كتب الدكتور بشير موسى نافع مقالة عاصفة و نارية في القدس العربي عدد 3924 تحت عنوان خبري المضمون يقول " المثقف العربي العلماني يطالب بتدخل أجنبي سافر " وقد جاءت المقالة للأسف بلغة ومصطلحات لا علاقة لها ولا تليق بحامل لقب علمي هو الدكتوراة وصفة أكاديمية هي " باحث في التاريخ الحديث " وبصدقية مضمونية لا تمت بصلة للإسلام الحنيف أو لأي دين سماوي آخر. عنوان المقالة يحيل جريمة المطالبة بالتدخل الأجنبي السافر الى المثقف العربي العلماني أو اليساري بإطلاق القول وفي منتهى التعميم فلا وجود في النص لاسم علم معين معروف أو غير معروف . وهكذا يساوي هذا المضمون الخبري بين المناضل والمثقف العلماني في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مثلا والذي اقتص لشهداء فلسطين من المجرم العنصري رحبعام زئبفي أو بين مئات أن لم يكونوا الآلاف من المثقفين العلمانيين اليساريين الذين يعانون عذابات السجون العربية الرهيبة كالقائد الشيوعي السوري رياض الترك وأمثاله أو المشردين في أصقاع الدنيا والمحرومين حتى من العيش في أوطانهم الغنية بالنفط والزنازين بسبب معارضتهم لهذا الطاغية القومي المتشدق بشعارات دينية معينة فيما هو يبيد شعبا بكامله ، أو ذلك الدكتاتور المعمم والمزين بلقب أمير المؤمنين والذي أضاف للحضارة العربية الإسلامية الزاهرة إبداعا جديدا هو " بيوت الأشباح " أين يغتصب الشباب المعارضون من الجنسين على أيدي جلادين جهلة وظلاميين ! يساوي د.نافع بين هؤلاء وأمثالهم وبين حفنة قليلة من المثقفين المتصهينين والمصابين بعقدة الشعور بالدونية والنقص إزاء الغرب والدولة الصهيونية من أمثال العفيف الأخضر وعلي سالم ولطفي الخولي وعبد القادر الجنابي وصالح بشير وأسماء قليلة أخرى لا يملأ أصحابها عربة واحدة في قطار العار والاستهجان .علما بأن هؤلاء جميعا من ألد أعداء اليسار العربي المنظم في أحزابه المعروفة . إن التعميمات النظرية التي يطلقها الكاتب يمنة ويسرة ، عدا عن إنها فاقدة للصدقية العلمية، إذ لا شيء أو دليل يعضدها، فهي تنم أيضا عن ذلك النوع من العصاب الفكري الذي اجتاح الساحة السياسية والفكرية العربية في الستينيات والسبعينات من القرن المنصرم بين اليسار الستاليني والتيار القومي العربي مع إبداع جيد يضاف الآن الى ذلك العصاب هو التكفير بتهمة محاولة اجتثاث الإسلام من المجتمع العربي !! وهكذا يريد لنا الدكتور نافع أن نصدق،أن الإسلام الذي لم تستطع فرنسا المسلحة حتى الأسنان اجتثاثه من أرض الجزائر طوال مائة وثلاثين عاما من الحروب المتواصلة ،سينجح في اجتثاثه زمرة من المثقفين " العلمانيين " العرب الذين يدعون الى التدخل الأجنبي السافر ! إنه منطق مأزوم يدل على المأساة الخاصة لكل شخص ممرور يأخذ به أو يصدقه .
ويمضي د. نافع في تلطيخ العلماني واليساري العربي بتهم عجيبة وغريبة منها مثلا :
- (تحول المثقف اليساري السابق في ليلة وضحاها الى داعية عالي النبرة للديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية السوق .) ولا ندري في الحقيقة ما الضير في أن يتحول اليساري وخاصة إذا كان من النوع المنغلق والمتحجر فكريا وسياسيا الى " ديموقراطي عالي النبرة " وهل يفضل د. نافع أن يبقيه على ما هو عليه ؟
- (اختار قطاع من المثقفين العرب الوقوف في مواجهة الناس بمعنى الوقوف الى جانب قمع الدولة وعنف أجهزتها .) أين يبدأ هذا " القطاع " وأين ينتهي، وهل يدخل ضمنه اليساريون الماركسيون في حزب العمال الجزائري بقيادة السيدة "لويزة حنون" الذين دافعوا عن الإسلاميين الجزائريين دفاعا مجيدا ونزيها ؟
- (كانت معركة المثقف العلماني مع الإسلام ذاته .) كيف يعني ، هل حاول علماني أو يساري عربي تفجير الكعبة بمن فيها ، أم إنه قطع الطريق على الحجيج ؟ أم إنه طعن أحد كبار الأئمة في عنقه بخنجر كما حدث مع نجيب محفوظ ؟
- ( بالنسبة للمثقف العلماني كانت المعركة ضد الإسلام ترتبط ارتباطا وثيقا بالسلام مع الكيان الصهيوني وإلحاق المنطقة ككل بالمنظومة الغربية الثقافية والفكرية .) وهل تحتاج القوى الإمبريالية الكبرى والتي أقامت أول دولة "إسلامية" في المشرق العربي أن يولد المثقف العلماني لكي يساعدها على عملية الإلحاق هذه ؟
- ( كشف المثقف العربي العلماني عن جلده وانسحب من تحالفه مع الدولة العربية مدينا ضمنيا ترددها في شن حرب نهائية قاطعة ضد الإسلام .) إنه المعجم القمعي الستيني ذاته برائحة سلفية هذه المرة !
- ( إذا لم تكن الدولة العربية الحديثة راغبة في أو قادرة على اقتلاع الإسلام من جذوره في المجتمع العربي فلتقم بذلك القوة الأمريكية السافرة ) !! أليس في هذا الكلام استهانة بالدين وبالمجتمع الذي يؤمن به ؟
في الواقع إن المرء ليدهش لكل هذه الثقة بالنفس البالغة حدود اعتبار التهويمات بديهيات لا سبيل الى دحضها عند السيد كاتب المقالة . ولكن الى أين تؤدي هذه الافتراءات والاتهامات والتعميمات التي يوجهها الكاتب الى المثقف العربي العلماني واليساري ؟ وهل حقا إنها تمتح وقودها من الدفاع عن الإسلام ؟ وأي إسلام ؟ إسلام المقاومة في حزب الله وحماس الذي ناصره وأيده ودافع عنه اليسار الوطني والعلمانيين الوطنيين العرب قبل غيرهم أم " إسلام " ذبح الرضع والنساء وإحراق المدنيين وهم أحياء ؟ لابد للمرء من أن ينأى بنفسه عن التعميمات العصابية والممرورة لكي لا يسيء الى دين حنيف راسخ الجذور تؤمن به مئات الملايين من البشر، ولكي لا يساوي بين الإسلام العقيدة الدينية واجبة الاحترام كجميع الأديان بل وفي مقدمتها كدين سلام ورحمة وبين " الإسلام " الأدلوجة السياسية التي يحملها حزب من الناس لمآرب دنيوية معينة وبين الإسلام الحضارة الزاهرة في تراث الأمة . إن الخلط لخطير بين هذه الدوائر الثلاث : الدين ، الأدلوجة السياسة ، الحضارة المنجزة كتراث ومن هذا الخلط تنشأ وتزدهر كل الظواهر الاجتماعية والحضارية السلبية المعيقة لأي تقدم وتحديث حقيقي . ثم إن واقع الحال يبين أن بلداننا محتلة من الماء الى الماء ثقافيا واقتصاديا وفكريا ولم يعد الغرب الذي دينه الحقيقي هو رأس المال ، و بوجود حكام يطبق بعضهم الشريعة حرفيا ، بحاجة الى حفنة من المثقفين المعزولين في مجتمعات تسودها الأمية لفرض خياراته على الجميع .
أما عن تهمة دفاع المثقف العربي العلماني أو اليساري عن الدولة العربية، ومع إقرارنا بأن القلة التي فعلت ذلك كانت مفلسة أصلا وهاربة من خياراتها الحقيقية ، فهي تهمة تنطبق أيضا على العديد من المثقفين الإسلاميين الذين يريدون أن يجعلوا من فكرهم السياسي دينا إجباريا للجميع، ومنهم د. بشير نافع ذاته والذي لم يطل مرة على شاشة " قناة الجزيرة " إلا ودافع علنا عن أسوأ إدارة سياسية في أسوأ دولة عربية و هي أول دولة خرجت على الإجماع العربي الإسلامي وقصمت ظهر الأمة ، وما زال مقصوما، حين وقعت اتفاق "سلام" مع الدولة الصهيونية ألا وهي دولة " كامب ديفد !" التي دأب د. نافع على امتداحها ، وأخيرا فإذا كان ثمة بعض العملاء الأفراد من بين المثقفين اليساريين العرب ، وهذا صحيح وقد ذكرنا بعضهم بالأسماء و تصدينا لهم مرارا على صفحات القدس العربي ، فثمة رؤساء إسلاميون عرب " يحملون لقب أمير المؤمنين " اشتغلوا في تهريب يهود الفلاشا من أثيوبيا الى الكيان الصهيوني مقابل " حفنات " من الدولارات . خلاصة القول أن التعميمات إذ تخرج من نطاقها ووظيفتها النظرية كخلاصة لعملية البرهنة والتحليل العلمي تتحول الى سلاح ذي حدين : حدها الأول يدمر صدقية حاملها والثاني يضلل الآخرين ويخدعهم بقصد أو بدونه .