سالم جبران
الحوار المتمدن-العدد: 1685 - 2006 / 9 / 26 - 09:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أكبر من أزمة ثقافية-
إنها أزمة النظام السياسي!
روى الناقد اللبناني المعروف, إبراهيم العريس, الذي يعيش في باريس. أن نجيب محفوظ, الراحل العظيم, حكى له مرّة بمرارة شديدة, إن عائداته المالية من الطبعة الفرنسية للثلاثية الشهيرة, كانت أكبر من كل عائداته من الطبعات العربية لمؤلفاته!
وقال العريس إن أكثر من مئتي ألف نسخة وُزِّعت من الطبعة الفرنسية للثلاثية وطباعتها وبيعها مستمران, بينما عادةً لا يُطبع من أي كتاب لمحفوظ باللغة العربية أكثر من عشرة آلاف نسخة, في أحسن الأحوال.
وقد نشرت مجلة "أنْتِ" الأُردنية, مؤخراً تحقيقاً مثيراً حول "المطالعة في الوطن العربي", كشف أُموراً مثيرة للضحك لولا أنها مثيرة إلى البكاء والفجيعة. وذكر التحقيق أن دراسة أُجريت مؤخراً, في الدائرة الثقافية لجامعة الدول العربية, كشفت أن المواطن العربي يقرأ, بالمعدل..."ست دقائق في السنة"!!
إن التحليل بأن "هموم الحياة" قد زادت وأن الركض وراء لقمة الرزق لا يُبقي وقتاً للمطالعة هو كلام غير صحيح وحُجّة غير مُقنعة. فكل شعوب الأرض تركض وراء الرزق, وأكثر منا, بل أن الشعوب الأخرى تحقق إنجازات اقتصادية واجتماعية وعلمية أكثر منا, وهذا لا يَسقط عليهم وهم نائمون يتثاءبون, بل هو ثمرة كدِّهم وركضهم ونشاطهم.
كل من زار الدول الأوروبية شاهد, ولا شك, المواطنين والمواطنات, كيف يقرأون في كتاب أو مجلة أو جريدة وهم مسافرون في "المترو" تحت الأرض, أو في الباص, فوق الأرض, وشاهد, ولا شك, الناس يجلسون في الحدائق العامة, في أيام العُطل وفي الأيام العادية, وهم يطالعون صحيفة, وفي كثير من الحالات(خصوصاً في حالة المسنين) يطالعون كتاباً!
حتّى الإنترنيت ليس سبباً مقنعاً لتراجع المطالعة عند العرب, فنسبة مَن يستخدمون الإنترنيت –للأسف- لا تزال قليلة جداً في الأوطان العربية مقارنة مع أكثرية دول العالم. وحتّى الفقر ليس سبباً لعدم القراءة, وقد قرأنا مؤخراً تحقيقاً مثيراً للاعتزاز, حول انتشار الكتب, خصوصاً القصصية والروائية, في أمريكا اللاتينية التي هي أيضاً أوطان لفقر مُدْقِع.
إذا كنا أمة جدية فعلينا فحص أمورنا بدون البحث عن الأجوبة القصيرة السخيفة التي "تريح الضمير" راحة وهمية علينا أن نسال الأسئلة الصعبة وأن نفحص فحصاً عقلانياً وانتقادياً, في كل حالتنا القومية, السياسية والاجتماعية والتعليمية, ومفاهيمنا وقيمنا, وبعد ذلك نصل منطقياً إلى الموقف من الكلمة المكتوبة, إلى الموقف من مكان الثقافة والفكر, في مجتمعاتنا.
ما هي حالة التعليم في الأوطان العربية؟ هل المدرسة تُقرِّب الكتاب إلى النشء الطالع؟ هل المدرسة تدفع الطالب من سن مبكرة إلى فتح الكتاب وقراءته؟ هل التعليم ينشر بين الأجيال الصاعدة رغبة في الثقافة والمعرفة والفنون ؟ هل التعليم ينمي ملكة العطش للمعرفة؟
هل الدولة والحكم المحلي يعملان على انتشار المكتبات في مجتمعنا؟ هل تقام أمسيات في المكتبات والنوادي حول حياتنا الثقافية والفنية؟ هل تعمل الدولة على نشر الاحترام المنهجي للثقافة الوطنية والفنون الوطنية, الفولكلورية والمسرحية؟هل هناك احتفالات بعظماء الأُمّة, كما هي الحال في الدول الراقية؟هل الدولة تضمن مناخاً من حرية الفكر والنقاش وتحترم كل الاجتهادات وتدافع عنها في وجه التطرف والظلامية والإرهاب الفكري؟
كلنا نذكر, وكيف ننسى, كيف انقضَّ شاب مسموم الدماغ والضمير بالتعصب الظلامي, على نجيب محفوظ ليقتله حين كان في الثمانين من عمره, إثر تحريض في الصحف على روايته "أولاد حارتنا". "أغلب الظِّن أن المجرم المعتدي لم يقرأ "أولاد حارتنا" ولم يرَ الكتاب, بل هو اندفع لفعل الجريمة, تحت التحريض الهستيري من الأوساط الظلامية المعادية للنور والتنوير.
إننا نقرأ, بألم شديد, أن مليارات الدولارات تصرف في مصر, على الخزعبلات حتّى صارت الصحف تكتب عن" صناعة الخزعبلات". والحال في بقية الدول العربية ليست أفضل حالاً من مصر, وأغلب الظِّن أنها أسوأ.
ما تنشره الدائرة الثقافية والتعليمية في جامعة الدول العربية حول انتشار الأُمية يبدو مذهلاً ومقلقاً إلى أبعد الحدود . مرّ أكثر من نصف قرن على استقلال الدول العربية, التي صارت دولاً "وطنية" ذات حكومات وطنية. فكيف لم يتم, بعد محو الأُمية؟ إن الأُمية في الأرياف والمناطق النائية في الدول العربية تصل إلى أكثر من 80 بالمائة. وهناك ظاهرة تدعو إلى التفكير,فإن أكثر دولتين عربيتين فقيرتين, لبنان والأردن, هما الأكثر تقدماً في مجال التعليم ومحو الأمية.
قرأنا هذا الأسبوع تقريراً حول الأبحاث الجامعية الأكاديمية التي تُنْشر في الدول وتحظى بمكانة عالمية. واعترف أنني "رحت الحيط" كما نقول باللهجة العامية الفلسطينية, كان عدد الأبحاث الأكاديمية التي تُنشر في المجلات العالمية, لباحثين إسرائيليين أكثر عدداً من تلك التي تنشر لباحثين من كل الوطن العربي!!
علينا أن نعترف بالحقيقة مهما تكن قاسية ومُرّة. إن النظام السياسي العربي المعاصر ينشر عن قصد, ثقافة القطيع, وثقافة الصمت, وثقافة الاستسلام , وثقافة الاستهزاء بالذات, مقارنة مع دولة المخابرات "القادرة على كل شيء", القادرة أن تقتل أي شخص وتخفيه بدون أن يجرؤ أحد على أن يسأل عنه,
إن نشر عقلية الشعور بالعجز, تجعل المرء, راضياً أن يحافظ على حياته, وليس مهماً أية حياة هي هذه. النظام الدكتاتوري الذي يريد من الشعب أن يصفق وأن يهتف بحياة "القائد الرمز" هو نظام يقتل الإرادة, يقتل روح المبادرة, يقتل التفكير, يقتل الروح الثائرة المتحفزة للتقدم, يقتل الإحساس بضرورة الثقافة والمعرفة.
عندما يصبح الشعب رغم أنفه جوقة تصفيق للدكتاتور, ما الغرابة في انتشار الأمية السياسية والقطيعة مع الثقافة والخوف من التفكير الإنتقادي, بشكل عام ؟
لا نريد أن نستطرد, بلا حدود. ما نريد أن نقوله هو أن القضية أكبر من "أزمة ثقافية" شاملة, وأزمة انتشار الكتاب. إن ثورة ديمقراطية اجتماعية تعليمية ثقافية شاملة هي ما ينقل أمتنا العربية من الركود إلى النهضة, ومن الصراخ إلى التفكير, ومن الأصولية إلى طرح كل الأسئلة الصعبة, وهو ما يجعل النهضة العامة, العميقة, القطار الذي نسافر فيه إلى المستقبل العصري لأمتنا, أُمّة ابن خلدون وابن رشد والفارابي والمتنبي وأبي العلاء المعري.
(سالم جبران –شاعر ومفكر وإعلامي فلسطيني يعيش في الناصرة.)
#سالم_جبران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟