محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1684 - 2006 / 9 / 25 - 11:01
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ما أردنا قوله في مقالنا السابق (البنية الطبقية للنظام الامبريالي) أننا أمام ظاهرة طبقية معقدة للعلاقات الرأسمالية , وبأن الرأسمالية وبنيتها في المناطق الطرفية والتابعة (المستعمرة, بفتح العين) قد تحققت و انتشرت وتعممت ولكن بشكل ملتوي ومغاير عن الصيرورة المنجزة في المركز , وصار بالإمكان التحدث عن نظام رأسمالي معمم على مجمل الكرة الأرضية من خلال علاقة امبريالية محددة كنا قد أسميناها مركز وأطراف أو نمط إنتاج رأسمال كولونيالي ذو بنية رأسمالية عادية وبنية كولونيالية ترتبطان بوحدة تفارقية (بنية رأسمالية غربية امبريالية وبنية كولونيالية عالمثالثية)استنادا لتسميات الماركسيين المحدثين(سمير أمين ومهدي عامل) , ولكن باختلاف جوهري بين الصيرورتين التاريخيتين , والاختلاف ليس في تطور الانتاج ومستواه بل في البنية , ولذلك فإن التطور الطبيعي للرأسمال الكولونيالي كرأسمال تجاري هو في أن يصير رأسمالا ماليا ممثلا للرأسمال الاستعماري من غير أن يمر بحلقة تطور صناعي , وإن مر فهي صناعة تحويلية ثانوية هامشية لخدمة الرأسمال في المركز , وفقدان هذه الحلقة في حركة تطور الكولونيال هو ما يميز صيرورة هذا الرأسمال ويحدد بنية التخلف فيه.
وعلى ضوء هذا يتشكل تضامن طبقي بين فئة التجار وفئة الملاكين الزراعيين التي من المستحيل اعتبارها طبقة منفصلة عن تجار المدن , ومن المستحيل أيضا أن تكون طبقة مستقلة نستطيع أن نطلق عليها طبقة إقطاعية .
وبالتالي فإن تقسيم العمل يفترض وحدة العالم العضوية مترابطة ومتداخلة على اختلافها وتباينها , ومصير كل جزء من هذه الوحدة يتحدد بمصير الكل و قانون القيمة هو الذي يتحكم بالتراكم على الصعيد العالمي ويفعل فعله على مستوى النظام الامبريالي برمته , و وحدة السوق(بضائع , رساميل , قوة عمل )أي الوجود الممتد لدولة بورجوازية_ وبورجوازية _وطبقة عاملة , يشكل الإطار الضروري الذي يعطي لقانون القيمة مدلوله .
ولكن القانون الذي كان يعمل في المجالات القومية لفترة منتصف القرن التاسع عشر , والذي قد اعتمده ماركس في تحليل حركة رأسمال في كل من انكلترا , فرنسا , ألمانيا , أمريكا الشمالية , إلخ.., لم يعد ينطبق على واقع اليوم , لماذا؟ لأن التداول لرأس المال وإعادة إنتاجه يتمان على صعيد عالمي عبر التركيبة العالمية المذكورة(مركز _أطراف) , كما أن البضائع والطبقة العاملة تنزع لأن تصبح عالمية , وبذا لا مجال قومي عاد يشكل الإطار الكافي لاحتواء إعادة إنتاج شروط التراكم .
ويتعين في هذه الحالة اعتماد نظرية النظام الامبريالي كإطار لنظرية القيمة بتعريف جديد كقيمة فاعلة على الصعيد العالمي , وينبغي أيضا على هذا القانون أن يفسر المستويات المختلفة لسعر بيع قوة العمل في مختلف مناطق بنية النظام الامبريالي , وتتمتع البضائع في هذه الحال , باعتبارها صارت عالمية التداول , بقيمة عالمية واحدة , وينزع الرأسمال , أيضا باعتباره عالميا , إلى الأخذ بمعدل جزاء وسطي , وتبقى سوق العمل مجزأة بشكل يسمح للشروط المحلية للصراع الطبقي بمعدلات متفاوتة لفضل القيمة .
في السوق القومية ترتبط قوة العمل موضوعيا بالمستوى القومي الوسطي لتطور القوى الإنتاجية , ولكن عندما تصبح السوق عالمية تغدو قيمة قوة العمل على صعيد النظام العالمي مرتبطة بالمستوى العالمي الوسطي لتطور القوى الإنتاجية ولا يعود ثمة مجال لتبرير التفاوتات القومية لأسعار قوة العمل بتفاوت مستويات التطور القومية الوسطية , وإذا حدث فهي بهدف تجزئة الطبقة العاملة وتقسيمها , ولا يمكن أن يجري هذا بعيدا عن إدخال عنصر الدولة وممارساتها السياسية وبالتالي شكل ودور الصراع الطبقي في النظام الامبريالي .
وإذا كانت الأسعار المتفاوتة لقيمة قوة العمل تجد ما يفسرها في الشروط العينية للصراع الطبقي فإنها بالمقابل تطرح مسألة إعادة إنتاج قوة العمل , ولكن ليس هناك ما يؤكد أن هذه الشروط تسمح بالضرورة في كل مكان بإعادة إنتاج كل قسم من أقسام قوة العمل , ففي مرحلة الإستعمار , وفي مستهل المرحلة المركنتيلية وطور الإنتقال إلى الرأسمالية تزخر الذاكرة البشرية للكثير من التصفيات الجماعية للشعوب التي استعمرتها هذه القوى الأوربية عبر مذابح أو عبر وتيرة شديدة من الاستغلال , فالسيرورة التي سمحت بالتوسع الانكليزي هي التي حكمت بالدمار على شعوب متعددة في العالم (ايرلاندة , جنوب أفريقيا..مصر إلخ.)
إن الاستعمار الذي كان ضرورة تاريخية في منطق تطور الرأسمالية , هو نتاج تاريخي لصدام عنيف بين ضرورة تطور تكمن في المراكز الرأسمالية وإمكانية تطور تكمن في صيرورة الأطراف الماقبل رأسمالية , ولقد تم تحقيق هذه الضرورة بسد أفق هذه الإمكانية لدى الأطراف , فلولا ضرورة التوسع لدى المراكز لما سد أفق إمكانية التطور المستقل فيها , فكان الاستعمار حركة صدام بين بنيتين حققت إحداها ضرورة تطورها بسدها أفق إمكانية تطور الأخرى , وتكون العلاقة بين الاستعمار والتخلف لا خارجية , بل هي علاقة داخلية .
إن الإستعمار شرط أساسي للمذابح البشرية التي اقترفت بحق الشعوب في الأطراف وهو أيضا شرطا وسببا لوجود التخلف وبقائه , كما وأن التخلف بدوره شرط أساسي لوجود الاستعمار وبقائه في علاقة سببية بنيوية .
إن الاستعمار لا ولم ينتج في البلد المتخلف القطاع الاقتصادي الحديث فحسب بل أنتج وينتج القطاع التقليدي أيضا , وإن معالجة موضوع النظام الامبريالي تعني معالجة هذه التشكيلات التي تخضع جميعها لسيطرة الرأسمال , والتي منها يتم انتزاع فائض قيمة من منتجيها الغير مبلترين لتحويله إلى ربح للرأسمال .
إن سعر قوة العمل في المراكز الامبريالية ليس مستقلا عن السعر المعمول به في الأطراف الخاضعة أو المستعمرة مادام المفروض بالسعر الوسطي لمجمل قوة العمل أن يتناسب مع قيمتها , وإن التبادل اللامتكافيء الذي يظهر على مستوى أسعار البضائع لا ينجم عن ظاهرات تحتل موقعها على صعيد التداول وإنما يعكس شروط تكوين فائض العمل في النظام الامبريالي وتوزيعه , بل أن طراز التطور الناجم عن قوانين التراكم الفاعلة على صعيد عالمي بسبب شموليته تتخطى مسألة الفوارق في أسعار قوة العمل , فتركز استهلاك الموارد الطبيعية التي ينتجها الطرف في المركز يعدل شروط التطور اللاحق لقوى الإنتاج , وإن الكلام عما إذا كانت الطبقة العاملة في مركز النظام الامبريالي تستفيد من التبادل اللامتكافيء في هذا النظام الامبريالي يعتبر من نافل القول .
بالتأكيد أن الطبقة العاملة في مركز النظام تستغل من قبل الرأسمال الامبريالي ولكن من المؤكد أيضا أنها مستفيدة بشكل أو بآخر من التحويل الذي يجري للقيمة المتولدة في الطرف , وأن القضاء على النظام الامبريالي كفيل بإلغاء هذا التحويل , ولن يتوافق هذا الإلغاء مع تحسن الشروط المعيشية في المركز إلا إذا تمت الإطاحة بالعلاقات الرأسمالية , الأمر الذي يقتضي نموذجا من التطور يختلف كل الاختلاف عن ذاك الذي ينجم من خلال قوانين التراكم الرأسمالي بشكل عام والتطور الامبريالي بشكل خاص .
لقد تعودنا الاستدلال من خلال الأزمات الدورية للنظام الرأسمالي أن أي أزمة تعبر عن تعطل في اشتغال قانون فضل القيمة تحت تأثير الصراع الطبقي , وتتجلى هذه الأزمة من خلال لا توازنات تجعل تحقيق القيمة أمرا مستحيلا مما يؤدي إلى سقوط معدل الربح , وهي بالتالي أزمة لعلاقات الإنتاج الرأسمالية , لكن هذه الموضوعة لا تكفي لتحديد سمات أزمة معينة في مرحلة محددة من مسيرة النظام في الفترة الحالية من النظام الامبريالي العولمي الذي يفعل فيه قانون قيمة خاص به , وعلينا أن نتعقل أي أزمة تجري على أساس هذا الاعتبار , أي اعتبارها تعكس استحالة تأمين التداول العالمي للرأسمال والتحقيق العالمي للقيمة , وهذه الاستحالة تنبع من الصراع الطبقي على المستوى العالمي , وأن افتراض نظرية تعقل الامبريالية في أزمتها في الزمن الحالي تستلزم بالضرورة نظرية تعقل الدولة في العصر الامبريالي .
تتصل وظيفة الدولة في المقام الأول, كما يرى بولانتزس في كتابه (السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية ),بالميدان الاقتصادي , وبالتحديد بعجلة العمل وإنتاجيته , وأن وظيفة الدولة كمنظم لعملية العمل ليست إلا مظهرا من مظاهر وظيفتها في الميدان الاقتصادي , ولا يمكننا إثبات الطابع السياسي لوظيف الدولة الاقتصادية , أو وظيفتها القضائية بردها مباشرة إلى وظيفتها السياسية بالمعنى الضيق , أي وظيفتها المتعلقة بالصراع الطبقي , وإنما تعتبر هذه الوظائف وظائف سياسية بقدر ما يكون هدفها الأول المحافظة على وحدة التكوين الاجتماعي , وهي وحدة قائمة بالطبع على السيطرة الطبقية .
ويمكن القول ضمن هذا السياق المحدد بأن وظائف الدولة الاقتصادية والايديولوجية محكومة في نهاية المطاف بوظيفة الدولة السياسية بمعناها الضيق , أي بدورها في الصراع الطبقي السياسي , وبمعنى أدق فإنه بقدر ما يكون الهدف الأساسي لتلك الوظائف هو المحافظة على هذه الوحدة بقدر ما تكون مطابقة للمصالح السياسية للطبقة المسيطرة سياسيا .
إن غلبة الوظيفة الاقتصادية على غيرها من وظائف الدولة ضمن دورها الشامل إنما تدل على أن السياسة هي المستوى المسيطر في هذا التكوين , ولا يجوز أن نرد دور الدولة باعتبارها عامل تماسك إلى تدخلها بالمعنى الحرفي للكلمة في المستويات الأخرى , ولا سيما الاقتصادي , فعدم تدخل الدولة في حالة الرأسمالية عبر انطلاقاتها الأولى( الخاصة) مثلا لا يعني اطلاقا عدم قيامها بوظيفتها في تحقيق التماسك , فإن وجود نظام القوانين والتشريع لها , الذي يعد شرطا لسير الاقتصاد من حيث تحديده لعلاقات الانتاج كعلاقات ملكية شكلية ومن حيث اعتباره إطارا منسقا للمبادلات ومنها شراء وبيع قوة العمل .
لكن نظرية الامبريالية وأزمتها تفترض بالضرورة نظرية خاصة في الدولة في العصر الامبريالي . إن العموميات حول دور الدولة لن تكفي لعقل البنية في العصر الامبريالي , ولا يكفي أن نبسط دور الدولة كأداة للمصالح الاقتصادية المهيمنة , مصالح البورجوازيات القومية بالأمس ومصالح الاحتكارات اليوم , ثم إن كان هذا فما هي الاحتكارات التي ستمثلها هذه الدولة المعاصرة : الاحتكارات القومية أم الاحتكارات المتعددة الجنسيات ؟ وما هو الدور الذي ستلعبه في مثل هذه الشروط التحالفات الطبقية القومية العينية المهيمنة ؟.
إن التناقضات التي تخترق مختلف هذه التكتلات المهيمنة تحت تأثير الصراعات الداخلية تتمظهر على الصعيد العالمي من خلال التناقضات بين الدول , وأن مسيرة التراكم على الصعيد الامبريالي العالمي قد عدلت أصلا العلاقة بين الدولة ورأس المال .
إن تحليل استراتيجيات القوى المتصارعة , وتحليل المخارج الممكنة لأزمات الامبريالية , بل امبرياليات لان هناك امبرياليات وليس امبريالية واحدة , تقضي تعمقا في التفكير بصدد الدولة , ويتمفصل هذا التفكير في المركز مع القضايا المطروحة اليوم , من قضية الوحدة الأوربية إلى محاولات أمريكا للهيمنة العولمية , والنزاعات الإقليمية . أما في الأطراف فهي تتناول في المرحلة الراهنة مضمون التحرر القومي . إن الدول القومية لا تزال الهيئة السياسية العليا الوحيدة في النظام الراهن فليس هناك ثمة دولة فوق قومية , والمؤسسات المالية الامبريالية التي تنشط على الصعيد العالمي والدولي (كصندوق النقد الدولي) لا يمكن النظر إليها على أساس دولة عالمية , ولا تعتبر حتى ولو شكلا جنينيا لدولة , بل إنها مجرد استطالة لنظام هيمنة للامبريالية الأميركية المنظمة على أساس السوق العالمية .
وفي ظل المحاولات الحثيثة للامبريالية الأمريكية للهيمنة على العالم والسوق العالمية ولو حتى بالقوة العسكرية , وممانعة العديد من القوى العالمية لذلك ومن ضمنها امبرياليات أخرى (امبرياليات أوربية) يبقى السؤال المطروح : هل سيتجه النظام نحو تشظية السوق العالمية وإنهاء الهيمنة الأميركية وإعادة التوافق بين الدولة والرأسمال؟
وهل سيتم هذا على مستوى أوربي عام ؟ أم أن أوربا والدول التي تدخل في تكوينها ستحافظ على مواقعها الحالية كمحطات ارتباط في نظام السوق العالمية الموحدة تحت هراوة الاحتكارات الأمريكية وتحذو حذو الامبريالية الانكليزية ؟
إن الأزمة العالمية التي نشأت بين الامبرياليات عام 1930 قد أدت إلى تفاقم التناقضات وقادت إلى حرب عالمية فهل ستؤدي الأزمة الحالية إلى التفاقم وتقود لحرب عالمية أم ستنضوي الامبرياليات الضعيفة تحت لواء الامبريالية الأقوى (والتي هي بالتأكيد الامبريالية الأمريكية) كما تسلك الامبريالية الانكليزية وتقترح على لسان قادتها كنصيحة للامبرياليات الأوربية الأخرى لوضع حد لبعض المحاولات الاستقلالية لبعض الامبرياليات الأوربية ؟
ما هو موقف الطرف الآخر للبنية في ظل هذه الأزمة العالمية ؟ إن الرأي الأكثر رواجا في صفوف اليسار الأوربي هو الدعوة للانضواء تحت راية أوربية موحدة , بشرط التمييز بين أوربا الشغيلة وأوربا الاحتكارات , ويعبر هذا الموقف عن تراجع اقتصادوي أمام المتطلبات الموضوعية لتطور القوى المنتجة , ويعتبرون أن تكوين دولة أوربية موحدة شرط مسبق للتحويل الاشتراكي لعلاقات الانتاج , لذا يرجأ هذا التحويل إلى أجل مسمى , ينتظر تحديثا ثان على مستوى عالمي قائم على تشييد دولة عالمية تتماشى مع متطلبات القوى الانتاجية , وبالتالي الإقلاع عن فكرة إمكانية تأسيس ثغرة أو ثغرات اشتراكية انطلاقا من واقع التطور الغير متكافيء على الشروط السياسية للصراعات الطبقية ( انضم في الفترة الأخيرة لهذا الرأي بعض من القوى اليسارية العربية وغير العربية في مناطق العالم الثالث) وبالتالي عدم صلاحية الاستراتيجية اللينينية التي أدت بالارتكاز على مقولة التطور اللامتكافيء لإمكانية قيام ثورة اشتراكية أو ثورات في مناطق مختلفة من النظام العالمي تحت راية الانفكاك عن النظام الدولي العولمي .
أما فيما يتعلق بالجهة الأخرى من العالم في الأطراف هل يمكن انتظار الصيرورة نفسها من التوجه الوحدوي وتشكيل أمة أو أمم وسوق موحدة في ظل هذه العلاقة البنيوية الكولونيالية ؟
يرى الماركسيون المحدثون وعلى رأسهم سمير أمين أن تطور الرأسمالية الطرفية لا يساهم في تكوين الأمم كما هي الحال في المركز , وإنما هذا التطور يساهم في تفكك هذه البنيات , فالطابع المتجه نحو الخارج لهذا التطور ونتائجه الالتوائية التي ذكرنا سابقا ينقصان من أهمية سوق محلية , وأن هيمنة الرأسمال الاحتكاري الأجنبي تحول دون قيام هكذا سوق , ولا يسمح للرساميل المحلية للتراكم في هذه السوق المحلية من خلال خضوعه للرأسمال الأجنبي وبالتالي فإن هذا الخضوع يحد من أهمية تكوين سوق محلية للعمل(خاصة لافتقارها للصناعة) , وتصبح الدولة الطرفية عبارة عن استطالة إدارية لجهاز الدول الامبريالية إلى حد ما إلى جانب تعبيرها عن تحالف محلي مهيمن متمفصل مع التحالف الامبريالي , ومن هنا مصدر الهشاشة المزدوجة التي تتصف بها الدول الطرفية , هشاشة التحالف المهيمن الذي تعتريه تناقضات تعكس التناقض القائم بينه وبين الجماهير الشعبية , والتحالفات القائمة على أساس سيطرة بيروقراطية كومبرادورية , والتي ينعدم فيها عمليا وجود بورجوازية محلية على النمط الذي تكونت عبره في الغرب, تجعل من الدولة المحلية أقرب ما تكون إلى الاستطالة الإدارية الأجنبية فتحكم على البلد أن يبقى فريسة التدخلات الخارجية . وهشاشة قومية لأن الاندماج بالنظام الامبريالي غالبا ما يجري على أساس خلفية مسبقة من الجماعات الإثنية والطوائف المتغايرة و الخليطة , وما يزيد من صعوبة تبلور دولة قومية استغلال التناقضات داخل صفوف الشعب من قبل مختلف فرقاء التحالف المحلي المهيمن وكذلك من قبل قوى الخارج .
إن الاستعمار اغتصب تاريخ بلداننا , صحيح أنه حررها من أفق جمودها ولكنه جذبها إلى أفق التبعية المسدود , كان قوة كبت والتواء وتعطيل لأي إمكانية تحرير لبنيتنا في ظل الانخراط ببنيته الامبريالية لا تحرير كما انبرى في الإدعاء قديما وحديثا وكما تدعي أبواقه , وأن التغيير الحقيقي في بنيتنا هو في الثورة عليه والفكاك من بنيته , صحيح أنه قد حرر تطور القوى المنتجة لدينا من خلال ضمه لها إلى حركة تطور إنتاجه التوسعي ولكن التجلي التاريخي لهذا التحرير كان تشويها لهذه القوى المنتجة وحد بنيوي لتطورها , لأن تحرير هذه القوى الإنتاجية لم يكن عبر خلق علاقات إنتاج رأسمالية كما حدث في المراكز , بل كان بخلق علاقة تبعية وكولونيالية , ليس لها إلا القليل من مقومات نظام إنتاج حسب المفهوم الكلاسيكي للعبارة , وأول ما تفتقر إليه هذه البنية هو الاستقلال في التطور وفي حركة البنية الداخلية , وراحت البنية تتحرك في ظل تبعيتها لبنية المركز وتتطور حسب متطلبات الانتاج هناك ضمن بنية لاتفارقية.
إن فقدان الحلقة الصناعية في تطور البورجوازية الكولونيالية يمنع إمكانية تفارق طبقي ذاتي للبروليتاريا على الطريقة التي حدثت في المراكز أو أنه حدده في إطار ضيق(لتوفر بعض الصناعات التحويلية , وبعض الورش الحرفية ) ويصعب فيه تكون مستقل لطبقة عاملة ناضجة ومكتملة بل هي قيد التكوين , في حركة تفارقها الذاتية , لعدم توفر بورجوازية رأسمالية منتجة كما حدث في الغرب , وذلك لاستحالة وجود هكذا طبقة في مجتمع يرزح تحت عبء علاقة التبعية , ففي ظل العلاقة الكولونيالية يتم الإنتاج في المجتمعات الكولونيالية فقط للحاجة والضرورة الاستعمارية , وهذه الضرورة في الإنتاج هي التي تحدد بنية هذا الإنتاج ضمن إطار لجم حركة التفارق الطبقي الذاتي بل ويميل إلى شلها .
ولكن هذا لا ينفي وجود فروقات وصارخة بين فئات المجتمع الكولونيالي وخاصة بين البورجوازية فيه وبين الفئات الشعبية الكادحة , كانت تؤدي إلى عنف أشد من الفروقات الطبقية الكلاسيكية الموجودة في المجتمعات المركزية المتمتعة بوجود طبقة عمالية كبيرة , فهناك لا وجود بشكل عام لمظاهر الفقر الهائلة التي تصل حد المجاعة التي نجدها في المجتمعات الكولونيالية الطرفية والتي تعيش جنبا إلى جنب مع أعلى درجات البذخ والترف والقصور والخدم المحليين والأجانب . إن التفارق الطبقي في المراكز لا يتحدد على صعيد الاستهلاك بل على صعيد الانتاج الاجتماعي الذي يحدد , كما يقول ماركس , الاستهلاك الاجتماعي كما وكيفا .
وبسبب هذا نجد أنه يغلب على البنية الطرفية الكولونيالية الركود والتكرار بالرغم من العنف الشديد في التحولات الجارية فيها , وهذا هو المعنى الحقيقي للحلقة المفرغة للتخلف وإعادة إنتاجه .
إن التكون الطبقي يكون بتطور الإنتاج في حركة تصاعدية كما حدث لتطور الرأسمالية بالمركز , ولكن في الأطراف وفي ظل الإنتاج الكولونيالي وعلاقة التبعية التي يرتبط بنيويا بالمركز فمن المستحيل تحقق تكون طبقي ناجز , فمثلا : إن انتقال الفلاحين في المجتمع الكولونيالي من القرية إلى المدينة قلما يتخذ طابع التحول الطبقي الجذري من طبقة الفلاحين إلى طبقة العمال , والسبب هو عدم وجود صناعة فعلية بالمعنى الرأسمالي للكلمة , لذلك نجد هذا الفلاح , في وجوده الطبقي الجديد , يحافظ على ارتباطاته الطبقية السابقة , وإن حرية التنقل الطبقي هي ميزة في العلاقات الكولونيالية , فيمكن للمرء أن يجد العامل في نقس الوقت فلاحا وبائعا وحرفي .
إن عدم التكون الطبقي الناجز في هذه البنية التابعة يدفع الفرد , أو الطبقة , لأن يأمل في الترقي درجة السلم الاجتماعي وأن يخرق إطار طبقته لا بكسر البنية الطبقية بل من خلال محاولته الارتقاء إلى الطبقة العليا التي هو معها في تناقض وتصارع , وأن وجود هذا الأمل في الوعي دليل على الإيمان بإمكانية تحقيقه , ومجرد ظهور هذا للوعي كإمكان في الواقع يضفي على الوعي الطبقي شكلا أيديولوجيا (وهميا) يحدد بالضرورة الممارسة السياسية كممارسة غير ثورية , وفي هذه الحالة لا يستلزم الوعي الطبقي صراعا طبقيا بل يمكن أن نسميه بالاستبدال الطبقي الذي يخلق في شروط محددة توترا بين الطبقات ولكنه قلما ما يولد صراعا سياسيا يستهدف تحويلا جذريا للبنية المجتمعية .
إن عدم الاستقرار السياسي الذي تعاني منه البنية الكولونيالية , بالمقارنة مع الاستقرار السياسي في الغرب الرأسمالي , يترافق وبشكل غريب مع استقرار دائم في البنية المجتمعية الأساسية , وكأن هذا الركود المستقر لها هو شرط لعدم الاستقرار السياسي الذي هو شكل ظهور الاستبدال الطبقي , ويكون هو الشكل التاريخي للممارسة السياسية لطبقات البنية الكولونيالية , وما هذه الانقلابات العسكرية المسماة ثورات , والتي صارت جزءا من الفلكلور السياسي في بلاد العالم الثالث سوى فورات سرعان ما تخمد وتزول رغوتها التضليلية وتستمر البنية في بقائها المستقر .
لقد ثار جدل واسع في الماضي حول الطبيعة الاجتماعية للبنية الطبقية في التجربة السوفياتية , وقد كان لرؤية المفكر سمير أمين قصب السبق في تحليلها والتوصل إلى أن أهداف ثورة أكتوبر وبعد استقرار الأوضاع لها بفترة , تحولت واتجهت إلى نوع جديد من بنية طبقية لعلاقات إنتاج رأسمالية دولانية , وكان سباقا أيضا في تنبؤه في حسم الصراع داخل هذه البنية لصالح عودة الانخراط بالرأسمالية العالمية , وبالتالي فلقد كان له آراء مبكرة في التحفظ على الأطروحة الجيدانوفية التي قد خلطت بين الطبيعة الاجتماعية المزعومة للأنظمة ذات المنبت الطبقي المتوسطي التي قفزت على سدة السلطة من خلال انقلابات عسكرية في بعض البلدان من البنية الكولونيالية وبين السياسات الخارجية لها , وكانت قد برزت في حينه في إطار هذه الأطروحة ضرورة خلق مقولة وسيلة مثل : الأنظمة التقدمية أو الطريق الغير رأسمالي أو الديموقراطية القومية .
وقد رأى سمير أمين إن المنهج الماركسي يحتم الانطلاق من المضمون الطبقي الفعلي للأنظمة السياسية , ومن هذا المنظور أكد أن الإتحاد السوفياتي وأنظمة أوربا الشرقية ليست أنظمة اشتراكية وإنما أنظمة ذات مجتمع طبقي من طراز جديد ذهب البعض بتسميتها رأسمالية دولانية , وأن الأطروحة الجيدانوفية أو التعايش السلمي أو الأنظمة التقدمية أو التطور اللارأسمالي لم تكن سوى وظائف ايديولوجية سعت لإخضاع الصراعات الطبقية على المستوى العالمي والصراعات المناهضة للامبريالية لأهداف الإتحاد السوفياتي الخاصة في ظل الحرب الباردة التي كانت تسود الصراع بين القطبين آنذاك , وقد سعت ولفترة طويلة هذه السياسة للخلط تحت يافطة ((القوى التقدمية))بين القوى الشعبية الأصلية والقوى البورجوازية والبورجوازية الدولانية المتحالفة ظرفيا معه , والتي لجأت ومازالت إلى رفع شعارات مطاطة مثل اشتراكية , وتقدمية , في مقابل الشعارات التي رفعتها ومازالت قوى الخصم الامبريالي مثل حرية , ديموقلراطية , حقوق إنسان .
إن الشيء الأساسي في استراتيجية الثورة المتواصلة على مراحل هو قدرة الطبقات المستغلة , عمالية وفلاحية , على التعبير عن ذاتها على نحو مستقل , عندئذ فقط يمكن إخضاع المتطلبات التكتيكية الموجبة للتحالفات الداخلية والخارجية للهدف الاستراتيجي , إن وحدة النضالات الطبقية في النضال التحرري شرط مطلق لنجاحها , فإذا انعدمت هذه الوحدة انعدمت طبقية النضال نفسه , واستحال على كل طبقة اجتماعية تتناقض مصالحها مع التحالف السائد في البنية الحالية أن تذهب في نضالها إلى المنتهى , أي إلى ضرورة النجاح .
إن الإنتقال إلى الاشتراكية هو الهدف النهائي للكفاح وإلا ستبقى القوى الشعبية موضوع رهان القوى الرجعية المحلية والقوى الخارجية , ولكن العائق الأساسي لتحقيق ذلك يكمن في صعوبة فك الارتباط الذي هو الشرط اللازم للخروج من التخلف وإعادة إنتاجه ولتطور قوى الإنتاج في الأطراف , بيد أنه يتعذر على المجتمعات في المركز , والتي قولبها على شاكلتها النهائية هذه الفائض الامبريالي , أن تدرك ضرورة تغيير بنيتها دون مقاومة ومقاومة شرسة .
وتبين التجربة التاريخية للصراع الطبقي أن تغيير علاقات الإنتاج المعيقة لتطور القوى الإنتاجية لا تتفكك ولا تتحلل إلا بفعل الضربات التي توجهها لها الطبقات المضطهدة .
نفس المراجع السابقة
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟