أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - إزدراء الأديان وثقافة الغباء الجمعي













المزيد.....

إزدراء الأديان وثقافة الغباء الجمعي


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 7345 - 2022 / 8 / 19 - 18:35
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كان المؤتمر الصحفي المنعقِد في باريس، يوم الإثنين الموافق 7 ديسمبر 2020، قد وصل إلى نهايتة، وأزاح الحاكم بأمره في مصر الجنرال عبد الفتاح السيسي ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، سماعات الترجمة عن أذنيهما، إيذانًا بالانصراف، في تلك اللحظة، وكأن الأمر كان مدبرًا، طرح صحفي مصري سؤالًا (غبيا) على ماكرون، فحْوَاهُ أن الجانب الفرنسي لم يقدم اعتذارًا عن نشر تلك الرسوم التي أساءت للمتأسلمين. ففي 16 أكتوبر عرض معلم التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية الفرنسي ”صامويل باتي“ في مدينة كونفلان سانت أونورين على تلامذته رسومًا كاريكاتيرية تُظهر النبي محمد في درس عن حرية التعبير، مما اعتبره أحد التلاميذ وهو لاجئ شيشاني متأسلم (18 عام) إساءة وازدراء لنبيه الكريم، فأقدم على قتله وقطع عنقه.
أعادا الرئيسان السماعات مرة أخرى إلى أذنيهما عقب سماع السؤال، واغتنما الفرصة لتبادل تصريحات مباشرة بشأن ما الذي يعلو على الآخر، القيم الدينية أم الإنسانية؟.
قال الحاكم المصري بلهجته الشعبية التي لا يعرف غيرها: « المرتبة بتاعت القيم الدينية أعلى بكثير من القيم الإنسانية، لأن القيم الإنسانية هي قيم إحنا اللي عملناها..»
فرد الرئيس الفرنسي بالقول: « اعتقد أن التاريخ هنا يمكن أن يؤكد إذا صح القول، بأننا نعتبر قيمة الإنسان فوق كل شيء، هذه فلسفة التنوير، وهذا ما يجعل من حقوق الإنسان عالمية، وهي في ميثاق الأمم المتحدة..» وتابع قائلا: « لا شيء فوق الإنسان واحترام كرامة البشر..»
لن نناقش هنا ما إذا كان الحاكم بأمره في مصر، يؤمن حقا بفكرة علو القيم الدينية على القيم الإنسانية بالمعنى المطلق، أم يعتقد أنها مجرد باب للمزايدات والحماقات الدينية والسياسية، وتعمل دائمًا لإزالة التشريعات والقوانين الوضعية الإنسانية الخاصة بالمواطنة وحقوق الإنسان وغيرها من المكتسبات، واستبدالها بـ”شرع الله“ الذي يزعمه رجال الدين ويريدون تطبيقه؛ في بيئة اجتماعية وثقافية مهيأة تمامًا لقبول هذا الأمر، بحسب قول الأستاذ أحمد قصيد: « ليس المشكل هو وجود حكام يستعملون الدين لأغراض سياسية، بل المشكله هو وجود شعوب مستعدة لتصديق اللعبة في كل مرة»، فالسيسي - كأمثاله على مر التاريخ - يلتزمون جميعًا يوظفون الدين ورجاله من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية في مجتمعات تسمح لهم بذلك، هذا ما بيناه في مقالات سابقة.
الأمر الملفت هو أنَّ الرئيسين انطلقا من ثقافتين مختلفتين ومفهومين متناقضين تماما لفكرة ”أزدراء الأديان والتجديف“ وهي أكثر المسائل المثيرة للجدل في مختلف الأوساط الدينية والفكرية والحقوقية في العالم. ومِمَّا يدعو إلى السخرية، وربما الاشمئزاز أيضًا، أن هذه الفكرة نشأت أساسًا من قبل الدول المتأسلمة دون غيرها، وكان لا بد لها أن تنشأ فيها دون غيرها، لأن ديانتها كما هو ثابت هي الوحيدة التي تتعرض للازدراء والتجديف، من دون حوالي 10000 ديانة متميزة حول العالم:
https://www.almrsal.com/post/565944
ليس - فقط - بسبب نهجها الإجرامي واللا أخلاقي، والتزام معتنقيها بهذا النهج، سواء كانوا في بلادهم أو بلدان آخر، بل قبل هذا وذاك بسبب تقديسهم لما تحمله من ازدراءٍ للديانات الأخرى ولأتباعها، خاصة اليهود والنصارى، وموقفهم الكاره لهم والإجرامي تجاههم، وفي نفس الوقت يقاومون بكل عنف أي ازدراء لهم أو لديانتهم ولنبيهم الكريم بوجه خاص. (أنظر المقال: محمد وثقافة الغباء الجمعي:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=760099
من الطبيعي جدًّا أن يزدري الإنسان من يزدريه حتى وإن كان يحب أعداءه، ويبارك لاعنيه. ويحسن إلى مبغضيه. ويصلي لأجل الذين يسيئُون إليه ويطردونه (متى 44:5)، وذلك عندما يعمدون إلى حرق معابده وتدمير كنائسه، وقتله، ونهب ممتلكاته، وسبي واغتصاب نسائه، لمجرد أنه مختلف عنهم أو مخالف لهم !
صحيح أن ازدراء الأديان لا يقتصر فقط على المتأسلمين، فهو موجود في الديانة المسيحية تحت مُسَمَّى «الهرطقة»، وفي الإسلاموية بإسم «الزندقة»، ويخص دائمًا الأغلبية الدينية التي تتعامل مع الأقلية وكأنها تملك تفويضا عاماً شاملاً كاملًا من الله، ومن ثم تتعامل مع الآخرين من هذا المُنطلق البغيض. ولكن الأمر برمته يتوقف إلى حد كبير على النصوص الدينية، والتي مازلنا نؤكد على أنها في الإسلاموية ملغَّمة بالحقد للآخرين، وتهتم فقط بحمل معتنقيها على كراهيتهم وازدرائهم والاعتداء الغير مبرر عليهم، فهي تحرض المؤمنين بها على طعن كل من يختلف معهم فى الفكر أو الرأي، وضرب رقاب من يخالفوهم في العقيدة والنهج. تعلمهم كراهية الآخر والتوجس منه، لأنه لا يقبل دينهم أو ينتقده، وتبرر لهم السبى والرق والعبودية وضرب النساء (النساء 34). وتصف المخالف لهم بأنه نجس (التوبة 28) وكلب (الأعراف 176) وأنه من القِرَدَة وَالخنازير وعَبَدَة الطاغوت (المائدة 60) وحمار (الجمعة 5) وكالأنعام (الفرقان 44) وشرُّ الدواب (أي كل ما يمشي على الأرض) (الأنفال 22)، وبذلك تجرِّدهم من الرحمة والوعي بإنسانيتهم، وتجعلهم متعصبين ووحوشًا غاضبة. إنها تبني بذلك أسوارًا عالية بينهم وبين العالم من حولهم، ليكونوا على الجانب المقفر والخطير منها، ويعتقدون أنهم فى جنة النعيم. وتقول لهم إن تعذيب الآخرين وقتلهم يشفى صدورهم (التوبة 14)،. وتخدعهم بالزعم أنَّ أمتهم، هى خير أمة أخرجت للناس وأن دينهم، جاء هُدًا ورحمة للعالمين.
وهكذا لدينا ديانة حقودة، لا تهتم إطلاقًا بِحَثِّ المؤمنين بها على محبة الآخرين والتسامح معهم، حتى أنه لم يعُد يَخْفَى على القاصي والداني أنها أصبحت اليوم عبئًا ثقيلا على البشرية جمعاء، وأنها كانت ومازالت جديرة بالازدراء والاحتقار، فهي الديانة الوحيدة في العالم التي تقابل الانتقاد بالقتل، وتواجه الكلمة بالذبح، وتتحدى القلم بالاغتيال، وتتصدى للفكر بإباحة الدم!، لم يتعلم المتأسلمون غير هذا من نبيهم الكريم جدا في بذاءته وسوء أخلاقه وإجرامه، فقد أمر عصابته من الصعاليك والمنبوذين كما يعرف الجميع بقتل واغتيال كل مَن قال كلمة يستنكر عقيدته، وكل مَنْ يفتح فمه لينتقد سلوكه!، أمر نبي الرحمة هذا بقتل واغتيال كل من كعب بن الأشرف وسلام بن أبي الحقيق وابن سنينة وعصماء بنت مروان وأبي عفك وخالد بن سفيان وقيس بن رفاعة وعبهلة بن كعب وفاطمة بنت ربيعة الفزارية (أم قرفة)! كل هؤلاء تم قتلهم لمجرد أنهم يختلفون معه بالرأي!، وقتل الآلاف غيرهم لا لشيء سوى للاستيلاء على ممتلكاتهم وسبي نسائهم وبناتهم واغتصابهن في وضح التاريخ، وتحت سمع وبصر الأيام.
أصيب المتأسلمون حكَّامًا ومحكومين بمرض النبي (الكريم) كأسوة الحسنة لهم، يقتلون ويذبحون مَنْ خالف رأيهم أو استنكر أفكارهم أو استهجن دينهم أو استبشع أفعالهم أو استقبح أعمالهم حتى ولو بجملة أو مقال! لا يستطيعون مواجهة الكلمة بالكلمة، ولا التصدي للفكر بالفكر، ولا مقارعة الحجة بالحجة! ليس لديهم سوى السيف والرمح كأسلوب للحوار والمحاورة، وضرب الرقاب كطريق للنقاش والمناقشة، وإباحة الدم كمذهب في الجدال والمجادلة!، عاجزون عن نقض الفكرة وإبطال الدليل ودحض الحجة، لا يجيدون علم المنطق والتفكير المستقيم، ولا يحسنون القوانين العقلية والذهنية، ولا يفهمون قواعد المجادلة والمنافسة، ولا يدركون أحكام المساجلة الكلامية!، لا يؤمنون بالعقل، ولا يعتقدون بالحكمة، ولا يقّرون بالاختلاف، ولا يعترفون بالدليل!. من الواضح أن تشدق الحكام ورجال الدين المتأسلمين بتجريم إزدراء الأديان، يعكس رغبتهم القوية في فرض وصايتهم على العقل الجمعي في بلادهم، وتجريده من الفكر السليم والمنطق القويم وتعميق ثقافة الغباء الشامل في مجتمعاتهم. فهم يعرفون تمامًا أنهم هم يزدرون الأديان الأخرى ومع ذلك يحاولون حماية أنفسهم من الانتقاد أو الازدراء المتبادل بهذا التجريم. يزدرون الآخرين نهارا جهارا، ولا يريدون من أحد أن يبادلهم الازدراء بمثله، إنها الوقاحة الفجة تحت شعار: اغلبوهم بالسيف لا يغلبوكم بالكلمة!. لذلك سعوا جاهدين على مدار سنوات طويلة إلى انتزاع اعتراف عالمي بتجريم ازدراء الأديان والتجديف، بلا جدوى، فمنظمة التعاون الإسلاموي، وهي منظمة دولية تجمع 57 دولة إسلاموية، مقرها جدة في مملكة آل سعود، وتصف نفسها بأنها «الصوت الجماعي للعالم الإسلامي» وإن كانت لا تضم كل الدول الإسلاموية، حاولت ما بين عامي 1999 - 2011، الحصول على دعم من الأمم المتحدة لفرض حظر على ازدراء الأديان، فقدمت مرات عديدة مشاريع قرارات بهذا الشأن إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لكن الدول الغربية - التي أزيل حظر الازدراء والتجديف تدريجيا من معظم قوانينها - رفضت في كل مرة إقرار هذه المشاريع، قائلة إنها تشكل ”تهديدات محتملة لحرية التعبير“.
وفي 26 مارس 2009 اعتمدت المجلس (بأغلبية 23 صوتا مقابل 11 صوتا وامتناع 13 عن التصويت) قرارا غير ملزم تقدمت به باكستان باسم المنظمة، يهدف إلى "مكافحة إهانة وازدراء الأديان". وقد عارضت هذا القرار دول كثيرة، من بينها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا وتشيلي، وامتنعت عن التصويت عليه كل من الأرجنتين والبرازيل والهند.
وبحلول عام 2010 تراجع دعم هذا النوع من القرارات في مناقشات مجلس حقوق الإنسان باطراد إلى ما يزيد قليلا على 50%، وذلك بسبب المعارضة الغربية القوية خاصة من المنظمات الحقوقية، مما دفع الأمين العام السابق للمنظمة ”أكمل الدين إحسان أوغلو“ إلى اتهام الغرب بعرقلة التوصل إلى اتفاق أممي لفرض حظر على ازدراء الأديان.
وفي يناير 2015 حاول الاتحاد العالمي لعلماء المتأسلمين، في الدوحة قطر، وكان يرأسه آنذاك رجل التطرف والإرهاب الشيخ يوسف القرضاوي، تجريم إزدراء الأديان من مدخل الآخرين، وبكذب مفضوح، طالب بإصدار ”قانون أممي يجرّم ازدراء الأديان جميعاً“، ودعا إلى مؤتمر عالمي يناقش بنوده بحرية كاملة، وقال: « إن الدين الإسلامي لا يحرم فقط الازدراء بالنبي الكريم محمد، وإنما يحرّم كذلك ازدراء جميع الأديان والأنبياء والمقدسات»، واقترح إصدار ”ميثاق شرف للتعايش السلمي بين الأمم“. وأعلن أن أن الهدف من التجريم هو « حماية المقدسات الدينية وتطويق مشاعر الكراهية للأديان، لأن انتشارها يهدد التعايش بين الأمم والحضارات بخطر كبير، إذ يؤدي إلى الإخلال بالسلم الدولي، ويشكل ”مساسا خطيرا بالكرامة الإنسانية“، ويفرض قيودا على الحرية الدينية للمؤمنين بها». وأضاف: « أنه لا ينبغي النظر إلى تجريم ازدراء الأديان وكأنه تقييد لحرية الفكر أو كبت للحق في التعبير الذي يجب ألا يستخدم لأذى الآخرين وإهانتهم، بل ”كآلية للوقاية من التطرف والفتن“ الدينية والطائفية في المجتمعات البشرية التي يسببها التحريض على الحقد الديني والعنف». لم يلتفت إليه أحد لأن الجميع يعرفون أنهم خبثاء وليسوا أغبياء ولا يتغابون، ولا يدافعون عن ديانتهم بقدر دفاعهم عن مناصبهم وثروتهم ونفوذهم، وأنهم يستهينون بالعقل البشري، ويعرفون حقيقة أن ديانتهم هي الرائدة في مضمار الحقد الديني والعنف، ويحاولون الالتفاف على هذه الحقيقة!
تعبير ازدراء الأديان الذي انتهجته أغلب الدول المتأسلمة وتنفذه وتخشى منه إذا التزم به الآخرون تجاهها، تعبير مطاط يفتقد إلى ضبط مفهومه وتحديد دلالاته، ومن ثم انتهى في مجتمعاتها إلى بنود قانونية هادفة إلى التضييق على حرية الرأي والتعبير، والتحكم في النقاش المدني المفتوح، وقمع المخالفين وتعزيز التطرف والتعصب الديني؛ كما أنه أعطي للحكومات ورجال الدين الحق في تحديد الأفكار المقبولة وغير المقبولة أخلاقيا، وهو ما فتح الباب أمام خنق نقد الأديان والمؤسسات الدينية، واضطهاد الأقليات الدينية، والحاكم المصري الأوحد هو أول من يعرف هذا، ويعرف أيضًا أن لفظ ”الازدراء“ مصطلح غامض وغير محدد، مما يجعل القوانين التي تحظره قابلة للتوسع بشكل عام، وللتطبيق بشكل انتقائي وتعسفي وتمييزي، يطال كل شخص مهما كان علمه أو ثقافته، راجع البحث عن ”ازدراء الأديان.. ذريعة لقمع الحرية الأكاديمية“ في مصر، على الرابط التالي:
https://afteegypt.org/research/research-papers/2020/12/30/20594-afteegypt.html
إضافة إلى أن هذا المصطلح لا أساس له في القوانين الدولية المعمول بها. ولذلك لم تستجب الدول المتحضرة لهذه الطلبات المتكررة، ورغم ذلك أصدرت بعض الدول المتأسلمة و(غير المتأسلمة مثل اليونان وبولندا) قانونا تحظر فيه التجديف أو ازدراء الأديان. وطبقا لدراسة تلك القوانين أجرتها منظمة "فريدوم هاوس" الأميركية المعنية بحقوق الإنسان، وشملت كلا من الجزائر ومصر وإندونيسيا وماليزيا وباكستان واليونان وبولندا. قالت: “إن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان الدولية هي السمة السائدة في تلك الدول التي تحتفظ بتشريعات تجرّم ازدراء الأديان، لأن الحكومات غالبًا ما تستغل تلك التشريعات لقمع حرية التعبير وحرية ممارسة الأديان الأخرى”. وأوضحت المنظمة أن القوانين المناهضة للاستخفاف بالمقدسات غالبا ما تُصاغ لحماية معتقد أغلبية السكان في البلد المعني؛ فقد وجدت أن قوانين ازدراء الأديان في اليونان مثلا "تُستخدم فقط في مقاضاة حالات يُعتقد أنها تنطوي على ازدراء للكنيسة الأرثوذكسية"، وفي إندونيسيا "تُستغل غالبا ضد الافتراء على الإسلام".
وفي يناير 2011 أثار بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر جدلا كبيرا حين أغضب الباكستانيين بدعوته إلى إلغاء قانون المعاقبة على التجديف في بلادهم، وقال: « إن السبب الأهم لذلك هو أنه من الواضح أن هذا القانون بات يستخدم ذريعة لأعمال ظلم وعنف ضد الأقليات الدينية». وهو ما اعتبرته هيئات إسلامية باكستانية ”خرقا لميثاق الأمم المتحدة للسلام“. وكأنهم لا يخرقونه هم جهارا، ودون خجل.
قد يخيل البعض أن سبب إصرار الدول المتأسلمة على قانون كهذا، يعود إلى أن مجتمعاتها أكثر تدينا أو أكثر تمسكا وإخلاصا للدين ومنافحة عنه من المجتمعات الأخرى، لكن الواقع مخالف تمامًا، فالأمر لا علاقة له بقوة الإيمان أو ضعفه، ولكن له علاقة بترتيب منظومة القيم مع الأولويات السياسية في المجتمع، وما إذا كانت تعتمد على أسس دينيه أم مدنية.
في العصور المظلمة كانت المجتمعات جميعها توحِّد بين مصير الدين ومصير أفرادها، وكان انتقاد الدين أو المعتقدات تنظر له على أنه انتقاد لقيمة الفرد. ولهذا السبب لم يكن ممكنا بالنسبة للناس أن يروا في أنفسهم ذواتا منفصلة أو مستقلة عن الدين أو أن يروا في وجودهم قيمة بمعزل عن الانتماء الديني، ولم يكن ثمة فروق أو حدود واضحة بين المرء ككيان وبين ما يؤمن به أو ينتمي إليه، ولم تكن ثمة حاجة إلى قانون أو سياسة تترتب على التفريق في ذلك. فكان هذا التوحد سببا رئيسيا في اندلاع سلسلة الحروب الدينة في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، بعد بدء الإصلاح البروتستانتي في عام 1517.
بينما في العصر الحديث ومع الإقرار العالمي لحقوق الإنسان، نشأ مفهوم مختلف للعلاقة بين المرء ومعتقداته، بحيث بات ممكنا التمييز بين الاثنين. هذا المفهوم يرجع بجذوره إلى فكرة المواطنة. فالمواطن أو الفرد (وليس المؤمن أو غير المؤمن) هو مناط التكليف في المجتمع المكون بدوره من مواطنين وأفراد ينتظمون في عقد اجتماعي مع الدولة، وهو نموذج تبلور في عصر التنوير، بحيث يتنازل المواطنون بموجبه للدولة عن جزء من حريتهم في مقابل توفير الحماية لهم. وهذا العقد يعامل الإنسان بصفته الفردية وكونه مسؤولا عن نفسه مسؤولية كاملة من الناحية القانونية، الأمر الذي يبعد عنه الحاجة إلى اثبات هويته الدينية أو غيرها من الهويات، كشرط للانتماء إلى الدولة. لذلك فإن المواطنين اليوم في الدولة المتحضرة هم في الحقيقة ليسوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا أو ملحدين أو غير ذلك، هم مجرد مواطنين. انضواؤهم تحت مظلة الدولة لا يتطلب منهم أكثر من الموافقة على العقد الاجتماعي، واحترام القوانين والتشريعات النافذة فيها.
هكذا تمكن العقل السليم وما يتبعه من منطق قويم أن يميز بين الفرد وبين أفكاره ومعتقداته، فيجعل من إنسانيته القيمة الأساسية، واعتبار أفكاره ومعتقداته امتدادا لإنسانيته، وليست قيمة منفصلة قائمة بذاتها. وما دام الأمر كذلك فإنه لا يمكن إخضاع أي شخص للعقاب بسبب انتقاده لهذه المعتقدات أو الأفكار، لدخول ذلك في إطار حرية التعبير. كما لا يمكن الأخذ بالمزاعم التي تعلي أو حتى تساوي بين انتقاد المعتقدات وانتقاد الإنسان، لأن الإنسان في نظر القانون والتشريعات مقدم على المعتقدات. كان يجب على رؤساء المنطقة ونخبها جميعها أن تفهم هذا الأمر، ولا تقف ممارساتهم عند حد تجريم الأفعال المادية والمباشرة التي تمس بسلامة الإنسان، وإنما تجرم أيضا الأقوال أو الآراء التي تتخذ طابعا تحريضيا، والتي من الممكن أن تؤدي بوضوح إلى إيقاع الأذى بالإنسان، وليس بعقيدته. فالإنسان يجب ألَّا يزدرى بأي حال من الأحوال، بينما العقائد يمكن ازدراؤها، طالما تزدري الإنسان وعقائده.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن الدول المدنية الحديثة التي تضع في صلب اهتماماتها منع ازدراء الإنسان، ينصب اهتمامها أيضا على منع ازدراء عقيدته، بشرط ألا تزدري عقائد الآخرين، على عكس ما تفعله الديانة الإسلاموية.



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 10- ضحايا ثقافة الغباء الجمعي
- 9- الإعلام وثقافة الغباء الجمعي
- 8- حكم الأقلية العسكر في مصر وثقافة الغباء الجمعي
- 7- البلطجة الرسمية وثقافة الغباء الجمعي
- 6- السلفيون وثقافة الغباء الجمعي
- 5- الأزهر وثقافة الغباء الجمعي
- 4- القرآن وثقافة الغباء الجمعي
- 3- محمد وثقافة الغباء الجمعي
- 2 - فكرة ”الله“ وثقافة الغباء الجمعي
- ثقافة الغباء الجمعي - مقدمة
- من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد؟!
- ثقافة النحر والانتحار!
- من أطلق الوحش؟! 2/2
- مَن أطلق الوَحْش؟! 1/2
- لماذا أفغانستان؟
- الركض وراء لقمة العيش في مصر!
- مصر بين البيادة والقيادة
- وجود الله أو عدم وجوده!
- الانحلال السياسي في مصر
- سياسة ”حلال علينا حرام عليكم“


المزيد.....




- تردد قناة طيور الجنة كيدز 2024 نايل سات وعربسات وخطوات ضبط ا ...
- خبيران: -سوريا الجديدة- تواجه تحديات أمنية وسط محاولات لتوظي ...
- أردوغان يهنئ يهود تركيا بعيد حانوكا
- “السلام عليكم.. وعليكم السلام” بكل بساطة اضبط الآن التردد ال ...
- “صار عندنا بيبي جميل” بخطوات بسيطة اضبط الآن تردد قناة طيور ...
- “صار عنا بيبي بحكي بو” ثبت الآن التردد الجديد 2025 لقناة طيو ...
- هل تتخوف تل أبيب من تكوّن دولة إسلامية متطرفة في دمشق؟
- الجهاد الاسلامي: الشعب اليمني حر ويواصل اسناده لغزة رغم حجم ...
- الجهاد الاسلامي: اليمن سند حقيقي وجزء اساس من هذه المعركة
- مصادر سورية: الاشتباكات تدور في مناطق تسكنها الطائفة العلوية ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - إزدراء الأديان وثقافة الغباء الجمعي