|
الكل يبحث عن الحقيقة
سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي
الحوار المتمدن-العدد: 7346 - 2022 / 8 / 20 - 07:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في واقعة ادعاء سيدة عراقية اسمها "جيهان جعفر" للشيخ عبدالله رشدي بالاعتداء الجنسي وظهورها بالصوت والصورة عدة مرات لشرح ما حدث، وتصوير محادثاتها مع الشيخ بالفيديو التسجيلي انقسم الناس إلى ثلاثة فرق:
الأولى: تُثبت ما حدث وتدعو الشيخ للاعتراف بالجريمة والاعتذار أو تشن عليه حملات هجومية قاسية بغرض الانتقام والقضاء عليه تماما، وهؤلاء خليط متنوع من خصوم الشيخ الأزهري من مثقفين وعلمانيين وتنويريين ودعاة حقوق المرأة والطفل والإنسان، وهم متنوعي المذاهب والديانات والأيدلوجيات ممن تضرروا من فتاوى الشيخ العدائية ضدهم.. الثانية: تنفي ما حدث وترى أن القصة كلها تأليف من الكفار وأعداء الله لإسقاط الشيخ كرمز ديني إسلامي ناجح حصل على شعبية هائلة وصارت بيده مفاتيح كثيرة ، حيث يمكنه تحريك الملايين منه بكلمة واحدة، وبالتالي فإسقاط ذلك الرمز الديني يهدف للقضاء على الدين، وهؤلاء خليط متنوع من سلفيين وأزهريين وجماعات إسلام سياسي على أًصحاب تدين شعبي عادي شكلوا ما يُعرف بالألتراس المؤيد للرجل ويهاجمون كل خصومه ويعقدون حملات تهديد وترويع لكل من ينتقدوه في الصحافة والتواصل الاجتماعي، وقد ظهر ذلك من حذف موقع "الشهرة نيوز" للتسجيل المصور مع جيهان جعفر بعد حصوله على 150 ألف مشاهدة بالفيس بوك واعتراف الأدمين أنه تعرض لتهديد دفعه لحذف التسجيل..
الثالثة: ترى أنه من القيم والأخلاق ألا يصارع الناس بعضهم بهذه الطريقة (الوقحة) التي تمس الأعراض وتقضي على نخوة وشرف الإنسان حتى تسقطه تماما من المجتمع، ويقولون أنه حتى لو تورط الشيخ في اتهام خصومه بتلك التهم فلا يليق لإنسان أن يعاقبه بنفس الطريقة..وأن الأسلم في هذه الحالة هي التوقف ما دامت الحقيقة غير دامغة والأدلة عبارة عن شبهات وظنون لا ترقى لمرتبة الإدانة الواضحة..وأصحاب هذا الاتجاه أكثرهم علمانيين وتنويريين رفضوا الخوض في عرض الشيخ وقالوا نتوقف ولا نجاري الخصم طريقته في التشويه..
شخصيا أرى نفسي من الفريق الثالث حيث استمعت لحجج المدعية العراقية ورأيت أن دعواها لا ترقى لمرتبة الإدانة الواضحة ولا تملك أدلة مادية قاطعة مع الاعتراف بأن ما قالته يثير الشبهات والظنون والشكوك بأنها صادقة، وسيحسم ذلك الأمر قرارها برفع دعوى على الشيخ بمصر مطالبة بتفريغ كاميرات الأماكن العامة التي ذهبوا إليها كالفندق والمطعم والمطار..إلخ، أو تحدث مواجهة علنية بينهما وللرأي العام الحُكم في صدقية وكذب أي منهم..
وبراجماتيا أرى أن من حسنات هذه الواقعة اعتراف الشيخ بالقانون المصري العلماني لأول مرة، حيث هدد الذين شهروا به في الإعلام بمقاضاتهم..وبرأيي أن هذا الاعتراف بالقانون المدني وضوابط التشهير هو نقلة نوعية تجبر الشيخ – لاحقا – لمراجعة موقفه من قصة الاستدلال، حيث وبدعوته للخلافة والشريعة القرووسطية ولتقديس كتب الحديث وعصمة الأئمة كانت قصة الاستدلال لديه عبارة عن (ثقة ضبط عدل) عن (ثقة ضبط عدل) كما هو متبع في أصول علم الحديث، أي بحسب ذلك المنهج كان يكفي للحكم بصدقية جيهان جعفر شهادة اثنين تتوفر لهم عناصر الثقة المطلوبة ، ولأن الاتهام الخطير الذي يواجهه لا ينطبق عليه ثبوت دعوى الزنا لأن المدعية لم تتهمه بالزنا بل بالاعتداء الجنسي والتحرش دون الإيلاج، وبالتالي فشهادة الثقات – حسب مذهبه – تكفي ، ولا شأن للقانون المصري العلماني بهذه القضية، لكن لجوء الشيخ للقانون هو اعتراف واضح منه بحجية وعدالة ذلك القانون وحكمته في مواجهة قضايا التشهير، حيث يُفضي القانون لحقيقة أن التعريض بسمعة الناس ممنوع في الإعلام والتواصل الاجتماعي، وأن مكان تصفية هذا النوع من الخلافات هو قاعات المحاكم وأروقة النيابة وأقسام البوليس..
ولا يجوز للصحافة السطو على مهام النيابة والقضاء هنا، لأن الصحفي ليس من سلطاته التحقيق في الواقعة لكنه ينشر ما آلت إليه التحقيقات فحسب، وما دامت الواقعة لم ترتقِ بعد للبلاغ الرسمي ولم يعقد فيها أي تحقيق من مؤسسات الدولة فلا يجوز للصحافة أن تنتهك حياة الناس الخاصة بهذا الشكل..وعلى الشيخ الأزهري أن يعترف بحجية وعدالة هذا القانون المدني في حمايته وأن ما يدعو إليه ويسميه شريعة إلهية لم يناقش هذا الأمر كما ينبغي إلا بشهادة الثقات كما تقدم..
الأمر الثاني في هذا السياق أن لجوء الشيخ للقضاء هو حدث غير مسبوق، وله مآلات على مستقبل الشيخ لأن استباقه برفع البلاغات بهذا الشكل سوف يدفع خصومه لمقاضاته مستقبلا والإصرار على ذلك بكثافة..خصوصا وأن للرجل أخطاء عظيمة في الماضي تغاضى عنها المحامون وأصحاب الشأن..لكن هذه المرة صار الأمر مختلفا وقد وضع الشيخ قدمه على سُلّم البلاغات التي ستجبره على الاحتياط مستقبلا وعدم الإفتاء ضد الغير بما يخالف القانون والدستور، ولعل ما حدث - مع رفضنا له – يكن درسا في خطورة التعريض بكرامة وأعراض الناس التي سبق وأن أنتهكها الشيخ عدة مرات بِشتم العلمانيين ووصفهم (بالدياثة) وشتم غير المحجبات ووصفهن بالعاهرات عبر كلمته الشهيرة أن غير المحجبة (سايبة عربيتها مفتوحة) وهو تعبير هجومي على غير المحجبة يتهمها بالعُهر والرضا عن التحرش والجنس غير المشروع..عِوضا عن تكفير المسيحيين وشتم إلههم ووصفه بالمقتول مما يندرج تحت بند "ازدراء الدين"
أما الأمر الأكثر أهمية وهو أن الناس في هذه اللحظات صاروا يبحثون عن الحقيقة، فكل من سمع بهذه القصة تفرغ بشكل شبه تام لمطالعة كل جديد من فيديوهات (مع وضد الشيخ) ولم تعد فكرة قدسية الشيخ عند أتباعه حاجزا عن معرفة الحقيقة كاملة لبناء حكم يقيني، خصوصا وأن التهمة قاسية جدا في مجتمعات العالم الثالث، وكل من تعرض لها لم ينجو منها في الغالب بالخصوص من يقدمون أنفسهم بشكل جيد للرأي العام
القصة صارت هي الإقناع بحجية وعدالة كل طرف وهي الثمرة الأولى التي أراها أنجزت في هذه اللحظات، فكل من يثبتون الواقعة لديهم أدلة..ومن ينفوها لديهم أيضا أدلة..لكن توصيف ما وصلوا إليه لا يرقى لمرتبة الدليل الراجح والقطعي، فهي عبارة عن حجج شخصية مصدرها الميول والانحيازات والعواطف، وفي هذا المقام أحب طمأنة كل فريق أن (معركة الإقناع) لا تهتم بالعدد، فالملايين التي تؤازر عبدالله رشدي لا تهيمن على الحالة النفسية والعقلية لخصومهم أو للمحايدين، والعكس صحيح أي الآلاف – وربما الملايين – التي تتهم الشيخ لا تهيمن نفسيا وعقليا أيضا على خصومهم وعلى المحايدين، وهذه نجيبة كبرى للإقناع وثمرته في تطوير عقول الناس وتهذيبهم من الخرافات والأوهام، وثقتي أن الحادثة سوف تؤدي إلى تطوير في عقلية كل فريق والتبرؤ – ولو قليلا – من الميول والعواطف اللاعقلانية..
مع ملاحظة هامة: أن الكبرياء الذي يمنع الناس من الاعتراف والإقرار بأخطائهم هو الذي أدى لاستقطاب المجتمع وتصنيفه إلى علمانيين ومثقفين وتنويريين ضد فقهاء وشيوخ وإسلاميين، هذا الكبرياء هو الذي أدى لتلك الواقعة وأنتجها ويغذيها بالصراعات والتصورات..فهي مجرد حلقة مما هو قادم ، وصورة مصغرة عن المستقبل التي سوف تكثر فيه هذه الحوادث ، لكن الجديد هنا أن ذلك الكبرياء أنتج حالة جديدة أشبه بما أسميه (الكهنوت الأرستقراطي) فالطبقية القديمة قامت على ازدراء العبيد والفقراء والعمال ووصفهم بصفات الجهل والقبح وعدم النظافة وعدم الأهلية..إلخ، بينما اعتبرت أن الأسياد هم صالحين وأخيار فكرا وسلوكا ، بالتالي هم الأليق بالحُكم، ومن هنا جاء مفهوم "الأرستقراطية" أي الفئة الأكثر نضوجا وصلاحا وكمالا وأهلية للقيادة والسلطة والنفوذ..
الكهنوت الأرستقراطي جعل من الفقيه يشغل نفس الطبقة التي شغلها الأسياد قديما، وهذا نقدي لأنصار الشيخ الأزهري الذين شنوا هجوما على خصومه معتبرين أن كل ما قدمته جيهان العراقية (أكاذيب) فهم لا يصدقون انهيار صورة شيخهم المقدس التي بنوها في داخلهم، لأن وجوده مرتبط في نفوسهم بوجود الدين والإله، وهي نفس الفكرة التي جعلت من رجال الدين (كهنوت) لا يخطئ ولا يُمَسّ، وأي انتقادات له وأي اعتراضات مرفوضة شكلا وموضوعا ، والتعامل معها كمجرد مؤامرة من الكفار الأشرار لا غير..وبرأيي أن هذا الكهنوت الأرستقراطي الذي يؤدي لظاهرة (ثراء رجال الدين) هو الحلقة الأولى في سلسلة هدم المنظومة بالكامل، فالناس تتعاطف مع أشباههم ولأن غالبية الشعب هم من الفقراء فلو وصلت صورة مختلفة عن الشيخ عند أنصاره أنه ليس منهم بل من الأثرياء المرفهين وأنه يتربح من الدعوة سوف ينقلبون عليه لصالح الخصوم، والقارئ للتاريخ الأوروبي يرى أن ثورة التنوير والعقل التي دامت لعدة قرون كان محورها ثورة الشعب على أثرياء الكنيسة والمرفهين منها..
وتكرار هذه التجربة عند المسلمين راجح جدا بالخصوص أن بوادرها ظهرت للعلن بانتشار فكرة تربح الشيوخ ورجال الدين من الدعوة، وانقلاب عدة شعوب على الإسلام السياسي الحاكم..ورفض الملايين لفكرة حكم الفقهاء التي لو عدنا 20 عاما فقط للوراء لوجدنا أن تطورا كبيرا حدث اليوم عن الماضي، حيث في هذا الزمن كانت مفاهيم الخلافة والشريعة سائدة والناس تحنو إليها من فرط الخطب وشعارات الإخوان والسلفيين على فضائياتهم، لدرجة طلب الآلاف منهم ترشيح أحد شيوخ السلفيين الكبار لرئاسة الجمهورية بصفته الأليق والأجدر والأحق بحكم مصر..!
#سامح_عسكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عوامل نجاح الإسلام السياسي شعبيا
-
رسالة من الأزهر للإخوان المسلمين
-
علاقة الحجاب بالسلطة الأبوية الذكورية
-
بيان الأزهر..حين يتحول الرأي إلى قانون
-
تحرير موقف الإسلام من العنف..لقاء وضرورة
-
هل الحكومة واجب ديني أم مصلحة دنيوية؟
-
قصة الحجاب ومذاهب الشيوخ فيها
-
معضلة خلط الدين بالدولة..الأسباب والحلول
-
لماذا لم يكن الحجاب فرض قبل السبعينات؟
-
أخطاء التفسير وجذور الفكر القرآني
-
ما الذي فعله الباشا محمد علي بمصر؟ (2)
-
ما الذي فعله الباشا محمد علي بمصر؟ (1)
-
هل إيران كانت بها أغلبية سنية ثم تحولت لشيعة؟
-
المعنى الصحيح لقوله تعالى إنما المشركون نجس
-
عقبات الإصلاح عند الفيلسوف
-
جواز الترحم والاستغفار لغير المسلمين بالأدلة
-
نظرات نقدية في الاعتكاف بالعشر الأواخر من رمضان
-
رحلة داخل دولة الخلافة الإسلامية
-
هل اخترق الإخوان هيئة كبار العلماء بالأزهر؟
-
لماذا يتشدد رجل الدين المسلم في تكفير وقتل تارك الصلاة؟
المزيد.....
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|