالمية الاولى، بتجميع ثلاث مقاطعات " ولايات" من الامبراطورية العثمانية حليفة المانيا الامبريالية والمقصود هنا (ولاية بغداد في الوسط وولاية البصرة في الجنوب وولاية الموصل في الشمال) مع تأكيده ان هذه التوليفة مختلفة اثنياً وطائفيا، ففي الجنوب توجد روابط بين الغالبية العربية الشيعية المسلمة وايران، وكانت الاقلية العربية السنية تشكل نحو 20% والاكراد والتركمان وهم سُنة ايضا في الشمال، اضافة الى اقليات مثل المسيحيين واليزيديين. وبهذا فهو يجمع على نحو غير متجانس، القومي بالديني، ويقسم العرب الى مذاهب فهذا سني وذاك شيعي، ويضع معهم الاكراد بصورة نمطية ويضيف اليهم التركمان، ولا يقول لنا كم يؤلف العرب من سكان العراق، رغم ان التقديرات تقول ان نسبتهم ساحقة وتصل الى نحو 80% او ما يزيد على ذلك ولهم امتداد اقليمي وعمق استراتيجي وهم الذين طبعوا تاريخ العراق ومثلّوا وجهه العروبي- الاسلامي. وهكذا يفعل مع اديان اخرى كالمسيحية واليزيدية ولا يذكر الصابئة وغيرهم، في حين لا يتحدث عنهم كأقليات دينية مقابل اغلبية مسلمة تصل الى ان 95% من سكان العراق.
• الطائفية والاثنية! الطابع الطائفي صارخٌ وبارزٌ في كتاب بول بريمر، فهو لا ينفك من الحديث عن ان السُنّة حكموا العراق نحو 400 عام في ظل الامبراطورية العثمانية السابقة، ثم يقول وتحت الحكم البعثي ويكرر كثيراً في حوارات وفي سجالات وفي ضغوط على المرجعيات الدينية والسياسية، بان الشيعة اخطأوا عام 1920 خطأ فادحاً عندما لم يشتركوا في الحكم، حيث فاز به " السُنّة" الاقلية، ولذلك لا ينبغي عليهم ان يكرروا هذا الخطأ التاريخي. وكان بريمر يحاول غرس تلك المفاهيم بالتلويح عن طريق الغزل او بالتحذير باستمرار، من مغبّة عدم المشاركة او التعاون مع المحتل، مقدماً بعض الفتات للقيادات المذهبية بصيغة مجلس الحكم المشوّهة، التي وافق عليها بعضهم على مضض، أو كتعبير عن واقع الحال، لكنه بعد ان انكشفت الامور، وهو ما يذكره بول بريمر اخذ يتنصل عن تلك الصيغة، كمن يقتل اباه ويطلب من الناس مواساته، باكياً ومستعطفاً بأنه اصبح يتيماً(ص-108 وص- 399 وفي صفحات كثيرة من الكتاب وحوارات مع القيادات الطائفية الشيعية، تتكرر هذه المغازلات والتحذيرات).
حاول بول بريمر ان يوحي للقيادات الكردية بمناسبة او بغيرها، ان الولايات المتحدة متفضلة عليهم، ولا ينبغي زيادة سقف مطالبهم.
يقول بريمر انه زار كركوك مع بعض اعضاء مجلس الحكم واطلعوا مباشرة على التوترات في المدينة المتنازع عليها والتي تسيطر على ثروة حقول النفط الشمالية. وينقل بريمر زعم الاكراد بان كركوك مدينة كردية تقليدياً وان غالبية السكان انتقلت الى العرب بسبب سياسة صدام " التعريبية" في الثلاثين سنة الماضية. ويمضي بريمر بالقول الى بلير انه كان صريحا مع القادة الاكراد وحذرهم من ان الائتلاف (الدولي) لن يتسامح مع الاعمال التي تثير الانفصال في العراق (ص- 341).
ويقول بريمر: فقانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية وثيقة مؤقتة لذا فان القضايا الحساسة مثل حدود الاقليم والوضعية النهائية للاكراد تقرر عند كتابة الدستور الدائم.وحسب البارزاني وقبله الطالباني تعتبر كركوك قدس الاقداس او " قدس كردستان".. وهذا مصد مضايقة لبريمر حسبما يشير. يقول بريمر انه قال للبارزاني: " يوجد قدس واحدة في العالم وهي تسبب الكثير من المشاكل بمفردها" واقترحت عليه ان يتخلّى عن هذا التشبيه (ص 243- 244)
• حاكم بأمره!
حاول بريمر ان يتصرف خارج اطار كل رقابة منذ اللحظة الاولى استناداً الى التفويضين: الاول- تفويض بوش والثاني تفويض رامسفيلد. وينقل بريمر حواراً بينه وبين راميرو داسلفيا البرتغالي الاصل والمسؤول في الامم المتحدة عندما اعتذر عن تقديمه اموال " النفط مقابل الغذاء" لانها ملك الحكومة العراقية ولا يمكن تحريرها دون موافقتها، فاجابه بنبرة حازمة وهو ما ينقله " انا الحكومة العراقية الآن. وانني اطلب من الامم المتحدة نيابة عن تلك الحكومة تحرير هذه الاموال على الفور" (ص-52) وبنبرة استعلائية يذكرُ كيف انه ألغى اجتماعاً مع قياديين عراقيين كان قد حضّر له جي غارنر، لانه يريد ان يبلغهم رسالة، بانه هو المسؤول الآن وليس جي غارنر وهو الذي يقرر، وانه ليس مستعجلا للقائهم (ص- 60)!!
• اجتثاث البعث! يكشف بول بريمر ان الولايات المتحدة هي التي أعدّت قانون او قرار "اجتثاث البعث". وينقل انه قبل التحاقه بوظيفته وفي يوم 9 ايار (مايو)2003 اطلعه رامسفيلد على تعليمات تقول ان الائتلاف سيحارب بقوة اركان نظام صدام السابق - حزب البعث وفدائيي صدام " الذين ازعجوا قواتنا خلال زحفها على بغداد". وان دوغلاس فيث وكيل وزير الدفاع اطلعه على مسوّدة خاصة بـ" اجتثاث البعث من المجتمع العراقي" مشدداً على اهمية المرسوم. ويشير الى ان الجنرال فرانكس كان قد حظر حزب البعث في " رسالة الحرية" التي وجهها يوم 16 نيسان (ابريل) 2003، اي بعد اسبوع واحد من احتلال بغداد. (ص-56).وينقل بريمر كيف ان فيث كان مستعجلا على صدور المرسوم من قبل غارنر، الاّ انه امهله على التريث لحين وصوله الى بغداد، فوافق فيث على ذلك، لكنه يشير الى هذا المرسوم الذي كان يستهدف نحو 20 الف بعثي من ملاكات قيادية معينة، طبق بطريقة موسعة شملت آلاف من المعلمين ومن الناس الذين كانوا مجبرين على الانتماء شبه القسري او اللاطوعي، وكان د. أحمد الجلبي احد اكثر المتشددين على تطبيقه حين دعا الى سلوك مسار اكثر اقداماً في الاجتثاث، والذي لم يكن بعيدا عن آراء السيد عبد العزيز الحكيم والدكتور ابراهيم الجعفري اضافة الى بيان السبعة والمقصود هنا: اضافة الى الثلاثة الاوائل البارزاني والطالباني ونصير الجادرجي(ص- 56 و66 و67). في حين كان اياد علاوي غير مندفع في تطبيق القانون، بل انه عوّل على إلتحاق البعثيين السابقين به وهو ما حاول ان يلوّح به للامريكان قبل الاحتلال وبعده، لكن مثل هذا التوقع لم يكن دقيقاً في اطار عجلة الاحتلال والتوجهات التي رسمها. وينتقد بريمر القيادات المنفية العراقية، رغم انه تم استخدام بعضها، تمهيداً لغزو العراق، فيتحدث عن مؤتمر لندن (كانون الاول- ديسمبر 2002) الذي كان نتاجاً لقانون تحرير العراق على حد تعبيره، والذي وقعه الرئيس كلينتون سنة 1998 (والذي لعب الجلبي دوراً كبيراً في اقناع الادارة الامريكية على اصداره)(ص-60).
يقول بريمر ان بعض المنفيين حصل على المساندة من الغرب وبعض الدول العربية (المعتدلة) من خلال اجهزة مخابرات. ومن خلال خبرته وعمله في 3 بلدان محتلة من الالمان اثناء الحرب العالمية الثانية، عرف ان ثمت ميلاً لدى السكان في النظر بعين الريبة الى " حكومات المنفى" ولهذا فان التركيز على المنفيين سيخلق مخاوفاً في اوساط العراقيين، كما انه يريد حكومة العراقيين على حد تعبيره ولا بدّ من عدم الاستعجال في انشاء ادارة عراقية مؤقتة (ص -60و61). وهنا يقارن صلته بالقيادات العراقية المعارضة قياساً بعلاقة زلماي خليل زاد (السفير الامريكي الحالي في العراق) الذي ترك لديهم انطباعاً بانه يريد تسليمهم السلطة عند اجتماعه بهم في حين انه كان يفكّر بطريقة معاكسة.
حاول بريمر ان يعرض بعض القضايا التي كانت محل اتفاق بينه وبين القيادات العراقية المعارضة وهي قانون اجتثاث البعث وتأييدهم لتحرير العراق وعدم تبديد النصر العسكري- بتردد سياسي ومحاكمة صدام وانزال اقصى العقوبات بالقيادات البعثية واستصغار كل ما يحدث اليوم وعلى ايدي قوات الاحتلال بحجة إن الذي حدث بالامس كان اكثر فظاعة، ولهذا يتحدث عن المقبرة الجماعية في الحلة، لكنه يعتبر اهالي الفلوجة او مداهمة جماعة الصدر في النجف، تدخلُ في اطار استعادة هيبة القانون وتطبيقا لسلطة الدولة ونظامها.وهو لا يأتي على ذكر اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 الخاصة بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة وحماية ضحايا المنازعات المسلّحة غير (الدولية) كما انه لا يتحدث عن استحقاقات القرار 1483 الصادر عن مجلس الامن الدولي في 22 ايار (مايو)2003 والذي اعترف بكون الولايات المتحدة "قوة احتلال " وبالتالي فهي تخضع للقانون الدولي الانساني.
• حل الجيش العراقي
وكانت جميع القوى المتعاونة مع بريمر في اطار مجلس الحكم مؤيدة لقرار حل "الجيش العراقي". وهنا يحاول ان يجادل احياناً بعض القيادات العراقية، من ان الجيش ليس كله سيئا فيقول " لكن العديد من العراقيين خدموا بشرف منذ اجيال عديدة في القوات المسلحة، وعلى الرغم من سني القمع دافع الجنود الشيعة بشجاعة عن وطنهم ضد الايرانيين الشيعة في الحرب العراقية- الايرانية الطويلة والدموية في الثمانينات، فقد كان الجيش القديم يضم بعض المحترفين الحقيقيين، ولم يكن يحظى بثقة صدام لهذا السبب جزئياً (ص- 73).
وحسب تصريحات لرامسفيلد في 20 تشرين الثاني (نوفمبر)2003 ألمح استناداً الى فيث (Faith) انه لعب دوراً في قرار تسريح الجيش العراقي، ونقلت صحيفة واشنطن بوست بيان رامسفيلد على التلفزيون الذي قال فيه: ان الجيش العراقي حل نفسه وذهب الجميع الى البيت ، لكنهم نسيوا ان قرار حلّ الجيش والقوى الامنية من اولى مراسيم بول بريمر، وكان ذلك قد أعقب تصريح الرئيس بوش انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في ايار (مايو) 2003. ويقول بريمر في موضع آخر : دعونا نحدد ما هي اهدافنا بوضوح. من الضروري اقناع العراقيين باننا لن نسمح بعودة ادوات صدام القمعية- حزب البعث او اجهزة المخابرات او حتى صدام، فنحن لم نرسل قواتنا الى نصف العالم الآخر لكي نطيح بصدام ونضع دكتاتوراً آخر في مكانه (ص- 74).
واشار الى ان الاكراد الذين تمتعوا باستقلال ذاتي واسع لمدة اثنتي عشرة سنة بعد حرب الخليج بحماية قوة امريكية، لن يقبلوا البتة باعادة وحدات الجيش السابق واعادة تسليحها كما افاد البارازاني والطالباني (ص- 75).
وكان القرار الثاني الذي اتخذه بريمر بعد قرار حل البعث وحظر نشاطه هو قرار حل الجيش العراقي ضمن الكيانات التي لها علاقة بالامن الوطني والتشكيلات العسكرية 23 ايار (مايو)2003. وقد هنأ الحكيم بريمر على هذه الخطوة وكذلك البارزاني واصفاً ايّاها بالخطوة الرائعة وهي دليل على جدية الائتلاف على انشاء عراق جديد موحد (ص-81).
ركز بريمر على اعادة انتاج النفط باعتباره احدى الاولويات الصعبة. جدير بالذكر ان وزارة النفط لم تطالها اعمال النهب والسلب ويعتبر بريمر ان ثلاثة مصادر هي التي قامت بتلك الاعمال وهي " النهابون والبعثيون المتعصبون وربما الايرانيون" (ص- 96)، لكنه لا يتكلم عن واجب القوات المحتلة في حماية ارواح وممتلكات المواطنين والاقليم الذي تحتل اراضيه طبقا لاتفاقيات جنيف لعام 1949 ولقواعد القانون الدولي الانساني. * * *
• مجموعة السبعة ومجلس الحكم الانتقالي
يشير بريمر الى عدم جدية مجموعة السبعة، اضافة الى عدم جدية اعضاء مجلس الحكم فيما بعد، فهؤلاء لم يثبتوا رغبتهم في توسيع وضم المزيد من العرب السنة والمسيحيين والتركمان، وقبل ذلك النساء اليهم، ويقول انه كتب الى رامسفيلد يشكوه من مجموعة السبعة التي لم ترتقِ الى ما هو مطلوب منها من مهمات وان هناك شللاً داخلها (ص- 112).
ويقول عن الجلبي انه شخصية ذات نفوذ في واشنطن، زود الادارة بمعلومات عن اسلحة الدمار الشامل عن طريق المؤتمر الوطني العراقي، لكنه انتقل الى المعارضة الصريحة للائتلاف الدولي، ويذكر انه يفهم في الاقتصاد وكسب ثروة من التعاملات التجارية التي تحوم الشبهات حول بعضها، وكان يتمتع بعلاقات وثيقة مع الكونغرس ومع البنتاغون، وفي الوقت نفسه يشكو منه ومن ارتباطاته مع ايران وفي محاولته لتاسيس البيت الشيعي، في حين ان كونداليزا رايس مستشارة الامن القومي آنذاك قالت: إن الجلبي ينشط بشكل متزايد في العمل ضد المصالح الامريكية بالميل الى الشيعة الرافضين، وان المشاعر السائدة في واشنطن هي طرده من مجلس الحكم الانتقالي، لكن بريمر يقول انه اوصى بالتروي ويعلق قائلاً: كنا نحاول ضبطه داخل الخيمة رغم ان الثمن مرتفع (ص- 64 و 399).
اما عن الجعفري فيقول ان احاديثه غير متناسقة وتغلب عليها السرعة والايماءة باليدين ويتخيل بريمر ماذا يمكن ان يحدث لو سلّمت الحكومة الامريكية العراق الى هؤلاء المنفيين في ايار (مايو) 2003 كما كان يريد بعض الاشخاص في واشنطن ( ص- 157 و158 وما بعدها) وهو ما كان يريده بإلحاح الجلبي والباجه جي وآخرون.
يقول بريمر انه ابلغ مجموعة السبعة " انكم لا تمثلون العراق. انتم منفيون وتحديتكم ان توسعّوا مجموعتكم بضم العراقيين الذين عاشوا هنا تحت حكم صدّام وان تعيّنوا النساء والمسيحيين والتركمان والزعماء القبليين وقد وافقتم على القيام بذلك لكن لم تفعلوا" (ص - 119). يشرح بريمر كيف حاول ترويض المجموعة لادخالها الى الخيمة المسماة مجلس الحكم الانتقالي: الجلبي كان يحرض ضده ويطالب بارسال نواب القادة، لكنه رفض، والحكيم قال انه يريد ان يتفرغ لخدمة شعبه وقال له بريمر: ان مجلس الحكم هو افضل مكان لخدمة شعبك .. وانه كان يتصنع عدم الالتزام بشأن المشاركة في مجلس الحكم .. ذكّره بخطأ الشيعة في العام 1920 عندما امتنعوا عن المشاركة في الحكم.. (ص- 127).
الطالباني الذي كان يريد السفر الى آسيا. فطلب منه تأجيل الزيارة واعلن الموافقة على العمل في مجلس الحكم " بناء على مناشدتك الشخصية يا سعادة السفير..." اما البارزاني الذي قال له : انني اكره بغداد ولا اريد ان اضطر الى العيش وحتى السفر الى هناك، لكن اذا اصررت سأوافق على العمل في المجلس على مضض!! الحكيم الذي كان متردداً اشترط اطلاعه على الاسماء، فتم ذلك مع اضافة احد خصومه الى القائمة، فاحتج وهنا أُلغي الاسم لكي تتم موافقته. اما الحزب الشيوعي فكان البريطانيون قد اقترحوا ضم احد الاعضاء ويقول ان ساورز سأله اذا كان لديه اعتراض مبدئي على الفكرة، فيقول انه اشترط ان نجد شخصاً تخلّى عن الافكار الشيوعية الخاطئة بشأن كيفية ادارة الاقتصاد، ويقول انه التقى مع عزيز محمد الامين العام السابق للحزب الشيوعي، الذي سأله عما تعلمّه من سقوط الشيوعية السوفيتية.. ثم يبدي انطباعاته اثر سماعه تعليقات عزيز محمد بأن يعتقد ان بريجنيف لا يزال يتولى مقاليد الامور في موسكو.. وهكذا شطبنا عزيز (محمد) من اللائحة كما يقول ويردف ولكن من حسن الحظ اننا انا وساورز، أجرينا مقابلة مع بديل عزيز (محمد) وهو حميد مجيد موسى (الامين العام الحالي) ويقول انه " يدرك بوضوح الحاجة الى تشجيع القطاع الخاص" ويمتدح بريمر موسى بانه احد اكثر اعضاء مجلس الحكم تأثيراً وشعبية(ص- 126). وكان سيد محمد بحر العلوم قد فوتح لكنه اعتذر لثلاث اسباب الاولى: انكم جئتم اليّ بوقت متأخر ( بعد اكتمال القائمة) والثانية ملاحظة السيستاني بأن يكتب الدستور هيئة منتخبة، والثالثة لأن هناك ثلاث محافظات جنوبية غير ممثلة في المجلس، لكنه في نهاية المطاف وافق على التعاون قائلاً " لم ارفضكم. انني راغب في التعاون معكم ..." لكنه لا يفضل ذلك شخصياً واقترح ابنه د.ابراهيم بحر العلوم. وسأل ماذا لو أوصى المجلس بآلية لكتابة الدستور تتعارض مع فتوى السيستاني؟ وفي نهاية المطاف وبعد ان أصرّ بريمر على التمثيل الشخصي والمباشر لاعضاء مجلس الحكم وافق بحر العلوم على المشاركة. وبموافقته اكتمل الاعضاء الـ 25، فتم الاتصال مع دي ميلو ممثل الامين العام للامم المتحدة الذي عاد من السعودية، لكي يتم اعلان تشكيل المجلس، حيث تكون من: 13 شيعة و5 سنّة و5 اكراد و1 كلدو اشوري و1 تركماني وعُرفت تلك بوصفة بول بريمر السحرية. ويقول بريمر ان الشريف علي كان مستاءً جداً من استبعاده (ص-131) ومن المفارقات لحظة الاعلان وكيف تصرف بريمر: أُوقف الجلبي عند الحاجز لأنه جلب معه 4 مساعدين بدلاً من 2 حسب الاتفاق وهدّد بالعودة الى المنزل. ارسل له بريمر من يقول له عند البوابة: اذهب الى البيت ان كنت تفضل ذلك، فاضطر الجلبي لاسقاط 2 من مساعديه. وبمثل هذه الطريقة الفظة والخشنة كان يتصرف بريمر مع الاعضاء الآخرين. ويؤكد بريمر فيما بعد عدم فعالية مجلس الحكم الانتقالي الذي اسسه بالقول: انه لم يستطع تنظيم موكب، فما بالك بادارة بلد!! * * *
يظهر بريمر كيف انهم كانوا يتضايقون من الاعلام المضاد ويضع تلفزيون الجزيرة في هذه الخانة. وينقل كيف كان اعضاء مجلس الحكم يرّدون على الجزيرة ويشرح كيف هبّ الباجه جي والجادرجي وبحر العلوم بوجه الصحافيين والاعلاميين وكيف انهم (اي الاعلام العربي) لم ينقلوا الأعمال الوحشية التي ارتكبها صدام والمقابر الجماعية واستخدام الغازات السامة.
• مقتدى الصدر
كان السيد مقتدى الصدر الشغل الشاغل لبريمر طيلة فترة حكمه، بل انه منذ اللحظات الاولى لوصوله الى العراق كان يفكر كيف يتعامل معه، وذلك لعدة اسباب: اولاً- لأن الاستراتيجية الامريكية كانت تريد ان تقول ان جميع الزعامات والقيادات الشيعية متعاونة مع الامريكان، وليس فيهم من هو ضد الاحتلال او يؤيد خروج القوات الامريكية من العراق او يدعم المقاومة. وثانياً لان وجود شخصية اعتراضية مثل السيد مقتدى يجعل بعض الزعامات الطائفية الشيعية مترددة في التعاون، خصوصاً وإن هناك منافسات ومزاودات تتم على الارض. وثالثاً ان ذلك يحرج السيستاني، الذي كانوا يعوّلون على رأيه باعتباره القول الفصل والحكم الاخير، فوجود ممانعة من جانب مقتدى لا توفر اجماعاً شيعياً او راياً موحداً لجميع الكيانات المذهبية الشيعية ورابعا لان وجود مقتدى وأمثاله سيشجع زعامات شيعية على الممانعة والرفض وربما سيشجع على التعاون مع الزعامات الطائفية السنية ضد الاحتلال، لذلك كان بريمر حريصا على ابقاء مسافة متباعدة بين التكتلين، وفي الوقت نفسه حريصاً على مشاركة زعامات طائفية سنية في مجلس الحكم ممثلة بالحزب الاسلامي العراقي او غيره. وبعد ان اتسعت مجموعة السيد مقتدى الصدر واخذ يرفع بعض الشعارات المناوئة للاحتلال، ويضغط على الشارع لتأييده، بدأ التفكير بالتخلص منه من جانب بريمر وأصبح الامر شغلاً شاغلاً وهمّاً يكاد يكون مستمراً. يقول بريمر طلبت من الجعفري، الذي كان يستضيفه في بيته على الغداء، الاجتماع دقيقة على انفراد لاثارة مسألة حساسة، تركنا مساعد الجعفري، فاوضحت له بأن مقتدى الصدر نشر مؤخراً، هجوماً لاذعاً على العراقيين الذين يتعاونون مع الائتلاف، واورد قائمة تضم 124 اسما وصفهم بالخونة ذاكراً ان تصفية هؤلاء واجب وطني وديني( ص- 159) وكان الصدر قد شكل جيشاً اسماه " جيش المهدي" قبل اسابيع قليلة من تشكيل مجلس الحكم. ابدى الجعفري حيرته حسب بريمر، الذي يقول بانه سلّمه نسخة من الجريدة، وقد قتل واحد على الاقل ممن وردت اسماءهم في اللائحة، ويقول بريمر ان الصدر مشتبه به بمقتل السيد عبد المجيد الخوئي ( الذي يعطيه صفة آية الله العظمى ويبدو انه بريمر لا يميز بالدرجات العلمية فاذا اراد ان يمجّد او يرتاح لرجل ديني شيعي اعطاه لقب آية الله العظمى، وان غضب منه حتى وان كان آية الله العظمى لكنه يحرمه من ذلك اللقب) ويعتبر بريمر ان مقتدى الصدر هو اسلامي بلشفي لا يؤمن الا بالقوة ولن يتوقف من الحصول عليها (ص -169) وحاول بريمر دفع الامور باتجاه القاء القبض على السيد مقتدى الصدر بتهمة قتل السيد عبد المجيد الخوئي خصوصاً عندما ابلغ القاضي رائد الجوحي بأن لديه شاهدي عيان مستعدّان للشهادة بأنهما سمعا الصدر وهو يصدر الامر بقتل الخوئي، لكن القاضي يريد فتح الجثة قبل قيام الشرطة العراقية بتنفيذ الاعتقال.
لكن مشكلة السيد مقتدى الصدر لم تنتهِ وظلت تتفاقم ببطءٍ احياناً، خصوصاً بعد اندلاع " اعمال شغب" في البصرة، ويذكر انه كان اكثر المجاميع تشدداً في مواجهة مقتدى الصدر وتطبيقه القانون، وكادت عملية الاعتقال تتم، ويقول انه رأى من الحكمة التحدث الى الجعفري رئيس مجلس الحكم آنذاك، الذي بدا على اطلاع وافٍ بالقضية المرفوعة " وكان يحبّذ العملية بشدة" قائلا " ان اعتقال مقتدى الصدر مسألة جوهرية للعدالة" واضاف " يجب ان لا يكون هناك أحد فوق القانون" في العراق الجديد(ص- 176).
وفي مرة اخرى يذكر العلاقة ما بين " الاخوة الاعداء" على حد تعبير كازنتازاكي اي بين المجموعات الشيعية، فاضافة الى ما ذكره الجعفري بخصوص انجاز العملية بشدة وتأمين العدالة، هناك لومٌ من ان القضية تفاقمت، في حين كان الامر يقتضي انهاءها وهو ما كان يريده السيد علي السيستاني كما يذكر بريمر ويقول بريمر ان عادل عبد المهدي طلب مواصلة الضغط على مقتدى الصدر، وكان رأي السيستاني سلبياً بشأن اجراء مفاوضات مباشرة مع مقتدى، حين اجاب بشكل سريع وواضح " نحن لا نعرف سبب التفاوض مع مقتدى او فائدة ذلك" (ص- 445) ولعل هذا الرأي كان هو الغالب، حيث كانت القيادات المذهبية الشيعية تريد التخلص من مقتدى وان كان على طريقة " أكل الثوم بلسان الغير" اي ان يتم ذلك بواسطة قوات الاحتلال وليس بصدامات داخلية.
• السيستاني يقول السفير هيوم " اذا عنف السيستاني مقتدى بشدة، فسيفقد الوغد ماء وجهه". اذ ان السيستاني هو الزعيم الابرز للمرجعية في النجف والمسؤول الروحي عن الحوزة، ويلعب دوراً مماثلاً حسب بريمر للدور الذي يلعبه البابا لدى الكاثوليك، هو لا يدير الحركة اليومية للسياسة، لكنه يمارس نفوذه عبر المحادثات الخاصة مع الاتباع المخلصين والبيانات او الفتاوى العامة التي يصدرها بين الحين والآخر. (ص -213).
وكان السيستاني قد عبّر عبر قنوات خاصة بأنه لن يجتمع مع أحد من الائتلاف (قوات الاحتلال). ويقول بريمر لم اضغط من أجل عقد اجتماع شخصي معه، وكان هيوم الذي يفهم الاسلام والعالم العربي، قد حلل هذا الموقف بأن السيستاني لا يريد ان يُشاهد علناً انه يتعاون مع القوات المحتلة، فثمة أطياف لسنة عشرين (المقصود ثورة العشرين وفتوى الامام الشيرازي بالجهاد ضد البريطانيين) اضافة الى ذلك وجود بعض المتهورين الذين يمكن ان يستغلوا علاقته بالقوات المحتلة، حسب ما يقول هيوم، من امثال مقتدى الصدر، ويضيف لكن السيستاني سيعمل معنا، فنحن نتقاسم الاهداف نفسها.
كانت هذه الاحاديث بين بريمر وهيوم التي يدّونها بريمر في كتابه في حين كانت هناك احاديث اعلامية وصحفية بخصوص الانقسام المفترض بين السيستاني والقوات المحتلة، في حين ينقل بريمر انه في ذلك الوقت كانت هناك اتصالات سرية بينه وبين السيستاني عبر الوسطاء (ص- 214) ولكي يدلل بريمر على رأيه يقول في اوائل صيف 2003 أرسل السيستاني إليّ برسالة يقول فيها انه لا يتخذ موقفه بسبب عدائه للائتلاف بل هو يتجنب الاتصال ليتيح فائدة اكبر لمساعينا المشتركة، وانه قد يفقد بعض مصداقيته اذا تعاون (معنا)علنا. ولا ادري الان بعد ان يطلع القراء على ثلاث قنوات سرية بين السيستاني وبين بريمر ماذا سيقولون !!؟ ولماذا لم تكن هذه القنوات علنية ومباشرة او عبر ممثلين رسميين!!؟ ونتساءل هل كان بريمر أميناً وصادقاً أم انه ادعى الكثير وحاول تضخيم دوره ناسباً لنفسه بطولات وأمجاد ساعياً لإعلاء مكانته، سواء كان بسوء نية او بدونها، فإنه قلل من شأن الآخرين، مبدياً عدم جدارتهم واهليتهم من خلال استعدادهم للتعاطي معه ومع الاحتلال دون أي اعتبار مبدئي أو اخلاقي، إنْ كان ذلك بصورة مباشرة او غير مباشرة.
وتبقى تلك تساؤلات وافتراضات بحاجة الى تدقيق وتوثيق، وكان جديراً ببريمر وهو يدّون شهادته أن ينشر بعض الرسائل المتبادلة والوثائق التي تحدّث عنها وبعض محاضر الاجتماعات وبعض التقارير وغيرها، خصوصاً وأن إشاعات كثيرة قد لاكت سمعته بما فيه بعض تصريحات أعضاء مجلس الحكم الانتقالي (ولكن بعد مغادرته العراق) تتعلق بفشله السياسي وفظاظاته الشخصية والارتكابات التي تمت في عهده، مثلما حصل في الفلوجة والنجف ومدينة الصدر وفي سجن ابو غريب او غيرها، ناهيكم عن اتهامه بتبديد المال العام وانتشار الفساد والرشوة على نحوٍ لم يسبق له مثيل، حيث قيل أنه بدد نحو 8 مليارات و800 مليون (ثمان مليارات وثمانمائة مليون دولار امريكي) صُرِف بعضها دون ايصالات وعلى عقود وهمية خلال فترة الـ13 شهراً التي حكم فيها العراق.
لكن تلك التساؤلات والافتراضات تصبح اتهامات وشكوكاً خطيرة ان لم تتم الاجابة عليها وإجلاء حقيقتها من جانب التي الشخصيات والجهات التي تناولها بريمر، لتحديد المسؤوليات ووضع الامور في نصابها احقاقاً للعدالة، وإلاّ فإن هذه " الشهادة" واليوميات او المذكرات ستؤخذ على محمل الجد كلاً او جزءاً وتصبح تاريخاً وحقيقة من حقائقه. اما القنوات الثلاثة لعلاقة السيستاني مع بريمر فهي : الاولى: عبر د. موفق الربيعي والثانية: عبر السيد حسين اسماعيل الصدر (الذي يعيش في الكاظمية) والثالثة: عبر السيد عماد ضياء (الخرسان) المسؤول في لجنة اعادة الاعمار الامريكي الجنسية واحد المعتمدين للسياسة الامريكية في العراق، فهل ستؤثر هذه العلاقة وما ترشح عنها على اوساط المؤمنين من الشيعة تحديداً وهو الامر الذي تخوف منه السيستاني لانه يؤثر على الصدقية(ص -253).
يقول بريمر: وبين تموز (يوليو) واواسط ايلول (سبتمبر) (2003) تبادلت اكثر من عشر رسائل مع السيستاني، وينقل اشادة السيستاني بما فعله التحالف من اجل الشيعة والعراق، مع اصراره على وجوب انتخاب المؤتمر الدستوري بالاقتراع المباشر، ويؤكد بريمر القناة غير المباشرة مع السيستاني اصطحابه وزير الخارجية الامريكية كولن باول عند زيارته الى العراق الى عشاء في منزل آية الله السيد حسين الصدر، الذي حسب ما يقول كان يقابل السيستاني كل اسبوع (ص-215)
يقول بريمر ان السيستاني كان يخشى التهديد الذي يشكله مقتدى الصدر وانه حاول الاعتذار عن اللقاء بمقتدى، الذي إلتقاه ابنه محمد رضا، وان السيستاني ابلغ الربيعي بان خياره المفضل هو ان لا يبقى مقتدى، ويعلّق بريمر انه افترض " انه يريد ان يقتل الشاب " ولعل ذلك ما شاع من تدخل ايراني وسوري لحمل السيستاني على العودة من لندن حيث كانت فترة اختياره للعلاج بداية العدّ التنازلي لتصفية مقتدى ، وقيل ان الايرانيين ارسلوا له السيد جواد الشهرستاني لاقناعه بالعودة لانقاذ الصدر!! وخوفاً من تدهور الموقف وحدوث انشطارات عميقة في الوسط المذهبي الشيعي.
ينقل الربيعي عن السيستاني انه كان مشغولا جدا بمقتدى، في حين حاول هو ان يشركه في بحث العملية الدستورية، لكنه لوّح بيديه بما معناه " اية انتخابات ومن يستطيع التحدث بذلك" !؟ وهو ما يذكره بريمر. ولا ادري كيف جاءت معلومة تقول ان السيستاني اخبر الربيعي بان الرئيس السوري بشار الاسد بعث اليه برسالة سرية تدعوه لاصدار فتوى الى الجهاد ضد الائتلاف، مثل ما فعل قادة الشيعة في سنة 1920 وهو ما ينقله بريمر عن الربيعي، والامر يتطلب تأكيداً او نفيا من جانب السوريين ومن جانب الربيعي حيث وردت الرواية على لسانه باعتباره هو الذي نقل خبر الرسالة الى بريمر (ص- 254). إن ما ورد بخصوص السيد السيستاني بحاجة الى تدقيق وتوضيح خصوصاً وان ذلك يلحق اساءة بالغة بالمرجعية وانصارها فيما اذا كانت الامور تسير على هذه الشاكلة التي ذكرها بريمر، ويضع صدقيتها في مهب الريح، ليس على صعيد اوضاع الحاضر بل على صعيد تاريخي ومستقبلي بحيث يصبح كشف العلاقات الداخلية والخارجية وتوثيقها بما فيها الدرجات العلمية والموارد المالية وكيفية التصرف بها، استحقاقاً لا يمكن الفكاك منه سواء ما يتعلق بالعلاقة مع جمهور المقلّدين (الأتباع) بشكل خاص والشيعة والمسلمين بشكل عام أو بما له علاقة وتبعات ومساءلات أمام الدولة وهيئاتها. وهذا الامر يحتاج الى وقفة جدية مسؤولة وبروح الشفافية والعلانية والحرص على مستقبل المرجعية والطائفة، فهناك فرق بين الطائفة والطائفية، فالاخيرة تعمل على استغلال النفوذ المذهبي بشكل خاص والديني بشكل عام لتحقيق مكاسب سياسية، قد لا يكون لها علاقة بالطائفة او تعبير عن مصالحها بقدر ما له علاقة بامراء الطوائف والمتنفذين فيها، سواء كان ذلك عبر العمل على الغاء او تهميش او إقصاء او عزل او استئصال الآخر، او محاولة ادعاء افضليات او العمل على املاء الارادة تحت عناوين مختلفة، فتارة بحجة "المظالم التاريخية" واخرى بحجة تمثيل الاغلبية وثالثة تحت يافطة الحفاظ على الهوية وغير ذلك من مزاعم ومبررات.
ولهذا أقول إن الطائفية شيء والطائفة شيء آخر، فهذه الاخيرة هي عبارة عن كيان قائم بذاته توالد عبر العصور واكتسب مكانة معينة ولديه خصائصه وطقوسه وممارساته وتقاليده الخاصة به مثل بقية الطوائف والفرق الاخرى. واود ان الفت الانتباه هنا الى ان عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي كان قد نبّه منذ وقت مبكر الى خطر الطائفية عندما وصف هؤلاء في الخمسينات وهم يتعكزون على الطائفة للحصول على امتيازات سياسية، بأنهم "طائفيون بلا دين " لأن المتدين الصحيح والمسلم الصادق والمؤمن الحقيقي، لا يمكن ان يكون طائفياً خصوصاً وانه يستند الى تعاليم الاسلام السمحاء والى القيم الانسانية. يوجد في الطائفة الواحدة متدينون وغير متدينين، علمانيون وغير علمانيينن تقدميون ورجعيون، محافظون ومجددون، تقليديون وحداثويون، ولهذا السبب لا يمكن لاحد ادعاء تمثيل الطائفة او النطق باسمها مهما كان له من مكانة ودور، فافرادها كمكوّن تاريخي يتوزعون على تيارات فكرية وسياسية واجتماعية متنوعة ومتعاكسة احياناً ولهذا مهما علت مكانة اية مرجعية فإنها لا يمكن ان تعبّر عن هذا الخليط غير المتجانس احياناً، ناهيكم عن ان هناك روابط ابعد من حدود الطائفة، كالمواطنة والوطنية ركنا الدولة العصرية، التي يمكنها حماية الحقوق على اساس المشترك الوطني والهوية الجامعة غير التجزيئية سواء كانت مذهبية او عرقية او عشائرية او جهوية او فئوية او غير ذلك. جدير بالذكر ان الرسائل التي تم تبادلها خلال العام ونيف بين السيستاني وبريمر زادت على ثلاثين رسالة واحيانا كان عماد ضياء الخرسان يطير بطائرة خاصة لملاقاة السيستاني لحمل رسالة اليه ليعود بعدها فيبلّغ بريمر. ينقل بريمر عن السيستاني انه ارسل اليه رسالة يذكر فيها بانه مستاءٌ من ملاحظات السيد عبد العزيز الحكيم الى الرأي العام، بخصوص انتخاب المجلس التشريعي وتسليم السيادة، بعد مقابلة السيد السيستاني.
يقول بريمر ولكي استوضح الموقف استخدمت قناتي الخاصة للاتصال بالسيستاني ( عماد ضياء الخرسان)، الذي اثبت فائدته كقناة سرية للاتصال بالسيستاني، استذكرت فيها معاناة الشيعة من الانظمة الظالمة والمستبدة مُبدياً تفاؤلي بشأن تحسين الاوضاع وبشأن التعاون. في تلك الليلة عاد عماد الخرسان حاملا معه اخباراً طيبة، قال وهو يقرأ ملاحظاته " ان اية الله العظمى معجب بك ويحترمك وهو يقدر الفرصة للعمل معك من اجل مستقبل العراق، لكنه يريد التقدم بانتخابات مباشرة... حتى وان كانت غير مثالية... وان اية الله العظمى يؤمن بالديمقراطية، وهو ملتزم بالعمل مع الائتلاف" (ص-308).
وتأكيدا على ثقة السيستاني ببريمر يقول الاخير انه تسلّم رسالة من السيستاني في 15 كانون الاول (ديسمبر) 2003 قال السيستاني فيها: انه يريد ان تأتي لجنة من الامم المتحدة الى العراق لدراسة مسألة اجراء انتخابات " خلال مدة 30 يوماً" لتقدّم تقريراً بعدم امكانية ذلك بحلول 30 حزيران (يونيو).. يقول بريمر قلت لبلير (تعليقا على قول السيستاني) " وذلك يعني على ما ارجو أن يبحث عن انقاذ ماء وجهه" – المقصود السيد السيستاني( ص- 340) وذلك في معرض الخروج من ورطة اجراء انتخابات في وقت مبكر. وكانت المشكلات التي واجهت صياغة الدستور حسبما يذكر بريمر، هي موضوع الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، ودور الدين وحقوق المرأة ومشكلة كركوك والفيدرالية وكيفية تطمين العرب السُنّة ويقول انه سمع من الربيعي وعماد الخرسان في تقريرين مفصلين موقفاً مرناً بشأن دور الاسلام، الى ان تمّ التوصل الى ان الاسلام يعتبر مصدراً رئيسياً وليس المصدر الرئيسي، كما ان الجلبي اقترح لغة مشددة ضد البعثيين تأكيداً على سياسة الاجتثاث بما فيه حرمانهم من حقوقهم المدنية ( ص- 375) على عكس خصمه اللدود آياد علاوي. ويذكر بريمر ملاحظات السيستاني بشأن أغلبية ثلثي ثلاث محافظات لنقض الدستور وكيف انه رفض ان يشير قرار مجلس الامن الدولي رقم (1546) الصادر في حزيران (يونيو) 2004 الى قانون ادارة الدولة الذي صدر في 8 آذار (مارس) 2004 ويشيد هنا بريمر بالباجه جي، الذي يقول انه لعب دوراً في ذلك كما يؤكد على جديته بين غالبية اعضاء مجلس الحكم، لكنه يغمز قناته من خلال " كتاب" كان قد ألفّه يشير فيه الى عائدية الكويت للعراق، وذلك بعد محاججة صدام حسين له يوم زاره في المعتقل بعد إلقاء القبض عليه هو وعادل عبد المهدي واحمد الجلبي وموفق الربيعي.
يقول بريمر ان اعتراض السيستاني عشية اصدار قانون ادارة الدولة كان بمثابة قنبلة ولهذا حاولت كدبلوماسي اخفاء القبضة الحديدية داخل قفازي المخملي، وكتبت الى السيستاني: ان سحب هذه المادة سيقوض الاجماع ويعطي اشارة للارهابيين بأن بوسعهم اخراج جهودنا لبناء عراق ديمقراطي حر عن مسارها... واذا اصررت على ذلك فستقع أسوأ كوابيسك في الوقت الذي لا يستطيع بلدك تحملها". وركب عماد الخرسان مروحية بلاك هوك بشجاعة وتوجه الى النجف، ويقول بريمر: قلت للربيعي الذي طلب مقابلتي انتم الشيعة تلعبون بالنار وتخاطرون بتقويض العملية بأكملها وبعد اجتماع القيادات الشيعية وبعد اخذ ورد ومناورات " كردية – شيعية" وبين اعضاء مجلس الحكم واتصالات بـ كوندوليزا رايس مستشارة الامن القومي آنذاك واصدار الطالباني والبارزاني على فقرة المصادقة على الدستور وافقت الاطراف المعنية على ذلك واعتبره بريمر يوم انتصار الديمقراطية في العراق.
• ثلاث ازمات عشية تسليم السلطة !! ويشخص بريمر ثلاث ازمات مرت بها العملية السياسية عشية ما سمي بتسليم السيادة، الاولى: عودة الاخضر الابراهيمي، باقناع السيستاني وبعض اتباعه من الشيعة الذين شنوا هجوماً عليه باعتباره قومي عربي وسني وغير ذلك وان ادانته لم تكن حازمة للانتهاكات ايام صدام، وكان بعض الاعضاء قد وزعوا صورة للابراهيمي وهو يدخن السيجار مع صدام قبل سنوات.
والسبب في ذلك ان الاخضر الابراهيمي كان قد عبّر عن اعتقاده بوجوب الاّ "يدير اصحاب العمائم السوداء " المقصود رجال الدين الشيعة الحكومة العراقية المؤقتة ويقول بريمر انه ابلغه ان اية الله السيستاني مهتم فقط باغلبية شيعية في الحكومة الجديدة .
الازمة الثانية، مشكلة مقتدى الصدر وجيشه المهدي الذي يقول عنه بريمر انه اصبح اكثر وقاحة حيث كان يرتدي الكفن الابيض وانه يتعطش للشهادة ويمارس اعمال شقاوة ولديه سجن خاص يقوم بتعذيب المعتقلين، علماً بانه ملاحق بامر قضائي بمقتل الخوئي ومعه 12 من انصاره (ص- 392). والمشكلة اتسعت خصوصا عندما صعد مقتدى الصدر امام منبر في جامع الكوفة واطلق اشد هجوم انتقادي عندما صاح " لا لا لليهود..لا لا لاسرائيل.. لا لا لأمريكا" واعتبر " الاحتلال " مؤامرة صهيونية امريكية ويقول بريمر ان مقتدى امتدح هجمات 11 ايلول (سبتمبر) ووصفها بانها معجزة ونعمة من الله (ص- 394). المشكلة الثالثة، هي في غرب العراق حيث انفلت الوضع الامني في الفلوجة التي يقدر عدد سكانها بـ300 الف نسمة واكتسبت شهرتها بجدارة باعتبارها مدينة صلبة لا تلين باعتراف بريمر، ويتحدث عن الانفلات الامني في الرمادي ومقتل اربعة من الامريكان مما ادى الى مداهمة الفلوجة والانقضاض عليها في حملة عقاب جماعي للسكان المدنيين الابرياء العزّل.
يتحدث عن فضيحة النفط مقابل الغذاء خصوصاً وان الامم المتحدة عيّنت فريق تحقيق برئاسة جول فولكر رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي السابق وان البرلمان البريطاني اتخذ خطوات للنظر في القضية وان الكونغرس الامريكي سيحذو حذوه، لكن بريمر يشعر بالاحباط عندما عَلِم ان احمد الجلبي حاول اقناع مجلس الحكم بتولي تحقيق عراقي، والاكثر من ذلك فهو يعبّر عن مخاوفه عندما يعلم ان الجلبي يريد من مجلس الحكم التعاقد بدون مناقصة مع شركة محاسبة لاجراء التحقيق ( ص- 396) ويقول انه اوكل الامر الى ديوان الرقابة المالية للتدقيق ولكن الجلبي ابدى استياءه من تصرف بريمر هذا وحاول التشكيك باجراءاته بخصوص كشف الحقيقة " كاملة". خلال عمل بريمر تصاعدت عمليات المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال، كما انتشرت الاعمال الارهابية التي تطال السكان المدنيين الابرياء العزّل ولم تنفع كل الجهود لاعادة تأهيل قوة عراقية لحفظ الامن وحماية النظام العام. ويعترف بريمر بذلك من خلال رسالة يبعثها للرئيس بوش يقول فيها: اتوقع زيادة الهجمات الارهابية وان قوات الامن العراقية لا تزال سيئة التدريب ولا يمكن الركون اليها... ويضيف علينا الاّ نخدع انفسنا او العراقيين في التفكير بأنهم سيكونون قادرين على توّلي زمام الامن ... فذلك يتطلب عدة شهور وربما سنوات.. وقد كشف بريمر عن عدم فائدة جنود الدفاع المدني العراقي الذين فرّ نصفهم في الطريق الى الفلوجة وتغيّب نحو الثلث في بغداد وكانت نسبة التغيب في مدينة الصدر 80% وكذلك تغيب رجال الشرطة في الجنوب او كانوا سلبيين (ص- 411 )
صدقت رواية بريمر تلك، فرغم مرور سنتين على انتهاء مهمته تردّت الحالة الامنية سوءاً وازدادت الفوضى وانتشر الارهاب والجريمة المنظمة وازداد الفساد والرشوة وتراجعت الخدمات على نحو صارخ، ولم تتمكن قوات الامن من تأهيل نفسها ولم تعلن القوات المحتلة ان في نيتها الرحيل، ومن جهة اخرى تعاظمت حالة الرفض الشعبي وبانت خطة الاحتلال وذيولها عارية ولا يمكن ستر الفضائح التي حصلت سواء ما جرى في سجن ابو غريب او الفلوجة او النجف او حديثة او الاسحاقي او استخدام الفسفور الابيض او غير ذلك، رغم ان هذه الامور ما تزال في غالبيتها الساحقة طي الكتمان والتستر والسرّية الكاملة.
يقول بريمر إن مقتدى الصدر يشكل تهديداً اكبر للاسلاميين الشيعة من تهديده للائتلاف الدولي لكن الكثير منهم يخشى مواجهته ويذكر انه خاطب مجلس الحكم حين اشتدت ازمة الفلوجة ومقتدى الصدر: اي عراق تريدون وعليكم ان تختاروا وليس هناك موقف وسط، فالعراق الجديد لا يمكن ان يقبل بمقتدى، نحن لم نحرر العراق لنسلمه الى دكتاتور جديد (ص -414). يقول بريمر إن مقتدى توجه الى المدارس في بغداد واجبرها على اغلاق ابوابها وان رجاله سرقوا مصرفاً كما هاجموا المصرف المركزي ... ولا استغرب السيطرة على كربلاء بعد ذلك وعلينا تطبيق استراتيجية اناكوندا والابقاء على المعتدلين الشيعة معنا، لكننا لا نستطع التحرك ضد مقتدى نفسه فيما يلتجىء في جامع الكوفة وينقل رأي كولن باول الذي يدعم فيه رأيه، يشير الى ان بريمر كان يضغط لاتخاذ اجراء ضد مقتدى (ص – 416 وما بعدها).
وخلال ازمة مقتدى وازمة الفلوجة حدث فشل ذريع لقوات الامن العراقية – يقول بريمر لقد خسرت الشرطة الى حد كبير وكان نصف فيلق الحرس الوطني غائباً بدون اجازة ورفضت كتيبة الجيش الجديدة القتال واعلن عبد الباسط تركي وزير حقوق الانسان استقالته، وابدى الباجه جي غضبه من عملية الفلوجة التي اعتبرها عقاباً جماعياً وأبلغ حاجم الحسني قرار الحزب الاسلامي بالانسحاب من مجلس الحكم وان غازي الياور يعتزم ترك المجلس وان هناك احتمالاً ان يتخلى الابراهيمي عن مهمته بسبب غضبه من الوضع في الفلوجة، وهكذا بدى المجلس منقسماً بشأن العمليات في الفلوجة، وكان مقتدى قد دعى الى ثورة شعبية وتعرضت المنطقة الخضراء الى هجوم صاروخي.
في هذه الاثناء نضجت فكرة الاتيان بـ أياد علاوي رئيساً للوزراء باعتباره "اصلب من كل زملائه" على حد تعبير بريمر، لكن بريمر كان يتخوف من احتجاج الابراهيمي بسبب صلات علاوي المعروفة بوكالة الاستخبارات الامريكية وقد يرفض السيستاني (ص – 226). وكان مقابل علاوي هناك من يرشح حسين الشهرستاني. يقول عنه بريمر انه شيعي منغلق وتتم المفاجأة حين يقول الشهرستاني انه والسيستاني متفقان على شخصية سنية لرئاسة الوزراء، كما ان الشهرستاني قريب جداً من الايرانيين على حد تعبير علاوي الذي كان رئيسا للجنة الامنية التابعة لمجلس الحكم وكان البعض يردد انه غير عراقي كما يقول الجعفري( ص-458). كما استبعد الجعفري الباجه جي من منصب رئاسة الدولة لانه عاطفي جدا ويدخل في كثير من النزاعات واستخدم لغة فظة معنا، اما غازي اليور فقد رشح اياد علاوي وهو ما يدعو حميد مجيد موسى امين عام الحزب الشيوعي الى القول انه " رجل جيد وشخص نزيه" (ص-459) وكان قد قدم دعماً قوياً لاياد علاوي بين اعضاء مجلس الحكم، لكن الابراهيمي عبر عن مخاوفه من ان وسائل الاعلام الامريكية ستشير الى ان تعيينه انتصاراً لوزراة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية على وزارة الدفاع على اعتبار ان الجلبي خسر تأييدها (ص- 463 و 464) وفي نهاية المطاف وافق جميع اعضاء مجلس الحكم بالاجماع على تعيين علاوي وقد ترافق ذلك التعيين مع صدور قرار مجلس الامن الدولي بالاجماع في 8 حزيران (يونيو) 2004 والذي حمل الرقم 1546 حيث رحب القرار بالحكومة العراقية المؤقتة وتضمن الجدول الزمني الذي وضعه قانون ادارة الدولة بشأن العملية السياسية دون الاشارة اليه وهو ما دعا اليه السيستاني.
• فضيحة ابو غريب يقول بريمر انه ناقش فضيحة التعذيب في سجن ابو غريب (منتصف ايار/مايو 2004) مع اعضاء مجلس الحكم بعد ان انتشرت القصة في واشنطن بواسطة وسائل الاعلام وقد كان برنامج 60 دقيقة قد نشر صوراً فوتوغرافية تظهر عمليات الاساءة، خصوصاً بعرض المعتقلين وهم عراة فيتعرضون للسخرية والاذلال الجنسي على يد افراد الشرطة العسكرية، بمن فيهم جنديتان تبتسمان بغرور ولكن المفارقة عندما قالت الدكتورة رجاء الخزاعي بأنها ترأست مؤخراً وفداً زار سجن ابو غريب فوجدت الرعاية الطبية هناك افضل من الرعاية التي توفرها المستشفيات العراقية، وسأل الباجه جي مساعده عطا عبد الوهاب ان يدلي بشهادته عن سجنه في السبعينات والثمانينات، وسرد عليهم ذلك وصب بعض اعضاء مجلس الحكم جام غضبهم على صدام حسين وتلفزيون الجزيرة ومحطة الـ بي بي سي وانتهى الامر بادانة وبمطالبات غامضة ومشوشة.
لا يذكر بريمر أعضاء الفريق العراقي المتعاون معه بالخير، فكلّما ورد اسم احدهم تراه يقدّّم الوجه السلبي ونقاط الضعف على اية جوانب ايجابية او نقاط قوة، ولعل هذه نظرته الجمعية لمجلس الحكم الذي يقول انه لم يتوافق على اي شيء، لكنه بسهولة توافق على مخصصات اعضائه ومخصصات بانزين السيارات 5 الآف دولارا شهرياً بحيث يقتضي عليهم السير بالسيارة اكثر من 90 ألف ميل ما يعادل 140 الف كيلومتر (تسعون الف ميل) شهرياً وهو امر غير ممكن على الاطلاق لكنه يرتاح لثلاث شخصيات هي د. اياد علاوي (الصلب) ويشير الى انه عمل عن كثب مع اجهزة استخبارات غربية وعربية،ود.عادل عبد المهدي (الرصين) وحميد مجيد موسى (المرح).
كتاب بريمر اقرب الى الاواني المستطرقة، فكل كلام قيل في جلسة سرية او خاصة او لقاء او اجتماع اختزنه بريمر في وعائه الخاص، وتركه ليخرج من الجهة الاخرى، وقد لا يكون ذلك بعيدا عن خلطه بمواد وروائح اخرى، ليظهر علينا بالصورة والنكهة التي صدر فيها الكتاب.
انه لكتاب خطير لمرحلة خطيرة!! • المؤلف : بول بريمر • اسم الكتاب: عام قضيته في العراق • الاسم الاصلي: My Year in Iraq • ترجمة : عمر الايوبي • دار الكتاب العربي • بيروت، ط1، 2006 • عدد الصفحات 496 من القطع الكبير
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العاشق الذي يلاحقه الشعر ويبكيه العراق
-
العالم العربي ما بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان
-
هل تستطيع حلّ العقدة العراقية والسورية اللبنانية ؟!! جامعة ا
...
-
بيئة العنصرية وكراهية الآخر هل نحن في مواجهة مع الغرب!؟
-
مفارقات - الالتباس- الحضاري مسيحيو العراق والاساءة الى النبي
...
-
حوار مع الناقد والمفكر العراقي عبدالحسين شعبان
-
رؤية في مشروع الدستور العراقي الدائم
-
هل هو فعل إكراه أم فعل ارادة ؟
-
الفيدراليات العراقية بين التأطير والتشطير
-
تقرير متخصص يسلط أضواء جديدة علي الوضع الانساني (2-2) أكثر م
...
-
العقوبات أسهمت في تفاقم انتهاك حقوق الانسان
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|