أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سمير إبراهيم خليل حسن - ٱلديمقراطية وٱلفيدرالية وحقوق ٱلإنسان















المزيد.....



ٱلديمقراطية وٱلفيدرالية وحقوق ٱلإنسان


سمير إبراهيم خليل حسن

الحوار المتمدن-العدد: 1683 - 2006 / 9 / 24 - 12:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


(مختارات من منشورات)

أعود إلى نشر بعض ٱلمقالات ٱلتى تناولت فيها مفهوم ٱلديمقراطية ومفهوم ٱلفيدرالية ومفهوم حقوق ٱلشخص وعلاقة هذه ٱلمفاهيم فيما بينها. وكان سندى فيما قلته عن هذه ٱلمفاهيم هو كتاب ٱللّه ٱلقرءان ومخزون قلبى مما خبر فيه أهل ٱلديمقراطية وحقوق ٱلإنسان.
وسبب ٱلعودة إلى نشر هذه ٱلمقالات هو ما رأيته من حاجة لتكرار عرض هذه ٱلمفاهيم علىۤ أهلنا ٱلشاميين ٱلذين ما زالوا ينفرون من ذكرها بقوّة أمّة ءَاباۤئهم ٱلظنيّة ٱلتى تجعلهم يظنون بهذه ٱلمفاهيم عدوّا يريد إزاحة ما يرونه فىۤ أنفسهم خصوصية قوم وقبيلة وعشيرة وطآئفة ما زالوا يتميزون بها. وهى ٱلأمّة ٱلتى تمنع أهلنا من ٱلسير وجهة طور ٱلإنسان "ناس" ٱلذى يعلم ويذكر ويفقه ويسعى ليخلف بأسمآء ٱللّه ٱلحسنى ويعمل علىۤ إصلاح ٱلفساد فى ٱلأرض وٱلحرث وٱلنسل.
وبسبب ٱلحاجة إلى تكرار عرض بعض ٱلمفاهيم ٱلتى حرّفها لغو ٱللّغة جئت بمقالات تحمل عرضا لإدراكى وفهمى لها كٱسم يهود وإسراءيل ومسلم وغيرها ذات ٱلصلة بٱلمأرب من هذه ٱلعودة.
أرجو من ٱلمتابعين وٱلمهتمين ٱلمشاركة وعرض أرآئهم وتوسيع ٱلقول فى تلك ٱلمفاهيم.
**

ٱلديمقراطية ليست بضاعة مستوردة

تُروِّج ٱلسلطة وكهنوتها (بلونيه من رجال دين ومفكرين) أنّ ٱلديمقراطية هى بضاعة مستوردة. وما تفعله ٱلسلطة يستند على قوّة ٱلمفاهيم ٱلوثنية (ٱلثابتة) ٱلمغروسة فىۤ أنفس أكثر ٱلناس فى بلادنا عن ٱلدين وٱلتاريخ وٱلقوم وٱلوطن. وهى تعلم أن هذه ٱلأكثرية لن تحنف عن هذه ٱلمفاهيم وأنها ستصدق زعم ٱلسلطة عن خطر ٱلديمقراطية ٱلمستوردة بما فيها من مفاهيم حقوق ٱلفرد ٱلإنسانية وحقوق ٱلجماعات ٱلسياسية وٱلدينية وٱلاجتماعية كبيرة كانت أم صغيرة. وهى بما تُروِّجه عن ٱلديمقراطية تريد دفعها بعيدًا عن بلادنا ودفع ٱلعون ٱلأجنبىّ معها.
لقد سبق لىۤ أن بيّنت فى كتاب "ٱلديمقراطية دين ٱلمؤمنين" وفى كتاب "ٱلصحيفة" وفى مقال "من ٱلديمقراطية إلى ٱلمدينية" وفى مقال "مجتمع مكَّة ومجتمع ٱلمدينة من ٱلأمس إلى ٱليوم" أنّ مفهوم ٱلديمقراطية كانت نشأته ٱلأولى فىۤ أول قرية للمجتمع ٱلإنسانىّ فى مكّة. وهى كما يبيّن كتاب ٱللّه "أمُّ ٱلقرى". وفى مكّة أعلن رسول ٱللَّه محمّد لأول مرّة فى مجتمع ديمقراطية ٱلقرية مكّة مطالبه بحقوق ٱلفرد فى طورها ٱلمدينى ٱلتى تبينهاۤ أركان ٱلدين. وقد سبق وبيّنت لى رأيًا فىۤ أركان ٱلدين وعددت بعضها فيما يلى: (لاۤ إكراه فى ٱلدين. لكم دينكم ولى دينِ. قل ٱلحقُّ من ربِّكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر. كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة. قل ٱلشفاعة للَّه جميعًا. لست عليهم بمصيطر. وأمرهم شورى بينهم. وشاورهم فى ٱلأمر).
هذه ٱلأقوال ٱلعربية وغيرها ٱلكثير فى كتاب ٱللَّه تُظهر لناۤ أنَّ ركن ٱلدين ٱلأساس يقوم على حرية ٱلفرد ٱلذى يشآء لنفسه ٱلإيمان أو يشآء ٱلكفر لها. وهذه ٱلأركان ٱلأساس لحرية ٱلفرد هى ٱلتى تنكرها ٱلسلطة على ٱلفرد فى مجتمعاتنا وتزعم بأنها بضاعة مستوردة. وهى تقاتل من أجل بقآئها فى موقع ٱلسلطة وٱلسيطرة وفى تجمّع بطريركىّ لا يقبل بطور ٱلسلطة حتى فى مجتمع ٱلقرية.
لقد مسخ جهلة ٱلسلطة ٱلمترفون وحلفآؤهم ٱلكهنة ٱلمنافقون دينَ ٱللَّه فى مفاهيم تخريص تزعم أنّ ٱلدين يحصل ٱلفرد عليه بٱلولادة وشهادة مأمور ٱلنفوس. وبذلك يمكن لهذا ٱلمولود أن يردد ٱلقول "أشهد أنّ لا إلٰه إلا ٱللّه وأشهد أنّ محمّدًا رسول ٱللَّه" من دون إدراك له فتسلم نفسه من حريق جهنّم. وقد حرصت هذه ٱلسلطة لتكون هذه ٱلمفاهيم على هيئة منهاج تلقيم وتعليم فى ٱلنفس يسوقون به ٱلناس فى قطيع. ومنذ ٱنقلاب ٱلسقيفة وإلى يومنا هذاۤ ٱستطاعت هذه ٱلسلطة بسط سيطرتها على مفاهيم أكثرية ٱلناس ومنعتهم من ٱلتفكير بحرية ٱلفرد ومسئوليته فى ٱلدنيا وٱلأخرة "كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة". ولقد ٱستفادت ٱليوم هذه ٱلسلطة من صناعة ٱلكاريكاتير. فعملت على تهييج منهاج ٱلقطيع فىۤ أنفس هذه ٱلأكثرية ودفعت بها لتوقف سدًّا فى وجه حرية ٱلفرد بزعم أنها بضاعة مستوردة من ٱلغرب. وهى قبل ذلك لم تتوقف مع كهنوتها من رجال دين ومفكرين عن ٱلتحذير وٱلتخويف من مؤامرة غربية صهيونية مأربها قوميتها قريش وتاريخها ٱلذى بدأ بٱنقلاب سقيفة بنى ساعدة على دولة ٱلمدينة ودينها ٱلذى صنعه ٱلانقلابيون.
كما سارعت ٱلسلطة بوسآئلها ٱلإعلامية للتحريض وتهييج ٱلأنفس لتوسيع ٱلقتل فى ٱلعراق من بعد ٱلرجفات ٱلتى دمرت ٱلمقامات وٱلمساجد. وسارع معها كهنوتها ٱلوثنى يدعوا للهياج بصياحه: "لبيك يا حسين" موجّهًا ٱتهامه للغرب وٱلصهيونية أصحاب ٱلبضاعة ٱلمستوردة "ٱلديمقراطية". وكان هذا ٱلكهنوت قد صاح من قبل: "لبيك يا رسول ٱللَّه" ضد أوروبا وأمريكا وٱلصهيونية بسبب أزمة ٱلكاريكاتير. وهم يريدون إشعال نار حرب مع ٱلغرب بسبب ٱلكاريكاتير يذهب أكثرنا فيها. وحرب بين أهل ٱلعراق تذهب بحرية ٱلفرد ٱلتى تكاد تنتصر.
وهذه ٱلسلطة لم تهمل ما نجم عن ٱلانتخابات فى مصر وٱلعراق وفلسطين. بل لم تكن بعيدة عنها ووجدت لنفسها ٱلفرصة للعمل من داخلها. وما نجم عنها كان فرصة لها لتقوية موقفها من موقف ٱلغرب ٱلذى لم يرَ فى تلك ٱلانتخابات تغييرًا يأتى بحرية ٱلفرد. بل لم يكن يرى من قبل أنّ فعل منهاج ٱلسلطة فىۤ أنفس شعوبها لن يولد منه أىّ تغيير. فوقع فى شرك ٱلسلطة ٱلخبيرة فى نصب ٱلشباك ٱلتى بدأت حملتها للتشكيك بٱلمأرب ٱلغربىّ وبضاعته.
أما شعوبنا فقد وقفت مبهوتة لا تفهم موقف ٱلغرب بفعل منهاج تعليمها ٱلأبآئىّ ٱلوثنىّ. وهى تظنّ أنّ ٱلديمقراطية تخرج من صندوق خشبى يهيمن عليه متسلطون. وهم فى مصر ٱنتخبوا بعضًا من ٱلإخوان ظانين أنّ حريتهم ٱلفردية لا تخرج عن ٱلاختيار بين متسلط يمسك بٱلسلطة ومتسلط يحتكر ٱلدين.
ومثله حدث فى ٱلعراق ذى ٱلأكثرية ٱلشيعية ٱلتى ٱختارت تسلط كهنوتها وشريعته وفضلته على مَن يدعوا للحرية ٱلفردية حتى فى ٱلدين.
وفى فلسطين كان شعبهاۤ أمام ٱختيار واحدٍ مِّن مُتَسلِطَين عليه بٱلسلاح ومنهاج ٱلتعليم ٱلأبآئىّ ٱلوثنىّ فٱستبدلوا واحدًا بٱلأخر.
هذا ٱلفعل لم يرَ ٱلغرب فيه منفذًا لِّلديمقراطية. وقد يوقعهم رأيهم بٱليأس فيبتعدون عن بلادنا ويتركون ٱلمكان للسلطة فيها.
لقد ركزّ ٱلغرب فى ٱلبداية على تغيير مناهج ٱلتعليم. وكان تركيزه صآئبًا لكنّه لم يتابعه. وفى كتاب ٱللَّه ومَثَلُهُ فى دستور دولة ٱلمدينة هداية للغرب ولنا من أجل ٱنتصار حرية ٱلفرد فى بلادنا من بعد حين. فصندوق ٱلانتخاب فى بلاد بدآئية ٱلمفاهيم بحكم تسلط جاهلين عليها لا يصلح إلا بفيدرالية تُصَغّر دولها لتكون على مستوى ٱلطآئفة وٱلعشيرة. وأىّ عمل ٱنتخابىّ لا تُصغَّر بقعته سيأتى بممثلين عن أكثرية لا تدرى بحقوق ٱلفرد ويحجب ٱلأقلية ٱلمطالبة بذلك ٱلحقِّ. وقد بيّن كتاب ٱللَّه أنَّ ٱتباع ٱلأكثرية يضلّ عن سبيل ٱللَّه:
"وإن تُطع أكثر مَن فى ٱلأرض يُضلُّوك عن سبيل ٱللَّه إن يتبعون إلا ٱلظَّنَّ وإن هم إلا يخرصون" 116 ٱلأنعام.
وهذا ما بيّنته صناديق ٱلانتخاب فى مصر وٱلعراق وفلسطين. ولو وزّع ٱلناس فى فيدراليات لكانت ٱلانتخابات ٱختلفت وسآئلها ٱلعلمية وٱلمعرفية من فيدرالية إلىۤ أخرى. وكانت جآءت كلّ فيدرالية بثمارها إلى مجلس تشريع ٱتحادىّ. وهذا كان قد ورد ٱلمثل عليه فى دستور دولة ٱلمدينة فى فيدراليات متعددة تحكم كلّ مِّنها بما تهتدى إليه بوسآئلها ٱلعلمية وٱلمعرفية:
"هَذَا كِتَاب مِن مُحَمّدٍ النّبِيّ بَينَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُسلِمِينَ مِن قُرَيشٍ وَمَن تَبِعَهُم فَلَحِقَ بِهِم وَجَاهَدَ مَعَهُم.
ٱلبند ٱلأول: إنّهُم أُمّة وَاحِدَة مِن دُونِ النّاسِ.
ٱلبند ٱلثانى: المُهَاجِرُونَ مِن قُرَيشٍ عَلَى رِبعَتِهِم (مكان إقامتهم وعيشهم) يَتَعَاقَلُونَ (مسآئل ٱلتشريع وٱلحقوق وٱلحكم) بَينَهُم وَهُم يَفدُونَ عَانِيَهُم (كلمة "عَنِى" تدل على ٱلفقير فى طور ٱلِّسان ٱلعبرىّ) بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلثالث: وَبَنُو عَوفٍٍ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى كُلّ طَائِفَةٍ تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلرابع: وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلخامس: وَبَنُو الحَارِثِ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلسادس: وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلِهِمْ الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعْروفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلسابع: وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلثامن: وَبَنُو عَمرِو بنِ عَوْفٍ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلتاسع: وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلعاشر: وَبَنُو الأَوسِ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ".
وهو يبيّن تسع دول فيدرالية تتحد فى دولة ٱلمدينة ٱلتى كان يحكم فيها مجلس من حكمآء تلك ٱلدول يرأسهم ٱلنّبى محمّد يشاورهم فى جميع أمور ٱلدولة ٱلفيدرالية. وهذا ليس بضاعة مستوردة لا من ٱلغرب ولا من ٱلشرق. وهو ما نرى مثله ٱليوم فى ٱلهند وفىۤ ألمانيا وفى ٱلولايات ٱلمتحدة ٱلأمريكية. فإن كانت طآئفة لا يريد أفرادها ٱلخروج عن ٱلجماعة فليكن لهم حكمهم لأنفسهم فى مكان عيشهم. ولينتخبوا مَن يريدون ليمثلهم فى ٱلمجلس ٱلفيدرالى. ٱلذى عليه أن يتوجّه لتطوير ٱلمنافسة بين جميع أبنآء ٱلفيدرالية فى تعليمهم وتشريعهم وصناعتهم وتجارتهم وزراعتهم ودفاعهم وصولا إلى مفاهيم تجعل من كلِّ فرد شخصية ذات حقوق منفصلة عن حقوق ٱلجماعة.
لقد بيّن ٱلبند ٱلأوّل من دستور ٱلمدينة أنّ أهلها يتبعون منهاجا يختلف عن مناهج جميع ٱلنّاس "إنّهُم أُمّة وَاحِدَة مِن دُونِ النّاسِ". وهذا ما علينا ٱلعمل من أجله. فلا نظنّ أنّ ٱلانتخابات ٱلتى جرت فى ٱلعراق وفى فلسطين وفى مصر تجعلناۤ أمّة متميزة عن جماعة ٱلقطيع ٱلتى ما زلنا نتبع منهاجها. كما عليناۤ أن نعمل مع أنفسنا لنؤمن بٱلمساعدة ٱلتى يقدمها ٱلغرب ٱلديمقراطى لنا فى هذا ٱلأمر. وعليناۤ أن نسعى لمشورته وخبرته ٱلطويلة فى ذلك وليكن له أجر مجزٍ على ذلك. وهذا يحتاج إلى مراجعة جميع مفاهيمنا ٱلتى شربناها من مدارس سلطة ٱلطاغوت وكهنوته منذ ٱنقلابهم فى سقيفة بنى ساعدة.
لقد جآء ٱلأمر للرسول:
"قل سيروا فى ٱلأرض فٱنظُرُوا كيف بدأ ٱلخلقَ" 20 ٱلعنكبوت.
هذا ٱلقول ٱلأمر هو من أركان دين ٱللَّه. وطاعة هذا ٱلأمر تجعل ٱلذى يطيعه ذو يقين نسبىّ بسبب تغيّر ٱلمفاهيم بفعل متابعة ٱلنظر. وبذلك يكون حنيفا فلا يشرك. ونحن قوم ٱلرسول هجر أكثرُنا ٱلقرءانَ فلم نطع هذا ٱلأمر ٱلركن بتأثير ما نتبعه من مفاهيم ٱلوثنية ٱلتى صنعها تخريص ٱلسلطة وكهنوتها ٱلمجنون. وهذا يجعلنا نرمى بتهمة ٱلكفر وٱلعدوان على ٱختصاص ٱللَّه مَن يسير فى ٱلأرض ينظر كيف بدأ ٱلخلق ويقرأ بٱسم ربِّه. وهذا يجعل أعيننا تزيغ عن ركن أخر ورد فى سورة ٱلكافرين هو أساس لحرية ٱلفرد فى ٱلقول وٱلموقف وٱلاتباع "لكم دينكم ولى دِينِ". وهذا ٱلمفهوم ورد من عند ٱللَّه وليس من ٱلغرب ٱلديمقراطى. ونحن نصدق وننصر ونتبع حديثًا للسلطة وكهنوتها ٱلمجنون: "لا يجتمع دينان فى جزيرة ٱلعرب" يدحض هذا ٱلركن ويقول عنه بضاعة مستوردة.
إننىۤ أتابع ٱلتصويت على مقالاتى (وأظنّ أنّ ذات ٱلأشخاص يصوتون على كلِّ مقال جديد). وأرىۤ أنّ موقف ٱلمصوتين يميل إلىۤ أفكارى فى مقالٍ وضدها ذاتها فى مقال أخر. وهذا يبيّن لى حيرتهم بين ما ثُبّت فىۤ أنفسهم من مفاهيم وما يطلبونه لأنفسهم من تغيير.
وأخلص إلى ٱلقول أنّ مفاهيم حرية ٱلفرد وٱلديمقراطية بطورها ٱلقرىّ (نسبة إلى ٱلقرية) وطورها ٱلمدينى هى مفاهيم من عند ٱللَّه أرسلها لنهتدى بها فى عيشناۤ إلى صراط ٱلرَّبِّ ٱلمستقيم. فإذا كان ٱلغرب يذكّرنا بها فهذا يجعل له فضلا علينا عند ٱللَّه. ومن يؤمن بٱللَّه وكتابه ورسوله فعليه أن يتبع ما جآء من عند ٱللَّه ولا يلتفت إلى ما يقوله متسلط جاهل وكاهن مجنون يستخفان به. بل عليه أن يكفر بهما وبطاغوت سلطتهما.
لقد بيّن لنا كتاب ٱللَّه ٱلقرءان أنَّ مناهج ٱلناس مختلفة. وبٱختلافها يتنافسون ويتسابقون على ٱلعلم فيوسع عليهم ٱلاختيار فىۤ أمور عيشهم وتطورهم:
"لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرعَةً ومِنهاجًا ولو شَآء ٱللَّه لَجعَلَكُم أُمَّةً وٰحِدةً ولكن لِيبلُوَكُم فى مآ ءَاتٰٰكُم فاستَبِقُوا ٱلخيراتِ إلى ٱللَّه مرجِعُكُم جَمِيعاً فَيُنبِئُكُم بِمَا كُنتُم فِيهِ تَختَلِفُون" 48 ٱلمائدة.
وهذا ٱلقول ٱلعربىّ هو من أركان دين ٱللَّه ومن يؤمن بٱللَّه حقًّا يكفر بقول ٱلطاغوت ٱلمزعوم "لا يجتمع دينان فى جزيرة ٱلعرب".
وأسأل ٱلذين يتابعون مقالاتى أن يطيلوا نظرهم فى سورة ٱلكافرين:
"قُل يٰۤأيُّها ٱلكٰفرونَ/1/ لآ أعبُدُ ما تعبُدُونَ/2/ ولآ أنتم عٰبدون مآ أعبُدُ/3/ ولآ أنا عابِد مَّا عَبَدتُم/4/ ولآ أنتُم عٰبِدونَ ماۤ أعبُدُ/5/ لكُم دِينُكُم وَلِىَ دِينِ/6/".
كمآ أسألهم أن يعيدوا نظرهم فى مقالى "حرية ٱلفرد ركن ٱلديمقراطية ٱلأساس" ليعلموۤا أنَّه لم ترد فيه أىّ بضاعة مستوردة. وقد بيّنت ما فهمته من كتاب ٱللَّه أنّ حرية ٱلفرد هى ٱلتى تجعله مسئولا يستحقّ ٱلحساب:
"ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنّ ٱلسّمع وٱلبصر وٱلفؤاد كل أولـٰۤئك كان عنه مسئولاً" 36 ٱلإسرآء.
"كلُّ نفسٍ بِما كَسَبَت رهينة" 38 ٱلمدَّثر.
مسئولية ٱلفرد عن مواقفه ٱلمعرفية وٱلعلمية وٱلتشريعية فى ٱلحياة ٱلدنيا هى حريته ٱلمطلوبة فى بلاغ ٱللَّه ٱلعربىّ. وقد منعنا رجال ٱلسلطة وٱلكهنوت من أهلنا عن هذه ٱلمسئولية وما زالوا على منعهم. أما ٱلغرب ٱلديمقراطى فهو يدعو من أجلها فى بلادنا ويعرض علينا عونه. وعلينا مساعدة أنفسنا وقبول دعوته وعونه. وعليناۤ أن لا نلتفت إلى ما يطلقه ٱلطاغوت وكهنوته من ٱتهام بٱلخيانة بزعم وطنية وتاريخ وقوم ودين. وعليناۤ أن لا نخون أنفسنا ونكون كٱلأنعام غافلين:
"ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من ٱلجنّ وٱلإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بهاۤ أولٰئك كٱلأنعٰم بل هم أضلُّ أولٰئك هم ٱلغٰفلون"179 ٱلأعراف.
وخيانة ٱلنفس فىۤ إلغآء أفعال ٱلعين وٱلأذن وٱلقلب وهى وساۤئل ٱلإدراك وٱلعلم وٱلفقه لدى ٱلإنسان ٱلفرد وسبيله إلى حريته ومسئوليته عن ٱلسير إلى سبيل ٱلمدينة وعيشها.

ٱلديمقراطية حاجة إنسانيّة

تحتاج مجتمعاتنا ٱلشّاميّة إلى مزيد من ٱلنظر وٱلبيان وإلى مزيد من ٱلتداول لكلمة ديمقراطية democracy. كما تحتاج إلى مزيد من ٱلعمل على ما تدل عليه من مفهوم حقوقى وسياسى يتعلق بٱلإنسان ٱلفرد ٱلذى ٱتخذ من نفسه هيئة ٱلشخص personify. وهو ٱلذى تمثله وتدل عليه كلمة heroine ٱلمتميز بأمّته عن أمّة غيره من ٱلأفراد ٱلذين لم ينفصلوا عن ٱلمنهاج ٱلجمعى. وهو ٱلذى يحدد لنفسه مسئولياتها عن سبيل عيشها وٱلذى يختار لنفسه ٱسمًا يميزه وينسبه.
هذا ٱلشخص هو ٱلذى أعربت عنه أساطير ٱليونان (مسطوراتهم) بٱلاسم هيركوليس Hercules. وهو ٱلذى يواجه بأمّته ٱلشخصية ٱلمتحررة من أمّة ٱلجماعة جميع ٱلقوى ٱلوحشية بكلِّ ألوانها ٱلتى تعترض تشخّصه. وهو بقوّة شخصيته يبنى مع أشخاص أخرين مجتمعهم ٱلديمقراطىّ يوثِّقون فيه حقوق ومسئولية ٱلفرد بموجب ميثاق يتواثقون عليه يجعلهم أمّة جديدة. ولهذا ٱلفرد ٱلشخص ٱسمه ٱلمميز فى كتاب ٱللَّه "ٱلقرءان" هو "إبرٰهم" ٱلذى تبرّأ من أمّة قومه ٱلجماعية وهاجر عنها ينوس فى ٱلأرض.
وٱلذين هم مثل "إبرٰهم" يخاطبهم كتاب ٱللّه بكلمة "ناس". وهذاۤ ٱسم جمع أفرادٍ يخاطب به ٱلفرد إذ لاۤ ٱسم فرد للكلمة. وهذا ٱلاسم يدلّ علىۤ أولئك ٱلأشخاص ٱلذين ٱنفصلوا وناسوا مبتعدين عن تجمعاتهم ٱلبدآئية ٱلمختلفة. وهم يشتركون فى سعى كلٍّ منهم لاكتساب هيئة ٱلشخص personify ٱلمتميز heroine بما ٱكتسبه بسؤاله ونظره وبما وصل إليه قلبه من ٱطمئنان. وقد بيّن ٱلقرءان أنّ حال ٱلنَّاس هذا يأتى فى ٱلتسلسل 114 بين تسلسل ٱستقرار سوَر ٱلتطور ٱلحىّ وسورة ٱلناس هىۤ أخرها.
هذا ٱلمفهوم لحال ٱلناس يبيّن مفهوم ٱلديمقراطية ٱلذى يلقى مقاومة شديدة فى بلادنا بسبب سيطرة منهاج تعليم وعيش جمعى يرى فى ٱتباع ٱلقرءان تهمة كفر توجب ٱلقتل. وهذه ٱلمقاومة تنبع من خوف شديد فى نفوسنا من مسئولية ٱلتشخّص. ويظهر هذا ٱلخوف فى مفاهيمنا ٱلجماعية عن ٱلخصوصية وٱلتاريخ وٱلدين. إذ لا نستطيع تحمّل مسئولية إلا فى وسط جمعى. فإن أردنا ٱلزواج يلزمنا مشاركة أهل وأقارب. وإن أردنا ٱلابتهال إلى ٱللَّه تجمّعنا فى مكان. وإن أردنا صومًا نحيط أنفسنا بجميع وسآئل ٱلرقابة ٱلجماعية نطلب شهادتهم على صيامنا. وإن أردنا قتلا رجمناه كجماعة لتضيع ٱلمسئولية ٱلفردية. وإن أراد أحدنا نظرًا فى منهاج ٱلجماعة نقوم عليه لنمنعه ونعيده إلى حظيرة ٱلقطيع. فإن أصرّ نقتله بتهمة ٱلخارج على ٱلجماعة.
ٱلأمثلة كثيرة على تربيتنا ٱلتى تمنع نشأة ٱلشخصية. وتاريخنا يقوم على سلوك أمّة جماعيّة واحدة لها رأس هرم يشبه إمام قطيع. وما نفعله ٱليوم لا يختلف عمَّا فعله أسلافنا. حتىۤ أننا نخيط لباسنا كما كانوا يخيطون. ونحن على ٱلرّغم من زحم حياتنا بعرض ألوان ٱلعيش ٱلشخصىّ لدى ٱلأخرين. نعلن رفضنا لها ونفورنا منها بزعم أنّها تفكك روابط ٱلأهل وٱلعآئلة وٱلعشيرة وٱلقبيلة وغيرها من ٱلروابط ٱلمقاومة للتميّز ٱلفردى فى هيئة ٱلشخصيّة. وتجد أولادنا ٱلمهاجرين إلى بلاد ينعم أهلها بٱلعيش وفق ميثاق ديمقراطىّ يقاومون ويمانعون قبول ميثاق ٱلعيش ٱلديمقراطىّ بقوّة ما فىۤ أنفسهم من منهاج تربية. وتُظهر مقاومتهم وممانعتهم أنّ هجرتهم لم تكن هجرة شخص يسعى ليكسب ٱلتميّز. وهم بتمسكهم بما فىۤ أنفسهم من منهاج جماعىّ يزيدون من إغلاق أبواب ٱلحياة وٱلعيش ٱلمفتوح علىۤ أنفسهم. وتبرز لديهم قوى منهاج تربيتهم ليسوقهم فى مقاومة ومقاتلة وسآئل تشخّصهم. فتدفعهم قوى منهاجهم وينفرون من مفهوم ٱلناس وتشخّصهم ومسئولياتهم ويتوجهون إلىۤ أماكن تجمّع لأبنآء ٱلمنهاج تناسب ٱلعيش ٱلكومونيالىّ. وهذا يجعلهم يعجزون عن ٱلعيش فى مجتمع ميثاقى ويعملون على هدمه وإكراهه على ٱتباع منهاج جماعىّ تضيع فيه ٱلمسئولية ٱلشخصية وتضيع فيه قوى ٱلتطور ٱلتى توصل بٱلحياة إلى ٱلطور 114 ٱلذى تبينه سورة ٱلناس فى ٱلقرءان.
ومنذ قريب جرت ٱلأحداث فى بلادنا ٱلشّاميّة بتحريض من قوى ٱلديمقراطية فى ٱلغرب. وقد ظنّ أهلنا فى فلسطين أنّ ما صنعوه فى ٱلانتخابات يمثل ٱلديمقراطية. وهم يستغربون مواقف أهل ٱلديمقراطية ممّا نجم عن تلك ٱلانتخابات ٱلتى جآءت بسلطة جمعية لا تختلف عن سابقتها فى منهاج تربيتها. وأنّ ٱلخلاف ٱلوحيد بينهماۤ أنّ ٱلأولىۤ أخذت ٱلسلطة وٱحتكرتها من دون ٱنتخابات. وأنّ ٱلثانية جآت إلى ٱلسلطة بٱلانتخابات. وهى مقيدة بما فى نفسها من مفاهيم ومواقف مؤسسة على منهاج جمعىّ لا ميثاقىّ.
وفى ٱلعراق مثل أخر. فقد جأت ٱلانتخابات بأحزاب يتبع كلّ مِّنها منهاج جماعة يختلف فى بعض جوانبه عن منهاج ٱلأخر ٱلجمعىّ. وكلّ حزب مِّنهم يدفع بٱلعراق وأهله إلى تثريب وٱقتتال يُغرق ٱلعراق بٱلدم ٱلعراقىّ. وٱلسبب أنّ كلّ حزبٍ جمعىّ يوجّه بقوى منهاجه مجموعات من ٱلعراقيين لإخضاع ٱلجميع لسلطته وسلطة منهاجه. ولا نجد أشخاصًا متميزين يجتمعون فى حزب لهم فى تلك ٱلانتخابات لا فى فلسطين ولا فى ٱلعراق.
لقد سبق لىۤ أن قلت أنّ كلمة ديمقراطية ذات أصل فى لسان ٱلشام وقد ضيّع ٱلشَّاميُّون مفهومها. وهى كلمة قرية ٱلمنسوخة فى لسان ٱلقرءان ٱلعربى. وأنَّ ٱلكلمة ٱلمركبة فى لسان ٱلانكليز democracy تدلّ على حكومة أشخاص هم أهل ٱلقرية. وقلت عنهاۤ أنها سلطة ٱلمجتمع ٱلحضرى ٱلإنسانى ٱلذى يشدُّ ٱلناس ٱلمهاجرين عن ٱلجماعة ٱلتى تعيش فى طور كومونيالى communalism إلى ٱلاجتماع فيه وفق ميثاق وعهد للعيش ٱلديمقراطىّ "دستور".
لقد بيّن كتاب ٱللَّه "ٱلقرءان" أنّ تطور ٱلبقرة "الۤمۤـ" (وهو جزء ٱلمآء H2g2O ومنه تنشأ ٱلحياة جميعها) يوصلهاۤ إلى طور ٱلناس وٱلعيش وفق مفهوم كلمة ديمقراطية ٱلذى يدل على ٱلحقوق ٱلسياسية وٱلفكريّة وٱلمعيشيّة للفرد ٱلشخص فى مجتمع ٱلقرية أولا ثمّ فى ٱلطور ٱلأعلى "ٱلمدينة" ٱلذى ضرب عليه رسول ٱللَّه محمد ٱلمثل فى دولة ٱلمدينة ٱلمنورة. وهو عيش يقوم على ٱللطف وٱلمساواة فى ٱلتعامل بين ٱلناس فى ٱلمجتمع وٱلإدارة ٱلسياسية له وحفظ حقوق ٱلفرد ٱلتى يعددها ٱليوم ٱلعهد ٱلدولى لحقوق ٱلإنسان. وهو عيش ينبذ ٱلإكراه بكلِّ ألوانه وينبذ كلّ ما يمنع ٱلتطور ٱلشخصىّ. ويجعل من ٱلفرد شخصًا مُّتميزًا إبرٰهم (هيركوليس Hercules) لا سلطة للجماعة عليه إلا بما تواثق عليه من سلطة لتشريع مفتوح على ٱلتطور وساهم فى سنّه وقبل ٱلعيش فى ظلّه ٱلممدود.
وفىۤ أخر هذا ٱلمقال أتوجّه إلىۤ أهلنا فى بلاد ٱلشام بٱلسؤال:
هل تعيشون ٱليوم كما عاش أهل ٱلقرى ٱلأولون؟
وهل سيكون لكم عيش مدينة وأنتم تقاومون وتقاتلون مفهوم ٱلديمقراطية ٱلذى يُطلق للفرد حريته ومسئوليته؟
لقد أرسل ٱللَّه رسوله للناس فى بلادنا وجعله يضرب لهم مثلا للعيش فى ٱلمدينة. فهل تريدون متابعة ٱلمثل ٱلرّسولىّ فى عيشكم؟
وأقول لكم أنّ حال عيشكم ٱلمتخلف عن ٱلقرية وعن ٱلمدينة هو منكم. وإنّ ٱللَّه يساعد فى عيش ٱلذى يغيّر ما بنفسه:
"إنَّ ٱللَّهَ لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بأنفسهم" 11 ٱلرّعد.

ٱلديمقراطية مستغربة !

يرى كثيرون من ٱلديمقراطيين فى بلادنا ٱلشَّاميّة فيما ورد فى مقالاتى عن مفهوم ٱلديمقراطية مقترنًا بشاهد من ٱلقرءان أننىۤ أحاول أن ألبس هذا ٱلمفهوم ثوبًا مُّسلمًا لا يليق به ولا هو يحتاجه. ويرى بعض هٰۤؤلآء ٱلديمقراطيين أنّ عملى هو لون من ٱلأعمال ٱلتى يسعىۤ أصحابها من ٱلمسلمين لأسلمة كلّ أمرٍ يُقال. ظنًّا منهم أنَّ تلك ٱلأعمال تدفع عنهم وعن جمهور ٱلمسلمين تهمة ٱلقعود عن ٱلنظر فى كيف بدأ ٱلخلق بسبب ما هم فيه من تخلف علمىّ.
وعلى ٱلرّغم من أنّ رأىَ هٰۤؤلآء ٱلديمقراطيين صواب. فإننىۤ أردّ عن نفسى هذا ٱلرأى وأقول أنّ ما جآء فى مقالاتى عن ٱلديمقراطية لم يكن محاولة لإلباسها ثوبًا مُّسلمًا لأنه فى ٱلأصل هو ثوبها. وقد بيّنت ذلك من بعض ما ورد عنها فى كتاب ٱللَّه (لاۤ إكراه فى ٱلدين. لكم دينكم ولى دينِ. قل ٱلحقُّ من ربِّكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر. كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة. قل ٱلشفاعة للَّه جميعًا. لست عليهم بمصيطر. وأمرهم شورى بينهم. وشاورهم فى ٱلأمر). وماۤ أتى عليه قولى فىۤ أعمالى هو عرض للبيان ٱلعربىّ فى ٱلقرءان وتحريض على ٱلأخذ بهداية بيانه فىۤ أعمال ٱلنظر فى كيف بدأ ٱلخلق وفىۤ أعمال تأسيس ٱلسلطة وٱلحكم وفى عصمة حقوق ٱلإنسان كشخص. وهو ما رأيته فى ٱلقرءان من بيان. وسوآء ءَكان ٱلبيان ٱلعلمىّ فى كتاب ٱللّه أم فى كتب ٱلناس فهو ٱلذىۤ أحرض عليه مع ٱلأخذ بحق ملكيّة ٱلمفاهيم لصاحب ٱلبيان ٱلأول عنها. فإذا كان بيان ٱللّه هو أوّل مَن بيّن ٱلسَّبيل إلى حكم رسولىّ مدينىّ ديمقراطىّ وجعل رسوله يضرب مثلا عليه فى دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة فإننىۤ أرىۤ أنّ حقّ ملكيّة هذه ٱلمفاهيم وٱلأفكار يعود لمرسل ٱلبيان لا للناسِ. وعندما تكون ٱلأفكار عن ٱلحكم ٱلديمقراطىّ لإنسان لم يستمدّها من كتاب ٱللّه فماۤ أعمله هو تذكير لذلك ٱلإنسان بحقِّ ٱلملكيّة ٱلفكريّة وكذلك تذكيره بما غفل عنه من تلك ٱلأفكار. وأضرب ٱلمثل عمّا يغفل عنه ٱلديمقراطيون فى مسألة ٱلخدمة ٱلإلزامية فى ٱلجيش ٱلذى عرضت له فى مقال "هل يقبل ٱللّه بٱلتجنيد ٱلإلزامى فى ٱلجيش؟". فإنّ ٱلكثيرين من ٱلديمقراطيين لا يروۤا أنّ هذه ٱلمسألة من أركان ٱلديمقراطية. كذلك هى مسألة ٱلمكوس (ٱلضرآئب) ٱلتى ما تزال أكبر دول ٱلديمقراطية تأخذها من ٱلناس بفعل سلطوىّ ولم تقترب من مفهوم ٱلصّدقة إلى ٱليوم. وهناك مفهوم ٱلفيدراليّة (ٱلذى تظهره ٱلصحيفة - دستور دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة- كركن أساس لقيام حكم ديمقراطىّ) فإنّ ٱلديمقراطيين فى بلادنا يرون فى ٱلحديث عنها تقسيمًا لوحدة ٱلبلد ولم يروا حتى ٱلأن أنها ركن ٱلحكم ٱلديمقراطى ٱلأساس.
وهٰۤؤلآء ٱلديمقراطيون كانوا قد تعرّفوا على مفهوم ٱلديمقراطية من أعمال مفكرين غربيين أو من لائحة حقوق ٱلإنسان أو من عيشٍ لِّبعضهم فى بلاد ٱلغرب ٱلديمقراطىّ أو من ٱلدَّعوة ٱلأمريكية إليها فى بلادنا. فلمّا وجدوا فى حديثى عنهاۤ أنها منهاج كامل ومسطور فى كتاب ٱللّه ٱستنفروا وٱستغربوا وسخروا متسآئلين من أين للّه وكتابه ٱلعلم بٱلديمقراطية؟!
لقد وجدت فى كتاب ٱللّه هداية إلىۤ أفضل حكم لحياة ٱلناس وهو ٱلحكم ٱلرّسولىّ. وقد تابعته فىۤ أعمال مختلفة. ووجدت أنّ موقف ٱلمسلمين ٱلمعادى لمفهوم ٱلديمقراطية وركنها ٱلأساس ٱلفيدرالية يأتى من فعل مفاهيم ٱلدين ٱلذى يتبعون. وهذا جعلنىۤ أُكثر من ٱلأعمال ٱلتى تبيّن لهم وتذكّرهم أن كتاب ٱللّه وٱلمثل ٱلرّسولى عليه هو ٱلمصدر ٱلأحسن للهداية إلى حكم عيشهم. وأنّ ما يتبعونه من مفهوم عن ٱلدِّين يخالف مفهومه فى كتاب ٱللّه.
وكانت أعمالى جميعها تستند إلى شاهد من كتاب ٱللّه يبيّن أحسن ٱلمفاهيم فىۤ أحسن ٱلحديث عن مفهوم ٱلحكم ٱلرّسولىّ ٱلديمقراطىّ ٱلمدينىّ. فإذا كان ٱلمسلمون يتبعون دين جماعة (وهو ما صنعه فقهآء من ٱلموتى كٱلبخارى ومسلم وٱبن تيميّة وٱبن قيم وغيرهم لخدمة سلطة ٱلطاغوت. ومن ٱلأحيآء ٱلموتى كٱلقرضاوى وكهنة ٱلأزهر وقم وكربلآء. وبه ضلُّوا ويضلُّون ٱلناس عن سبيل دين ٱللَّه ٱلذى يقوم على ٱلفرد ٱلمتميّز فى شخصه لا ٱلجماعة "لكم دينكم ولى دينِ. كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة") فهل يكون تذكيرى لهم بمفهوم دين ٱللّه محاولة لإلباس ٱلديمقراطية ثوبًا لا يليق بها؟
لقد وكّد بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ على رأى وموقف ٱلرّكن ٱلرئيس لمفهوم ٱلديمقراطية وعلى مسئولية ذلك ٱلرّكن:
"ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنّ ٱلسّمع وٱلبصر وٱلفؤاد كل أولٰئك كان عنه مسئولاً" 36 ٱلإسرآء.
وهذا ٱلرّكن هو ٱلشخص ٱلمتميز عن أمّة ٱلجماعة وسلوكها. فهل أتبع وأقفو فقهآء سلطة ٱلطاغوت ٱلجماعىّ من دون ٱللّه (وهم ٱلذين بثُّوا عبادة دين ٱلطاغوت ونبذوا ورآء ظهورهم كتاب ٱللّه) لأكون مسلمًا لدينهم فتسلم نفسى من تكفيرهم لى ومن فتوـٰهم بقتلى؟!!
وهل أتبع أرآء مفكرين أخرين من ٱلناس عن مفهوم ٱلديمقراطية وأتخلّى عن مسئولية سمعى وبصرى وفؤادى فى ٱلفهم وأترك كتاب ٱللّه وما فيه من هداية إلى خير حكم؟
لقد بيّن لى كتاب ٱللّه أنّ دين ٱللّه لآ إكراه فيه وأن للكافر حقّ فى مسئوليته مماثل لحقِّ ٱلمؤمن فى مسئوليته:
"وقُلِ ٱلحَقُّ من ربِّكم فَمَن شآء فليُؤمن وَمَن شآء فليكفُر" 29 ٱلكهف.
وبيّن لى رسوله فى مثل دولة ٱلمدينة كيف يكون ٱلحكم ٱلرّسولىّ ٱلمدينىّ فيما تركه من ميثاق لأهلها. وهو ٱلمثل ٱلذى ٱنقلب عليه ٱلقوميُّون ٱلقريشيُّون فى سقيفة بنى ساعدة ونشروا مَثَلَهُم عن سلطة إكراه وطاغوت صنعوا لها دينًا عبّدوا ٱلناس له. وما يزال هذا ٱلدِّين قآئمًا إلى يومنا هذا فى بلاد ٱلشّام جميعها.
إنّ إمام ٱلناس هو إبراهيم كما يبيّن كتاب ٱللّه وليس ٱبن تيميّة ولا ٱلقرضاوى ولا ٱبن لادن وغيرهم من ٱلكهنوت ٱلمجنون. كما بيّن لىۤ أنّ إبراهيم أمّة تفرق عن أمّة قومه وأنّه صاحب ملّة وهو ٱلأب لكلِّ شخص مؤمن:
"مِّلَّةَ أَبِيكُم إبرَٰٰهِيمَ هُوَ سَمَّٰكُمُ ٱلمُسلِمِينَ مِن قَبلُ" 78 ٱلحج.
وهو ما جآء لرسول ٱللَّه محمَّد مبيّنًا له سبيل ٱلإتباع للأب إبرٰهيم:
"ثُمَّ أوحينآ إليكَ أنِ ٱتَّبِع مِلَّةَ إبرٰهيمَ حَنيفًا ومَا كانَ مِنَ ٱلمُشرِكِينَ" 133 ٱلنَّحل.
وجآء فى كتاب ٱللّه أَمَر لرسوله ليعلن ٱتباعه:
"قُل إنِّى هَدَـٰنى رَبِّى إلى صِرٰطٍ مُّستقيمٍ دينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إبرٰهيمَ حنيفًا وما كان من ٱلمشركين" 161 ٱلأنعام.
وعلى ٱلرّغم من ٱلبيان فى كتاب ٱللّه فإنّ مفهوم ٱلديمقراطية يلقى مقاومة شديدة فى بلاد يظنّ أهلهاۤ أنّهم مسلمون للّه بفعل صيطرة منهاج دين فقهآء ٱلطاغوت وصيطرة تعليمه وعيشه ٱلجمعى عليهم. وهم مع زعمهم بٱلإسلام يتهمون مَن يتبع بيان كتاب ٱللّه بٱلكفر وٱلديمقراطية!
لقد كان تاريخنا تاريخ أمّة جماعيّة يسوقها طاغوت بعون كهنوت مجنون. وما نزال إلى ٱليوم علىۤ أمّة ومنهاج أسلافنا. حتىۤ أنّ ٱلديمقراطيين ٱلشّاميين يتبعون أمّة ومنهاج ٱلسلف فيستنكرون ٱلحديث عن ٱلديمقراطية إذا كان مصدره كتاب ٱللّه. وكأنّ مفهوم ٱلديمقراطية لا يكون إلاۤ إذا كان من مصادرهم ٱلتى يتبعون. وهم فى موقفهم هذا مثل أهلهم من ٱلمسلمين ٱلذين لا يقبلون ٱلدِّين إلا من مصادر ٱلفقهآء. وهم فى موقفهم من مقالاتى عن ٱلديمقراطية يظهرون منهاج ٱلطاغوت ٱلمصيطر علىۤ أنفسهم. وشأنهم فى هذا ٱلموقف هو مثل شأن أتباع دين فقهآء ٱلطاغوت. فٱلطاغوت وكهنوته يرفضون مفاهيم ٱلقرءان بسبب تعارضه مع مفاهيم ٱلأحاديث فى صحيح بخارى وفى فتاوى ٱبن تيميّة. وٱلديمقراطيون يرفضون أن تكون مفاهيم ٱلديمقراطية من ٱلقرءان ويقبلونها من فقيه ديمقراطى!
وأقول لكم أيها ٱلديمقراطيون ٱلشّاميُّون أنّ موقفكم ٱلرافض لمفاهيم ٱلديمقراطية من كتاب ٱللّه هو موقف طاغوت راسخ فىۤ أنفسكم. وأنّ مثل هذه ٱلأنفس لا تفعل ما تقول بفعل أمتها ٱلجماعيّة. وحتى يكون لقولكم فعله عليكم تغيير ما بأنفسكم كما يبيّن لكم كتاب ٱللّه:
"إنَّ ٱللَّهَ لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بأنفسهم" 11 ٱلرّعد.
وٱعلموۤا أيُّها ٱلديمقراطيُّون أنّ ما ورآء ضعفكم إلى ٱليوم أمام بطش ٱلطاغوت بكم فى بلادكم هو أنكم تقولون ما لا تفعلون. وأقول لكم أيها ٱلديمقراطيون أنّ ٱلديمقراطية (كما فهمت من كتاب ٱللّه وكما عرضت من قول) هى حكم أهلىّ يقوم بموجب ميثاق بين أشخاص أحرار لكلٍّ منهم مسئوليته فىۤ أرآئه وأقواله وأعماله وزواجه وسكنه وتعليمه ولسانه وصدقته وقتاله وما يتبع من قوم ودين من دون إكراه فيه كما يبيّن كتاب ٱللّه "لآ إكراه فى ٱلدِّين" وكما يظهر فى ٱلصحيفة ٱلميثاق للمثل ٱلرّسولىّ. فهل فى هذاۤ إلباس للديمقراطية ثوبًا غير ثوبها؟

ٱلديمقراطية وٱلفيدرالية سبيل ٱلمؤمنين

لقد بيّن لنا ٱللَّه فىۤ أحسن ٱلحديث "ٱلقرءان" أنَّ ٱلإيمان لونان. ٱلأول صاحبه (ذكر وأنثى) يعبد ٱللّه وحده لا يشرك به شيئًا وهو ٱلذى يقرأ بٱسم ربِّه ٱلذى خلق ويسير فى ٱلأرض ينظر كيف بدأ ٱلخلق ويعلم ٱلنشأة ٱلأولى ويذكر أحسن ٱلحديث ويعقل ما خرج به نظره وعلمه مع بلاغه ٱلعربىّ. وهو بعبادته هذه يصدِّق ويطمأن لبلاغ ٱللَّه ٱلعربىّ:
"إنَّ فى هذا لبلٰغًا لقوم عٰبدين" 106 ٱلانبيآء.
وهو يتبع ما فى كتاب ٱللَّه من أوامر وتوجيهات ويجاهد نفسه حتى لا يخالفها. وهو يعلم أنّ كلمة عبد تدلّ على ٱلضدِّ من دليل كلمة فسق. وفى عبد دليل ٱلطاعة. وفى فسق دليل ٱلتمرد وٱلعصيان. وهو يعلم أنَّ رسالة ٱللَّه تحمل بلاغًا لقوم عابدين. وهم ٱلذين أدركوا وفقهوا ٱلبلاغ وٱلتزموا طاعته. وهم يخشون ٱللَّه بعلم:
"إنما يخشى ٱللَّهَ من عباده ٱلعلمٰۤؤُا" 28 فاطر.
وهم ٱلذين يعلمون أنَّ ٱللَّه "يعلمُ ما فِى ٱلسَّمـٰوٰتِ وما فِى ٱلأرض وأَنَّ ٱللَّهَ بكُلِّ شىءٍ عليم" فلا يتركون أنفسهم تسقط فى ٱلظَّنِّ أنَّ ٱللَّه يحتاج لبشر ليبيِّن للناس ما لم يستطع ربُّهم بيانه. وهم يعلمون أنَّ ٱلقول ٱلعربىّ فىۤ أحسن ٱلحديث قد بيّن لهم أنَّه بيان وتبيان لِّكلِّ شىء فلا يظنون ولا يتوجهون إلى سلف ولاۤ إلى خلف فى مسألة تتعلق ببيان ٱلبيان ٱلعربىّ فىۤ أحسن ٱلحديث. وهم يصدِّقون ويطمأنون أنَّ بيان ٱللَّه هو ٱلبيان ٱلذىۤ أرسله للناس جميعًا فردًا فردًا. ولكلٍّ مِّنهم مسئوليته فى فقه ٱلبيان ٱلعربى من دون وصاية لأحد على فقهه كما يبيّن له ٱلبيان:
"ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنّ ٱلسّمع وٱلبصر وٱلفؤاد كل أولٰئك كان عنه مسئولاً" 36 ٱلإسرآء.
وهؤلآء يحمل كلّ فرد منهم (ذكر وأنثى) ٱسم قرءانىّ يتبع فقهه لكتاب ٱللّه "لكم دينكم ولىَ دينِ" ولا يتبع حزبا ولا طآئفة. وهو لا يتبع إلا مسئوليته ٱلسّمعية وٱلبصرية وٱلفؤاديّة. لأنه يعلم أنّ ربَّه سيحاسبه فردًا كما خلقه فردًا:
"ولقد جئتمونا فرادى كما خلقنـٰكم أوّل مرةٍ" 94 ٱلأنعام.
"وكلّهم ءَاتيه يوم ٱلقيٰمة فردًا" 95 مريم.
وعندما يكون ٱلأمر يتعلق فى مسألة ٱلحكم وٱلسلطة فإنَّه يتبع توجيه ٱللَّه:
"إنَّ ٱلّذين ءَامنوا وٱلّذين هَادُوا وٱلصَّـٰبئينَ وٱلنَّصَـٰرى وٱلمَجُوسَ وٱلّذينَ أَشْرَكُوا إنَّ ٱللَّه يفصِلُ بينهم يومَ ٱلقيـٰمةِ إنَّ ٱللَّه على كلِّ شَىءٍ شهيد" 17 ٱلحج.
وهذا ٱللَّون يعلم أنّ هؤلآء يمثِّلون مواقف ومفاهيم ومصالح ٱلناس فىۤ أىِّ مجتمع. وهو يعلم أن ٱلفصل بين أصحاب هٰذه ٱلمفاهيم وٱلمواقف فى ٱلحياة ٱلدنيا عمل يخالف ٱلبلاغ ٱلعربى (ٱلقرءان). وهو يهتدى بٱلبلاغ ولا يقبل بميثاق سلطة يجمع بين ٱلسلطة ومفهوم واحدٍ لحزب أو لطآئفة أو لقوم. وهو عندما يعمل من أجل ميثاق للسلطة (دستورهاۤ) يكون مفهوم ٱلقول فى ٱلبلاغ (17 ٱلحج) حاضرًا فى ذاكرته إلى جانب مفهوم ٱلقول فى ٱلبلاغات ٱلتالية:
"لاۤ إكراهَ فى ٱلدّينِ" 256 ٱلبقرة.
"وقُلِ ٱلحَقُّ من ربِّكم فَمَن شآء فليُؤمن وَمَن شآء فليكفُر" 29 ٱلكهف.
"ولو شآء ٱللَّه ماۤ أَشركوا وما جعلنـٰكَ عليهم حفيظًا وماۤ أنتَ عَليهِم بوكيلٍ" 107 ٱلأنعام .
"ولو شآء ٱللَّه لَجَمَعَهُم على ٱلهُدى فلا تكُونَنَّ من ٱلجـٰهلينَ" 35 ٱلأنعام.
"أَفَلَم ياْيئََسِ ٱلَّذينَ ءَامَنُوۤا أَن لو يَشآءُ ٱللَّهُ لََهَدَى ٱلنَّاسَ جميعًا" 31 ٱلرعد.
"إنك لا تهدى من أحببت ولكنّ ٱللَّه يهدى من يشآء" 56 ٱلقصص.
"إن تحرص على هدـٰهم فإن ٱللَّه لا يهدى من يضِلُّ وما لهم من نٰصرين" 37 ٱلنحل.
"وماۤ أنت بهٰدى ٱلعمى عن ضلـٰلـٰتهم" 81 ٱلنمل.
وهو يعلم أنّ ربِّه يطلب منه ٱلامتناع عن ٱلتدخل فى مواقف ٱلناس وٱلزعم بٱلوكالة عنهم وٱلحفظ عليهم وهدايتهم إلى ٱلحقِّ. وقد بيّن له ما يفعل فى توجيه رسوله:
"وما على ٱلرسول إلاّ ٱلبلاغ ٱلمبين" 54 ٱلنور.
"فإنّما على رسولنا ٱلبلاغ ٱلمبين" 12 ٱلتغابن.
"فماۤ أرسلنٰك عليهم حفيظاً" 80 ٱلنسآء.
"إنّماۤ أنت نذير وٱللَّه على كل شىء وكيل" 12 هود.
"ٱللَّه حفيظ عليهم وماۤ أنت عليهم بوكيل" 6 ٱلشورى.
"لا تُكلّفُ إلاّ نفسَك وحرِّض ٱلمؤمنين" 84 ٱلنسآء.
أمَّا ٱللَّون ٱلثانى فصاحبه (ذكر وأنثى) هو ٱلذى يظنّ أنّ عبادة ٱللَّه فى عبادة ما قاله وعمله ءَابآؤه ٱلسَّلف. فيسلِّم أمره إلىۤ أقوالهم وأعمالهم. وهو يقعد فلا يقرأ ولا يسير لينظر وليعلم. وأصحاب هذا ٱللَّون هم ٱلأكثرية فى كلِّ وقت كما يبيّن لناۤ أحسن ٱلحديث:
"وما يؤمن أكثرهم بٱللَّه إلاّ وهم مشركون" 106 يوسف.
وفيه بيان أنَّ هذه ٱلأكثرية غافلة:
"ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من ٱلجنّ وٱلإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بهاۤ أولـٰئك كٱلأنعٰم بل هم أضلُّ أولـٰئك هم ٱلغـٰفلون" 179 ٱلأعراف.
هذا ٱللَّون لا يفقه ولا يبصر ولا يسمع ولا يعلم أنَّ ٱللَّه يعلم. وهو غافل عن بيان ٱللَّه فىۤ أحسن ٱلحديث. كمآ أنّه ضالّ فى عيشه فيسهل علىۤ أفراد منه سوقه فى قطيع كٱلأنعام. فهو يحبس نفسه فى حزب أو طآئفة أو قوم. وهو فى حبسه لنفسه لا يهتدىۤ إلى سبيل ٱللَّه فيطيع راعٍ يستخفُّ به وبإيمانه ويجعله فاسقا:
"فَٱستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُم كَانُوا قَومًا فَٰسِقِينَ" 54 ٱلزخرف.
وهو يغفل عمّا ورد فى كتاب ٱللَّه. ويتبع كتابا صنعه كهنوت سلطة ٱلطاغوت وفق منهاج وأسلوب راعى قطيع يسوق حزبا أو طآئفة أو قوما. وهو يصدقّ قولا للرّاعى يزعم أنَّه قول لرسول ٱللَّه فى ٱلحديث 691 من صحيح ٱلبخارى "عن أبو هريرة عن ٱلنبي صلى الله عليه وسلم قال: أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار؟ أو يجعل صورته صورة حمار؟". وفى ٱلحديث 7035 من صحيح ٱلبخارى "عن ابن عباس: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كره من أميره شيئا فليصبر, فإنه من خرج عن السلطان شبرا مات ميتة جاهلية". وفى ٱلحديث 7068 من صحيح ٱلبخارى "عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج. فقال: "اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرّ منه حتى تلقوا ربَّكم. سمعته من نبيّكم".
وهو بتصديقه لمثل هذا ٱلحديث يظهر كم هو بعيد عن كتاب ٱللَّه. وهذا يجعله يندفع هآئجا مآئجا من مفاهيم ٱلديمقراطية وٱلفيدرالية وحقَّ ٱلفرد وٱلجماعة فى ٱختيار مفاهيمه وأسلوب عيشه وعمله وسكنه. ويرى فيهما عمل غربآء كافرين بدين سلطانه ٱلذىۤ إذا رفع رأسه قبله أو خرج عنه شبرا صار حمارا ومات ميتة جاهلية.
وما نسمعه ٱليوم من شعارات للسلطة ٱلقومية (ٱلتى نعيش جميعنا تحت سلطتها مكرهين) وما يطلقه ٱلإسلام ٱلسياسى من شعارات ومواقف ومفاهيم (وهو يطرح نفسه كبديل لسلطة ٱلقوم وكهنوته) يبين لناۤ أن كلا مِّن ٱلفريقين يستمدّ مفاهيمه من صحيح بخارى ويغفل عن كتاب ٱللَّه. ولذلك ينفى كلّ مِّنهما ٱلأخر ويحتقره ويبيح قتله بسبب مخالفته فى ٱلموقف وٱلمفاهيم. وهو لدى ٱلفريقين يستند إلى منهاج تتبعه تلك ٱلأكثرية ٱلغافلة ٱلتى تؤمن بٱللَّه وهى تشرك ءَابآءها به وتشرك كتبهم بكتابه. وهما يتنافسان على ٱمتلاك سلطة راعٍ طاغوت. وهذا ٱللَّون هو ٱلأكثرية ٱلتى تشرك فىۤ إيمانها. وهى بكثرتها ٱلعددية ٱلتى تطيع راعٍ يستخفّ بها وبعددها تجعل من ٱلراعى ٱلذى يسوقها طاغوتًا وإلٰها معبودًا يسوق شعبه إلى هلاك محتوم.
لقد بين ٱلبلاغ ٱلعربىّ أنّ طاعة هذه ٱلأكثرية تُضل عن سبيل ٱللَّه:
"وإن تطع أكثر من فى ٱلأرض يضلّوك عن سبيل ٱللَّه إن يتبعون إلاّ ٱلظنَّ وإن هم إلاّ يخرصون" 116 ٱلأنعام.
فكيف تقوم ٱلسلطة من دون ٱتباع هذه ٱلأكثرية ٱلجاهلة؟
وهل يقيمها ٱللَّون ٱلأول من ٱلمؤمنين عنوة ولا يترك هذه ٱلأكثرية تختار؟
لقد بيّن أحسن ٱلحديث للمؤمن من ٱللَّون ٱلأول أنّ عليه ألا يهدىۤ أحدًا ولا يكرهه ولا يكون حفيظا عليه ولا وكيلا عنه. وبيّن له أنّ ٱلمجتمع يتكون من فئات تتفاوت فيما بينها بٱلفقه وٱلنظر وٱلعلم (17 ٱلحجّ).
إذن أين ٱلسبيل إلى حكم يأتى بممثلين عن أقلية مؤمنة تفقه وتنظر وتعلم داخل مجتمع أكثريته من ٱلغافلين؟
لقد ضرب محمّد رسول ٱللَّه مثلا مبصرًا على ذلك فى حكمه ٱلفيدرالى لعشر سنوات فى يثرب ٱلتى حملت ٱسم ٱلمدينة مع حكمه فيها. وقد كتب للسلطة ٱلفيدرالية ميثاقها فى "ٱلصحيفة" يُظهر حقوق جميع ٱلمشاركين فى ٱلمجتمع كأفراد وكجماعات من دون نقص ولاۤ إغفال لفئة منه ولحقوقها. وهو ٱلمثل ٱلذى يهدى ٱلذين ءَامنوا فى كلِّ وقت إلى سبيل قيام سلطة فيدرالية فى ٱلمجتمع تسلكه فئاته جميعها بيسر.
هل هذا ٱلسبيل هو ما يعرف ٱليوم بٱسم ٱلديمقراطية وحقوق ٱلإنسان كفرد وكجماعة (حزب أو طآئفة دينية أوۤ أقلية قومية)؟
إنَّها بعضه وليس جميعه. وإنّ ٱلمثل فى دولة وسلطة ٱلمدينة هو ٱلسبيل. فهى سلطة دولة فيدرالية مدينية كما رأيت فى كتاب "ٱلصحيفة". لم تحدد دينا للدولة ٱلفيدرالية ولا لرئيسها. كما لم تمنع أن يكون لدولة مشاركة فى ٱلفيدرالية دين معلن كما يريد شعبها. ودستورها لا يظهر ٱنتخابات عامّة لسلطة ٱلفيدرالية. ولا تترك للأكثرية ٱلغافلة فى دول ٱلفيدرالية فرصة حرف ٱلمجتمع ٱلفيدرالى عن سبيل تطوره ومصالحه. وهى تظهر ميثاقا يبيّن مسألة ٱلشورى فى ٱختيار رجل سلطة فيدرالية من دون أن يكون له حق فى مخالفة ٱلميثاق. وتأتى ٱلشورى من ممثلين تنتخبهم أطراف ٱلمجتمع ٱلفيدرالى جميعه. ولكلِّ طرف أن يختار سلطته ٱلمحلية وممثليه فى مجلس ٱلشورى ٱلفيدرالى وفق ٱلأسلوب ٱلذى يرضيه. وهذا يجعل من مفهوم ٱلفيدرالية شرطًا لا يمكن ٱلتخلى عنه فىۤ إقامة سلطة ديمقراطية مدينيّة.
عمل ٱلانتخاب ٱلمحلى يجرى فى تلك ٱلأطراف ٱلفيدرالية لتختار سلطتها ٱلمحليّة ٱلتى ترضى بها. ولتختار ممثليها إلى مجلس ٱلشورى ٱلفيدرالى ٱلذى ينتخب ذكورًا وإناثا راشدين للسلطة ٱلفيدرالية يرجعون إلى ٱلميثاق وإلى مجلس ٱلشورى عند كلِّ أمر. وبذلك يكون لفئة ٱلذين يفقهون وينظرون ويعلمون من جميع دول ٱلطوآئف وٱلأحزاب وٱلقوميات ٱلفرصة للوصول إلى مجلس ٱلشورى ٱلفيدرالى ونشر فقههم وعلمهم فيه. ويكون لكلِّ طرف حقّه فى ٱختياره ٱلمحلىّ دون ٱحتجاج عليه ما لم يعتدِ على طرف أخر.
لقد كتبت مشروعين لميثاق فيدرالى يرىۤ أنّ لكلِّ جماعة صغيرة وكبيرة أن تختار ٱلسلطة ٱلتى تتولى شؤونها ٱلحياتية وٱلمعيشية. واحد من أجل (دولة ديمقراطية مدينية فى سوريَّا). وٱلثانى من أجل ولايات شامية مدينية متحدة (ميثاق شعوب بلاد ٱلشام). وهما منشوران على موقعى ٱلفرعى لدى ٱلحوار ٱلمتمدن ولدى أصدقآء ٱلديمقراطية.
قد يكون فى تكرار ماۤ أقوله عن ٱلفيدرالية وٱلمدينية فى مقالاتى نفعًا لدى ٱلذين يعلمون من جميع ٱلأطراف. وهو ماۤ أرـٰه كمخرج وحيد للتخلص من تشتت وضعف وتخلف شعوبنا فى جميع وجهات ٱلحياة. كمآ أننىۤ أرى ذلك فى كتاب ٱللَّه وأجهد نفسى فى ٱتباع ما فيه من بيان. إلاۤ أننى لاۤ أدّعى أنّ قولى هو أخر قول فى ذلك ٱلبيان. وكم أتمنّى أن أستلم ردودا وأرآءً من ٱلذين يتابعون مقالاتى. وسيكون عندى لردودهم وأرآئهم ٱلحفاوة وٱلاحترام.
فأنآ أرى فىۤ إقامة سلطة منتخبة فى مجتمعاتنا وفق أسس ٱلانتخاب ٱلديمقراطى مع تحديد فترة لبقآئها فى مواقع ٱلسلطة من دون ٱتباع لمنهاج ٱلفيدرالية ومنهاج لحرية ٱلفرد (ذكر وأنثى) وفق ميثاق فيدرالى سيأتىۤ برعاة سابقين أو رعاة جدد إلى مواقع ٱلسلطة بفعل جهل ٱلأكثرية. وستكون ٱلسلطة سلطة حزب أو طآئفة تأتى بها هذه ٱلأكثرية مع كلِّ عملية ٱنتخاب. ولن يكون للطوآئف ٱلأقل عددًا من فرصة للوصول إلى ٱلمواقع ٱلأولى فى ٱلسلطة. ولن تكون لسلطة ٱلرعاة ٱلمنتخبة أىّ فوارق عن ٱلسلطة ٱلسابقة إلا فيما يتعلق بزمن بقآء ٱلرعاة فى موقع ٱلسلطة.

ٱلتطرف جماعىّ وٱلتوسط فردىّ

يتوزع ٱلناس فى مجتمعاتناۤ ٱلشاميّة إلى ثلاث فئاتٍ أساس. ٱلفئة ٱلأولى هى ٱلأكثرية ٱلفقيرة ٱلتى تعيش علىۤ أجر عمل يومىّ أو شهرىّ أو موسمىّ. وقد ورد ٱسم ٱلأراذل لهؤلآء فى كتاب ٱللَّه. وهم يعرفون ٱليوم بٱسم ٱلطبقة ٱلعاملة ويلتحق بهم ٱلفلاحون ٱلأجرآء. ولهذه ٱلفئة نقاباتها وأحزابها ٱلسياسية ٱلتى تسعى ورآء حقوق جماعية للطبقة.
وٱلفئة ٱلثانية هىۤ أقلية عآئلية ثرية تعيش على ٱلريع بألوانه ٱلمختلفة من ملكية أراضى وأبنية وخدمات سياحة ونقل وعمولات تجارية وربا بنكى. وقد ورد ٱسم ٱلمترفين لهؤلآء فى كتاب ٱللَّه. ولهم هيئات للسلطة وزلم مأجورون قتلة يحفظون بهم أملاكهم وسلطتهم فى ٱلمجتمع ويقطعون بهم سبيل ٱلتطور علىۤ أفراده.
وٱلفئة ٱلثالثة تتوسط بين ٱلفئتين. وهذه ٱلفئة تتكون من أفراد هم أصحاب مبادرات فردية صناعية وتجارية وزراعية. وهى تملك وتعمل وتعيش على عملها فى ملكيتها ٱلصناعية أو ٱلزراعية ٱلصناعية صغيرة كانت أم متوسطة. وهى ٱلتى ٱرتبط تطور ٱلمجتمع فى ٱلغرب وفى ٱلولايات ٱلمتحدة وٱليابان بتطور مبادرات أفرادها. وتعرف ٱليوم هذه ٱلفئة بٱسم ٱلبورجوازية bourgeoisie. وتوصف بتوسطها ٱلفكرىّ وٱلسياسىّ. ولهاۤ مواثيقها ٱلتى تجمع بين أفرادها فى جمعيات وأحزاب سياسية تسعى لتطوير تشريعات ٱلمجتمع وتطوير مبادرات أفراده. وهى تسعى لكسب حقوقها ٱلفردية إلى جانب حقوقها كفئة ٱجتماعية. وهى تعمل على تطوير عملها وتوسيع عددها على حساب فئة ٱلأراذل.
وإلى جانب هذه ٱلفئات هناك أفراد وجماعات تعمل فى ٱلصناعة ٱلفكرية. وتعرف بٱسم ٱلانتلجنس intelligence ٱلتى تتوزع فىۤ أعمالها على ٱلفئات ٱلثلاثة.
وإنّ ٱلسلطة فىۤ أىِّ بلد إذا ما كانت من واحدة من ٱلفئتين ٱلأولى وٱلثانية (ٱلأراذل وٱلمترفين) تكون سلطة أحادية متطرفة تمثل مصالح ٱلفئة ٱلمكونة للسلطة. وتجعل عيش ٱلفئات ٱلأخرى صعبًا بسبب ٱلتطرف ٱلذى يحكم شرعها. وإنّ سلطة كلٍّ من ٱلأكثرية ٱلعاملة وٱلأقلية ٱلمترفة تشترك فى ٱلعدآء ودفع ٱلفئة ٱلثالثة إلى ٱلموت أو ٱلهجرة.
لقد تسلط ٱلمترفون (ٱلفئة ٱلثانية) على عيش ٱلناس فى بلاد ٱلشام منذ ٱنقلابهم فى سقيفة بنى ساعدة. وما زالت سلطتهم قآئمة فى معظم بلاد ٱلشام ما عداۤ إسرآءيل. وٱلمترفون لا يعملون فى ٱلصناعة ولا فى علومها. وهم لا يفتحون للصناعة وعلومهاۤ أىَّ سبيل للتطور. ولهم إنتلجنس تَسمَّى بٱسم ٱلفقيه فى ٱلدين وعمل على صناعة مفاهيم ألبسها لباس ٱلدين فصنع بها عبودية ٱلناس لسلطة ٱلمترفين.
لقد أسس ٱلمترفون وٱلفقهآء تشريعات تمنع ٱلسُّؤال وتمنع ٱلاحتجاج كما تمنع ٱلطلب بأىِّ تطور. وقد أطلقوا على صناعتهم ٱلفكرية ٱلاسم ٱلشهير فى فقههم ٱلسلطوى "سد ٱلذرآئع".
وبعد ٱلنصف ٱلثانى من ٱلقرن ٱلعشرين قامت بعض أحزاب ٱلأراذل (ٱلفئة ٱلأولى) بٱنقلابات عسكرية وٱنتزعت ٱلسلطة من يد ٱلمترفين فى بعض بلاد ٱلشام. وقد أقاموۤا أركان سلطتهم ٱلجمعية بتوجيه نقمتهم (ٱلتىۤ أسسها ٱلمترفون فىۤ أنفسهم) على من توسعت ملكيته من ٱلبورجوازية ٱلصناعية فٱستملكوا صناعته وجعلوها ملكية لدولتهم إلى جانب ٱستملاك ملكيات بعض ٱلمترفين. وحشروۤا أعدادًا كبيرة من ٱلأراذل فيها بأجر دآئم. وهذا جعل من سلطتهم تقوى بفعل مساندة أكثرية ٱلأراذل للسلطة وبسبب حقد هؤلآء ٱلأراذل على طاغوت ٱلمترفين ٱلطويل.
ولم يكن لسلطة هؤلآء ٱلأراذل أىّ خبرة تجعل عجلة ٱلحياة تسير على سبيل ٱلتطور. كما لم يكن لهم أىّ خبرة فى ٱلصناعة وفى علومها. وهم بحالهم ٱلذى ساقهم إلى ٱلإفلاس وجدوۤا أنفسهم فى قبضة بعض ٱلمترفين ٱلذين صاهروهم بٱلزواج وقدَّموا لهم ٱلنَّصيحة وٱلمنفعة ٱلشخصية. كما قدّموا لهم مستشارين من ٱلمفكرين ٱلملحقين بفئتهم ٱلمترفة بما فى ذلك ٱلفقهآء من رجال ٱلكهنوت. وقد أخذ هؤلآء فى مواقع سلطة ٱلأراذل رتبة مستشارين ومفتين يتحكمون بجميع تشريعات ٱلسلطة. فعادت سلطة ٱلأراذل ٱلمتطرفة عن وجهة تطرّف فئتها ومصالحها ٱلطبقية إلى وجهة ٱلتطرف ٱلتى كانت عليها فئة ٱلمترفين. وزادت على منافع وترف ٱلمترفين فىۤ أعمال ٱلسرقات للمال ٱلعام وٱلرّشوى وٱلتهريب وتجارة ٱلمخدرات. وٱتبعت سياسة فقهآء ٱلمترفين فى "سدّ ٱلذرآئع" ٱلتى تمنع أىّ ٱحتجاج أو مطالبة بإصلاحٍ لعيش ٱلناس فى مجتمعها ٱلمتطرف. وصارت ٱلفئة ٱلأولى فى بلاد ٱلشام على حالٍ أرذل من حال جميع ٱلأراذل فى ٱلتاريخ.
لقد كان أفراد ٱلفئة ٱلوسطى وما زالوا هم ٱلمتضررون من سلطة ٱلمترفين ٱلطويلة. وكذلك من سلطة ٱلأراذل ٱلذين ٱلتحقوا بفئة ٱلمترفين بفعل ٱلمصاهرة وٱلنصيحة وٱلمشورة وفقه سدّ ٱلذرآئع. وأفراد هذه ٱلفئة تناقص عددهم بسبب ما لحق بهم من ضيق ٱلتشريعات ٱلتى منعتهم من ٱلتطور فى بلادهم. ومنهم ٱلذى هاجر إلى خارج ٱلبلاد. ومنهم من ٱنتقل إلى موقع ٱلفئة ٱلعاملة بسبب ٱلإفلاس.
هذه ٱلحديّة للسلطة ولتطرفها منعت قيام فكر وسطى فى بلاد ٱلشام. وٱنتشر فيها فكر وسلوك ٱلتطرف فى جميع وجهات عيش شعوبها. وكان ٱلأراذل بهياجهم على سلطة ٱلمترفين قد جآءوا بسلطة جمعية جاهلة وفقيرة ومتطرفة. وبدلا من أن تتحالف فئة ٱلأراذل مع الفئة ٱلثالثة ٱلوسطى (ٱلبورجوازية) وتعمل معها على توسيع عدد ٱلفئة ٱلوسطى فقد حاربتها (بتحريض ونصيحة ومشورة فقهآء ٱلمترفين) بحجة ملكيتها ٱلصناعية. وقد ساقتها مشورة هؤلآء إلى ٱلغرق فى مستنقع ٱلاقتصاد ٱلرّبوى ٱلذى يميت كل وليد يولد للفئة ٱلوسطى ويقطع ٱلسبيل علىۤ أىِّ تطور فى ٱلمجتمع. سوآء ءَكان لوجهة ديمقراطية ٱلقرية ٱلتوافقية بين ٱلشُّعب ٱلنازلة فى ٱلقرية كما كان ٱلأمر فى قريش بٱلأمس وفى لبنان ٱليوم أم كان لوجهة ديمقراطية ٱلمدينة بين ٱلأفراد ٱلنازلين فى ٱلمدينة.
لقد بين بلاغ ٱللَّه ٱلعربىّ أنَّه جعل من أمم ٱلناس أمَّة وسطًا:
"وكذلك جَعلنَٰكُم أُمَّةً وَسَطًا" 143 ٱلبقرة.
فمن هم ٱلأمة ٱلوسط غير تلك ٱلفئة ٱلتى ينشدُّ أفرادهاۤ إلى سبيل ٱلتطور ٱلفردى على مستوى ٱلعلم وٱلصناعة وحقوق ٱلشخصية ٱلفردية؟
إنَّ مفهوم "ٱلأمة ٱلوسط" يبين لنا منهاج سلوك يتوسط بين منهاجين متطرفين. وهو ما يمثله شخص ٱلفئة ٱلثالثة (ٱلبورجوازية). فهىۤ إن كانت فى موقع ٱلسلطة تشرّع وتعمل لزيادة عددها ٱلذى يأتى رفده من فئة ٱلأراذل. كما تشرّع وتعمل على زيادة أجور ٱلعمل وٱلتأمين ٱلاجتماعىّ للعاملين وٱلعاطلين عن ٱلعمل وٱلشيوخ وٱلمساكين. وعلى زيادة بيوت ٱلعلم وتهيئة ٱلمختصين وٱلخبرآء فى ٱلصناعة بكل ألوانها. وهذا ٱلتشريع وٱلعمل عليه يحدُّ ويمنع من حدوث ٱلمواقف ٱلهاۤئجة ٱلمتطرفة لفئة ٱلأراذل. كما يحدّ من طمع ٱلريع ٱلرّبوىّ للمترفين ومن زيادة عددهم وتأثيرهم ٱلفاسق على ٱلمجتمع.
وأرىۤ أنّ فى ٱلعودة إلى ٱلتذكير بمفهوم كلمة "أمة" وأصلها ٱلثلاثى "أَمَّ" ما ينفع فى بيان مفهوم ٱلأمة ٱلوسط. فهو مفهوم يضم دليلُه دليلَ ٱلأفعال (تبع وسلك ونهج). وهذا يدلنا على قوة مخزونة توجه ٱلفعل وٱلقول وفق منهاج محدد program. ولهذا ٱلمنهاج وجهتان. ٱلأولى جمعية قطيعيّة مستقرّة لا تقبل ولا تسمح بتغيير ولا تطوير أو تجديد. ومثلها يبيّنه ٱلبلاغ ٱلعربىّ:
"بل قالوۤا إنَّا وجدناۤ ءّابآءّنا علىٰۤ أُمّّةٍ وإِنَّا علىٰۤ ءَاثَارِهِم مُهتَدُونَ" 22 ٱلزخرف.
وٱلثانية فردية متحركة تحنف وتتطور وتتغيّر وتتجدد بفعل ٱلمبادرة ٱلفردية وٱلسير فى ٱلأرض نظرا وبحثا. ومثلها يبيّنه ٱلبلاغ ٱلعربىّ فى إبرٰهيم:
"إنَّ إبرٰهِيمَ كان أمّةً قانتًا لِّلّّه حنيفًا ولم يكن من ٱلمشركين"120 ٱلنّحل.
فإبراهيم هو ٱلمثل علىۤ أمّة ٱلفرد وٱلشخصية ٱلتى تنفصل عن أمّة ٱلقطيع ٱلجمعيّة. وتسعى عبر مبادرتها ومسئوليتها ٱلفردية لسلوك ٱلسبيل ٱلوسطى ٱلذى يبينه ٱلقول ٱلعربىّ:
"وكذلك جَعلنَٰكُم أُمَّةً وَسَطًا" 143 ٱلبقرة.
فكلمة أمّة تدلّ على منهاج للسلوك. وهو فى ٱلوجهة ٱلأولى لدى جميع ٱلكآئنات ٱلحيّة ٱلبهيمة ٱلتى تعيش وفق منهاج جمعىّ. ويبيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ تماثلها فيه:
"وما مِن دَآبّةٍ فى ٱلأرض ولا طٰۤئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ إلاّۤ أُمَم أَمثَالُكُم" 38 ٱلأنعام.
أمّا ٱلوجهة ٱلثّانية فتخصّ ٱلإنسان ٱلفرد ٱلذى يسعى إلى عيش مشترك مع أفراد أحرار ٱنفصلوا وتبرّأوا من ٱلمنهاج ٱلجمعى. وهو ما يبينه ٱلبلاغ ٱلعربىّ فىۤ إبراهيم ومَن معه:
"قَد كَانَت لَكُم أُسوَة حَسَنَة فِىۤ إبرَٰهِيمَ وٱلّذِينَ مَعَهُ إذ قَالُوا لِقَومِهِم إنَّا بُرَءَٰؤُا مِنكُم ومِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ ٱللّهِ كَفَرنَا بِكُم وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ ٱلعَدَٰوَةُ وِٱلبَغضَآءُ أبَدًا حَتَّىٰ تُؤمِنُوا بٱللَّهِ وَحدَهُ" 4 ٱلممتحنة.
فٱلّذى ينظر ويسأل ويقرأ ويطلب ٱلاطمئنان لقلبه مثل إبراهيم فإنّ أمّته تبادر وتسير فى سبيل تطورٍ وتغيّرٍ وعلوّ لشخصه. وقد يكون فى هجرته عن دياره وقومه سبيله إلى ذلك كما فعل إبراهيم وٱلذين معه. وأمّا ٱلّذى لا يقرأ ولا ينظر ولا يسأل ولا يطلب ٱلاطمئنان لقلبه فإنّ أمّته تفعل وفق ٱلوجهة ٱلأولى وينسب إليها بٱلاسم (أمّىّ) ويتبع فى عيشه منهاجًا جمعيًّا لا يدرى به. وهو ٱلأمّة ٱلّتى يتماثل فيها ٱلأحيآء فى ٱلطور ٱلبهيم (38 ٱلأنعام).
أمّا دليل كلمة "وسط" فييبينه دليل ٱلأفعال (بسط ومدّ وفصل ورفع). ونستنبط من ٱلبلاغ أنّ مفهوم ٱلأمة ٱلوسط هو منهاج للمعرفة وٱلعلوم وٱلبيان وٱلهداية متحول عن أصلِ منهاجٍ جمعىٍّ أدركه أفراد كـ إبراهيم وأدركوا وقوفه عن ٱلتطور فحنفوا عنه إلى منهاج يتجدد بفعل ٱلنظر وٱلسُّؤال. وٱلأمة ٱلوسط منهاج مبسوط وممدود بين ٱلطرفين ومفصول عنهما ويرتفع عليهما. وهو منهاج يسند ويعمد ٱلموقف ٱلذى يتخذه أفراد من ٱلذين ينظرون ويسألون ويعلمون ويذكرون ويجعلون وجهتهم فى ٱلحياة ٱلدنيا لا تميل ولا تعوج عن ٱلصراط ٱلمستقيم ٱلواصل ٱلفاصل بين ٱلطرفين وٱلمتحكم بهما.
لقد جآء فى فهمى لمواقف ٱلناس فى كتاب "ٱلكلمة" أن ٱلناس على مواقف ستة (ٱلذين ءامنوا (وهم ٱلذين يعلمون) وٱلذين هادوا (ٱلسلفيون) وٱلنَّصارى (ٱلأمميون) وٱلصَّابئون (ٱلمعارضون وٱلمحتجون) ٱلمجوس (فلاسفة ٱلظنّ وٱلتخريص) وٱلذين أشركوا (ٱلجاهلون ٱلأميّون). ووجدت أنّ أفرادًا أربعة منهم (ٱلذين ءامنوا/ ٱلذين هادوا/ ٱلنَّصارى/ ٱلصَّابئون) هم ٱلذين أشار إليهم ٱلبلاغ ٱلعربىّ فى ٱلقول: "مَن ءامن بٱللَّه وٱليوم ٱلأخر وعمل صٰلحًا فلهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وهو يشير إلىۤ إيمان فردىّ لكلٍّ منهم "مَن ءامن". وهؤلآء ٱلأفراد ٱلأربعة منهم ٱثنان متطرفان هم (ٱلذين هادوا وٱلنَّصارى) ومنهم ٱثنان ينوسان بين واحد من ٱلطرفين وبين ٱلوسط (ٱلذين ءامنوا وٱلصَّابئون). أما (ٱلمجوس وٱلذين أشركوا) فهم ٱلسفهآء ٱلجاهلون من فقهآء وشعرآء وفلاسفة وأميّون. وكل فرد من أصحاب ٱلمواقف ٱلأربعة (ٱلذين ءامنوا/ ٱلذين هادوا/ ٱلنَّصارى/ ٱلصَّابئون) إذا ما ذَكَرَ ٱلبلاغَ وعمل على فقه ٱلدليل فيه وأخذ بٱلبيان وٱلهدى وٱلموعظة منه يُيَسِّر ٱنتقاله إلى موقف ٱلوسط ويتابع ٱلسير على ٱلصراط ٱلمستقيم ويترك ٱلتطرف من دون رجعة إليه ويطلب ٱلهداية مع ٱلمتقين:
"ٱهدِنَا ٱلصِّرٰطَ ٱلمُستَقِيَم/6/ صرٰط ٱلَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ ٱلمَغضُوبِ عَلَيهِم ولا ٱلضَّاۤلِّينَ/7/" ٱلفاتحة.
فٱلمغضوب عليهم هم ٱلمتطرفون من يمين ويسار. أمّا ٱلذى يطلب ٱلهداية وٱلصراط ٱلمستقيم كـ إبراهيم فيكون مع ٱلأمة ٱلوسط شهيدًا على حركة ٱلناس فى ٱلطرفين فى صعودهم وهبوطهم وقيامهم وهلاكهم. ويبقى معها مستويًا فى سيره على ٱلصرٰط ٱلمستقيم. ينعم فىۤ أعماله وأقواله ويشهد ٱلغضب وٱلضلال فى صفوف ٱلمتطرفين فى ٱليمين وفى ٱلشمال. وعماده ٱلهادى فى توسطه هو ٱلرسالة ٱلتى جآء بها ٱلرسول من عند ربِّه إلى جانب سيره فى ٱلأرض ينظر كيف بدأ ٱلخلق.
أما ٱلذى "ينقلب على عقبيه" من هؤلآء ٱلأفراد فهو ٱلذى يرجع إلىۤ أحد ٱلطرفين (ٱليمين/ ٱلشمال) ويغرق نفسه فى ٱلتطرف وٱلضلال بقوة ٱلأمّة ٱلجمعية وغوايتها ٱلجنيّة (غريزة ٱلقطيع). فيغيب عنه ٱلحلم وٱلصبر ويسقط فى هاوية ٱلتطرف وٱلغضب ويعود إلى عيش ٱلبهيم ٱلجمعىّ يقتل كلّ مبادرة فردية.
إنّ مفاهيم ٱلحقّ ٱلفردىّ ما زالت بعيدة عن أكثر ٱلمفكرين من شعوب بلاد ٱلشام. وهى مفاهيم تلقى ٱلصدّ وٱلعدوان من أمّة جماعية قطيعية برزت فى موقف قريش من طلب ٱلرّسول محمّد فى حديثه ٱلعربىّ "لكم دينكم ولىَ دينِ". وقد أغضب قومه قريش بطلبه ٱلحرية لدين فرد "ولىَ دينِ" فعملوا علىۤ إسكاته وقتله دفاعًا عن دين جماعىّ "لكم دينكم". وقد دفعه موقف قومه ٱلقطيعى إلى ٱلهجرة من دياره وٱللجوء إلى يثرب.
وأرى ٱليوم أنّ موقف بعض ٱلشاميين فى ٱلعراق وفى لبنان وفلسطين يتخذ من موقف قريش ٱلقطيعىّ منهاجًا له ويعمل على تعطيل ولادة مجتمع يشرّع لدين وحقوق ٱلفرد وتطوره. وهم يتبعون فىۤ أفعالهم منهاج جمعىّ لا يقبل بأمّة فردية كأمّة إبراهيم.
كماۤ أرى فيما يطلبه ٱلمفكر نجيب محفوظ من موافقة كهنوت ٱلأزهر وٱلتقديم لروايته "أولاد حارتنا" موقف مَن"ينقلب على عقبيه" ويطلب ٱلطاعة لسلطة ٱلمنهاج ٱلجمعىّ ٱلقطيعىّ ٱلمتطرفة ٱلتى لا تقبل بمنهاج إبراهيم وٱلذين معه.

ٱلفيدرالية هى ٱلسبيل إلى ٱلديمقراطية وٱلوحدة!

يعترض بعض أهل ٱلعراق على مفهوم ٱلفيدرالية. وهو يرى فيه وسيلة ومؤامرة لتقسيم بلاده. وكان قد رفع بعض ٱلعراقيين مستوى موقفهم ٱلمعترض إلىۤ أفعال قتل لأبنآء ٱلشعب ٱلعراقى وتدمير لمؤسساته وعمرانه وثرواته وإلى مهاجمة ٱلقوات ٱلأمريكية. ويؤازرهم فى ٱلقتل وٱلتدمير متطوعون عرب ومسلمون.
وجآء موقف ٱلسلطة فىۤ أكثر بلاد ٱلشّام معزّزًا لأفعال ٱلقتل وٱلتدمير ومعه موقف جامعتهم ٱلعربية ومواقف أكثرية من ٱلمفكرين ٱلسياسيين ٱلقوميين وٱلإسلاميين وحتى بعض ٱلمنادين بٱلديمقراطية. وأكثر ٱلمعترضين (فئة من طآئفة وسلطة وجامعة وأفراد) هم من ٱلمسلمين. وهم يظنون أنّ مفهوم ٱلفيدرالية ما هو إلا وسيلة لإضعاف ٱلمسلمين وتقسيم لبلادهم بمؤامرة غربية وإسراۤءيلية.
لقد تناولت مسألة ٱلديمقراطية فى عدد من ٱلمقالات وكان لمفهوم ٱلفيدرالية نصيب قليل فيها. وفى مقال "ٱلديمقراطية حاجة إنسانيّة" رأيت أنّ ٱلديمقراطية لا تقوم وتتعافى إلا بين أشخاص أحرار يتواثقون على عيش مشترك. ثمّ عدت من بعده إلى ميثاق ٱلمثل ٱلمبصر فى دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة وقد رأيت فيه أنّ ٱلأمّة ٱلواحدة ٱلتى بدأ بها ميثاقها "ٱلصحيفة" وفى ٱلبند ٱلأول "إنّهُم أُمّة وَاحِدَة مِن دُونِ النّاسِ" لا تقوم إلا فى وسط فيدرالىّ. وهذا ما تبينه ٱلبنود ٱلتالية على ٱلبند ٱلأول.
وأنا لن أعرض هنا شاهدًا على ماۤ أقوله عن ٱلفيدرالية من ميثاق فيدرالية ٱلولايات ٱلمتحدة أو من ميثاق فيدرالية ألمانيا أو من ميثاق فيدرالية ٱلهند. بل سيكون شاهدى ٱلوحيد فى هذا ٱلمقال من مصدر رسولىّ هو ميثاق دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة "ٱلصحيفة". وللمعترضين بٱسم دين ٱلإسلام بعد ذلك أن ينسبوا شاهدىۤ إلى ٱلمؤامرة وأن يتخذوا منه ما يشآءون من مواقف. ولكن عليهم إن فعلوا ذلك ألا يقيموۤا أىَّ رابط بين مواقفهم ٱلمعترضة على ٱلفيدرالية وبين دين ٱللّه ورسوله.
لقد بدأت ٱلصحيفة بتوكيد وحدة أهل ٱلمدينة:
"ٱلبند ٱلأول: إنّهُم أُمّة وَاحِدَة مِن دُونِ النّاسِ".
ثم بدأت بتعداد ٱلمكونات ٱلفئويّة لهذه ٱلأمة ٱلواحدة مع بيان ٱلاستقلال ٱلادارىّ وٱلتشريعى (ٱلقانونىّ) لكلٍّ مِّنها:
ٱلبند ٱلثانى: المُهَاجِرُونَ مِن قُرَيشٍ عَلَى رِبعَتِهِم (مكان إقامتهم وعيشهم فى هجرتهم) يَتَعَاقَلُونَ (مسآئل ٱلتشريع وٱلحقوق وٱلحكم) بَينَهُم وَهُم يَفدُونَ عَانِيَهُم (كلمة "عَنِى" تدل على ٱلفقير فى طور ٱلِّسان ٱلعبرىّ) بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلثالث: وَبَنُو عَوفٍٍ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى كُلّ طَائِفَةٍ تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلرابع: وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلخامس: وَبَنُو الحَارِثِ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلسادس: وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلِهِمْ الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعْروفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلسابع: وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلثامن: وَبَنُو عَمرِو بنِ عَوْفٍ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلتاسع: وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ.
ٱلبند ٱلعاشر: وَبَنُو الأَوسِ عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنهُم تَفدِي عَانِيَهَا بِالمَعرُوفِ وَالقِسطِ بَينَ المُؤمِنِينَ".
وفى هذه ٱلبنود ٱلتسعة تظهر تسع دول فيدرالية متحدة فى دولة واحدة مكوّنة من وحدتها ٱلسياسية وٱلأمنية ٱلفيدراليّة أمّة واحدة هى دولة ٱلمدينة. ويظهر فى ٱلبند ٱلثانى حقّ لِّلمهاجرين فىۤ إقامة سلطة لهم علىۤ أرض مهجرهم يثرب يقرّه ويعترف به أهل يثرب من دون تذمر ولا منع. ليس هذا فحسب بل ورد ذكر حقّ ٱلمهاجرين متقدِّمًا فى ٱلصحيفة على ذكر حقوق أهل يثرب.
وجآء فى كتاب ٱللَّه توكيد على وحدة أهل هذه ٱلدول ٱلتسعة بتسميتهم أهل ٱلمدينة:
"ما كان لأهلِ ٱلمدينة ومَن حولهم مِنَ ٱلأعرابِ أن يتخلَّفُوا عن رَّسولِ ٱللَّهِ ولا يَرغبٌوا بأنفسِهِم عن نفسِهِ"130 ٱلتوبة
"ومِمَّن حولَكُم مِّنَ ٱلأعرابِ مُنَٰفِقُونَ ومِن أهلِ ٱلمدينةِ مَرَدُوا على ٱلنِّفاق لا تَعلَمُهُم نحنُ نَعلَمُهُم" 101 ٱلتّوبة.
وتتابع ٱلصحيفة تسطير بنودها مبيّنة أنّ مؤسسها ٱلرّسول يتبع بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ فلا يخالفه:
"إنَّ ٱلّذين ءَامنوا وٱلّذين هَادُوا وٱلصَّٰبئينَ وٱلنَّصَٰرى وٱلمَجُوسَ وٱلّذينَ أَشْرَكُوا إنَّ ٱللَّه يفصِلُ بينهم يومَ ٱلقيٰمةِ إنَّ ٱللَّه على كلِّ شَىءٍ شهيد" 17 ٱلحج.
فقد ورد فى ٱلصحيفة عشرة بنود تبيّن دين وقوم وفئات كلٍّ مِّن تلك ٱلفيدراليات ٱلمتحدة فى دولة ٱلمدينة وتركت أمر ٱلفصل بينهم إلى ٱللّه كما بيّن ٱلبلاغ 17 ٱلحجّ:

ٱلبند ٱلخامس وٱلعشرون: وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوفٍ أُمّة مَعَ المُؤمِنِينَ لِليَهُودِ دِينُهُم وَلِلمُسلِمَينِ دِينُهُم مَوَالِيهِم وَأَنفُسُهُم إلّا مَن ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ (يعاقب) إلّا نَفسَهُ وَأَهلَ بَيتِهِ.
ٱلبند ٱلسادس وٱلعشرون: وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّارِِ مِثلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.
ٱلبند ٱلسابع وٱلعشرون: وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الحَارِثِ مِثلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.
ٱلبند ٱلثامن وٱلعشرون: وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.
ٱلبند ٱلتاسع وٱلعشرون: وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.
ٱلبند ٱلثلاثون: وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الأَوسِ مِثلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ.
ٱلبند ٱلواحد وٱلثلاثون: وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعلَبَةَ مِثلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ إلّا مَن ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفسَهُ وَأَهلَ بَيتِهِ.
ٱلبند ٱلثانى وٱلثلاثون: وَإِنّ جَفنَةَ بَطن مِن ثَعْلَبَةَ كَأَنفُسِهِم.
ٱلبند ٱلثالث وٱلثلاثون: وَإِنّ لِبَنِي الشّطِيبَةِ مِثلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوفٍ وَإِنّ البِرّ دُونَ الإِثمِ.
ٱلبند ٱلرابع وٱلثلاثون: وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعلَبَةَ كَأَنفُسِهِم.
ٱلبند ٱلخامس وٱلثلاثون: وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنفُسِهِم.
وبينت ٱلصحيفة فى ٱلبند ٱلسادس وٱلثلاثين وحدة هذه ٱلأمة ٱلواحدة فى ٱلحرب وفى ٱجتماعها حول رئيس ٱتحادىّ واحد "وَإِنّهُ لَا يَخرَجُ مِنهُم أَحَد إلّا بِإِذنِ مُحَمّدٍ عليه ٱلسلام".
وبيّنت فى "ٱلبند ٱلسابع وٱلثلاثين" ٱستقلال كلٍٍّ مِن هذه ٱلفيدراليات فى نفقتها ٱلداخلية "وَإِنّ عَلَى اليَهُودِ نَفَقَتَهُم وَعَلَى المُسلِمِينَ نَفَقَتَهُم". وبيّنت نصرهم لبعضهم على مَن يحارب وحدتهم ٱلسياسية "وَإِنّ بَينَهُم النّصرَ عَلَى مَن حَارَبَ أَهلَ هَذِهِ الصّحِيفَةِ". ثمّ بيّنت أنّ ٱلعلاقة بين دول ٱلفيدرالية تقوم على ٱلنّصح وٱلنصيحة وٱلبرّ "وَإِنّ بَينَهُم النّصحَ وَالنّصِيحَةَ وَالبِرّ دُونَ الإِثمِ". كما بيّنت منع ٱلاعتدآء على ٱلحليف ٱلفيدرالىّ وطلبت نصر ٱلجميع للمظلوم "وَإِنّهُ لَم يَأثَم امرُؤ بِحَلِيفِهِ وَإِنّ النّصرَ لِلمَظلُومِ".
ثمّ بيّنت فى "ٱلبند ٱلثامن وٱلثلاثين" ٱشتراكهم فى ٱلنفقة ٱلحربية "وَإِنّ اليَهُودَ يُنفِقُونَ مَعَ المُؤمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ".
بهذه ٱلبنود تظهر ٱلفيدرالية ٱلسياسية وٱلأمنية وٱلأمة ٱلواحدة بين تسع قبآئل لكلٍّ منها دولة وتشريع ونفقة. ويظهر فى ٱلبند ٱلثانى أن سلطة ٱلمهاجرين من قريش تقوم على تعاقلهم فيما بينهم وفق تشريع لا يرتبط بما هو فى قريش من تشريع. فلهم تشريعهم ٱلذى يستمدونه من ٱلهداية ٱلرّسولية. أما ٱلبنود من (3- 10) فتبيّن إقرار دولة ٱلمدينة ٱلاتحادية ورئيسها محمّد رسول ٱللَّه بحق كلِّ فيدرالية فى تشريعها ٱلقديم. وهو ما يبيّنه ٱلقول "عَلَى رِبعَتِهِم يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُم الأُولَى". فهم غير مكرهين على تشريع أخر بٱستثنآء ما ورد من حقٍّ ٱتحادى مبيّن فى بنود ٱلصحيفة كٱلاحتكام إلى ٱلرئيس ٱلاتحادى فى ٱلخلاف بين فيدرالية وأخرى وٱلنفقة فى ٱلحرب ونصرة ٱلمظلوم وغيرها ٱلتى نجد تفصيلا لها فى بنودها ٱلسبعة وٱلأربعين.
لقد كانت دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة فيدرالية متحدة يرأسها ٱلنّبى محمّد. وكان يشاور حكام دول ٱلفيدرالية فى جميع أمور ٱلدولة ٱلاتحادية ويقبل من ٱلجميع "ٱلنُّصح وٱلنّصيحة". ولم يكن يرى فى دولة ٱلمدينة مؤامرة غربيّة وإسراۤءيلية كما يرى مَن يزعم ٱلإسلام ٱليوم. بل كان أكثر دول ٱلفيدراليّة وأكثر أهل دولة ٱلمدينة من ٱليهود كما تبيّن ٱلصحيفة. وكان ٱلرّسول يسمع من حكامها ٱلنّصح وٱلنّصيحة. بل كان ٱلرّجل ٱلثانى فى دولة ٱلمدينة (كما تبين كتب ٱلسيرة) هو ٱليهودىّ عبد ٱللّه ٱبن أبىّ ٱبن سلول وقد كان من أكثر ٱلمقربين من ٱلرّسول فى مسآئل ٱلحكم وٱلسلطة ٱلاتحادية ومسآئل ٱلحرب (ٱلسيرة لابن هشام).
فهل سيقول ٱلمعترضون بٱسم ٱلإسلام أنّ ٱلصحيفة ورسول ٱللّه وسيلة لإضعاف ٱلمسلمين وتقسيم لبلادهم بمؤامرة غربية وإسرائيلية؟
وبعد هذا ٱلشاهد ٱلرّسولىّ أقول. أنّ ما يحدث فى ٱلعراق ٱليوم من تثريب بين أهله ورجفات (إرهاب) تقتل ٱلناس وتهدّ ٱلبنآء وتمنع ٱستقرار ٱهل ٱلعراق وسيرهم على سبيل ٱلفيدرالية وٱلديمقراطية بٱسم ٱلإسلام وٱلقوم وزعم بطرد ٱلصليبيين ٱلأمريكيين. هو عمل من لا يقبل ببلاغ ٱللّه ٱلعربى 17 ٱلحجّ. بل أرى فيه عمل من لا يقبل بكتاب ٱللّه ٱلقرءان كله ولا بمثله ٱلرّسولىّ. وأرى فى تلك ٱلأعمال أنّ ٱلذى يحرّض عليها هم كهنوت قوم ودين بٱسم دين ٱللّه من أمثال ٱلكاهن ٱلدكتور يوسف ٱلقرضاوى وٱلكاهن ٱلمقاتل أسامة ٱبن لادن. وما يزعمون به من دين فى تحريضهم ما هو إلا نفاق وكذب على ٱللّه ورسوله. وهم فيما يزعمون به من دين يأتون بشاهد عليه من فتاوى ٱبن تيميّة ويستبعدون كتاب ٱللّه بسبب كرههم للّه وكتابه ورسوله. وفى كتاب ٱللّه حكم على فاعل ٱلتحريض وعلى عبيده ٱلمرجفين:
"لئن لم ينتهِ ٱلمنافقون وٱلَّذين فى قلوبهم مرض وٱلمرجفون فى ٱلمدينة لنغرينّك بهم ثمّ لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا(60) ملعونين أينما ثُقفوا أُخذوا وقتّلوا تقتيلا(61) سنّة ٱللَّه فى ٱلذين خَلَوا من قبل ولن تجد لسنّّة ٱللَّه تبديلا(62)" ٱلأحزاب.
إنّ ٱلمعترضين على ٱلفيدرالية فى ٱلعراق بٱسم ٱلإسلام وٱلقوم يؤيدون زعم ٱلمنافقين ويشتركون فى ٱلتحريض على هذه ٱلأعمال ٱلمرجفة ويتابعون معهم ٱلزّعم وٱلنفاق أنّها دفاع عن دين ٱلإسلام وعن ديار ٱلعرب وٱلمسلمين.
لقد جآء فى ٱلبلاغ 17 ٱلحجّ بيان للناس أنّ مناهجهم ومفاهيمهم مختلفة. وبيّن لهم أنّه على ٱلرّغم من ٱختلافهم فى ٱلمفاهيم (بما فى ذلك مفاهيم ٱلدين وٱلقوم) فهم يستطيعون إقامة وحدة فيما بينهم إن أرادوا وحدة تقويهم فى تطورهم وفى حماية عيشهم من معتدِ خارجىّ. وقد جعل رسوله محمّد يضرب لهم مثلا على تلك ٱلوحدة فى فيدرالية ٱلمدينة ٱلمنوّرة.
وبيّن ٱللّه للناس فى ذلك ٱلمثل أنهم فى عيشهم ٱلوحدوىّ يتنافسون من دون إثم ولا حرب ويتسابقون على ٱلعلم فيوسعون علىۤ أنفسهم ٱلاختيار فىۤ أمور عيشهم وتطورهم. وهذا ٱلأمر بينه لهم فى ٱلبلاغ ٱلتالى:
"لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرعَةً ومِنهاجًا ولو شَآء ٱللَّه لَجعَلَكُم أُمَّةً وٰحِدةً ولكن لِيبلُوَكُم فى مآ ءَاتٰٰكُم فاستَبِقُوا ٱلخيراتِ إلى ٱللَّه مرجِعُكُم جَمِيعاً فَيُنبِئُكُم بِمَا كُنتُم فِيهِ تَختَلِفُون" 48 ٱلمائدة.
وهو سبيل ٱلمؤمنين للعيش مع كافرين وفق ميثاق ٱتحادى مدينىّ يترك مسألة ٱلحكم وٱلتشريع لكلٍّ منهما.
فى كلٍّ من ٱلبلاغ 48 ٱلمآئدة وٱلبلاغ 17 ٱلحجّ ركن من أركان دين ٱللَّه. ومن يؤمن بٱللَّه حقًّا يتبع أركان دينه ويكفر بركن طاغوت دين ٱلقوم ٱلذى لا يقبل بتعدد فى ٱلمفاهيم وٱلمناهج وٱلشرعة ويزعم بشرعة واحدة تقوم على مفهوم طاغوت كافر "لا يجتمع دينان فى جزيرة ٱلعرب". وبزعمه هذا يسير فى ٱلعراق إلى حربِ وقتل مَن يتبع أركان دين ٱللّه ومثله ٱلرّسولى للناس فى دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة.
لقد ركزت فى جميع أعمالى على ما يبينه ٱلبلاغ ٱلعربىّ من حرية ٱلفرد ٱلتى تجعله مسئولا يستحقّ ٱلحساب:
"ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنّ ٱلسّمع وٱلبصر وٱلفؤاد كل أولـٰۤئك كان عنه مسئولاً" 36 ٱلإسرآء.
"كلُّ نفسٍ بِما كَسَبَت رهينة" 38 ٱلمدَّثر.
وقلت متبعًا بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ أنّ ٱلمسئولية فردية "كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة". وهىۤ أركان أىّ عيش ديمقراطىّ. وهى ما منعنا ويمنعنا عنها رجال سلطة ٱلطاغوت وكهنوته من أهلنا بزعم دين غير دين ٱللّه ٱلمبيّن فى كتابه ٱلقرءان. وسبق وقلت أنّ ٱلغرب ٱلديمقراطى يدعونا من أجل هذه ٱلحرية فى بلادنا وهو يعرض علينا عونه. وتابعت قولىۤ أنّه علينا مساعدة أنفسنا وقبول دعوته وعونه وليكن له أجره ٱلمجزى عليه. وأن لا نلتفت إلى ما يطلقه ٱلطاغوت وكهنوته من ٱتهام بٱلخيانة بزعم وطنية وتاريخ وقوم ودين. وأن لا نخون أنفسنا ونكون كٱلأنعام غافلين عن حريتنا ومسئوليتناۤ أمام ٱللّه يوم يقوم ٱلحساب.
لقد كتبت مساهمًا فى صناعة ميثاق لشعوب ٱلعراق. وقد ٱتبعت فيه ميثاق ٱلمثل ٱلرّسولىّ فى ٱلمدينة ٱلمنوّرة. وأرىۤ أنّه يصلح وثيقة أوليّة للنظر فيها وتطويرها لتكون ميثاقًا لولايات فيدرالية شاميّة متحدة على جمبع أرض بلاد ٱلشّام. وبها نكون أمّة واحدة تتوزع على ولايات فئويّة طوآئف وقوميات. ولكلِّ فئة وطآئفة وقوم ولاية يسيد فيها شرعها ٱلذى ترـٰه. ننصح بعضنا بعضًا ونساعد بعضنا فى كلِّ أمر. ونعيش فى وحدتنا ٱلسياسية لا يفصل أحدناۤ أخر متبعين بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ 17 ٱلحجّ. وبه ننهى تفرقنا وضعفنا وتسلط بعضنا على بعضنا ٱلأخر وضياع ثروات بلادنا فى دولة شاميّة فيدرالية ديمقراطية متحدة.
وأقول للمقاتلين فى ٱلعراق ومَن ورآءهم أنتم تقاتلون وترجفون فى ٱلعراق بٱسم دين ٱللّه. فإن كنتم تؤمنون بٱللّه حقًّا عليكم ٱلإيمان بمثله ٱلرّسولىّ وميثاقه وببلاغه ٱلعربىّ 48 ٱلمآئدة و17 ٱلحجّ. فٱتقوا ٱللّه إن كنتم به تؤمنون.
وإذا كنتم لا تقبلون بشرعة غير شرعتكم فلماذا تطالبون بسلطة شرعتكم على مَن لهم شرعة أخرى؟
وأذكركم بما فعله ٱلرّسول يوم فتح مكّة. فهو لم يطلب من أهلها ٱلدخول فى دين ٱللّه حتى يأمنوا على حياتهم. بل طلب منهم ٱلتوقف عن ٱلقتال. وكان طلبه أن يدخلوا بيت ٱللّه وبيوتهم وبيت رئيسهم أبو سفيان. وصدق رسول ٱللَّه بما وعد. فلم يقتل إلا مَن قتلهم خالد ٱبن ٱلوليد مخالفًا أمر ٱلرّسول. وٱسألوا ٱبن هشام عن تلك ٱلخيانة. وٱعلموۤا أنّكم بما تفعلون فأنتم بهذا ٱلخآئن تقتدون.
وأقول لكم إذا كان أهل ٱلمكان ٱلذى تصيطرون عليه من أرض ٱلعراق يقبلون بكم وبشرعتكم ٱلتى تخون ٱللّه وكتابه ورسوله فلتكن لكم ولاية فيدرالية فىۤ أماكن سكنكم تسيد فيها شرعة ترضون بها لأنفسكم وتوقفون أفعالكم ٱلتى تدمر حياة وعيش أهل ٱلعراق ٱلأخرين.
لقد بيّنت ٱلصحيفة للذين يؤمنون بٱللّه وكتابه ٱلقرءان ومثله ٱلمضروب فى دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة أنّ وحدة ٱلعراق لن تكون إلا عبر ولايات متحدة فى هيئة فيدرالية. وأنّ ٱلديمقراطية هى ركن من أركان دين ٱللّه وليست مستوردة ولا مؤامرة. وأنّ قيامها لا تأتى به صناديق ٱلانتخاب إلا فى هيئة ٱلفيدرالية. ومثلى على ذلك مما حدث فى مصر وفلسطين وٱلعراق. ولو حدثت ٱلانتخابات فى كلِّ ولاية لكان ٱلحدث يرضىۤ أهلها فيما ينتخبون ليكون عليهم حاكمًا ومشرِّعًا. كذلك سيكون ٱنتخاب أهل ٱلولاية لمن يمثلهم فى مجلس ٱلاتحاد يرضيهم. وسيجهد ٱلجميع لينتخبوا من هو ٱلأفضل بينهم فى ٱلولاية وفى ٱلاتحاد. ولن يكون لشرعة سلطة علىۤ أخرى عملا ببلاغ ٱللّه ٱلعربىّ "لكم دينكم ولى دينِ".



ٱلجميع سيقبل ٱلفيدرالية!

مفهوم ٱلفيدرالية ما زال مبهما علينا كبقية ٱلمفاهيم ٱلمتعلقة بحقوق ٱلإنسان وٱلديمقراطية وٱلدين. وهذا يجعلنا نصدّق مزاعم سلطة ٱلطاغوت وكهنوتها وٱلأحزاب ٱلمساندة لها وٱلمتسلطة معها على ٱلمفاهيم ٱلتى تروَّج للتخويف من ٱلفيدرالية علىۤ أنها مؤامرة غربية صهيونية تريد تقسيم بلادنا وٱضعافنا.
فما هى تلك ٱلفيدرالية حقًّا؟
بلادنا ٱليوم مقسمة إلى محافظات ومناطق. ويتولى رئيس ٱلسلطة فى بلادنا تسمية ٱلمحافظ ومدير ٱلمنطقة من دون ٱلرجوع إلى سكانها. وهذا ٱلمحافظ يجلس على كرسى ٱلسلطة فى ٱلمحافظة لا يرى فيهاۤ إلا مصلحته ٱلشخصية ٱلتى تكبر وتزداد بسرقة ٱلمال ٱلعام من دون محاسبة له. وما يهمه هو ٱرضآء رئيس ٱلسلطة ٱلذى سمّاه. أما مصالح سكان ٱلمحافظة فهو لا يلتفت إليها. وهم لا يستطيعون منعه من أعمال ٱلفساد ٱلتى يقوم بها لأن أمره بيد ٱلسلطة ٱلتى سمّته.
ومثله رئيس ٱلبلدية ومدرآء ٱلمؤسسات ٱلعامة وٱلمدارس وٱلشرطة وغيرها من ٱلأعمال ٱلعامة ٱلتى تباع لأشخاص بٱلمزاد وتزدرى مصالح ٱلناس وٱلبلاد.
وبمفهوم ٱلفيدرالية تبقى ٱلمحافظة محافظة أو تسمّى ولاية. ويتولى سكانهاۤ أنفسهم وضع دستور لمحافظتهم تبين فيه وسيلة ٱسناد ٱلعمل ٱلعام لأشخاص من ٱلمحافظة. وسكان ٱلمحافظة هم ٱلذين يتولون ٱلتسمية بٱنتخاب مجلس محافظة أو برلمانها وينتخبون ٱلمحافظ أو ٱلوالى ويسمونه رئيس ٱلولاية أو ٱلمحافظ لا فرق فى ٱلتسمية. وكذلك ينتخبون جميع ٱلمدرآء ورؤسآء ٱلشرطة وكافة ٱلمسئولين. وبذلك يكون ٱلمسئول مسئولاۤ أمام ناخبيه. وهم يسألونه ويحاسبونه عندما يخطئ ويسىء.
ولسكان ٱلمحافظة فى ظل ٱلفيدرالية حرية فى ٱستعمال لسانهم ٱلمحلى فى ٱلتعليم وٱلصحف وٱلإذاعة إلى جانب لسان ٱلدولة ٱلاتحادية. ولهم أن يسنُّوا ما يحتاجون إليه من تشريع فى محافظتهم أو ولايتهم يوافق مستوى عيشهم ومفاهيمهم ٱلدينية وٱلقومية وٱلاقتصادية وٱلاجتماعية. فإذا كان سكان ٱلولاية أو ٱلمحافظة مسيحيين فما هى حاجتهم بتشريع إسلامى؟ ولماذا يُكرهون على تشريع لا يؤمنون به؟
ومثلهم ٱلأكثرية ٱلمسلمة وطوآئفها ٱلمختلفة فى ولايات أخرى.
أما ٱلتركمان وٱلكورد وٱلسريان فلكلٍّ منهم روحه (ويندوزه) ولسانه ٱلذى يمثله فلماذا يُكره على ترك روحه من دون تنزيل لروح جديد أكثر تطورا؟
أما دولة ٱلاتحاد ٱلفيدرالى فرجالها منتخبون من جميع ٱلمحافظات. وهى تمثل سلطة ٱلاتحاد فى مسآئل مشتركة لدى جميع ٱلمحافظات كٱلدفاع وٱلتمثيل ٱلديبلوماسى وٱلتعليم ٱلاتحادى ٱلذى يتوجّه لإلغآء ٱلفروق بين ٱلمحافظات بٱلوسآئل ٱلعلمية ومن دون إكراه على فئة من فئات ٱلفيدرالية.
فهل فى هذا ٱلأمر مؤامرة غربية وصهيونية وتقسيم للبلاد؟

فصل ٱلدولة عن ٱلدِّين

يطلب ٱلعلمانيون ٱلإنسانيّون فصل ٱلدولة عن ٱلدِّين. وبٱلمقابل يطلب ٱلطاغوت ٱلجاهل وكهنوته ٱلمجنون ٱستمرار هيمنتهم على سلطة ٱلدولة بزعم شريعة ودين.
فهل يمكن حقًّا فصل ٱلدولة عن ٱلدِّين كما يطلب ٱلعلمانيون ٱلإنسانيّون؟
وهل أنّ ٱلحقَّ فيما يزعم به ٱلطاغوت ٱلجاهل وٱلكهنوت من شرع ودين؟
إنّ ٱلتعليم بوسآئل لسانيّة محرّفة يأتى بمتعلِّم جاهل يشيط ويمتنع عن ٱلنظر فى ٱلحقِّ. وقد جآء لى قول عن ٱلتحريف فى كتابى ٱلثانى "منهاج ٱلعلوم" وفى مقالى "ٱلتحريف وأثره على ٱلإدراك". فكلمة "دين" محرّفة ٱلدليل بفعل ٱلطاغوت وكهنوته. وكنت فى كتابىۤ "أنبآء ٱلقرءان" قلت بما توصلت إليه من فهم أنّ كلمة "دين" تماثل فى دليلها دليل كلمة law ٱلانكليزية فيما تدلّ عليه فى ٱلقول substantive law. وهذا ٱلقول ٱلانكليزىّ نقلته ٱللّغة ٱلفصحىۤ إلى لسانها ٱلأعجمىّ بقول يلغو فى ٱلإدراك هو "ٱلقوانين ٱلموضوعيَّة" و"قوانين ٱلضَّرورة". ونقلت إلى لسانها كلمة religion ٱلتى تدل على ٱلترهب لتدلّ بها على كلمة دين. وهى بهذا ٱلتحريف ألغت روابط ٱلإدراك بين كلمة دين وٱلقول substantive law. أمّا ما يدلّ عليه ٱلقول ٱلانكليزى substantive law فهو ٱلسِّنّة ٱلتى تحكم وتحمى تكوين وحركة ووجود جميع ٱلأشيآء وهلاكها. فكلمة law يقرب دليلها من دليل كلمة "ناموس" فى لسان موسىٰ ٱلعبرىّ. وتدلّ على ٱلتخليق (ٱلتصميم وٱلتنظيم فى ٱللّغة) وعلى ٱلأمّة (ٱلسلوك ٱلمبرمج فى ٱلأشيآء). أما كلمة substantive فتدلّ على وجود شىءٍ حقٍّ. وهذا يبيّن أنّ للحقِّ ناموسه ٱلذى يحكمه فى وجوده وحركته وهلاكه. وهو ما كشف عنه نظر علمآء ٱلحقِّ وما عرّفوه بقولهم substantive law .
أما كلمة "دين" فقد جآءت فى ٱلِّسان ٱلعربىّ (ٱلقرءان) لتحلّ مكان كلمة ناموس ٱلعبريّة ٱلِّسان وتضمّ دليلها ٱلذى يبيّن ٱلتخليق وٱلأمّة ومعه دليل ٱلخضوع ودليل ٱلسجود. وبورود كلمة دين فى لسان ٱلقرءان ٱلعربىّ نُسِيَت كلمة ناموس.
وجآء فى ٱلقرءان بيان عن إسلام جميع ٱلأشيآء لهذا ٱلدِّين "إنَّ ﭐلدِّين عِندَ ﭐللّهِ ﭐلإسلامُ". وﭐلإسلام كلمة تدلّ علىۤ خضوع وسجود أشيآء ٱلحقِّ لهذا ٱلدِّين فى تكوينها وحركتها وهلاكها. وهذا يدلّ على سلطة فى وجود ٱلحقِّ يبينها ٱلقول ٱلعربىّ "دين ٱلحقِّ". وهو قول يضم فى دليله "ناموس ٱلحقِّ" substantive law و"دين ٱلفطرة" ٱلذى يقاربه فى ٱلدليل ٱلقول ٱلانكليزىّ natural law.
بهٰذا ٱلفهم يتبيّن لىۤ أنّ ﭐلدِّين هو أشراط تحكم ٱلتكوين فى وجوده وحركته وهلاكه. وهذا ٱلفهم لا علاقة له مع ما يظنّه ٱلكهنوت وما يخرص فيه بلغوه وبه يطلب سلطة ودولة.
إنّ طلب ٱلعلمانيين ٱلإنسانيين لفصل ٱلدولة عن ٱلدِّين يرافقه طلب لهم لقيام دولة على ناموس مدينىّ (قانون مدنىّ فى ٱللّغة) يحمى جميع ٱلأفراد وحقوقهم ٱلإنسانية بما فى ذلك حرية كلٍّ مِّنهم فيما يؤمن به ويعلن عنه (شرعة حقوق ٱلإنسان). وهم لا يطلبون ولا يسعون إلى قيام دولة بلا ناموس. فهل فى طلبهم ما يوافق دين ٱلحقِّ؟
إنّ فهمى يبين لىۤ أنّ ٱلدولة ٱلمدينيّة (نسبة إلى ٱلمدينة) تقوم على ميثاق وتشريع مدينىّ (وهو ما يسمَّى فى ٱللّغة ٱلفصحى بٱلدستور وٱلقانون ٱلمدنى). وأنّ ميثاق دولة ٱلمدينة هو دينها ٱلذى يحكم سنَّ ٱلتشريع فيها. ومن ٱسم ٱلدِّين وميثاقه هو ٱسم ٱلمدينة. وبهذا ٱلفهم للدِّين أقول لا فصل للدولة ٱلمدينيّة عن ٱلدِّين.
وأرى فى ضرب ٱلمثل زيادة فى بيان دليل ٱسم ٱلدِّين. فإنّ ٱلنظر فى دليل ﭐلفعل "دَيَنَ يَدِينُ" يبيّن علاقة بين دآئن هو صاحب ٱلدَّين ومَدِين هو ٱلمسئول عن ﭐلدَّين حتى يردّه إلى صاحبه. كما يبيّن أنّ ما يحكم ٱلعلاقة بينهما هو ٱلدِّين (عقد يسطِّر فيه ٱلدآئن أشراطه على ٱلمدين) ٱلذى يخضع ويسجد له ٱلمَدين. فإذا خالف ٱلمَدِين أشراط ٱلدآئن يأخذه إلى ٱلمحكمة ويطلب من ٱلقاضىۤ أن يُدينه وفقًا لأشراط عقد ٱلدَّين. وهذا يظهر لىۤ أنّ وسيلة ﭐلدآئن فى ٱسترداد دينه هى فىۤ أشراطه ٱلمسطورة فى عقد ٱلدَّين. وفى هذه ٱلمسألة فإنّ ٱلقاضى يتبع فى ٱلمحكمة تلك ٱلأشراط ويقضى بها فلا يخرج عنها. وإذا وجد ٱلقاضىۤ أنّ ٱلمَدِين خالف تلك ٱلأشراط بإرادته يسلّمه للشرطى ليأخذه إلى ٱلسجن أو يدفع ما عليه من دَين. أمّاۤ إذاۤ وجد ٱلقاضىۤ أنّ ٱلمَدِين لم يخالف تلك ٱلأشراط بإرادته وأنّ قوّة خارجيّة عن إرادته ومصلحته منعته من ٱلخضوع لتلك ٱلأشراط وهى ٱلتى جعلته لا يفى بها (كٱلإفلاس) فيكون حكمه عليه فى منع مسئوليته ٱلجزآئية.
هذا ٱلمثل يبيّن مسألة تشريعية تحكم ٱلعلاقة بين ٱلداۤئن وٱلمَدِين. فصاحب ٱلمال هو ٱلذى مكّن ٱلمَدين من ٱلعمل بماله. وهو إن أحسن ٱلعمل يغتنى ويردّ للدآئن دينه. وإن أسآء ٱلعمل يفتقر ويسوقه ٱلدآئن إلى ٱلقاضى. كما يبين ٱلعلاقة بين ٱلإنسان وخالقه ٱلذى بثّ دينه فى وجوده. وهوَ أساس لتشريع يحكم علاقة أفراد ٱلمجتمع وحقوقهم ومصالحهم ومسئولياتهم ٱلفردية فيما بينهم وأمام صاحب ٱلدَّين فى ٱلتكوين. ومثل هذا ٱلتشريع هو ميثاق ٱلمجتمع ٱلمدينىّ وهو دينه ٱلذى يقوم على ٱلإعلان ٱلعربىّ "لآ إكراه فى ٱلدِّين". وتشريع هذا ٱلمجتمع يتوافق توافقًا نسبيًّا مع دين ٱلحقِّ substantive law وnatural law. ويكون ٱلتشريع متحركًا إلىۤ أعلىۤ أطوار ٱلمدينيّة بفعل ما يُخرجه نظر ٱلناظرين فى ٱلحقِّ وبما يعلمون من دينه. فتكون حركة ٱلمفاهيم وٱلتشريع فى هذا ٱلمجتمع تتبع ما خرج به ٱلنظر فى ٱلحقِّ فلا تبقى على وثنيّة لا تقبل بتغيير.
بهذا ٱلفهم أرىۤ أنّه إذا كان ميثاق ٱلدولة (دينها) لا يخالف دين ٱلحقِّ ٱلذىۤ أعلن أنّه "لآ إكراه فى ٱلدِّين" تكون ٱلدولة مدينيّة ويكون تشريعها حنيفًا لا يسقط فى ٱلوثنيّة. وهو ما يطلبه ٱلعلمانيون ٱلإنسانيّون ويسعون لقيامه فى بلادنا ٱلشَّاميّة. أمّاۤ إذا كان ٱلتشريع يقوم على ما يظنّه ٱلطاغوت ٱلجاهل وكهنوته ٱلمجنون فى دين ٱلحقِّ وعلى لغوهما فيه فتكون ٱلسلطة سلطة جهل وشيط (فوضى) وضياع كما هو ٱلأمر فى جميع بلاد ٱلشَّام.
لقد بيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ أنّ ٱلتكوين يقوم على جدلية ٱلمخلَّقِ وغير ٱلمخلَّق. وٱلمخلَّق هو ٱلمحكوم بدين ٱلحقِّ. وغير ٱلمخلَّق هو ٱلذى يشيط عليه. وهذه ٱلجدلية ٱلتكوينيّة لها فعلها فى مجتمع ٱلبشر بفعل جهله وشيطه عن ٱلحقِّ ودينه. كما لها فعلها فى مجتمع ٱلإنسان بفعل نظره وعلمه ٱلمتحرك بذلك ٱلدِّين.
ٱلإنسان هو ٱلذى يمثل ٱلمخلَّق وهو ٱلذى يسعى بعلم للتحكم فى ميثاق يخلِّق تشريع عيشه فيضيّق على ٱلجهل ويمنع ٱلشيط فيه (ٱلفوضى). وهذا يمثله طلب ومسعى ٱلعلمانيين ٱلإنسانيين. أمّا غير ٱلمخلَّق فٱلذى يمثله هم ٱلبشر ٱلجاهلون. وهم يجهلون ويشيطون فى جميع نواحى عيشهم يدمرون ٱلتخليق فيه. وهذا ما يفعله ٱلطاغوت ٱلجاهل وكهنوته ٱلمجنون ويتبعهم فى شيطهم أكثر ٱلشَّاميين.
هذا بينته ٱلصحيفة فى دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة بٱلقول "للمسلمين دينهم ولليهود دينهم". وهذان ٱلاسمان هما لطرفىّ جدلية ٱلدِّين (ٱلمخلَّق وغير ٱلمخلَّق) فى مجتمع ٱلمدينة. ٱلمسلم إنسان عليم يعقل. وٱليهودىّ سلفىّ يلتفت إلى خلف (مقال "مَن هو ٱلمسلم" ومقال "تعقيب على سؤال مَن هو ٱلمسلم").
لم تذكر ٱلصحيفة أسمآء أخرى كـ ٱلمسيحىّ وٱلبوذى وغيرهما. فكل ٱلناس يتوزعون على هاتين ٱلجدليتين إما مسلمين وإما يهود. إمّا يتبعون دين ٱلحقِّ نظرًا وعلمًا وعقلا. وإمّا يشيطون فيه لغوا وتخريصًا.
وأعود لأقول ماۤ فهمته من ٱسم "ٱلدِينٍ" أنّه يدلُّ فى ٱلوجود على ٱلـ substantive law وعلى natural law. وفى حياة ٱلإنسان على ٱلميثاق ٱلذى يحكم تشريع أهل ٱلمدينة ٱلمتحرك وٱلذى يحثّ على ٱلنظر فى كيف بدا ٱلخلق وبه يكشفون عن دين ٱلحقِّ فى ٱلتكوين. وبه تكون حركة تشريعهم فى عيشهم مطابقة لما علموه من دين ٱلحقِّ من دون شيط ولا وثنية. وهذا ٱلدِّين لا فصل لدولة ٱلمدينة عنه وهى لا تقوم من دونه.
وأرىۤ أنّه على ٱلعلمانيين ٱلإنسانييّن فى بلاد ٱلشّام أن يستبدلوا ٱسم علمانى ٱلذى يدلّ على موقف ٱلواحد منهم من ٱلدولة وهم كانوا قد أخذوه من تعليم لغو ٱللّغة وكهنوتها لهم (فهمى لدليل كلمة "عَلَمَ" فى كتابى ٱلثانى "منهاج ٱلعلوم"). وأرى لهم فى ٱسم مدينىّ ٱلاسم ٱلبديل ٱلذى يبيّن أنهم طلاب دولة مدينيّة تقوم على ميثاق بين أهلها يحكم تشريعها ٱلمتحرك.




ٱلعلمانية مفهوم يحرف ٱلإدراك ويلغو فيه!

كان مفهوم ٱلسيكيولاريزم secularism (ٱلدنيوية) قد بدأ يظهر تأثيره عند ٱلمفكرين من أبنآء ٱللّغة ٱلفصحى مع ٱلحملة ٱلفرنسية وما تبعها من ٱلحملات ٱلأوروبية ٱلتى كان لها تأثيرها فى ٱلحياة ٱلفكرية وٱلاجتماعية وٱلسياسية فى جميع أراضى ٱلأمبرطورية ٱلعثمانية.
وقد أراد ٱلذين هيمنوا على علم ٱلِّسان وعلى علم ٱلدين فى بلاد ٱلشام (من أبنآء ٱللّغة ٱلفصحى ومعهم ٱلعاملون فى ٱلمسآئل ٱلفكرية ٱلمختلفة وعلى ٱلأخص رجال ٱلكهنوت ٱلدينى وٱلقومىّ منهم) أن تدل كلمة "علمانية" على مفهوم "ٱلحياة ٱلدنيا" ٱلذى تدل عليه كلمة secularism. وقد جآء ٱولـٰۤئك بكلمة "علمانية" ٱلمحرّفة لتحمل مفهوم كلمة سيكيولاريزم فى لسانهم ٱللاغى ٱعتمادا على ما وجدوه من لغو فى كلمة "عالَم" فى معاجم ٱللّغة ومنها ٱلمعجم ٱلوسيط: "عالَم: الخلق كلُّه. كلُّ ما حواه بطن الفلك. كل صنف من أصناف الخلق. كعالم الحيوان، وعالم النبات (ج) عَوالِم، وعالَمون".
لقد حُرفت كلمة "عالَم" فى ٱلمعاجم عن موضعها ونُقلت إلى موضع مفهوم "الخلق كلُّه. كلُّ ما حواه بطن الفلك". وهو ما كان صناع ٱلمعاجم يريدونه من مفهوم "ٱلحياة ٱلدنيا" ٱلذى ورد فى لسان ٱلقرءان ٱلعربى وٱلذى يقابله فيه مفهوم "ٱلحياة ٱلأخرة". وبهٰذا ٱللغو وٱلتحريف ٱلمثبت فى ٱلمعاجم جرى نقل مفهوم كلمة سيكيولاريزم إلى لسان ٱللّغة بكلمة عَلمانية. وبها صار ٱلبعض من أبنآئها يظن أنها تدل على ٱلدنيوية وٱلبعض ٱلأخر يظن أنها تدل على ٱلعلمية. وقد أخذ مفهوم هذه ٱلكلمة ٱلمحرّف يفعل بٱلظنون ويحتلّ مكانا بارزا لدى ٱلمفكرين وٱلسياسيين فى بلادنا وما زال على مكانه وفعله ٱلظنىّ إلى ٱليوم. وبهذا ٱلعمل ٱلتحريفىّ صارت كلمة "عَلمانية" تبتعد بإدراك ٱلمتلقّى عمّا يراد بها من دليلٍ وتحرفه إلىۤ أمرٍ يظن أنّه يتعلق بٱلعلم.
ولإظهار مسألة ٱلتحريف فىۤ أصل كلمة علمانية نظرت فى كتاب ٱللّه وفيه ٱلقول "ربُّ ٱلعَٰلَمِين". وٱسم "ٱٰلعالَمين" يدل على ٱسم جمع لاسم مفرد هو "عَالَم". وكنت فى كتابى ٱلثانى "منهاج ٱلعلوم" قد تناولت دليل كلمة ٱلفعل "عَلَمَ" ورأيت أنّ دليل ٱلاسم "عَلَم" من دليله. وظهر لىۤ أنّ ٱسم "عَالَم" (وهو ٱلأصل لكلمة علمانية ٱلمحرّفة) يدل على جمع أشخاص وليس على "ٱلحياة ٱلدنيا". كما ظهر لىۤ أنّ "ٱلعَالَمَ" ٱلذى يطيع ٱلأمر ٱلعربى ويسير فى ٱلأرض ينظر كيف بدأ ٱلخلق ويقرأ بٱسم ربِّه ٱلذى خلق يُوصل بنفسَه لاكتساب ٱلاسم "عَالِمٍ" وٱسم جمعه "علمآء".
ورأيت أنّ "ٱلعالَمَ" كان "عَلَمًا" بهيمًا قبل نفخ ٱلروح وأنّ ٱسم ٱلجمع له "علامات". ويدلنى ٱلثور (ءّالِف "ا") فى كلمة "عَالَم" على فعل ٱلروح ٱلمنفوخ فى نفس ٱلعَلَمِ ٱلبهيم. وهو فى ٱلكلمة يمسك بعينها يثير ويُهيّج نظرها ويجعلها تستطيع ٱلسير وٱلنظر فى كيف بدأ ٱلخلق وتقرأ ما نظرته وتبيّنه. فـ ٱلعَالَم ٱسم فرد وليس ٱسم للحياة ٱلدنيا ٱلتى تدل عليها كلمة سيكيولاريزم.
كذلك نقل أبنآء ٱللّغة ٱلفصحى ٱلقول ٱلانكليزى: Separation of church and stat بٱلقول (فصل ٱلدين عن ٱلدولة). وٱلصواب فى نقله بٱلقول (فصل ٱلمؤسسات ٱلطآئفية أو ٱلكنيسة عن مؤسسات ٱلدولة). وهذا ٱلعمل هو ٱلأخر من أعمال ٱللَّغو وٱلتحريف للكلم عن مواضعه. وهو مثلُ كثيرٍ من أعمال ٱللّغو وٱلتحريف ٱلجارية فى ٱللّغة ٱلفصحى (مقالى ٱللّغة ٱلفصحى لسان باطل).
وبسبب ٱلنقل ٱلمحرّف وبسبب ٱللّغو ٱلجارى صار لمفهوم ٱلسيكيولاريزم نشأة عندنا تختلف فى جميع جوانبها عن نشأته فى ٱلغرب.
إنّ كلمة secularism فى لسان ٱلانكليز تدل على ما هو دنيوىّ. وتدل كمفهوم فكرى وسياسى علىۤ أن سلطة ٱلدولة تهتم بشؤون ٱلناس وحاجاتهم للعيش فى ٱلحياة ٱلدنيا من دون ربط لتوجهاتها وتشريعاتها بمفهوم ٱلحياة ٱلأخرة. وقد كان مثل هذا ٱلمفهوم ٱلفكرى وٱلسياسى من ٱلمفاهيم ٱلتى لا تقبل به سلطة ٱلكنيسة فى ٱلقارة ٱلأوروبية حتى ٱنهارت سلطتها بفعل ٱلحروب ٱلدينية فىۤ أوروبا ٱلتى ٱنتهت بصلح وستفاليا عام 1648.
أما نشأة هذا ٱلمفهوم فى ٱلحياة ٱلفكرية وٱلسياسية ٱلأوروبية فقد بدأت مع أحداث حركة ٱلاحتجاج ٱلدينى "ٱلبروتستانت" Protestant ٱلذىۤ أطلقه "مارتن لوثر" فىۤ ألمانيا عام 1517. وصار من بعدها مفهوم ٱلسيكيولاريزم من ٱلمفاهيم ٱلفكرية وٱلسياسية ٱلتى توجّه ٱلسلطة من بعد صلح وستفاليا فى دول قومية وعلى جميع ٱلأرض ٱلأوروبية.
ومن ٱلمسآئل ٱلتى عززها هذا ٱلمفهوم فى حياة ٱلإنسان ٱلأوروبى تأتى على رأسها مسألة ٱلحرية ٱلشخصية للفرد. وكذلك مسألة إنهآء صيطرة وهيمنة ٱلكنيسة عليه وعلى سلطة ٱلدولة وعلى ٱلمجتمع وتشريعاته وتوجهاته ٱلنظرية وٱلعلمية. وبذلك صار فصل ٱلكنيسة عن ٱلدولة أمر قآئم ومطلب إنسانى يقوم على مسئولية ٱلفرد أمام ربه من دون تدخل فى تلك ٱلمسئولية. فهو صاحب حقوق وعليه واجبات فى ٱلمجتمع ٱلذى يعيش فيه بموجب ميثاق ٱجتماعى يحمى تلك ٱلحقوق وٱلواجبات. وصارت ٱلحياة ٱلسياسية وٱلسلطوية فى ٱلمجتمع تخضع لإرادة ٱلناس وحقوقهم ومصالحهم.
لقد هيمنت ٱلسلطة ٱلكهنوتية للكنيسة فترة طويلة على ٱلحياة فىۤ أوروبا. ونشرت فيها ما يعرف بعصر ٱلظلمات. وسوآء ءكانت سلطة ٱلكهنوت هناك وهنا تقوم بٱسم ٱلمسيحية أم بٱسم ٱلإسلام أو غيرهما فهى صيطرة كهنة بٱسم ٱلدين. وٱلكاهن هو ٱسم لبشر ٱنتشر فى نفسه مرض ٱلوسواس ٱلخناس. وهو مرض يجعل ٱلمصاب به يستند فى بنآء مفاهيمه على ٱلظنون ويبتعد به عن ٱلعلم فى ٱلحقِّ. ويبدأ ظهور ٱلمرض فى نفسه فى عرض مفاهيمه شعرًا. ثمّ يتطور ٱلمرض فى نفسه إلىۤ أن يوصل بقوله إلى ٱلجنون. وهو ما يبينه كتاب ٱللّه فى تفريقه بين قوله ٱلعربىّ ٱلمبين وقول ٱلشاعر وقول ٱلكاهن:
"وما هو بِقَولِ شاعِرٍ قَلِيلا مَّا تُؤمِنُونَ(41) ولا بِقَولِ كاهِنٍ قَليلا مَّا تَذَكَّرون(42)" ٱلحآقَّة.
فقول ٱلشاعر يأتى مندفعا بقوة مشاعره لا بقوة نظره وبحثه وتفكيره بما يقرأه بٱسم ربِّه فى ٱلحقِّ ويطمئنّ إليه. وهو قول مريضٍ فى نفسه يصدق مشاعره فلا يرى حاجة إلى ٱلثقة وٱلاطمئنان فيما يقول.
أما قول ٱلكاهن فهو قول مَن صار ٱلمرض فى نفسه أكبر من مرض ٱلشاعر. بسبب توغله ٱلبعيد فى ٱلظنون وٱلتخريص. وهذا يجعله قليل ٱلتذكر ويقوى فى نفسه مرض ٱلوسواس ٱلخناس فيتوجّه إلى غلق جميع سبل ٱلنظر وٱلعلم فى ٱلحقِّ ٱلتى لا يدرك ٱلسير عليها. ويملأُ ٱلرَّيبُ قلبَه بٱلظنون وٱلتخريص. وبها يعادى دين ٱللّه ويعادى ٱلعلم فيه:
"فذكِّر فماۤ أنت بنعمة ربِّك بكاهنٍ ولا مجنون" 29 ٱلطور.
وهو بقوّة مرض ٱلوسواس ٱلخناس يسعى ليتحكم بمفاهيم ومصاۤئر ٱلناس فى ٱلمجتمع. ويسعى ليكرههم على ٱتباع ما يظنه دينا مخالفا ٱلبيان ٱلعربى فى كتاب ٱللّه:
"وقُل ٱلحقُّ مِن رَّبِّكم فَمَن شآء فَليُؤمِن ومَن شآءَ فَليكفُر" 29 ٱلكهف.
"قُل يٰۤأيُّها ٱلكٰفرونَ/1/ لآ أعبُدُ ما تعبُدُونَ/2/ ولآ أنتم عٰبدون مآ أعبُدُ/3/ ولآ أناْ عابِد مَّا عَبَدتُم/4/ ولآ أنتُم عٰبِدونَ ماۤ أعبُدُ/5/ لكُم دِينُكُم وَلِىَ دِينِ/6/" ٱلكافرون.
وهو لا يعترف بأهلية (وطنية فى لغو ٱللّغة) مَن لا يتبع ظنونه وتخريصه فى ٱلبلاد ولا بحقوقه فى ٱتباع ٱلشرعة ٱلتى يريد كما يبيّن كتاب ٱللَّه:
"لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرعَةً ومِنهاجًا ولو شَآء ٱللَّه لَجعَلَكُم أُمَّةً وٰحِدةً ولكن لِيبلُوَكُم فى مآ ءَاتٰٰكُم فاستَبِقُوا ٱلخيراتِ إلى ٱللَّه مرجِعُكُم جَمِيعاً فَيُنبِئُكُم بِمَا كُنتُم فِيهِ تَختَلِفُون" 48 ٱلمائدة.
أمّا ما ورد فى كتاب ٱللّه من توجيه وبيان فهو ٱلذىۤ أراده مارتن لوثر فى ٱحتجاجه ٱلدينى. وهو ماۤ أراده ٱلتنويريون ٱلأوروبيون من مفهوم ٱلسيكيولاريزم. وكان تطور مفاهيم ٱلناس فىۤ أوروبا وتطور علمهم وصناعتهم هو ٱلذى جعلهم يسعون لاستبدال سلطة ٱلكاهن ٱلمجنون بسلطة أشخاص سليمين من مرض ٱلوسواس ٱلخناس وجنون صاحبه. وقد توصلوۤا إلى سلطة تهتم بٱلحياة ٱلدنيا وتمنع ٱلتدخل بين ٱلمرء وربه. وتترك له وحده مسئوليته عن عيشه وتطوره فى ٱلحياة ٱلدنيا وعن حظه فى ٱلحياة ٱلأخرة. وهذه ٱلسلطة ٱختارت ٱلانصراف إلى ٱلاهتمام بحماية حقوق ٱلفرد فى عيشه وتطوره ٱلعلمى وٱلمعرفى فى ٱلحياة ٱلدنيا وحدها. فلا تتدخل بما يتبع من منهاج يتعلق بحظه فى ٱلحياة ٱلأخرة. وبهذا تكون هذه ٱلسلطة قد فصلت بين ٱتباع ٱلشخص لمنهاج دينى وٱتباعه لمنهاج سياسى ٱجتماعى. وهى لا تنكر عليه حقه فى ٱلإيمان بما يشآء من دين أو حقه فىۤ أن يكون ملحدا.
هذه ٱلسلطة بمنهاجها ٱلسياسى وٱلاجتماعى أظهرت وصولهاۤ إلى طور دولة ٱلمدينة بفعل ٱلتطور لا بفعل ٱلهداية ٱلرّسولية. وهى كانت ٱختارت مفهوم ٱلسيكيولاريزم لتطلقه على نفسها وتعلن به عن ٱهتمام مؤسسات ٱلدولة بٱلحياة ٱلدنيا وحاجاتها وتترك مفهوم ٱلحياة ٱلأخرة للأشخاص. وبذلك أرىۤ أن مفهوم ٱلسيكيولاريزم ٱلمؤسس لسلطة ٱلدولة ٱلأوروبية جآء يوافق أركان ٱلدين ٱلأساس فى كتاب ٱللّه ٱلقرءان وأولها ٱلركن "لآ إكراه فى ٱلدين".
وكان أول تأثير لمفهوم ٱلسيكيولاريزم خارج أوروبا قد ظهر فى تركيا بٱنقلاب عسكرى علىۤ أثر سقوط سلطة ٱلطاغوت ٱلعثمانى فى ٱلحرب ٱلكونية ٱلأولى. وعلى ٱلرغم من ٱلزعم بٱلحياد ٱلقومى وٱلدينى لهذه ٱلسلطة ٱلعسكرية ٱلمتأثرة بمفهوم ٱلسيكيولاريزم إلاۤ أن رجالهاۤ أطلقوا ٱسم تركيا علىۤ أرض ميديا وأرض كيليكيا وأرض ٱسكندرون وأرض ٱلأناضول وكذلك على ٱلسلطة ٱلجديدة فيها. وٱسم ترك هو لقوم يحيا معهم علىۤ أرض مشتركة كلّ من ٱلكورد وٱلعرب وٱلتركمان وٱليونان. وكان هذاۤ أول مظاهر كذب ٱلعسكريين ٱلأتراك فيما يزعمون.
وحدث فى مصر ٱنقلاب مثله على سلطة ٱلملك فيها. وكان ٱلعسكريون ٱلمصريون من دعاة مفهوم ٱلسيكيولاريزم ٱلمحرّف بكلمة علمانية وٱلمقترنة بفكرة ٱلقومية ٱلعربية ناكرين على غير ٱلعرب فى مصر حقوقهم ٱلقومية. وحدث مثل ذلك فى ٱلجزآئر وفى ٱلعراق وفى سوريا وفى ليبيا وفى ٱلسودان وفى ٱلصومال وفى ٱليمن. وٱنتهت جميع هذه ٱلانقلابات فى وثنية (مستنقع) سلطة ٱلطاغوت ٱلفكرى وٱلسياسى ٱلقومى وحتى ٱلطآئفى وٱلعآئلى. وكانت تركيا ٱستثنآءً نسبيًّا من هذه ٱلوثنية (ٱلمستنقع). فقد أثَّر فيها ٱرتباطها بٱلغرب وطول علاقتها ٱلسياسية وٱلعسكرية مع أمريكا وحلف شمالى ٱلأطلسى. أما بقية ٱلانقلابات فقد ٱرتبطت جميعها بطاغوت ٱلشيوعية ٱلسوفيتية فتعطلت جميع سبل ٱلتطور فى مجتمعاتها وتوسعت ٱلفجوة ٱلتطورية بينها وبين ٱلمجتمعات ٱلمدينية (ٱلبورجوازية) فى جميع ٱلأرض.
لقد تابع أصحاب مفهوم ٱلعلمانية فى بلادنا مفهومهم ٱلمحرّف إلى جانب مفهوم ٱلقومية ٱليهودى. وأقاموا سلطة ما يسمى نخبة قومية قريشية (سلفية يهودية) نهجت منهاج ٱلدكتاتورية ومنعت ٱلتطور فى جميع جوانب عيشنا. وٱنتهكت بفظاظة حقوق ٱلإنسان ومنعت بغلاظة ٱلحريات ٱلشخصية ودمّرت عيش ٱلقرية وقطعت ٱلسبيل على مفهوم ٱلمدينة.
لقد زعم أصحاب مفهوم ٱلعلمانية فى بلادناۤ أنهم يسعون لإقامة دولة قومية ومجتمع لا يرتبطان مع مفاهيم ومواقف دينية. وزعموا ٱلفصل بين تكوين ٱلدولة وهيمنة مفاهيم ٱلدين بكلِّ ألوانها وشُعبها عليها. وكان شعارهم "ٱلدين للّه وٱلوطن للجميع" هو إعلانهم عما يزعمون. إلاۤ أنّ عدد ووزن ٱلكهنوت فى دولة ٱلقوم قد ٱزداد وطغى على ٱلدين وعلى ٱلناس وعلى تعليمهم. وصارت دولتهم ٱلقومية هى ٱلأكثر يهودية فى تاريخ ٱلناس.
أما أصحاب فكرة ٱلسيكيولاريزم فى ٱلغرب فقد أرادوا من فكرتهم ٱلمحمولة بكلمة ٱلسيكيولاريزم دولة مدينية لا تخضع لسلطة وصيطرة ٱلكنيسة. وهم لم يعلنوۤا أنّ دولة ٱلسيكيولاريزم ملحدة وتمنعٱلدين. إلاۤ أنهم أعلنوۤا أنّ ٱلفرد هو إنسان حرّ ومسئول عن ٱختياره وأنّ ٱلدولة ترعى حقّ ٱلأفراد فى ٱختياراتهم مؤمنة كانت أم ملحدة. كما ترعى حقّ ٱلجماعات ٱلقومية ٱلمختلفة فى لسانهم ٱلخاص. وحقّ ٱلطوآئف ٱلدينية ٱلمختلفة فى مناسكها.
وكنت فى مقال "ٱلتحريف وأثره على ٱلإدراك" قد عرضت لتأثير ٱلتحريف على ٱلإدراك. وسبق لى وتسآءلت فى مقال "فصل ٱلدولة عن ٱلدِّين" هل يمكن حقًّا فصل ٱلدولة عن ٱلدِّين؟
وبعد أن عرضت لمفهومى عن ٱلدين بعيدا عن تأثير ٱلتحريف قلت ما رأيته أنه لا فصل للدولة ٱلمدينيّة عن ٱلدِّين. وأن ميثاق ٱلدولة ٱلمدينية هو دينها ٱلذى يحكم سنَّ ٱلتشريع فيها. ورأيت أنّ ٱسم ٱلمدينة وميثاقها وسلطة دولتها يأتى من ٱسم ٱلدِّين وميثاقه. وأن ٱلفصل ٱلمطلوب عن ٱلدولة ومؤسساتها هو للمؤسسات ٱلطآئفية وليس للدين. فٱلدين هو ناموس ٱلحقّ substantive law (ٱلقوانين ٱلموضوعية فى ٱللغة). ومَن ينفصل عن هذا ٱلدين يضيع عن ٱلحقِّ. وهو ما فعله ٱلكهنوت فىۤ أوروبا فصنعوا ٱلظلم وٱلظلمات فيها. وبسقوط سلطتهم وصيطرتهم بدأ ٱلنور بٱلانتشار فىۤ أوروبا وما زال يتابع ٱنتشاره. وٱلظلم وٱلظلمات هو ما فعله كهنوت ٱلمسلمين وٱلقوميين ٱليهود فى بلادنا. وهم ما زالوا فى مواقع ٱلسلطة وٱلصيطرة يفعلون.
كما قلت أنّه على ٱلعلمانيين ٱلإنسانييّن فى بلاد ٱلشّام عمومًا (وهم فرع من ٱلعلمانيين ٱلذين يتمسكون بشرعة حقوق ٱلإنسان) أن يستبدلوا ٱسم عَلمانى ٱلمحرّف بٱسم مدينىّ إن كانوا طلاب دولة مدينيّة تقوم على ميثاق بين أهلها يحكم تشريعها ٱلمتحرك. وليفترقوا به عن سلطة ٱلطاغوت فى بلادنا بسبب ما تدعيه هذه ٱلسلطة بٱلعلمانية لنفسها. فلا حاجة للعلمانيين ٱلإنسانيين بهذا ٱلمفهوم ٱلذى جآء به ٱلتحريف وٱشتهرت به سلطة ٱلطاغوت ٱلتى دأبت على سلوك يعادى ٱلمدينية وٱلإنسانية وما زالت على سلوكها.
ولن يكون لهؤلآء ٱلعلمانيين من شأن فى بلادنا من دون هذا ٱلتفريق ومن دون ٱلعمل على ميثاق مدينىّ يسعىٰۤ أتباعه لتحريض ٱلناس من أجل تغيير سلطة ٱلطاغوت فى بلادهم وإقامة سلطة دولة مدينة مكانها.
فما نريده هو سلطة دولة مدينة فيدرالية ديمقراطية. ترعى وتصون حقوق ٱلإنسان كفرد (ذكر وأنثى) ٱقتصاديا وٱجتماعيا وفكريا. وكجماعة قومية ذات لسان خاصٍّ. وكطآئفة دينية لها بيوتها وأساليبها ٱلدينية من دون إكراه ومن دون إلغآء ومن دون إلحاق. ولا حاجة لنا بمفهوم أصله لغو وتشتهر به سلطة ٱلطاغوت فى بلادنا ٱلتى لم ترَ أنّ للفرد أىّ حقٍّ من أىِّ لونٍ خارج مصالحها ٱلسلطوية.
وما حدث بٱلأمس وٱليوم بٱسم ٱلعلمانية فلا علاقة له لا بٱلأمس ولن يكون له علاقة ٱليوم بٱلمجتمع ٱلمدينىّ ولا بٱلديمقراطية ولا بحقوق ٱلإنسان. وما هو إلا عمل مرضىٰ ٱلوسواس ٱلخناس ٱليهود وقد دفعوا بمجتمعاتناۤ إلى خلف جميع ٱلمجتمعات.
أما ٱلعيش ٱلمدينىّ فهو منتشر فى جميع بلاد دول ٱلسيكيولاريزم فى ٱلغرب وهو من أعمال ٱلمدينيين ٱلذين يتبعون ميثاق ٱلمدينة ويحرضون ٱلناس للاعتصام به.


ٱلعمل ٱلسياسىّ بهداية كتاب ٱللّه

يرى ٱلمفكرون ٱلإسلاميون أنّ ٱلقرءان لم يحمل شيئا مما يتعلق بٱلعمل ٱلسياسىّ. وأنّه يغيب منه ٱلتشريع ٱلسياسىّ بٱستثنآء ٱلقول "وأمرهم شورى بينهم". وٱلقول "وشاورهم فى ٱلأمر". كذلك هو قولهم عن غياب ما يتعلق بٱلصّلوٰة وما يتعلّق بٱلزّكوٰة. فيقول هؤلآء (بفعل ٱلمنهاج ٱلذى يرون به) أنّه لا توجد فى ٱلقرءان مفاهيم تقطع فى مسألة ٱلسلطة ٱلسياسية وفى ٱلعلاقة بين ٱلسلطة وأهل ٱلبلد ولا كيف تقوم ٱلصّلوٰة ولا كيف ومقدار ٱلزّكوٰة. وأن هذا ٱلغياب للبيان فى ٱلمسألة ٱلسياسية ومسألة ٱلصّلوٰة ومسألة ٱلزّكوٰة منع ٱلمختلفين على ٱلسلطة من ٱلرجوع إليه وٱلاحتكام بأحكامه. وهذا كان ٱلسبب فى ٱلاختلاف على هذه ٱلمسآئل وظهور ٱلفرق وٱلطوآئف وٱلصراع فيما بينها على ٱلسلطة ٱلسياسية من بعد ٱلنّبىّ.
كما يرى هؤلآء أن غياب أحكام ٱلتشريع ٱلمتعلق بٱلسلطة فى كتاب ٱللّه كان ورآء مسألة ٱلاجتهاد وتعدّد ٱلأرآء فيه. وهم يتابعون فى بيان أرآئهم فى دولة ٱلمدينة فيقولون أنهاۤ أرست أسسا لسلطة تتولى نشر رسالة ٱلإسلام بوسيلة ٱلفتوحات ٱلتى جعلت رجال ٱلسلطة ٱلفاتحين يتبعون ما وجدوه من أسس للسلطة فى ٱلبلاد ٱلتىۤ أخضعوها لسلطتهم.
إلاۤ أنّهم على ٱلرّغم من ٱلجهد ٱلكبير ٱلذى بذلوه فى نظرهم فى هذه ٱلمسألة لم يتوقفوۤا أمام ميثاق ٱلدولة ٱلتىۤ أسسها ٱلنّبىّ فى يثرب ولم يطيلوا ٱلنظر فى كتاب ٱللّه. وهم لا يزالون على رأيهم فى سلطة ٱلخلافة وٱلفتوحات علىۤ أنها ٱمتداد تطورىّ لدولة ٱلمدينة. وكان رأيهم فى صناعة ٱلنّبىّ ٱلسياسية أنّها تحويل للقبآئل ٱلأعرابية إلىۤ أمّة ودولة. وهم يزعمون فى رأيهم هذاۤ أنّ ٱلنّبىّ فعل ذلك سندًا لدين توحيدىّ. وقد عمل على ٱلانتقال من مفهوم وحدانية ٱللّه وٱلعبودية له إلى ٱلسياسة وٱلسلطة وٱلدولة ٱلواحدة وٱلعبودية لها.
ويرى هؤلآء أن تقسيم ٱلقرءان إلى سور مكية وأخرى مدنية هو فى ٱلأولى تهيئة فكرية ونظرية. وهو فى ٱلثانية ٱنتقال بٱلأفكار وٱلنظرية إلى طور بنآء ٱلدولة وٱلسلطة ٱلواحدة. وهم يجدون بما فعله ٱلنّبىّ تراجعا عن دعوته مؤقتا لحفظ كيان ٱلدولة (راجع كتاب ٱلإسلام وٱلسياسة- عبد ٱلإله بلقزيز).
مثل هذه ٱلأرآء ليست بعيدة عن ٱلبيان ٱلعربىّ وحسب. بل هىۤ أرآء يأتى بهاۤ أشخاص يستمدون مفاهيم ٱلدين من تاريخ ءابآئهم (كهنوت طوآئف وسلطة طاغوت). وهم يمتنعون عن ٱلعمل فى كتاب ٱللّه مباشرة وعن عمل ٱلاستباط من بيانه بفعل ما ٱكتسبوا من تطور فى ٱلعلم. وهم يظنون أنّ ٱلبيان ٱلعربىّ ٱلموصوف بأنّه "بيان وتبيان لكلِّ شىء" تغيب منه ٱلأحكام ٱلشرعية ٱلسياسية. وهذا جعلهم يرجعون إلى ما قاله ٱلأبآء ٱلمتسلطون بزعم ٱجتهاد لهم. وما زالت هذه ٱلأرآء ٱليوم تصيطر على جميع ٱلمفاهيم ٱلسياسية للمسلمين. وهىۤ أرآء تقطع بٱلقول وكأنها جآءت بٱلحقِّ ٱلمبين فى ٱلمسألة.
إنّ ما يسمّى ٱجتهادا للأولين فى ٱلمسألة ٱلسياسية لم يكن إلا لوضع ٱلأسس لسلطة مطلقة يرافقها كهنوت يتولى شرعنتها. وبعد أن تثبتت تلك ٱلأسس ٱلسلطوية ٱلمكهنتة صار ٱلاجتهاد محرّمًا وصار ٱلدين هو دين ٱلسلطة وكهنوتها. وهذا دفع ٱلسلطتين للعمل على صناعة ما سمّى شروحا تظهران بها كتاب ٱللّه صعبا ومبهما وتحذّران من ٱلاقتراب منه وتقطعان ٱلسبيل على ٱلاستنباط. وجعلهما عملهما هذا تبحثان عن صناعة أحاديث توافق سلطتهما وتلغى بيان كتاب ٱللّه.
أما ٱليوم فقد صار ٱلقرءان أكثر ٱلكتب ٱستعمالا فى ٱلجدل ٱلعلمىّ ٱلجارى بين ٱلدين وٱلعلم. وهو جدل يحقق تقاربا وألفة بين نظرية ٱلعلم وٱلدين تزداد يوما من بعد يوم. وقد بدأ يتراجع أمام هذا ٱلجدل ٱلعلمىّ كلّ من ٱلفكر ٱلشعرىّ ٱلمدّاح للسلطة وٱلفكر ٱلكهنوتىّ ٱلمشرّع لها. فقد حدّد ٱلقرءان مسألة ٱلجدل بٱلقول ٱلعربىّ "كلّ شىء عنده بمقدار" وهو تحديد لأصل تكوين أىّ شىء. وهذا ما قال به ٱلعلم فى ٱلحق بٱلكوانتوم من بعد سير أصحابه فى ٱلأرض ينظرون فى كيف بدأ ٱلخلق. وبذلك صار ٱلجدل بين ٱلدين وٱلعلم أكثر تحديدا. فٱلعدّة ٱلشيئية "ٱثنا عشر شهرا" كما يبيّن بلاغ ٱلقرءان ٱلعربىّ. وبيّن أن هذه ٱلعدّة زوجية:
"ومن كُلِّ شىءٍ خلقنا زوجين لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ" 49 ٱلذاريات.
وهذا ما وجده ٱلناظرون "ٱثنا عشر كواركا" لا توجد إلاۤ أزواجا "الكواركات لا تظهر إلاّ لاصقة بعضها ببعض على شكل أزواج تسمى الميزونات mesons" ("اكتشاف كوارك القمة" مجلة العلوم الأمريكية ـ المجلد 14 ـ العدد 5 ـ 1998).
كذلك هو ٱلأمر مع ٱلقوى ٱلفاعلة فى تكوين أشيآء من ٱلعدّة. فهى فى ٱلبلاغ ٱلعربى "تسعة عشر". وهو ما توصّل إليه بلاغ ٱلعلم بٱلقول "تسعة عشر بوزونا" وهم يسعون لتوكيد هذا ٱلعدد بٱكتشاف ٱلبوزون ٱلتاسع عشر.
بهذا ٱلتحديد يقترب بلاغ ٱلعلم من بلاغ ٱلدين. ولا يبقى بينهماۤ إلا وسيلة ٱلبلاغ. فٱلعلم ما زال يبلغ عمّا يكشفه بواسطة ويندوز وأوفس وورد أدنى من ويندوز وأوفس وورد ٱلبلاغ ٱلعربىّ. وهذا هو سبب ٱستمرار ٱلجدل بينهما.
أما ٱلعمل ٱلسياسى فما زال بعيدا عن نظرية ٱلعلم. كمآ أنّه بعيد عن دين ٱلحقِّ. وما يقوله ٱلمفكرون ٱلإسلاميون عن خلوّ ٱلقرءان من ٱلتشريع ٱلسياسىّ لا يتطابق مع ٱلحقِّ ٱلمبين فيه. فهو مبيّن ومحدّد فيه بٱلقول ٱلعربىّ "كلّ نفس بما كسبت رهينة". ٱلذى يجعل من ٱلشخصية ٱلفردية ركن أىّ مجتمع مدينىّ. وهو قول ينفى مسألة ٱلاجتهاد وٱلشرح وٱلفتوى وأىّ قول يطلب خضوعا جماعيّا. فٱلاجتهاد عمل فرد قد ينفع ٱلمجتمع وقد لا ينفعه. وفى ٱلقول ٱلعربىّ أمر للشخص يقول له "ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنّ ٱلسّمع وٱلبصر وٱلفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسئولا". كماۤ أنّ ٱلقول ٱلعربىّ بيّن من دون إعجام فى قوله "وقل ٱلحقٌّ من ربِّكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر". ووكّد بيان هذا ٱلحقِّ بٱلقول "لآ إكراه فى ٱلدِّين". وفيه بيان لمسألة ٱلهداية وحصرها بٱللَّه "قل ٱللَّه يهدى للحقِّ أفمن يهدىۤ إلى ٱلحقِّ أَحقُّ أن يُتبع أمَّن لا يهدىۤ إلاّۤ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون". وفى ٱلبلاغ ٱلعربىّ إعلان لحقّ ٱلكافرين بدينهم ولحقّ ٱلمؤمن بدينه "لكم دينكم ولىَ دينِ".
وهذا يبيّن أنّ ٱلحزبيّة ٱلدينيّة لا تلتزم بعربيّة ٱلقول فى ٱلقرءان. وقد صنعت مما زعمت به شرحا وٱجتهادا دينًا يكفر ويكره ٱلناس على صناعته ويمنع ٱلسّمع وٱلبصر وٱلفؤاد وٱلمسئولية ٱلشخصية فى ٱلاستنباط وٱلموقف.
وهؤلآء إن أرادوا لدينهم حزبا سياسيا ينافس ٱلأحزاب ٱلأخرى وٱلأفراد فى ٱنتخابات وفق ميثاق مدينة فلن يكرههم أحد على ما يريدون. فٱلأحزاب ٱلمسيحية ما زالت فى ٱلمنافسة فى كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا من دون أن تفسق على ٱلميثاق فيهما. بل إنّ ٱلمسيحية هى ٱلتى هزمت طاغوت ٱلشيوعيّة فى بولونيا وعملت على تأسيس مجتمع ميثاقىّ فيها. وإنّ ٱلبروتستانتيّة تهيمن علىۤ أوروبا ٱلشمالية وبريطانيا وٱلولايات ٱلمتحدة ٱلأمريكية وجميعها مجتمعات ميثاقيّة. فٱلسياسة ٱلدنيوية وٱلسياسة ٱلدينية جدلية زوجية لا تفترقان. وكلّ مَن يحاول ٱلفصل بينهما يسقط فى ٱلتطرف بقوّة ٱلجهل بسنّة ٱلأزواج. وهذه ٱلعلاقة ٱلجدلية تحتاج إلى ٱلنظر ٱلعلمىّ وٱلعلم أنّ ٱلحياة لا تتطور من دونها.
إنّ إدراك ٱلدين هو إدراك لهداية ٱلمطلق للنسبى. وٱلسياسة هى من ٱلنسبى لأنها من عمل ٱلناس. وٱلمطلق هو ٱلدين ٱلذى يتجلّى فىۤ إدراك ٱلناس إدراكا نسبيّا. وعندما تزعم جماعة دينية قولا مطلقا فى ٱلدين تكون قد أغرقت نفسها فى ٱلتطرف بفعل ظنهاۤ أنّ قولها فى ٱلدين هو ٱلدين علىۤ إطلاقه. فٱلقول ٱلعربىّ "وأمرهم شورى بينهم" يخضع لإدراك ٱلناس ٱلذين يبحثون ويتشاورون فى مسألة من مسآئل عيشهم. وإدراك ٱلناس نسبىّ متحول صعودا وهبوطا. فلا توجد حالة إدراك مطلق للدين فىۤ أىّ وقت من أوقات ٱلناس لا فى ٱلماضى ولا فى ٱلحاضر. وأولئك ٱلذين يزعمون بٱلحاكميّة ٱلدينيّة هم يزعمون زعم فرعون "مآ أُرِيكُم إلاَّ مآ أََرى" وفيه أنّ ٱلرأى واحد هو رأى فرعون. وفى قبول ٱلناس لهٰذا ٱلزعم يسوق فرعون إلى ٱلتألّه بقوة جهله بسنّة ٱلأزواج "يَـٰۤأيُّها ٱلمَلأُ ما عَلِمتُ لكم من إلٰهٍ غيرِى". ويتولّد عن هٰذا ٱلزعم وتصديقه فعل طاغوت فى وجه أىّ موقف يخالفه "قالَ لَئِن ٱتَّخَذتَ إلٰٰهًا غيرِى لأجعلنَّكَ من ٱلمسجونينَ". كذلك هو ٱلأمر مع ٱلذين ينادون بفصل ٱلدولة عن ٱلدين. فهم يطلبون فرعونا أخر لا يؤمن بٱلوحدة ٱلجدلية بين ٱلدنيوىّ وٱلدينىّ.
لقد جآء فى ٱلقرءان أنّ ٱلأشيآء أزواج. وأنّ ٱلعلم بهٰذا ٱلحقّ تحكمه سنّة ٱلتّشابه (دليل كلمة متشابه أوسع من دليل كلمة نسبى). كما جآء فيه حقّ أخر يبين أنّ ٱللَّه "ليس كمثله شىء". وٱلمأرب من ٱلعلم بهٰذا ٱلحقّ أن لا يخلط ٱلناس بين ٱلأشيآء ٱلزوجيَّة وبين ٱللَّه. كما جآء فيه بيان عن توزّع ٱلناس بين ٱلعلم وٱلجهل تبعًا لاكتساب كلّ منهم "إنَّ ٱلّذين ءَامنوا وٱلّذين هَادُوا وٱلصَّـٰبئينَ وٱلنَّصَـٰرى وٱلمَجُوسَ وٱلّذينَ أَشرَكُوا إنَّ ٱللَّه يفصِلُ بينهم يومَ ٱلقيٰمةِ إنَّ ٱللَّه على كلِّ شَىءٍ شهيد". وهٰذا يبيّن جدلية بين مواقف عالمين ومواقف جاهلين. وهذه ٱلمواقف تبقى قآئمة طالماۤ أن ٱلحياة ٱلإنسانية قآئمة. وأنّ ٱلفصل بين أصحابها لا يحدث فى ٱلحياة ٱلدنيا. ومن يزعم بٱلفصل بينهم جاهل بسنّة خلق ٱلنفس ٱلتى تفعل وفق منهاجين متناقضين "فجور- تقوى". وهذان ٱلمنهاجان يمثلان حالة ٱلزوجية فى كلِّ شىء. فٱلكوارك وزوجه لا يوجدان منفصلين. وٱلحرب ٱلتى يشنها طرف من ٱلناس يريد منهاۤ إلغآء ٱلطرف ٱلأخر ما يفعله بحربه هو إلغآء لنفسه فى نفس ٱلوقت.
بهذه ٱلسنّة ٱلجدلية تنشأ مواقف مختلفة للناس بيّنها ٱلبلاغ ٱلعربىّ. وٱلحكم ٱلذى يقوم على ٱلعلم بهذه ٱلسنّة وجدليتها لا يعتدى علىۤ أصحاب ٱلمواقف ٱلأخرى ولا يسخر. بل يسعى للتواثق مع أصحابها علىۤ إقامة حكم يوافقها ويشرّع حق كلٍّ مِّنهم فى ٱلإفصاح عن موقفه بكل ٱلوسآئل بٱستثنآء ٱلاعتدآء وٱلإثارة وٱلفساد.
إذن ما يزعم به ٱلمفكرون ٱلإسلاميون من غياب لمسألة ٱلسلطة ٱلسياسية من ٱلقرءان يدحضه نظر مَن لا يقفُ ما ليس له به علم. كماۤ أنّ ميثاق دولة ٱلمدينة ٱلمنورة يبيّنه.
فى ٱلقرءان هداية للتى هى أقوم. وبما تشابه لى من هدايته صنعت ميثاقا نشرته فى مقال "ما هى حاجتناۤ إلى ٱلميثاق؟" وقد بيّنت فيه ٱختلاف ٱلمطلوب تواثقهم وتوزعهم بين طوآئف دينية وأفراد مؤمنين وأخرين ملحدين. فٱلميثاق لا يكون إلا بين مختلفين تتحدّد فيه حدود كلٍّ منهم. وما فى ٱلميثاق ٱلمنشور يتعلق بمكان صغير على ٱلأرض هو سوريا. وكم يكون عظيما لوۤ أنّ أهل ٱلأرض يتواثقون جميعهم عليه. لعلّهم ينعمون بٱلعيش فى سلام مهتدين بٱلندآء وٱلأمر ٱلموجّه إلى ٱلذين يعلمون ويعقلون "يٰۤأيُّها ٱلَّذين ءامنوا ٱدخلوا فى ٱلسَّلم كاۤفَّة". فٱلذين ءامنوۤا أينما ورد هذا ٱلوصف يدلّ على ٱلذين يعلمون ويعقلون. ومنهم مَن يؤمن بٱللّه وٱليوم ٱلأخر ومنهم مَن لا يؤمن. وهم مختلفون فيما بينهم فى ٱلموقف ٱلفكرىّ ٱلمتعلّق بٱلدينىّ. وهو ما يبيّنه ٱلبلاغ ٱلعربىّ:
"إِنَّ ٱلَّذينَ ءَامنوا وٱلَّذينَ هادُوا وٱلنَّصٰرَى وٱلصَّٰبِئين مَن ءَامَنَ بِٱللَّهِ وٱليومِ ٱلأَخِرِ وَعَمِلَ صٰلحًا فلهم أَجرُهم عِندَ رَبّهم ولا خَوف عَلَيهِم ولا هم يحزنُون" 62 ٱلبقرة.

جدلية وحش إنسان

جآء قولى فى مقال "فى فقه ٱلدليل بيان" أنّ ٱلأسمآء "بشر ءادم إنسان ناس" وردت فى كتاب ٱللّه ٱلقرءان لتدلّ علىۤ أربع ءايات لكلّ مِّنها طورها. وقلت أنّ هذه ٱلأسمآء ترجع جميعهآ إلىۤ أصل واحد هو طورها ٱلأوّل "بشر". وهو لون حىّ مِّن ٱلدّوآبِّ ٱلوحشيّة ٱلتى تعيش فى قطيع. ثمّ صنع ٱلصانع للبشر ٱلوحش نفسًا "ونفس وما سوَّـٰها" وحمّلها منهاجا زوجيًّاdouble program "فألهما فجورها وتقوـٰها" وجعلهاۤ أمّه mother board. فصار ٱلبشر بمنهاج ٱلفجور وحشا فاجرا. وصارت له ٱلغلبة على جميع ٱلوحوش "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك ٱلدمآء".
ثمّ نفخ ٱلصانع فىۤ أمِّ ٱلبشر ٱلروح windows وفيه جميع ٱلأسمآء. فٱصطفٰه وجعله ءادمَ "وعلَّم ءادم ٱلأسمآء كلَّها". وبه بدأ طور ٱلأية إنسان. وهو فرد يتميز عن ٱلقطيع بعمله على توسيع ٱلمنهاج ٱلثانى "ٱلتقوى". وهو بسعيه وسيره فى ٱلأرض ينظر ويعلم يعيش مع أمثاله وفق عهد وميثاق يحفظ لكلٍّ منهم شخصيته.
لقد أراد ٱلصانع من منهاج ٱلتقوىۤ أن يتطور ٱلبشر ٱلوحش إلى ناس ينوس فى ٱلأرض ينظر ويعلم ويصير خليفة للصانع "إنّى جاعل فى ٱلأرض خليفة". وهذا ٱلمنهاج لا يفعل من دون سعى للعلم وٱلخبرة وٱلعمل على تزكية أفعال ٱلنفس "قد أَفلَحَ مَن زَكَّـٰها. وقد خاب من دسَّـٰها". فٱلنفس زوجية ٱلمنهاج وفيها منهاج ٱلفجور هو ٱلأساس ٱلذى جعل من ٱلبشر "يفسد فيها ويسفك ٱلدمآء" ويتغلّب على جميع ألوان ٱلوحوش ٱلأخرى. وبين هذين ٱلمنهاجين جدلية للصيطرة علىۤ أفعال ٱلبشر. وكلّ منّا لا يعمل على ٱكتساب ٱلخبرة فى ٱلمنهاج ٱلثانى "ٱلتقوى" يصيطر علىۤ أفعاله منهاج ٱلفجور ٱلأساس فيبقى بشر وحش فاجر.
فى كتاب ٱللَّه بيان عن متابعة ٱلصانع أفعال تنزيل ٱلمناهج فى نفس ٱلبشر وإرسال ملٰئكة "روبوتات" لتدريبه على ٱلخبرة فى تلك ٱلمناهج وصولا به إلىۤ ءاية إنسان. ثمّ جعل من ٱلبشر رسلا وأنبيآء وملوك لضرب ٱلمثل على تلك ٱلأية. ومن بعد أطوار من أفعال ٱلتنزيل وٱلتدريب كان عيسى ٱبن مريم هو ٱلمثل علىۤ ءاية ٱلإنسان ٱلخليفة. وقد بيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ تفوّق ٱلذين يتبعون ٱلإنسان ٱلمثل عيسى ٱبن مريم:
"وجاعِلُ ٱلَّذينَ ٱتَّبَعُوكَ فوقَ ٱلَّذينَ كَفَرُوا إلى يومِ ٱلقِيٰمةِ" 55 ءال عمران.
وجاۤء فى ٱلبلاغ بيان سبيل ٱتبـاعه:
"أَنّى قد جِئتُكُم بأَيةٍ من رَبّكُم أَنِّىۤ أخلُقُ لَكُم مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيئَةِ ٱلطَّيرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طيرًا بإذن ٱللَّه وأُبرئُ ٱلأَكمَهَ وٱلأَبرصَ وأُحِى ٱلمَوتَى بإِذن ٱللَّه وأُنَبِّئُكُم بما تَأكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فى بُيُوتِكُم إِنَّ فى ذلِكَ لأيةً لَّكُم إن كُنتُم مُؤمِنِين(49) وَمُصَدّقًا لِّما بينَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّورـٰةِ ولأُحِلَّ لكُم بَعضَ ٱلَّذى حُرّم عَليكم وجِئتُكُم بأَيَةٍ مِّن رَّبّكُم فَاتَّقُوا ٱللَّه وأَطِيعُونِ(50)" ءال عمران.
منهاج عيسى موجّه للاهتمام بٱلخلق ("أخلُقُ لَكُم" ٱلخلق هو ٱلتصميم فى ٱللّغة) وٱلتسوية (ٱلتنفيذ فى ٱللّغة) وعلوم ٱلطب (وأُبرئُ ٱلأَكمَهَ وٱلأَبرصَ وأُحِى ٱلمَوتَى) وعلم ٱلتغذية (وأُنَبِّئُكُم بما تَأكُلُونَ) وعلم ٱلاقتصاد (وما تَدَّخِرُونَ فى بُيُوتِكُم). فٱلذين صاروا من ٱلبشر يخلقون ويسوّون ويعلمون هم ٱلذين خبروا بمنهاج ٱلتقوى وهو منهاج عيسى ٱلمثل علىۤ ءاية ٱلإنسان. أمّا ٱلذين لم يخبروا بٱلمنهاج صيطر عليهم منهاج ٱلفجور ومنعهم من ٱتباع ءاية عيسى ٱلإنسان فلم يخلقوا ولم يسوّوا ولم يعلموا. وهم بفجورهم قد كفروا بمنهاج ٱلتقوى ٱلذى ضُرب عليه ٱلمثل فىۤ ءاية عيسى. وقد جاۤء عنهم فى ٱلبلاغ ٱلعربىّ ما يبيّن حالهم فى ٱلحياة ٱلدنيا وٱلأخرة:
"فأَمَّا ٱلَّذينَ كَفَروا فأعذّبُهُم عذابًا شديدًا فى ٱلدُّنيا وٱلأَخِرَةِ وما لهم من نَٰصرينَ" 56 ءال عمران.
لقد ضرب ٱلصانع ٱلمثل على ٱلإنسان ٱلشخص فىۤ ءاية عيسى. وبعد فترة ضرب ٱلمثل على ٱلمجتمع ٱلذى ينشأ فيه ٱلإنسان فى دولة ٱلمدينة ٱلمنوّرة. وعلى بنىۤ ءادم مسئولية ٱلاختيار. وعلى ٱلإنسان أن يعلم أنّ فعل منهاج ٱلفجور يبقى مهيمنا علىۤ أكثرية ٱلبشر "وما يؤمن أكثرهم بٱللَّه إلاّ وهم مشركون". وٱلمشركون هم جاهلون لا يسعون للنظر وٱلخبرة وٱلعلم. وهم ٱلذين يحتمون بفجورهم فى قطيع بشرىّ.
كما على ٱلإنسان أن يعلم أنّ طاعة هذه ٱلأكثرية ٱلفاجرة ضلال عن سبيل ٱللّه "وإن تطع أكثر من فى ٱلأرض يضلّوك عن سبيل ٱللَّه إن يتبعون إلاّ ٱلظنَّ وإن هم إلاّ يخرصون". وعليه أن يعلم أنّ هؤلآء يدفعون بمن يرتقىۤ إلىۤ إنسان (فرد وجماعات) إلى ترك ٱلدِّيار وٱلنّوس عن ٱلقطيع مهاجرًا فى ٱلأرض. وعندما يلتقى ٱلناس ٱلمهاجرون فى مكان من ٱلأرض يتفاهمون ويتواثقون ويتعاهدون فيما بينهم علىۤ ٱلاستقرار وعلىۤ أسلوب عيشهم وعلى تشريع يحميهم من سلطة منهاج فجور ٱلبشر ٱلجاهل. وبٱلميثاق وٱلعهد ينعمون ويزدادون وسعًا فى ٱلعلم ووسعًا فى ٱلرزق ووسعًا فى ٱلقوّة ويتفوقون. وبتفاهمهم وتواثقهم يتبعون ءاية عيسى كما بيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ "وجاعِلُ ٱلَّذينَ ٱتَّبَعُوكَ فوقَ ٱلَّذينَ كَفَرُوا إلى يومِ ٱلقِيٰمةِ". ويبقىۤ أمامهم عقل ميثاقهم مع ميثاق ٱلمثل ٱلمدينىّ. وإذا غفل مَن يأتِ من بعدهم عن سبيل ميثاقهم وعهدهم وعن سبيل فعل منهاج ٱلفجور فىۤ أنفسهم وفى عيشهم يضيّعون ٱلميثاق وٱلعهد ويتحوّل مجتمعهم إلى قوّة تدفع بٱلإنسان إلى ٱلنّوس بعيدًا عنه.
لقد بيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ رسلا وأنبيآء أمثلة على ٱلناس ٱلذين يتبعون منهاج ٱلتقوى. وكان أول مثل على ٱلإنسان ٱلذى ينوس هو نوح ٱلمصطفى من بنى ءادم. وجآء بعده أبو ٱلمسلمين إبراهيم ومعه لوط. ثمّ جآء يعقوب بعد ٱلأب إبراهيم. وهو ٱلذى ناس وهو مريض فاقد لبصر عينيه. ولم يستسلم ولم يضعف فى قوّة ٱندفاعه فى نوسه وهجرته. وهذا جعله صاحب ٱلاسم إسراۤءيل ٱلذى يبقى ينوس مبتعدا عن دياره حتى موته. وقد صار أبًا لكلِّ مَن ينوس مهاجرا عن ديار ٱلبشر ٱلقطيع. وقد بيّن ٱلبلاغ تفضيله لأبنآء إسراءيل على ٱلعالمين تفضيلا غير مقطوع "يٰبنىۤ إسرٰۤءيل ٱذكروا نعمتىَ ٱلَّتىۤ أنعمت عليكم وأنِّى فضَّلتكم على ٱلعٰلمين".
وتابع ٱلصانع فى ضرب ٱلمثل على ٱلناس فى يوسف وفى موسى وفى محمد. وهؤلآء هم أمثلة على ٱلإنسان ٱلذى يتمسّك بإنسانيّته وينوس عن قومه ودياره مهاجرًا فى ٱلأرض. وهم ٱلمثل ٱلذى يبيِّن لنا ٱليوم كفر أولـٰۤئك ٱلذين يصيحون ويصرخون ويهيجون للدفاع عن ٱلدِّيار (ٱلوطن) ٱلذى تسيد فيه سلطة بشر فاجر لا تقبل بحرية للفرد ولا تقبل بتمايز للشخص ولا بمسئوليته عن عيشه. وكان ٱلمثل ٱلذى ضربه محمد هو أخر مثل على ذلك ٱلإنسان ٱلخليفة. وفى مثله يظهر للبشر أنّ سبيل صيرورته إنسانا ناسًا هو فى صناعة تحتاج لفهم وإدراك ٱلحقوق ٱلشخصية وإلى عيش ميثاقىّ وتشريع مدينىّ.
لقد كثرت ٱلأبحاث ٱلمتعلقة بٱلتشريع. وألوانها محكومة بمنهاج أهل كلِّ بلد. فكل بلد يسنّ تشريعه إما وفق منهاج ٱلتقوى فيأتى متوافقا مع ميثاق ٱلبلد ٱلاجتماعى ويبيّن من دون لبس وسيلة ٱلمشرّع فى صناعته للتشريع. وإمّا وفق منهاج ٱلفجور فيأتى متوافقا مع إرادة صاحب ٱلسلطة ٱلذى يحتلّ موقع ٱلمشرّع وٱلتشريع. وٱلأمثلة على ٱلأسلوبين موجودة فيما يسمّى دستورا لدى ٱلمشرَّعين. فٱلدكتاتور أو ٱلفرعون بٱلِّسان ٱلعربىّ يصنع دستورا يوافق سلطته كراعٍ لقطيع ترجع إليه جميع ٱلتشريعات بحيث تزيد من سلطته وٱحتكاره لأمور وحاجات ٱلقطيع ٱلذى يرعى. وهو ٱلذى يتربع على عرش سلطته من دون أن يترك للقطيع حقّ ٱلاشتراك فى تشريع عيشه. وهو يسنّ ٱلتشريع من دون أن يسأل ٱلقطيع عن أىِّ أمر يتعلق بٱلتشريع ٱلذى يسنّه وٱلقطيع يخضع. كذلك يفعل فى ٱلمسآئل ٱلتعليمية وٱلسياسية وٱلأمنية وغيرها من ٱلمسآئل ٱلمتعلقة بمكان تسلطه وٱلقطيع يهلل له ويكبر.
أما ٱلحاكم فى ٱلبلد ٱلميثاقى فإنّ ما يسنّه من تشريع يخضع للميثاق ٱلذى يوجّه ٱلحاكم إلى تداول مشروع تشريعه مع أهل ٱلبلد وٱلتشاور مع ممثليهم ٱلمنتخبين. وكذلك يطلب ٱلاستفتآء ٱلعام على ٱلمشروع قبل سنّه تشريعا. فلا يكون للحاكم أىّ حقٍّ فى سنِّ ٱلتشريع من دون موافقة ممثلين منتخبين لأهل ٱلبلد وفق أسس ٱلميثاق.
بعد هذه ٱلمقدمة أسأل عن لون ٱلتشريع فى بلادنا ٱلشامية. ويؤسفنىۤ أن أقول إنه من ٱللّون ٱلفرعونى غير ٱلميثاقىّ. كمآ أنّ تاريخ بلادنا ٱلشامية يخلو من ٱلتشريع ٱلميثاقىّ بٱستثنآء ٱلمثل ٱلمضروب فى ميثاق دولة ٱلمدينة وٱلذى دفنه ٱنقلاب ٱلقوم قريش فى سقيفة بنى ساعدة. كما يؤسفنى ٱلقول أنّ جميع ٱلمفكرين ٱلشاميين وعلى رأسهم ٱلمفكرون ٱلإسلاميون وٱلقوميون لا يهتمون بميثاق دولة ٱلمدينة. بل هم يزدرون به ويقولون عنه أنّه "كتاب موادعة يهود" لآ أكثر. وهم يرون فيما جآء من سلطة بٱنقلاب قريش فى سقيفة بنى ساعدة أنّه ٱمتداد لسلطة ٱلنّبىّ فى ٱلمدينة. وهم بما يرونه من تقديس فى سلطة ٱلانقلاب وفيما وضعته من تشريع لتمكين تسلطها على ٱلمجتمع أنّ تشريعها وما جآء بعدها هو أعلىۤ ألوان ٱلتشريع ويلبسونه لباسا مقدسا.
وكان فى بداية ٱلقرن ٱلماضى ومن بعد تفكك ٱلإمبراطورية ٱلعثمانية مع نهاية ٱلحرب ٱلكونية ٱلأولى قد نشأت بلدان منها بلادنا ٱلشامية تعاون بعض أهلها مع سلطة ٱلانتداب ٱلفرنسى وٱلانكليزى على صناعة مواثيق "دساتير" مقلّدة لدساتير ٱلغرب. ولكن سرعان ما ماتت هذه ٱلصناعة بفعل ٱفتقار أكثر أهل ٱلبلاد للعلم بٱلحقوق ٱلشخصية وللخبرة فى صناعة ٱلتشريع ٱلميثاقىّ. وقد هاجت ٱلأكثرية بفعل صيطرة منهاج ٱلفجور وثارت فى وجه ٱلدساتير ٱلغربية ومهَّدت ٱلسبيل ليحلّ مكانها دستور سلطة ٱلفرعون ٱلذى يستند إلى تاريخ فرعونىّ غير ميثاقىّ يعادى ٱلشخصية ٱلمسئولة وٱلعيش ٱلمدينىّ ٱلذى ضرب ٱلنّبىّ عليه ٱلمثل فى دولة ٱلمدينة وفى ميثاقها ٱلمنشور فى "ٱلصحيفة".
وٱليوم هناك مثل عن فعل منهاج ٱلفجور فيما يحدث فى ٱلعراق. فمن بعد مرور قرن على تفكك سلطة ٱلإمبراطورية ٱلعثمانية فإنّ أهل ٱلعراق وبعد أن تخلّصوا من جديد بمساعدة قوّة خارجية من سلطة ٱلفرعون ٱنقسموۤا إلى فريقين. وهم يتقاتلون فيما بينهم من أجل لون ٱلسلطة. ومنهم فريق دفع ويدفع إلى ٱلقتال بٱسم ٱلمقاومة ٱلوطنية وٱلقومية وٱلإسلامية فى وجه ٱلقوّة ٱلمخلّصة. وهو ٱلفريق ٱلذى يريد أن تكون ٱلسلطة فى ٱلعراق من لون سلطة ٱلفرعون ٱلفاجر ٱلذى يرى فى شعوب ٱلعراق قطيعا لا يدرى بٱلحاجة إلى حقوق شخصية ولاۤ إلى ميثاق عيش مدينىّ. وهو ٱلذى يعلن ما يرـٰه بٱلقول "مآ أُرِيكُم إلاَّ مآ أََرى". فلا رأى إلا رأيه. وعلى ٱلقطيع ٱلخضوع وٱلتأليه "ما عَلِمتُ لكم من إلٰهٍ غيرِى" ومَن يرفض ويحتجّ على سلطته يسجن "قالَ لَئِن ٱتَّخَذتَ إلٰٰهًا غيرِى لأجعلنَّكَ من ٱلمسجونينَ".
ويرى معظم ٱلمفكرين فى بلادنا ٱلشاميّة (بما فيهم أولئك ٱلذين يزعمون ٱلديمقراطية) أن مفهوم ٱلفيدرالية ما هو إلا مؤامرة تريد تقسيم ٱلبلاد. وهؤلآء ٱلمفكرون لم يظهروۤا إدراكا لمفهوم ٱلدولة ٱلفيدرالية ٱلاتحادية ٱلذى تحتمه فروق ٱلتطور بين أهل ٱلبلد ٱلواحد. فٱلتشريع ٱلذى يناسب تطور ٱلكوردى فى ٱلشمال قد لا يناسب كورديّا أخر فى بغداد. ومثله ٱلشيعى وٱلسّنىّ وأخرون. وأهل ٱلعراق يبيّنون من توزعهم على قوميات وطوآئف أنّ أكثرهم ما زال فىۤ أطوار مختلفة من أطوار منهاج ٱلفجور. وهم لا يعلمون أنّ ٱلسبيل ٱلذى يأخذهم إلى طور إنسان هو ٱلميثاق وٱلدولة ٱلاتحادية ٱلفيدرالية.

هل يقبل ٱللّه بٱلتجنيد ٱلإلزامى فى ٱلجيش؟

يعلل ٱلوطنيون وٱلقوميون وأمثالهم من ٱلأيديولوجيين ٱلمتسلطين فى ديارهم تجنيد ٱلشباب وإلزامهم بخدمة محددة فى ٱلجيش بزعم ٱلدفاع عن ٱلوطن. فهل فى بلاغ ٱللَّه ٱلعربىّ ما يبين قبول ٱللّه لهذا ٱلزعم ٱلوطنى وٱلقومى؟
بل هل فيه ما ينهى عن إكراه ٱلناس على ذلك ٱلتجنيد؟
أرىۤ أنَّه على ٱلذين يظنون أنَّهم ملاقوا ٱللَّهِ أن يستندوۤا إلى ٱلأمر ٱلعربى فى جوابهم على ٱلسؤال. وأن لا يقبلوا مخالفة بلاغ ٱللَّه ٱلعربىّ مهما كان لون ٱلعقوبة ٱلتى ستلحق بهم. فبلاغ ٱللّه يطلب من كلِّ فرد مسئوليته ٱلفردية:
"ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ ٱلسَّمع وٱلبصر وٱلفؤاد كلُّ أولـٰۤئك كان عنه مسئولاً" 36 الإسرآء.
وبٱتباع ٱلفرد لسمعه وبصره وفؤاده تتأسس مسئوليته فى ٱلدنيا وفى ٱلأخرة. وسيعلم أن ٱلدين لا يقوم فى ٱستبدال ٱلبلاغ ٱلعربىّ بمزاعم ٱلوطنية وٱلقومية وغيرها من ٱلمفاهيم ٱلتى تنقض قيام ٱلدين ٱلذى يبينه ٱلقول ٱلعربىّ "لآ إكراه فى ٱلدين". وسيعلم أنّ كلّ زعم يُكره ٱلناس فىۤ أىِّ عمل هو كفر بٱلبلاغ ٱلعربىّ وهدّ لِّلدِّين فى حياتهم. وسيعلم أنّ طاعة ٱلناس لسلطة تستخفُّ بهم وتُكرههم على ٱلعمل (سوآء ءكان ما تسميه بأيام ٱلتطوع أم بٱلخدمة ٱلإلزامية فى جيشها) تجعلهم فاسقين. وهو ما يبيّنه ٱلبلاغ ٱلعربىّ:
"فَٱستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُم كَانُوا قَومًا فَٰسِقِينَ" 54 ٱلزخرف.
فإذاۤ أمرت ٱلسلطة فردًا أن يخدم فى جيشها (وهو لا يريد طاعة أمرها كما لا يريد ولا يستطيع مواجهة بطشها به) فأمامه أرض ٱللّه ٱلواسعة يهاجر فيها. وهو ما بيّنه له بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ:
"يَعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤا إنَّ أرضِى وَٰسِعة فَإيَّٰىَ فَٱعبُدُون" 56 ٱلعنكبوت.
فإن لم يعبد أمر ٱللّه وٱختار عبادة أمر ٱلسلطة يظلم نفسه ويلقى عقابه فى ٱلأخرة عند ربِّه:
"إنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلمَلَـٰۤئِكَةُ ظَالِمِىۤ أَنفُسَهُم قالُوا فِيمَ كُننُم قالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِى ٱلأرضِ قالُوا أَلَم تَكُن أَرضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهاجِروا فِيها فَأُولَـٰۤئِكَ مَأوَـٰٰهُم جَهَنَّمُ وَسَآءَت مَصِيرًا" 97 ٱلنِّسآء.
أمّاۤ إذا ٱختار عبادة أمر ٱللّه فقد وعده ٱللّه بسعة فى تطور نفسه وعيشه:
"وَمَن يُهاجِر فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِد فِى ٱلأَرضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً" 100 ٱلنِّسآء.
وفى ٱلمثل ٱلذى ضربه ٱلرسول محمّد فى دولة ٱلمدينة ٱلمنورة وجيشها يظهر لنا جيشًا مُّتطوعًا لاۤ إكراه فيه. وهو ما تبيّنه ٱلصَّحيفة (دستور دولة ٱلمدينة):
"ٱلبند ٱلسابع وٱلأربعون: .. وَإِنّهُ مَن خَرَجَ آمِنٌ وَمَن قَعَدَ آمِنٌ بِالمَدِينَةِ إلا مَن ظَلَمَ أَو أَثِمَ".
وكان ٱلرسول قد كتب هذا ٱلبند من ٱلدستور مهتديًا ببلاغ ٱللّه ٱلعربىّ:
"فقٰتل فى سبيل ٱللَّه لا تُكلَّفُ إلا نفسَكَ وحرِّضِ ٱلمؤمنينَ عسى ٱللَّهُ أن يَكُفَّ بأسَ ٱلذين كفروا وٱللَّهُ أشدُّ بأسًا وأشدُّ تنكيلا" 84 ٱلنسآء.
"يَٰۤأيُّها ٱلنَّبِىُّ حَسبُكَ ٱللَّه ومَنِ ٱتّبَعَكَ من ٱلمُؤمِنِين/64/ يَٰۤأيُّها ٱلنَّبِىُّ حَرِّضِ ٱلمُؤمنين على ٱلقتالِ/65/" ٱلأنفال.
ويظهر من هٰذين ٱلأمرين أنَّ إكراه ٱلنَّاس على ٱلقتال يخالف ٱلرسالة. وتكليف ٱلنفس لا يجعلها تُكره نفسًا أخرى. فٱلإنسان ٱلفرد يتطوع للقتال من دون إكراهٍ عليه "يَٰۤأيُّها ٱلنَّبِىُّ حَسبُكَ ٱللَّه ومَنِ ٱتّبَعَكَ من ٱلمُؤمِنِين". ويجعل ٱلَّذين يخالفون فى مسألة ٱلقتال يحتجون عليه من دون خوفٍ من أراۤئهم وعلى عيشهم وحياتهم.
سبيل ٱللَّه حدّده ٱلقول ٱلعربى "لاۤ إكراه فى ٱلدين. لست عليهم بمصيطر. وأمرهم شورى بينهم. وشاورهم فى ٱلأمر. لكم دينكم ولى دينِ. قل ٱلحقُّ من ربِّكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر. كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة". وكل سلطة تُكره ٱلناس على ٱلخدمة فى جيشها وعلى ٱلقتال فيما تكلِّفُ به نفسها هى سلطة إكراه تخالف ٱلقول ٱلعربىّ. وفى عبادة أمرها ظلم للنفس وفسق يتبعه خزى فى ٱلدُّنيا وعقاب فى ٱلأخرة "مَأوَـٰٰهُم جَهَنَّمُ وَسَآءَت مَصِيرًا".
لقد قاتل فى جيش ٱلمدينة متطوعون. وهم ٱلذين يظنون أنّهم ملاقون ٱللَّه وعددهم قليل. وقد نصرهم ٱللّه على جيوش عدوّهم ٱلقومىّ قريش ٱلكثير ٱلعدد. وكان لمتطوعين مثلهم مع ٱلملك طالوت نصر مثله من قبل. وعن هؤلآء ٱلمتطوعين جآء فى ٱلبلاغ ٱلعربىّ:
"فلمَّا فَصَلَ طالُوتُ بٱلجُنُودِ قالَ إنَّ ٱللَّهَ مُبتَلِيكُم بِنَهرٍ فَمَن شَرِبَ مِنهُ فَلَيسَ مِنِّى ومَن لَّم يَطعَمهُ فَإنَّهُ مِنِّىۤ إلا مَنِ ٱغتَرَفَ غُرفَة بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنهُ إلا قليلا مِّنهُم فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَه قالُوا لا طَاقَةَ لَنَا ٱليومَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ قال ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهُم مُّلَٰقُوا ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرة بِإِذنِ ٱللَّهِ وٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبرينَ" 249 ٱلبقرة.
ويبيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ أنّ كثرة ٱلعدد لا تأتى بنصرٍ. وأنّ فئة قليلة مؤمنة تغلب ٱلكثرة. وقد بيّنت حروب ٱلأعراب مع دولة إسراءيل أنّ ٱلنّصر لا يأتى بزيادة ٱلإكراه لتكثير عدد ٱلجيوش. وإن عاد ٱلأعراب عن سلطة ٱلإكراه وقلّ عدد جيشهم بتسريح ٱلمكرهين فقد يعود عليهم ذلك بٱلنصر إن ٱعتصموا بحبل ٱللّه. وهذا ما يبيّنه بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ:
"إن تَستَفتِحُوا فَقَد جَآءََكُمُ ٱلفَتحُ وَإن تَنتَهُوا فَهُوَ خَير لَّكُم وإن تَعُودُوا نَعُد وَلَن تُغنِىَ عَنكُم فِئَتُكُم شَيئًا ولَو كَثُرَت وأنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلمُؤمِنِينَ" 19 ٱلأنفال.
ولكى نستفتح ويأتينا ٱلفتح فعليناۤ أن نعتصمَ بحبل ٱللَّه كما يبيّن لنا بلاغه ٱلعربىّ:
"وٱعتصموا بحبل ٱللَّه جميعًا ولا تفرَّقوا وٱذكروا نعمة ٱللَّه عليكم إذ كنتم أعدآءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوٰنًا" 103 ءال عمران.
وحبل ٱللَّه هو ٱلميثاق ٱلذى يقوم على ٱلهداية بأمر ٱللَّه. وأول تأثير للهداية على ٱلناس هو فى قبولهم لمفهوم ٱلقول ٱلعربى "لاۤ إكراه فى ٱلدِّين" وبه يقيمون سلطتهم. وقد كان أهل يثرب أعدآءً لا يقبل أحدهم بٱلأخر. وبٱلميثاق (ٱلصحيفة/ ٱلدستور) صاروۤا إخونًا وبه صاروۤا أهل ٱلمدينة وهم أصحاب أول ميثاق لحقوق ٱلإنسان كفرد لاۤ إكراه عليه لا فى ٱلدين ولا فى ٱلقتال ("ٱلبند ٱلسابع وٱلأربعون: .. وَإِنّهُ مَن خَرَجَ آمِنٌ وَمَن قَعَدَ آمِنٌ بِالمَدِينَةِ إلا مَن ظَلَمَ أَو أَثِمَ").
وبهذا تكون ٱلإجابة على ٱلسؤال ٱلذى تصدَّر هذا ٱلمقال. وفيهاۤ أنّ كتاب ٱللَّه ٱلقرءان وٱلمثل ٱلرسولى فى ٱلقتال بجيشٍ من ٱلمتطوعين هو ٱلسند.
فى بلاد ٱلأعراب ٱلتى تزعم ٱلإسلام تَسِيدُ سلطة ٱلقوم ٱلتى تُكره ٱلناس على ٱلخدمة فى جيشها ويناصرها فىۤ إكراهها كهنوت يحتكر ٱلقول بٱسم ٱلدين. ومَن يحتجّ على ذلك ٱلإكراه إمّا هو فى ٱلسجن أو هو فى ٱلمهجر. فٱلذين هاجروا بسبب ٱلأذى وٱلظلم وٱلإكراه خرجوا من ديارهم وطلبوا ٱلمأوى وٱلعون من قوم أخرين. وقد أووهم وأعانوهم. ومثله ما حدث للرسول وٱلنّّبى محمد وأخرين من قومه قريش.
إنّ ظلم سلطة ٱلقوم يحدث بسبب إكراه ٱلناس على ٱتباع منهاج مهيمن من دون تعاهد ولا ميثاق. ومنه ٱلإكراه على ٱلخدمة فى جيشها. وهذا هو موقف ٱلذى يعيق ويغلق سبيل ٱللَّه ٱلمبيَّن فى ٱلقول ٱلعربى "لاۤ إكراه فى ٱلدِّين".
وإنَّ ٱلذين ءَاووا مهاجرًا لجأ إليهم وقبلوا سكنه بينهم ولم يكرهوه على ٱتباع دينهم ولا على ٱلخدمة فى جيشهم هم قوم مؤمنون معتصمون بحبل ٱللّه. ويبيّن إيمانهم وٱعتصامهم بحبل ٱللّه تعاهدهم وتواثقهم على حماية حقوق ٱلفرد فى مجتمعهم ٱلعهدى. وهم ٱلذين يفرح ٱلمؤمنون فى جميع ٱلأرض لنصرهم على ٱلظالمين. وفى ٱلبلاغ ٱلعربى بيان هذا ٱلفرح:
"الۤمۤ(1) غُلِبَت ٱلرُّومُ(2) فِىۤ أَدنَى ٱلأَرضِ وَهُم مِّن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ(3) فِى بِضعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ وَيَومَئِذٍ يفرحُ ٱلمُؤمنُونَ(4)" ٱلروم.
عن مثل هذا ٱلمجتمع ٱلعهدى ٱلمعتصم بحبل ٱللّه أمر ٱللّه ٱلمؤمن ليتطوع فى ٱلقتال دفاعًا عنه من دون أن يُكره أحدًا على ما تطوّع هو فيه. وهو بتكليفه لنفسه ضرب مثلا. وفى تحريضه ٱلناس من بعد ضربه ٱلمثل يأتى منهم متطوعون فيأتى نصر ٱللّه ويبقى سبيل ٱللّه سالكًا أمام ٱلجميع:
"فقٰتل فى سبيل ٱللَّه لا تُكلَّفُ إلا نفسَكَ وحرِّضِ ٱلمؤمنينَ عسى ٱللَّهُ أن يَكُفَّ بأسَ ٱلذين كفروا وٱللَّهُ أشدُّ بأسًا وأشدُّ تنكيلا" 84 ٱلنسآء.
وكما سبق ٱلقول فإنّ سبيل ٱللَّه قد حدّده ٱلقول ٱلعربى "لاۤ إكراه فى ٱلدين. لست عليهم بمصيطر. وأمرهم شورى بينهم. وشاورهم فى ٱلأمر. لكم دينكم ولى دينِ. قل ٱلحقُّ من ربِّكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر. كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة". وكل وطن يكره ٱلناس على ٱتباع دين سلطته وعلى ٱلخدمة فى جيشه وجب قتاله أو ٱلهجرة منه.

ٱليهودى وٱلاسرٰءيلى وٱلمسلم

ٱلمفكرون من شعوبنا وغيرهم يظنون أن ٱسم يهودى وٱسم إسرٰءيلى يدلان معًا على شخص واحد. وكنت قد عرضت فهمى لدليل كلٍٍّ مِّنهما فى بعض أعمالى. إلاۤ أن ٱلأمر ما زال من دون أثر على ٱلظّنِّ ٱلقآئم فى رؤوس ٱلمفكرين. ٱلأمر ٱلذى جعلنىۤ أعود إليه فى هذا ٱلمقال.
جآء فهمى لدليل ٱلاسم يهودى فى كتابى ٱلثانى "منهاج ٱلعلوم" مستندًا على دليل ٱلفعل "هاد يهود" ٱلذى تدل عليه ٱلأفعال (رجع يرجع وقبل يقبل وقرَّ يقرّ وعزَّ يعزّ ومدح يمدح). وجآء فى ٱلبلاغ ٱلعربى عن تعريف ٱلفاعلين لهذا ٱلفعل أنهم "ٱلذين هادوا وٱليهود". وبيّن أنّهم ٱلذين قست قلوبهم فهى كٱلحجارة أوۤ أشدّ قَسوة. وهم يمدحون مفاهيم ءَابآئهم ٱلذين عاشوا فى ماضٍ ميتٍ وبها يعتزّون. وهم يرجعون إليهم فيما كانوا عليه من مفاهيم. ويقبلون ويمدحون ويقرّون بمفاهيم ءَابآئهم من دون حركة عنها:
"وإذا قِيلَ لهم ٱتَّبعوا مآ أنزل ٱللَّهُ قالوا بل نتَّبعُ مآ أَلفينا عليه ءَابآءَنا" 170 البقرة.
وهم فى ٱتباعهم لأبآئهم يظهرون أنهم محكومون بمنهاجٍ ثابتٍ لا يتغير تدلنا عليه كلمة "أمة":
"بَل قَالُوۤا إِنَّا وَجَدنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰۤ أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَىٰۤ ءَاثـٰرِهِم مُّهتَدُونَ" 22 الزخرف.
وهم بهذا ٱلمنهاج يوجِّهون حاضرَهم إلى ذٰلك ٱلماضى ٱلميِّت يدفعهم ظنّهم أنّ ءَابآءَهم مصدر لِّكلِّ علم:
"وما سمعنا بهٰذا فىۤ ءابآئِنا ٱلأولينَ" 36ٱلقصص.
وهم يُكرهون ٱلناس على ٱتباعهم ويعملون على غلق سبيل ٱللَّه أمامهم كما فعلوا مع إبرٰهيم. ولهم ٱليوم ذات ٱلقول وٱلموقف. فهم لا يتبعون ماۤ أنزل ٱللَّه سوآء ءَكان كتاب موسى أم ٱلقرءان.
لقد رأيت أنّ ٱسم "ٱليهود" هو ٱسم جمع يطابق ٱلفعل ٱلحاضر "يهودُ". ومنذ زمن بعيد من ٱليوم عُرف أكثر قوم موسىٰ دون غيرهم بهذا ٱلاسم. وهم إلى ٱليوم يجهدون حرثيًّا وعلميًّا وصناعيًّا ويوجِّهون جهدهم لمأربٍ أساسٍ هوۤ إقامة مملكة داود من ٱلموت. فحاضرهم ومستقبلهم مسخَّر لِّهٰذا ٱلمأرب. وهٰذا يجعلهم يهودًا.
وجآء فيما رأيته أنَّ ٱسم يهود يلتصق بجميع ٱلناس ٱلذين يتمسَّكون بٱلنَّظر إلى ورآء. سوآء ءَكانوا من قوم موسىٰۤ أم من قوم أخرين. فكلُّ سلفىٍّ يهودىّ. ويوكِّد هٰذا ٱلفهم ٱلنَّظرُ فى كتاب موسىٰ وكذٰلك ٱلنَّظر فى ٱلقرءان. فأكثر قوم ٱلرّسول محمّد (بٱلأمس وٱليوم) يتبعون ءَابآءَهم. وهم لا يؤمنون بأنّ ٱلقرءان بيان وتبيان لكلِّ شىء. بل هم يؤمنون بأنّ كتب ءَابآئهم (من أمثال ٱلبخارى ومسلم وٱبن تيميّة وغيرهم من ٱلأبآء) هى مصدر ٱلعلم ٱلدينىّ ٱلواجب ٱلاتباع. وكلّ مَن يتبع ماۤ أنزله ٱللَّه فى كتابه ٱلقرءان ولا يلتفت إلىۤ ءَابآئهم وكتبهم يطلقون عليه ٱسم "قرءانىّ". وهم بإطلاقهم هذا ٱلاسم عليه يبيّنون ريبهم بكتاب ٱللّه ٱلذى تركوه وهجروه ليتبعوا ما زعم به ٱلأبآء من سنّة للرّسول.
وجآء فهمى لاسم إسرٰۤءيل علىۤ أنّه يدل علىۤ إنسانٍ ٱختار فى عيشه أن يكون متغلِّبًا على قوى ٱلعطالة فيندفع ناظرًا من دون توقف سالكًا سبيل ٱللَّه. وهو ٱسم لَّا يتعلق بقوم أو شعب من ٱلشعوب. بل هو ٱسم فرد يتغلَّب على قوى ٱلعطالة فى عيشه. يسير يبصر وينظر فىۤ ءَايات ٱللَّه ويصدِّق بصره وسمعه ونظره فتتحرك مفاهيمه عن مفاهيم ٱلأبآء. ومثله هو ٱلذى يصير أبًا لِّأبنآء يسيرون على منهاجه.
وسوآء ءَكان ٱسم إسرٰءيل من دليل ٱلفعل "سَرى يَسرِى" ٱلذى يدل على كشف ٱلشىء وٱلأمر وظهوره وزوال ما يعجمه. أم كان من دليل ٱلفعل "أَسَرَ" ٱلذى يدل على ٱلقيد وٱلحبس وٱلمسك وٱلوثق وٱلربط. فهو ٱسم يأخذ معه من ٱلاسم "ءيل" دليل ٱلانطلاق فى حركة لا ذمّ فيها ولا توقف. وقد أخذت بدليل ٱلفعل "أسر" فى فهم دليل ٱسم إسرٰءيل. ورأيت أنّه ٱسم يُلحق به ٱسم قوّة ٱلانطلاق ٱلموجّهة "ءيل" ٱلذى بيَّنتُ فى كتابى "أنبآء ٱلقرءان" أنّ دليله هو نقيض دليل ٱلفعل "ذمّ". ("ٱلإلُّ" نقيض "ٱلذَّمِِّ". وفى دليل "ذمَّ" ٱلأفعال (كَلَّ ووقف وتأخَّر وضَعُفَ وقَطَعَ). وذَمَّ هو فعل ٱلتَّراجع وٱلتَّكوير بعد هلاك قوَّة ٱلانطلاق وٱلانتشار. أمَّا "ٱلإِلُّ" فهو قوَّة ٱلانطلاق. وبها يجرى ٱلتَّغلُّب على قوَّة ٱلسّكون وٱلعطالة. وأرى فى ٱستعمال ٱلعامَّة لكلمة "ذمَّ" ما يبيِّن ٱلدَّليل ٱلصّواب. فهم يصفون ٱلشَّىء ٱلَّذى يتراجع وينكمش على نفسه بكلمة "ذَمََّ". فٱلذَّمُّ يحدث بعد هلاك إِلٍّ فيه). وفهمت أنّ ٱلاسم يدلّ على مَن يقيّد ويحبس ويمسك ويوثق ويربط نفسه لتكون فى حال حركة لا تتوقف عن ٱلانطلاق فى حركة ٱلنظر وٱلبحث وٱلعلم بوسآئل بصره وسمعه وفؤاده. وهو ما تدل عليه كلمة واحدة فى لسان ٱلبلاغ ٱلعربىّ هى كلمة "قانت". وهذا ٱلحال يبيّن مسألة ٱلتفضيل لصاحب هذا ٱلاسم فى كتاب ٱللَّه من دون ٱلنظر إلى قومه:
"يٰبنىۤ إسرٰۤءيل ٱذكروا نعمتىَ ٱلَّتىۤ أنعمت عليكم وأنِّى فضَّلتكم على ٱلعٰلمين" 47 ٱلبقرة.
هذا ٱلتفضيل لا ٱنقطاع له. وبنىۤ إسرٰۤءيل هم ٱلذين يتابعون منهاج إسرٰءيل فى متابعة ٱلانطلاق وٱلتغلب على قوى ٱلذمّ. ومنهم ٱلذى يتابع ٱلمنهاج فيرتقىۤ إلى طور معرفى وعلمى جديد. وهؤلآء يحتفظون بٱلاسم "بنىۤ إسرٰۤءيل". أمَّا ٱلذين يذمّون يتراجعون ويتوقفون ولا يتابعون ٱلمنهاج فهم يثبتون عند طور مِّن أطوار منهاج إسرٰۤءيل فيسقط عنهم ٱسم إسرٰۤءيل ويحلُّ عليهم ٱسم ٱليهود.
وهٰكذا يتبين لنا ٱلفرق بين ٱلاسمين. فٱسم بنىۤ إسرٰۤءيل للذين يسيرون على سبيل ٱللّه ناظرين عالمين. وٱسم ٱليهود للذين يتمسكون بما وصل إليهم من ٱلأبآء من ٱلمعرفة وٱلعلم. وهؤلآء لا يصدقون بطور أعلى ويكفرون بكلِّ جديد فيكون كفرهم سببًا لِّلعنهم:
"لُعِنَ ٱلَّذين كفروا من بنىۤ إسرٰۤءيل على لسان داود" 78 ٱلمآئدة.
ٱلَّذين كفروا هم ٱلَّذين يكفرون بصرهم ونظرهم عن ٱلأيات ولا يصدِّقون بٱلجديد فيها ويتعطَّل سيرهم إلىۤ أمامٍ. وهؤلآء يُبعدون ويُطردون عن درجات سُلَّم ٱلتَّطور وٱلاصطفآء ٱلمعرفى وٱلعلمى. ويصيبهم بذٰلك ٱلخزى ويتخلف عيشهم عن عيش ٱلذين يتابعون منهاج إسرٰۤءيل. وهٰذا ما يدلُّ عليه ٱلفعل "لعن" وفى دليله دليل ٱلأفعال (بعد وطرد وخزى).
لقد ورد فى كتاب موسى ٱلأمر ٱلتالى:
"لا تنظر إلى ورائك" سفر ٱلتكوين - ٱلإصحاح 19 (19).
وهٰذا ٱلأمر موجَّه إلى ٱلنَّبى لوط. وبيّن أنَّ ٱلنظر إلى ورآء يوقف فاعله عن ٱلسير على سبيل ٱللَّه ٱلمنير ويمنعه من ٱلتطور ويسقطه فى دآئرة ٱلتخلف ٱلمميت:
"ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملحٍٍ" ٱلإصحاح 19 تكوين (26).
ويبين هٰذا ٱلقول أنَّ ٱلذى ينظر إلى ورآء يصير كٱلملح لا يصلح لنبات حىٍّ. وجآء تصديق هٰذا ٱلأمر فى ٱلقرءان:
"ولا يلتفت منكم أحد" 81 هود.
ٱلذين يلتفتون هم ٱلذين يوجهون بصرهم إلى ورآء فتعمىۤ أبصارهم عن سبيل ٱللَّه ٱلمنير. وهؤلآء هم ٱليهود. وهؤلآء يسخِّرون جميع ٱلقوى ٱلتى بين أيديهم لخدمة ما هو ميِّت وفى ماضٍ بعيدٍ. فيختارون فى عيشهم مواقف تتبع منهاج ٱلأبآء ويوقفون للناس فى سبيل ٱللَّه يكرهونهم على ٱتباع مواقفهم. وفى توجُّههم يوقعون أنفسهم فى صراع مع ما هو قآئم على ٱلمكان. فينشأ قتل وتهجير. ويتعزز ٱلسير فى طريق ٱلحرب وٱلعدوان وٱلقتل. كما يُعزَّز ٱلظَّنّ أنَّ ما فعلوه من أجل ميِّت هو طريق ٱلخلاص لأنفسهم!.
أمّا منهاج إسرٰۤءيل فيقوم على ٱلانطلاق وٱلحركة فى ٱلمفاهيم وهو يصدِّق ٱلنبوَّة ويصدِّق ٱلأيات ٱلمبصرة. وهو منهاج ٱلمصطفين ٱلذين يصدقون أطوار ٱلنُّبوَّة وٱلرِّسالة حتى ٱلكمال فى رسالة ٱللَّه ٱلمبينة للناس جميعًا (ٱلقرءان).
ويبيّن ٱلبلاغ ٱلعربى أنّ عيسىٰ ٱبن مريم يتوجَّه برسالته ونبوَّته إلى بنىۤ إسرٰۤءيل وليس إلى ٱليهود كما يُظنُّ:
"وقال ٱلمسيح يٰبنىۤ إسرٰۤءيل ٱعبدوا ٱللَّه ربِّى وربَّكم" 72 ٱلمآئدة.
فرسالته ونبوَّته موجهتان إليهم أينما كانوا ومن أىِّ لون بشرىٍّ. لا كما يُظنُّ أنها رسالة خاصة بـ ٱليهود:
"ورسولا إلىٰ بنىۤ إسرٰۤءيل أنِّى قد جئتُكم بـءَـايةٍ مِّن رَّبِّكم" 49 ءال عمران.
فٱلذين صدَّقوا من بنىۤ إسرٰۤءيل تابعوا طريق كمال ٱلإصطفآء ونكص ٱلذين كفروا بها:
"فـءَـامنت طآئفة مِّن بنىۤ إسرٰۤءيل وكفرت طَّآئفة فأيَّدنا ٱلذين ءامنوا علىٰ عدوِّهم فأصبحوا ظٰٰهرين" 14 ٱلصَّف.
لقد رأيت أنَّ رسالات ٱللَّه منهاج ذوۤ أطوار كما هى مناهج ٱلكومبيوتر. وفى كل طور من أطوار ٱلرسالات يجرى تنزيل وتثبيت قسم من ٱلمنهاج إلىۤ أن يكمل بٱلمنهاج ٱلعربى ٱلمبين (ٱلقرءان) وهو منهاج ٱلبيان وٱلتبيان لكلِّ شىء. وما زال ٱلناس إلى يومهم هذا لا يصدقون به. وهم يعملون وفق أجزآء مِّنَ ٱلمنهاج غير كامل. وحال ٱلناس ٱليوم وفى كلِّ ٱلأرض هو حال ٱليهودى ٱلذى يمتنع عن تنزيل ٱلمنهاج ٱلأعلى. لأنّه لم يصدِّق أنَّه منهاج منزّل مِّن عند ٱللَّه. وهذا يجعله سلفىّ ٱلمنهاج "يهودىّ".
إنَّ منهاج ٱلقرءان هو منهاج "ميكٰل" ٱلأعلى بيانًا من طور منهاج إسرٰءيل. وهو منهاج ٱلذى يعلم ويوقن بٱلغيب ويسلم للَّه ربّ ٱلعالمين. وصاحبه يحمل ٱسم "مسلم" ٱلذى بدأ مع إبرٰهيم. وهو من دليل ٱلفعل "سَلَمَ" ٱلذى تدلّ عليه ٱلأفعال (برئ وخلص ورضى وصلح وقرَّ وخضع وسجد وركع).
وماۤ أفهمه من كتاب ٱللَّه ٱلقرءان أنَّ ٱلمسلم هو ٱلذى يطور منهاج نفسه وهو ينظر فى ٱلحقِّ ٱلمشاهد وٱلغآئب. فيعلم بٱلشهادة ويعلم بٱلغيب ويوقن بهما وينفق على تطوير وسآئل نظره وبصره فى ٱلحقّ. وهو يعقل بين بيان ٱللّه وما خرج به بيانه من ٱلحقِّ فيسلم للَّه ربِّ ٱلعالمين ويعلم أنّ ٱلإسلام هو دين جميع ٱلحقِّ من ٱلذَّرِّ وحتىۤ أكبر نجم فى ٱلسَّمآء. ٱلكلُّ يسلم لسنت ٱلرَّبِّ ٱلفاعلة فى ٱلتكوين substantive law (ٱلقوانين ٱلموضوعية فى ٱللّغة ٱلفصحى) ٱلحىِّ وٱلميِّت على ٱلسَّوآء. فكلُّ ٱلأشيآء دينها ٱلإسلام لرَّبِّ ٱلسَّمٰوٰت وٱلأرض أرادت ذلك أم لم تريده:
"إنَّ ﭐلدِّين عِندَ ﭐللّهِ ﭐلإسلامُ" 19ءال عمران.
وهو يعلم أنّ ٱلإنسان وحده يُترك له أمر ٱلإتباع وٱلركوع لسنَّتِ ٱلرَّبِّ. فهو يولد مسلمًا لِّهٰذا ٱلدِّين. وبعد أن يتعلم ٱلأسمآء كلَّها ويزداد علمه فى بيوت مجتمعه وقومه. له أن يتخذ من ٱلحقِّ موقفًا. وأمامه دين جميع ٱلحقِّ ودين جميع ٱلباطل. وهو وحده ٱلمسئول فى خيرته بين ٱلدينين.
لقد بين ٱلبلاغ ٱلعربى توزّع ٱلناس على مواقف فى عيشهم:
"إنَّ ٱلّذين ءَامنوا وٱلّذين هَادُوا وٱلصَّٰبئينَ وٱلنَّصَٰرى وٱلمَجُوسَ وٱلّذينَ أَشرَكُوا إنَّ ٱللَّه يفصِلُ بينهم يومَ ٱلقيٰمةِ إنَّ ٱللَّه على كلِّ شَىءٍ شهيد" 17 ٱلحج.
ولم يعدَّد بينهم موقف "ٱلمسلم". فٱلذين ءامنوا هم ٱلذين يصدقون ويطمأنون لقولهم فيما كشف عنه نظرهم وتعرَّفوا عليه وعلموا بجريانه فى ٱلأشيآء. ومنهم ٱلعاملون فى علوم ٱلمقدار (ٱلرياضيات) وٱلاختبار وٱلعمران فى كلِّ وقت. ومنهم من يوصل إلى موقف قريب من ٱلإسلام للَّه ربِّ ٱلعالمين فيوجِّه علمه بٱلتوافق مع سنَّت ٱلرَّبِّ فى ٱلتكوين فلا يخالفها ولا يفسد فيه. ومنهم من يوصل إلى موقف بعيد عن ٱلإسلام ويوجِّه علمه حيث يظنُّ أنَّه ينفعه. فيعمل فسادًا فى ٱلأرض وفى ٱلحرث وفى ٱلنَّسل.
إنَّ موقف ٱلإسلام للَّه ربِّ ٱلعالمين يلزمه منهاجه ٱلمبين لكلِّ شىء. إذ لا يمكن لإنسان أن يعمل موافقًا لِّمنهاج مُّبينٍ مِّن دون أن يكون ٱلمنهاج مثبتا فى فؤاده كما تثبت مناهج ٱلكومبيوتر. وٱلمسلمون قليلون فى كلِّ وقت وفى كلِّ مجتمع. وهو ما نفقهه من ٱلبلاغ ٱلعربى:
"ثُلَّة مِّنَ ٱلأوَّلين(13) وقليل مِّنَ ٱلأخرينَ(14)" ٱلواقعة.
ودليل ٱسم "ثُلَّة" من دليل ٱلفعل "ثّلَّ" وهو يدل على جمع كثير. فٱلأوَّلون كثيرون وهم ٱلذين شهدوۤا ءايات جرت أمامهم فصدقوها بفعل قوَّة ٱلبصر وهؤلآء هم من بنىۤ إسرٰءيل. أمَّا ٱلأخرون فٱلذى يصدِّق منهم قليل. لأن ٱلعاملين فى ٱلبحث ٱلعلمى ٱلذين يكشفون ما فى ٱلغيب من ءايات ويكشفون عن سنَّة جريان ٱلأية فى مخابرهم عددهم قليل. ومن هذا ٱلقليل هو ميكٰل ٱلمسلم للَّه ربِّ ٱلعالمين وهو ٱلذى يعقل ما خرج به نظره مع ٱلكتاب ٱلمبين ويدرك ٱلتصديق وٱليقين.
ومن ٱلأخرين مَن له قلب مفتوح وهو فى بحوثه وٱختباراته يرى ما يدفعه للتصديق وٱلاطمئنان لكلِّ بيان جديد. ومنهم مَن له قلب مغلق ٱلمنهاج فإنَّ ما يرـٰه يجعله يصدق بٱلحدث ٱلمخبرى ولٰكنه لا يوصل إلى تصديق ٱلعلم بٱستقرار ٱلنَّبإ ٱلأتى فى بيان ٱلبلاغ ٱلعربى. لأنَّ منهاج كلٍّ مِّنهم يمثِّل طورًا مِّنَ ٱلأطوار ٱلتى سبقت منهاج ٱلطور ٱلعربى. وهم يحصرون تصديقهم بٱلطور ٱلذى وقف كلّ مِّنهم عنده. وهو ما بينه عيسى ٱبن مريم عن ٱستطاعة ٱحتمال تلاميذه:
"إنَّ لى أُمورًا كثيرةً أيضًا لأقول لكُم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا ٱلأَن وأمّا متى جآء ذاك روح ٱلحقِّ فهو يرشدكم إلى جميع ٱلحقِّ" الإصحاح 15 إنجيل يوحنا.
وفى هٰذا ٱلقول بيانُ أنَّ ٱلتصديق يلزمه تطور فى ٱستطاعة ٱلاحتمال. وهٰذاۤ أرى له شبهًا فى مناهج ٱلكومبيوتر.
إنَّ ٱلذين ءامنوۤا (أينما ورد هٰذا ٱلقول فى ٱلقرءان) لا يدل على ٱلمسلمين للَّه ربِّ ٱلعالمين. فٱلمسلم للَّه ربِّ ٱلعالمين مؤمن بما كشفه نظره وبيّنه وهو يعقل بيانه مع بيان ٱللَّه ٱلعربىّ فيؤمن بٱللَّه وٱليوم ٱلأخر ويعمل صالحًا. وقد بدأ هٰذا ٱلاسم ومنهاجه مع إبرٰهيم:
"وإذ قال إبرٰهِم ربِّ أرنِى كيف تُحِى ٱلموتىٰ قال أوَلَم تؤمِن قال بلىٰ ولٰكن ليطمئنَّ قلبى" 260 ٱلبقرة.
هو "إبرٰهِم" قبل تنزيل وتثبيت منهاج ٱلاطمئنان فى قلبه. وقد طلب إبرٰهِم ٱلمنهاج من ربِّه بقوله "أرِنىۤ" (أى ٱجعل قلبى يرى). وهٰذا تطور فى قدرة قلب إبرٰهِم على ٱلنظر وٱلرأى. وليس بصر ٱلعين هو ٱلمطلوب كما يُظنُّ. وبعد تنزيل وتثبيت ٱلمنهاج صار ٱسمه "إبرٰهيم". فظهرت فى ٱسمه ٱليد "يـ" بعد ٱلشبكة "هـ" وصار توجيه ٱلشبكة مؤيد بٱليد "يـ". وبذلك صار إبرٰهيم أبًا للمسلمين:
"مِّلَّةَ أَبِيكُم إبرَٰٰهِيمَ هُوَ سَمَّٰكُمُ ٱلمُسلِمِينَ مِن قَبلُ" 78 ٱلحج.
وأتوصل إلى فهم دليل ٱلاسم مسلم. فأرىۤ أنّه صاحب ٱلموقف ٱلذى يسجد (يخضع من دون علم وإرادة) ويركع (يخضع بعلم وإرادة) لسنَّت ٱلرَّبِّ فلا يخالفها فيسلم فى قوله وعمله لهٰذه ٱلسُّنَّت. وسبب موقفه هٰذا هو فى خبرته بمنهاج ٱلِّسان ٱلعربى ٱلمبين ٱلذى نزَّله فى قلبه وثبته فى فؤاده فصار يقرأه ويعمل بأعلى طور لسانى وأعلى طور لقوّة ٱلانطلاق وٱلحركة فى ٱلسير على سبيل ٱللَّه. وهو طور ميكٰل ٱلذى يعلو بقدرته على ٱلنظر بٱلكيل ٱلنانومترى على طور إسرٰءيل ٱلذى يتبع بنظره قوة بصر عينه. وهو يصدِّق أطوار ٱلِّسان جميعها بدءًا مِّن ءَداب إلى محمد.
مثل هٰذا لم يذكره ٱلبلاغ (17 ٱلحجّ) مع أصحاب ٱلمواقف ذات ٱلمنهاج ٱلأدنى. فٱلمسلم للَّه ربِّ ٱلعالمين يصدِّق مناهج أصحاب هٰذه ٱلمواقف فلا يعتدى عليها. وهو يعلم أنَّ ٱلفصل بينهم من أفعال ٱللَّه. فهو يصلِّى عليهم ويدعوهم بٱلتى هىۤ أحسن لتنزيل وتثبيت منهاج ٱلِّسان ٱلعربى ٱلمبين فى قلوبهم وأفئدتهم وٱلخبرة فيه. ويدعوهم للدخول فى ٱلسلم كاۤفّة. وهو يترك أمامهم سبيل ٱللَّه مفتوحًا. وبسلوكهم عليه يرتقون إلى موقف ٱلإسلام للَّه ربِّ ٱلعالمين إن أرادوا. فلاۤ إكراه فى ٱلدِّين. ولكلِّ إنسان حقّ فى ٱلسَّكن وٱلاستقرار فىۤ أرض ٱللَّه من دون إذنٍ من أحدٍ. فٱلأرض أرض ٱللَّه. لا قوميات ولا شعوب ولا حدود تمنعه من ٱلحركة وٱلترحال فى كلِّ ٱلأرض. فٱللّه هو ٱلذى يفصل بين ٱلناس يوم ٱلقيمة (17 ٱلحجّ). ولا فساد فىۤ أرض ٱللَّه من أجل طعام أو مال أو سكن. فٱلمسلم يعلم أنَّ سنَّت ٱلصلاح للحياة فى ٱلأرض ترتبط بتوقف ٱلإفساد فيها بفعل ٱلإسراف فى ٱلبحث عن ٱلثروات وٱلملك. كما يعلم أنَّ ٱلعلوَّ فى ٱلأرض بسبب ٱلمال يدفع بصاحبه إلى ٱلطامَّة ٱلكبرى فى ٱلحياة ٱلدنيا. مثل ٱلطوفان أو ٱرتفاع ٱلحرِّ فى قميص ٱلأرض (غلافها ٱلجوى). أو حدوث قدود فيه (ثقوب ٱلأزون) ٱلتى تجعل ٱلنار ٱلشمسية ٱلحارقة توصل إلى ٱلحياة فتقتلها.

مَن هو ٱلمسلم؟

فى مقال "ٱليهودى وٱلإسراۤءيلى وٱلمسلم" جوابى على هذا ٱلسؤال. وهنا توسيع فى ٱلجواب عليه.
فٱسم يهودى هو لفرد يهود إلى ٱلسَّلف ويتبع أمّتهم:
"إِنَّا وَجَدنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰۤ أُمَّةٍ وإِنَّا عَلَىٰۤ ءَاثـٰرِهِم مُّهتَدُونَ" 22 الزخرف.
فكلُّ مَن يتبع ٱلأبآء يهودىّ.
آسم إسرٰۤءيلى هو ٱسم لفرد يجاهد ليتغلَّب على قوى ٱلعطالة فى عيشه. ويعلم أنّ تخلّفه فى ٱلتفاته إلى خلف فلا يلهو فى حاضره ملتفتًا إلى ٱلأبآء. وهذا سبب تفضيله على ٱلعالمين فى بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ:
"يٰبنىۤ إسرٰۤءيل ٱذكروا نعمتىَ ٱلَّتىۤ أنعمت عليكم وأنِّى فضَّلتكم على ٱلعٰلمين" 47 ٱلبقرة.
أمّا ٱسم مسلم فهو ٱلإسراۤءيلىّ ٱلذى يتبع منهاج "ميكٰل" فى ٱلنظر وٱلبحث وٱلكيل وٱلبلاغ. فيكيّل كلَّ شىء ويكيّل قوله فيه فلا يخرص ولا يظنّ. وهو ٱلذى يوصله نظره وكيله إلى ٱلعلم بٱلغيب الۤمۤ H2g2O فيؤمن أنّه أساس لِّكلِّ شىء حىٍّ فيبدأ يدعو ويعمل على حمايته من ٱلفساد. وهو ٱلذى ينزّل ٱلقرءان فى قلبه ويثبته فى فؤاده ويعمل على عقل بلاغه ٱلمبين مع ما يخرج به نظره وبحثه وكيله وعلمه. وهو من بعد عقلهما يؤمن أنّ هذا ٱلغيب الۤمۤ هو ٱلبيت ٱلحرام H2g2O ٱلذى جعله ٱللّه قيامًا لِّلناس فيؤمن بٱللّه وٱليوم ٱلأخر (كتابى "منهاج ٱلعلوم ٱلثانى").
لقد بيّنت أنّ ٱسم مسلم من دليل ٱلفعل "سَلَمَ" ٱلذى تدلّ عليه ٱلأفعال (برئ وخلص ورضى وصلح وقرَّ وخضع وسجد وركع). فٱلمسلم هو ٱلذى طوّر منهاج نفسه إسراۤءيل ونزّل فى قلبه كتاب ٱللّه ٱلقرءان وثبته فى فؤاده ليعقل ما يخرجه نظره ويعلِّمه ويكيّله من ٱلحقِّ ٱلمشاهد وٱلغآئب مع بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ. وهو بعقله يعلم بٱلشهادة ويعلم بٱلغيب ويوقن بهما وينفق على تطوير وسآئل بصره ونظره وعلمه وكيله متابعًا طاعة ٱللَّه فى بلاغه ٱلعربىّ:
"قُل سِيروا فِِى ﭐلأرضِ فٱنظُرُوا كَيفَ بَدَأَ ﭐلخََلَقََ"20 ٱلعنكبوت.
وهو ٱلذى يصدِّق بلاغ ٱللَّه فلا يمنعه أمر ولا تشريع من ٱلنظر وٱلبحث وٱلكيل فىۤ أىِّ مسألة بما فى ذلك ٱستنساخ بشر أو ٱلعمل على ٱلخلايا ٱلجزعية جنينية كانت أم بالغة. وهو فى موقفه هذا يستند إلى بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ:
"ولقد علمتم ﭐلنّشأةَ ﭐلأولى فلولا تَذَكّرون" 62 ٱلواقعة.
فكيف سيعلم بٱلنشأة ٱلأولىۤ إذا ٱمتنع عن ٱلنظر وٱلبحث وٱلكيل فى كلِّ شىء؟
هناك دول متقدمة فى ٱلنظر وٱلعلم وٱلكيل ومع ذلك شرَّعت لتمنع عمل ٱلاستنساخ ٱلبشرى وٱلعمل على خلايا جزعية بشرية بدعوى دين وأخلاق. وموقفها هذا ورآءه مفهوم يهودى يلتفت إلى خلف لا هو إسراۤءيلىّ ولا هو مسلم.
لقد جآء قولى فى مقال "ٱليهودى وٱلإسراءيلى وٱلمسلم" أنّ ٱلمسلمين "قليلون فى كلِّ وقت وفى كلِّ مجتمع". وهم ٱلذين يعقلون ويصدقون ويطمأنون بقوّة منهاج ميكٰل وقوّة ٱلبيان وٱلتبيان لكلِّ شىء ٱلمنزّل فى قلوبهم وبه يعقلون. وقد قلت فى ذلك ٱلمقال (أنَّ ٱلذين ءامنوۤا (أينما ورد هٰذا ٱلقول فى ٱلقرءان) لا يدل على ٱلمسلمين للَّه ربِّ ٱلعالمين). أمّا ٱلمؤمن ٱلمسلم للَّه ربِّ ٱلعالمين فهو يؤمن بما كشفه نظره وبيّنه وكيّله ثمّ عقله مع بيان ٱللَّه ٱلعربىّ. وهذا هو سبيله إلى موقف ٱلمسلم ٱلمؤمن بٱللَّه وٱليوم ٱلأخر. وهو ٱلذى يعلم بقوّة كيله (ٱلنانو مترى) لماذا جعل ٱللّه ٱلكعبة ٱلبيت ٱلحرام قيامًا لِّلناس وٱلشهر ٱلحرام وٱلقلآئد وٱلهدى. وهو بذلك يعلم أنّ ٱللّه بكلِّ شىء عليم. ويعلم أنّ نور ٱلسّمٰوٰت وٱلأرض هو ٱلذى يبيّن له ٱلحقَّ بوسيلة بلاغه ٱلعربىّ ٱلبيان وٱلتبيان لكلِّ شىء. وهو بقوّة إيمانه هذا يعمل صالحًا بعلمٍ فلا يفسد فى ٱلحرث ولا فى ٱلنّسل. ومثل هذا ٱلمؤمن ٱلمسلم عدده فى ٱلأرض قليل وهو ماۤ أفقهه من بيان ٱلبلاغ ٱلعربىّ:
"ثُلَّة مِّنَ ٱلأوَّلين(13) وقليل مِّنَ ٱلأخرينَ(14)" ٱلواقعة.
هذا ٱلقليل لا تتطابق أوصافه مع ٱلذين دمغ مأمور ٱلنفوس شهادة ميلادهم بٱلاسم مسلم. وهؤلآء كثيرون فى ٱلأرض وعددهم ليس بٱلقليل. وهم ٱلذين بيّن بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ أسلوب إيمانهم بٱللّه:
"وما يؤمن أكثرهم بٱللَّه إلاّ وهم مشركون" 106 يوسف.
وٱلسبب هو فى منهاج أمتهم ٱلظنى. وهؤلآء تخلو قلوبهم وأفئدتهم من ٱلنظر وٱلبحث وٱلكيل وٱلعقل. كما تخلو قلوبهم من أحسن ٱلحديث "ٱلقرءان". وقد نُزّلت فى قلوبهم أحاديث دين ٱلطاغوت وكهنوته وتخريصه ولغوه. وهى مثبتة فىۤ أفئدتهم. وهى ٱلتى تجعلهم أمّة تغضب وتتهم وتهجم معتدية على ٱلذين نزّلوا فى قلوبهم أحسن ٱلحديث وبه يعقلون. وبمنهاج هذه ٱلأمّة تهوج هذه ٱلأكثرية وتموج وتقتل وترفض ٱلديمقراطية فى بلادها. وبها تسبّ ٱلمؤمنين وٱلمسلمين ٱلذين يقدِّمون ٱلعون حتى فى ٱلقتال فى سبيل ٱللّه متجنبين لوم ٱللّه ٱلمبيّن فى بلاغه ٱلعربى لمن يمتنع منهم عن ٱلقتال:
"وما لكم لا تقٰتلون فى سبيل ٱللَّه وٱلمستضعفين مِنَ ٱلرجال وٱلنِّسآء وٱلولدان ٱلذين يقولون رَبَّنا أَخرِجنَا مِن هذه ٱلقرية ٱلظالِمِ أهلُها وٱجعل لنا مِن لَّدُنكَ وليًّا وٱجعل لَّنا مِن لَّدُنكَ نصيرًا" 75 ٱلنِّسآء.
فظلم ٱلطاغوت وتخريص كهنوته ٱلمجنون يجعل ٱلناس يتبعون منهاج أمّة يهوديّة. وبه لا يستطيعون رفع ٱلظلم عن أنفسهم ولا ٱلكشف عن بصرهم وبه يعتدون.
هذا هو حال أكثر ٱلمسلمين لدمغة مأمور ٱلنفوس. وٱلذى يشتكى ويحتجّ على ظلم ٱلطاغوت وتخريص كهنوته منهم قليل. ومن هذا ٱلقليل مَن يطلب ٱلهجرة من ٱلدِّيار "رَبَّنا أَخرِجنَا مِن هذه ٱلقرية ٱلظالِمِ أهلُها". ومنه مَن يطلب ٱلولىّ وٱلنصير على ظلم ٱلطاغوت وتخريص كهنوته من ٱلخارج "وٱجعل لَّنا مِن لَّدُنكَ نصيرًا". وهذا ٱلقليل تسبُّه ٱلأكثرية ٱلمسلمة لدمغة مأمور ٱلنفوس وتتهمه بٱلخيانة وٱلعمالة لأهل ٱلديمقراطية وتهدده بٱلقتل بقوّة منهاجها ٱليهودى.

تعقيب على سؤال مَن هو ٱلمسلم؟

جآء فى مقالى "مَن هو ٱلمسلم؟" أنّ كلّ مَن يتبع ٱلأبآء ٱلسّلف هو يهودىّ. وأنّ ٱلإسراءيلىّ هو كلَّ مَن يعلم أنّ يهوديته تقوم فى ٱلتفاته إلى خلف فلا يلهو فى حاضره ملتفتًا إلى ٱلأبآء ٱلسَّلف. وهو ٱلذى يجاهد ليتغلَّب على قوى ٱلعطالة فى عيشه. وقد وصل نظره وكيله ٱليوم إلى ٱلعلم بٱلغيب الۤمۤ H2g2O وصار يؤمن أنّه أساس لِّكلِّ شىء حىٍّ. وقد بدأ يدعو ويعمل على حمايته من ٱلفساد.
وجآء فى قولىۤ أن ٱلمسلم هو ذلك ٱلذى يكيّل فى ٱلحقّ بمكيال نانو مترىّ ويكيّل قوله عنه فلا يخرص ولا يظنّ. وهو ٱلإسراۤءيلىّ ٱلذى نزّل ٱلقرءان فى قلبه وثبته فى فؤاده وٱتبع منهاج "ميكٰل" فى ٱلنظر وٱلبحث وٱلكيل. وصار يعقل ما يخرج به نظره فى ٱلحق مع ٱلبلاغ ٱلعربىّ. ومِن بعد ٱلعقل بينهما يؤمن أنّ ٱلقرءان كتاب من عليم يعلم ما فى ٱلسَّمٰوٰت وٱلأرض. ويفهم ٱلوصف ٱلعربىّ "ٱللَّه نور ٱلسَّمٰوٰت وٱلأرض" ويصدِّقه.
هذا ٱلقول لم يرضِ بعض ٱلذين صوَّتوا على ٱلمقال. فجآءت نسبة ٱلتصويت منخفضة. وأرىۤ أنّ ورآء موقف هؤلآء هو ٱلظنّ ٱلوارد إليهم من تعليم ٱلطاغوت وكهنوته. وهو تعليم يقوم على ٱلظّنِّ بأنّ ٱلمسلم هو شخص دمغ مأمور ٱلنفوس شهادة ميلاده بٱلاسم مسلم. أمّا علمه فى ٱلحقِّ فلا يتجاوز ٱلترديد لما يسمّيه ٱلكهنوت "ٱلشهادتين" من دون إدراك للدليل.
لقد بيّن نور ٱلسَّمٰوٰت وٱلأرض أنّ ماۤ أنزله علينا فيه منهاج وقاية:
"يَـٰبَنِىۤ ءَادَمَ قد أَنزَلنا عليكم لِبَاسًا يُوَٰرِى سَوءَٰتِِكُم" 26 ٱلأعراف.
وهذا فعل وقاية يلبس ويوارى ٱلسّوءة (هى ٱلسّيئة ٱلّتى حدثت من دون إرادة ٱلفاعل ومن دون إدراكه لها قبل حدوثها). وتشبهه مناهج وقاية ٱلويندوز فى ٱلكومبيوتر. أمَّا مآ أنزله تعليم ٱلطاغوت وكهنوته فهو منهاج لِّلّغو فى نفوس ٱلنّاس جعل من ٱلجهل وٱلتخريص وٱلظنون منهاج ٱلأكثرية ٱلشّاميّة. وقد علّمهم بهذا ٱلمنهاج أنّ ٱسم إسراۤءيل هو ٱسم لعدوّ لهم ولدينهم ٱلذى صنعه لهم. وأنسٰهم ما ورد فى كتاب ٱللّه من تفضيل لمن يحملون ٱسم بنىۤ إسراۤءيل بفعل ٱتباعهم لمنهاج ٱلتغلب على ٱلعطالة فى عيشهم:
"يٰبنىۤ إسرٰۤءيل ٱذكروا نعمتىَ ٱلَّتىۤ أنعمت عليكم وأنِّى فضَّلتكم على ٱلعٰلمين" 47 ٱلبقرة.
لقد بيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ مصدر ٱلمنعم عليهم:
"أُولٰۤئِك ٱلّذين أنعمَ ٱللَّهُ عليهِم مِّنَ ٱلنّبِيِّنَ مِن ذُريَّةِ ءَادَمَ وممَّن حَمَلنَا مَعَ نُوحٍ ومِن ذُرِّيَّةِ إبرٰهيمَ وإسرٰۤءيلَ ومِمَّن هَدَينَا وٱجتَبَيناۤ إذا تُتلَىٰ عليهم ءَايٰتُ ٱلرَّحمٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا" 58 مريم.
وهؤلآء إن توقفوا عند منهاج إسرآءيل وٱمتنعوا عن تطوير منهاجهم بتنزيل منهاج ميكٰل فىۤ أنفسهم فسوف يسقطون فى فعل ٱلفساد فى ٱلأرض وهم يسعون للعلوِّ فيها:
"وقضينآ إلىٰ بَنِىۤ إسرٰۤءيلَ فِى ٱلكتَٰبِ لَتُفسِدُنَّ فِى ٱلأرض مرَّتينِ وَلَتَعلُّنَّ علُّوًا كبيرًا/4/ فإذا جآء وعدُ أُولَـٰهُما بعثنا عليكُم عِبَادًا لَّناۤ أُولِى بَأسٍ شديدٍ فجاسوا خلٰلَ ٱلدِّيار وكان وعدًا مَّفعولا/5/ ثُمَّ رَدَدنَا لَكُمُ ٱلكرَّةَ عليهم وأمدَدنَٰكُم بأموالٍ وبَنينَ وجعلنٰكُم أكثرَ نفيرًا/6/ إن أحسنتُم أحسَنتُم لأنفُسِكُم وإن أسَأتُم فَلَها فإذا جآء وعدُ ٱلأَخِرَةِ لِيَسُـوءُوا وجوهَكُم ولِيَدخُلُوا ٱلمسجدَ كما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَيِّرُوا مَا عَلَوا تَتبِيرًا/7/ عَسَىٰ رَبُّكُم أن يَرحَمَكُم وإن عُدتُّم عُدنَا وجعلنا جَهَنَّمَ للكٰفرين حَصيرًا/8/" ٱلإسرآء.
وأكثر ٱلإسراءيليين فى ٱلأرض لم يطوروا منهاجهم بتنزيل منهاج ٱلقرءان ٱلبيان وٱلتبيان لكلِّ شىء ٱلّذى يوارى ٱلسَّوءة. وهم بسبب ذلك يختلفون ويتقاتلون على درجات ٱلعلوّ فى ٱلأرض:
"إنَّ هذا ٱلقُرءَانَ يقُصُّ علىٰ بَنِىۤ إسرٰۤءيلَ أكثَرَ ٱلّذى هُم فيه يختلفُونَ" 76 ٱلنّمل.
وبيّن أنّ ٱلهداية ٱلأقوم للصَّالحين تأتيهم من ٱلقرءان:
"إنَّ هذا ٱلقُرءَانَ يَهدِى لِلَّتِى هِىَ أَقوَمُ ويبَشِّرُ ٱلمؤمنين ٱلّذين يعملونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أنَّ لَهُم أجرًا كبيرًا/9/" ٱلإسرآء.
وأصحاب منهاج إسرآءيل (على ٱختلاف ألوانهم وتواجدهم فى ٱلأرض) مَن يطور منهم منهاجه بتنزيل كتاب ٱللَّه فى قلبه يهديه منهاجه للتى هِىَ أقوم وتتوقف مشاركته فى ٱلاختلاف وٱلاقتتال.
وما فهمته من كتاب ٱللّه أنّ ٱللّه يوجّه رسالته للذين يعلمون ويفقهون ويعقلون وأولى ٱلألباب من ٱلناس:
"كتَٰب فُصِّلَت ءَايَٰتُهُ قُرءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَومٍ يعلمُونَ" 3 فصِّلت.
"وهُوَ ٱلَّذِىۤ أنشَأَكُم مِّن نَّفسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُستَقَرّ ومُستَودَع قد فَصَّلنا ٱلأَيَٰتِ لِقَومٍ يفقهونَ" 98 ٱلأنعام.
"وٱختِلَٰفِ ٱلَّيلِ وٱلنَّهارِ ومآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآء مِن رِّزقٍ فَأَحيَا بِهِ ٱلأرضَ بَعدَ مَوتِها وتَصرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ ءَايَٰت لِّقَومٍ يعقِلُونَ" 5 ٱلجاثية.
"هُدًى وذِكرَىٰ لأ ولِى ٱلأَلبَٰبِ" 54 عافر.
أمّا ٱلذين يرددون ما يُظّنُّ به أنّه شهادتين فهم ٱلذين يتبعون ماۤ أنزله ٱلطاغوت ٱلجاهل وكهنوته ٱلمجنون من لغو وتخريص فى ٱلدين. وهم ٱلذين لم يرضوا عن قولىۤ أنّ ٱلمسلم من ٱلذين يعلمون ويفقهون ويعقلون وأولى ٱلألباب. وبهذا ٱلمنهاج صوّت ٱلبعض على مقال "مَن هو ٱلمسلم؟".
وأعود لأوكّد فهمىۤ أنّ ٱسم مسلم يدلّ علىۤ إسراۤءيلىّ يتبع منهاج "ميكٰل" فى ٱلنظر وٱلبحث وٱلكيل وٱلبلاغ. وهو ٱلذى يكيّل كلَّ شىء ينظر فيه ويكيّل قوله عنه فلا يخرص ولا يظنّ ليبقى مفضّلا على ٱلعالمين.
مَن هو ٱلذى يقرأ؟

كثرت ٱلمقالات ٱلتى يرىۤ أصحابهاۤ أنَّ محمدًا كان يقرأ ويكتب. وكثرت ٱلردود ٱلتى ترىۤ أنّ ٱلقول بذلك يهدم دين ٱللَّه! وهذا ٱلأمر دعانىۤ إلى عرض مفهومى لدليل ٱلفعل قرأ وٱلنظر من بعد عرض ٱلدليل عمَّا إذا كان محمد يقرأ.
وقد رأىۤ أصحاب ٱلرأى ٱلقآئل أنّ محمدًا كان يقرأ سندًا لقول مزعوم فى ميراث ٱلسّلف من أن جبريل قال لـ محمد "ٱقرأ" فسأله محمد "ما أنا بقارئ"؟ وكأنّه يسأل ماذا سأقرأ؟
وفى ٱلردود على هذا ٱلرأى أن محمدًا أراد بقوله "ما أنا بقارئ" ٱلبيان بجهله لما يطلبه منه جبريل.
وما يقوله ٱلفريقان يستند إلى ٱلظَّنِّ أنّ ٱلأمر ٱلعربىّ "ٱقرأ بٱسم ربِّكَ ٱلَّذى خلقَ" موجَّه إلى محمّد ويطلب منه هو أن يقرأ.
هذا ٱلأمر هو جزء من رسالة ٱللَّه ٱلمطلوب بلاغها للناس جميعًا. وأن هذا ٱلأمر ٱلعربى موجّه للناس وليس للرسول ٱلمبلِّغ. فٱللَّه يطلب من ٱلإنسان فى كلِّ وقت وفى كلِّ مكان وٱلموجّهة إليه ٱلرسالة أن يقرأ بهذه ٱلسمة ٱلمحددة فى ٱلأمر "بٱسم ربِّكَ". ولوۤ أنّ ٱلأمر كان "بٱسم ٱللَّه" لجآء ٱلفعل "بيّن" وليس "ٱقرأ". ولم يكن محمد من ٱلذين يقرأون ولم يكن فى قومه من يقرأ. فدليل ٱلفعل "قرأ" لدىۤ أصحاب ٱلرأيين بدليل ٱلفعل "تَلَوَ". وهذا ما يقول عنه ٱلبلاغ ٱلعربىّ بتحريف ٱلكلم عن موضعه. وبذلك يكون ٱلرأيان من مفاهيم ٱلتحريف.
وأعرض لمفهومى ٱلذى جآء فى كتابى "ما هو سبيل ٱللَّه؟" هنا. وأضرب مثلا على هٰذا ٱلتحريف فى دليل كلمة قرأ وفى دليل كلمة تَلَوَ كما يجرى تعليمهما فى بيوت ٱلتعليم لدينا. فكلمة قرأ حرف ٱلتخريصُ وٱلظَّنُّ دليلََها عن موضعه وجعله بدليل كلمة تَلَوَ ٱلموضوعة لتدلنا على تتبع ٱلكلمات ٱلمتتالية فى ٱلسَّطر ببصر ٱلعين. وٱلكلمات ٱلتى تتالى بٱلصوت وتسمعها ٱلأذن. وكذٰلك ٱلكلمات ٱلمتتالية فى ٱلأشيآء ٱلغيبية سوآء ءَكان فى ٱلفيزيآء ٱلجزئية أم فى ٱلبيولوجيا ٱلجزئية. فٱلكلام أىًّ كانت هيئته يأتى متتاليًا فى ٱلسَّطر. وبٱلفعل تلوَ يجرى تتبعه. ثم يأتى فعل ٱلنظر فيما يرمز إليه. وٱلعلم بما يدل عليه.
وبما وصل إليه نظرىۤ أرىۤ أنَّ ٱلفعل تلوَ لا يدل علىۤ أن ٱلمتابع يفهم ويعلم بٱلكلام ٱلمخطوط أو ٱلمسموع. سوآء ءَكان ٱلكلام بلسانه أم بلسانٍ أخر. وأرىۤ أنَّ ٱلذى يتلو ٱلكلام إذا جهد نفسه وتابع عمله ونظره فيه وٱستعان بوسآئل تقوِّىۤ إدراكه ونظره وفكره. يوصل من بعد جهده إلى ٱستنباطِ دليلٍ لِّكلِّ كلمة فى ٱلسَّطر. ثمَّ يعمل من بعد ذٰلك على بنآء قولٍ مُّستنبطٍ. يبيِّن فيه بلسانه ماۤ أدركه من ذٰلك ٱلكلام. وهو بهٰذه ٱلأعمال يكون قد جعل ٱلكلام قُرءًا بيِّنًا بلسانه. وبعمله هٰذا يكون قد قرأ ٱلكلام وبيَّن دليله عند طور من أطوار ٱلعلم فيه. ومثله هو ٱلعمل ٱلجارى فىۤ إدراك وفهم ٱلخط ٱلمسمارى وٱلخط ٱلهيروغليفى وٱلخط ٱلأوغاريتى وغيرها من ٱلخطوط ٱلقديمة.
ومثل ذٰلك هو عمل ٱلفيزيآئى ٱلذى ينظر فى رموز codes ٱلأشيآء ٱلغآئبة عن بصر ٱلعين بوسآئل صنعية تقوّى ٱلبصر. فهو يتلو ويراقب ويشبِّه تلك ٱلرموز بأشيآء يعرفها. ويفرِّق ويميِّز بين رمز وأخر من هيۤئة كلٍّ مِّنها وحركته ولونه. ويحدِّد لكلِّ رمزٍ ٱسمًا يوافقه فى ٱلهيۤئة وٱلحركة وٱللَّون. ثم يعود إلى ما حدَّده ويعمل على ٱستنباطٍ لِّمفهومٍ مِّنه كماۤ أدركَ وفهمَ من تلك ٱلرموز ٱلمعجمة فى ٱلغيب. ثم يجعل ٱستنباطه قولا بلسانه ينشره بيانًا. فيتلوه ويدركه كلُّ من يدرك قول ٱلفيزيآء.
ما قام ويقوم به ذٰلك ٱلفيزيآئى ٱلناظر هو جعلُ (ترجمة) ٱلكلام ٱلذى تلوَ رموزَه ٱلمعجمة كلامًا مُّدركًا بلسانه. وما فعله وعمله هو قرء يبيِّن بلسانه دليلَ تلك ٱلرموز. وما قام به هو متابعة ٱلأفعال تلوَ وسأل ونظر وأدرك وٱستنبط وجعل. وهى جميعها وسآئله للعلم وللفهم بما تدل عليه تلك ٱلرموز. وبها يجعل تلك ٱلرموز كلامًا مُّدركًا ومفهومًا بلسانه. وما ينشره عن عمله هٰذا هو بيانه عن علمه وفهمه وإدراكه لتلك ٱلرموز. وهو ببيانه يكون قد أكمل وسآئل دليل ٱلفعل قرأ. وأنَّ ما خرج به نظره هو قرء مُّتشابه مُّبين لِّكلامٍ مُّعجمٍ فى ٱلشىء ٱلمنظور فيه. وهو بيان جزئىّ يتعلق بشىءٍ واحدٍ مِّن أشيآء ٱلتكوين.
أمَّا ٱلبيان عن جميع ٱلتكوين وجميع أطواره فهو قرءان مُّبين. وأنَّ ٱلذى ينشره بيانًا هو ٱلخالق ٱلعليم.
وما يجب أن نعلم به أنَّ ٱلذين صنعوا ٱللُّغو فى لسان ٱلقرءان ٱلعربى هم من قوم ٱلرسول. وفى ٱلبلاغ بيان حال أكثرهم إلى قيام ٱلساعة:
"يسۤ(1) وَﭐلقرءَانِ ﭐلحَكِيمِ(2) إِنَّكَ لَمِنَ ﭐلمُرسَلِينَ(3) علىٰ صِرَٰطٍٍ مُّستَقِيمٍ(4) تَنزِيلَ ﭐلعَزِيزِ ﭐلرَّحِيمِ(5) لِتُنذِرَ قَومًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُم فَهُم غَـٰفِلُونَ(6) لَقَد حََقَّ ﭐلقَولُ عَلَىٰۤ أَكثَرِهِم فَهُم لا يُؤمِنُونَ(7) إِنَّا جَعَلنَا فِىۤ أَعنَـٰقِهِم أَغلَـٰلا فَهِىَ إلى ﭐلأذقانِ فهم مُقمَحُونَ(8) وجعلنا مِن بَينِ أيدِيهِم سَدًّا ومِن خلفِهِم سَدًّا فأغشَينَـٰٰهم فَهُم لا يُبصِرُونَ(9) وَسَوَآء عَليهِم ءََأَنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم لا يُؤمِنُونَ(10)" يسۤ.
ولقد رأيت أنَّ ٱلفعل "جعل" يدل على فعل يحوِّل أمرًا أو شيئًا مِّن هيۤئةٍ إلىۤ أخرى. كتحويل قول من لسان ٱنكليزىّ إلى لسان فرنسى (ترجمة). ومأربُ ٱلجعلِ هو إدراك ما يدلُّ عليه ذٰلك ٱلأمرُ أو ٱلشىءُ فى ٱلطرف ٱلمحول إليه ٱلقول. وأرى فى ٱلمَثَلِ عليه فيما يفعله علمآء ٱلفيزيآء وعلمآء ٱلبيولوجيا. فهم يجعلون (يترجمون) ٱلرموز codes ٱلمُعجمة فى ٱلشىء إلى رموزٍ مُّدركة تدل بلسانهم علىۤ أمرٍ يتعلق بتكوين هٰذا ٱلشىء وعلاقته مع ٱلأشيآء ٱلأخرى. ويجرى ذٰلك بجعل ٱلرموز ٱلمُعجمة كلمات مَّنطوقةً ومخطوطة بلسانٍ يبيِّن ٱلدليل.
وما يدلنى عليه ٱلفعل "جعل" أنّه فعل يحوِّل (يترجم) ٱلأمر ٱلعجمى إلىۤ أمر عربىٍّ. فٱلَّذى جُعل قرءانًا عربيًّا هو عِلم مُّعجَم فى ٱلتكوين على ٱلبشر. وهو سنّة ٱلتكوين فى هيۤئة رموز فيزيآئية فى ٱلشىء ٱلميِّت. ورموز بيولوجية فى ٱلشىء ٱلحىِّ. وأنّ ٱلأمر ٱلعربىّ "ٱقرأ" يطلب قرءَ هذه ٱلرموز وبيانها. وهذا ما فعله ٱللَّه فى بيانه ٱلعربىّ ٱلقرءان وهو يطلب من ٱلإنسان ٱلسير فى ٱلأرض وٱلنظر فى كيف بدأ ٱلخلق وٱلعقل بين ما قرأه من ٱلحقِّ وبين قرءان ٱللَّه.
بهٰذا ٱلمفهوم لدليل ٱلفعل جعل يتبيَّن لىۤ أنَّ كتاب ٱللَّه هو جعل (ترجمة) مبيّن لِّعدَّة وقوى ٱلفعل ٱلمُعجمة فى ٱلتكوين ٱلميت وٱلحى (فيزيآء وبيولوجيا) وبه يكون ٱلبيان قرءانًا.
بهذا ٱلمفهوم لاۤ أرىۤ أنّ محمّدًا كان يقرأ. كماۤ أرىۤ أنّ ٱلقول "ما أنا بقارئ" قول تخريص وزعم جاهلين.

مَن هو ٱلأمىّ؟

ما جآء فى مقال "من هو ٱلذى يقرأ؟" دعانى للعمل فى ٱلجواب على سؤال "مَن هو ٱلأمىّ؟". وكنت قد بيّنت مفهومى لدليل كلمة "أمة" ولأصلها ٱلثلاثى "أَمَّ" فىۤ أعمال سابقة. وأعود هناۤ إلى ٱلتكرار فى عرض ٱلمفهوم بسبب ٱلاختلاف فى دليله مع ٱللّغة ٱلفصحى ٱلتى تهيمن علىۤ إدراك ٱلمتابع لأعمالى بفعل ٱلتعليم بوسآئلها ٱللاغية منذ ٱلصغر.
وما رأيته فى دليل ٱلفعل "أمَّ" أنّه يضم دليلَ ٱلأفعال (نسخ وتبع ولحق). وهو يبين لى قوة معلومات مخزونة تُنسخ مع كلِّ مولود. وهى ٱلتى توجّه أفعاله وتتحكم بها وفق منهاج محدد program يتبعه فىۤ أفعاله من دون أن يدرى به ويلحق بأفعاله ءَابآءَه ٱلأمِّيِّن. وٱلمثل عليه فىۤ أم كومبيوتر computer mother board من دون تنزيل ويندوز ومناهج مختلفة عليه. وهو ماۤ أفهمه من ٱلبلاغ ٱلعربىّ:
"وما مِن دَآبّةٍ فى ٱلأرض ولا طٰۤئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ إلاّۤ أُمَم أَمثَالُكُم" 38 ٱلأنعام.
فلكلِّ لون من ٱلدَّوآبِّ أمّته وفق خلقه وتسويته. وفى كلِّ كومبيوتر أمّ تهدى إلى تنزيل ٱلويندوز ومن بعده تنزيل ٱلمناهج ٱلمختلفة. فٱلأمّة هى منهاج يحكم ٱلسلوك وٱلأفعال. وٱلبشر "ٱلأمّىّ" هو ٱلّذى يفعل وفق أمّه من دون خبرة فى أمّه وويندوزه ومن دون أن يدرى بسبب أفعاله. وهو لا يفكر ولا يسأل ولا ينظر ولا يوصل إلى علمٍ فى كيف بدأ ٱلخلق. وهو ٱلجاهل ٱلذى يتبع أمّة لونه ٱلبشرىhuman mother board وويندوزها ٱلمنزّل بنفخ ٱلرّوح فيه (ءَادم). وحاله يشبه حال ٱلكومبيوتر من دون مناهج.
هٰذا ما كان عليه محمّد ٱلأمىّ (لم يكن يدرى ولا يتلوا ولا يخطّ ٱلكتاب) من قبل تنزيل ٱلروح ٱلقدس على قلبه ليكون من ٱلمنذرين:
"وما كُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِن كِِتَٰبٍٍ ولا تَخُطُّّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لاّرتابَ ﭐلمُبطِلُونَ" 48 ﭐلعنكبوت.
"وكذٰلك أوحَينَآ إليك رُوحًا مِّن أمرِنا ما كُنتَ تَدرِى مَا ﭐلكِتَٰبُ ولا ﭐلإيمَٰنُ" 52 ﭐلشّورى.
أمّا من بعد ﭐلوحى فقد جعله ٱلروح ٱلقدس ٱلمنزّل على قلبه يدرى ويتلوا ويخطّ ويعلِّم ٱلكتاب وٱلحكمة. وٱلروح ٱلمنزّل تشبهه مناهج تطوير ٱلويندوز وٱلمناهج ٱلمختلفة ٱلتى تنزّل على فؤاد ٱلكومبيوتر computerhard disk فتجعله مفتوحا علىۤ أعمال مختلفة.
كذلك يبيّن ٱلبلاغ حال قوم محمّد ٱلأمِّيِّن:
"هو ٱلّذى بَعَثَ فى ٱلأُمِّيِّن رسولا مِِّنهم يَتلوا عليهم ءَايٰتهِ ويزكّيهم ويعلِّمهم ٱلكتٰب وٱلحكمة وإن كانوا مِن قبلُ لفى ضلٰلٍ مُّبينٍ" 2 ٱلجمعة.
لقد بيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ أنّ ٱلأمىّ هو ٱلذى لا يعلم ٱلكتاب وأنّ علمه فيه أمانىّ وظنون:
"ومنهم أُمِّيُّونَ لا يَعلَمُون ٱلكِتَٰبَ إلآ أَمَانِىَّ وإِن هُم إِلا يَظنُّونَ" 78 ٱلبقرة.
وبيّن أنّ سبب ذٰلك هو نسخ أمّة ٱلأبآء ٱلسَّلفيَّة ٱليهوديَّة ٱلجاهلة من دون علم وخبرة فى ٱلتطوّر:
"بل قالوۤا إنَّا وجدناۤ ءّابآءّنا علىٰۤ أُمّّةٍ وإِنَّا علىٰۤ ءَاثَارِهِم مُهتَدُونَ" 22 ٱلزخرف.
وبيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ أنّ أمة ٱلبشر human mother board مفتوحة لكسب ٱلخبرة فى ٱلسؤال وٱلنظر وٱلعلم وٱلتطور بفعل نفخ ٱلروح أوّل مرّة (ءَادم). وبيّن أنّ هذا ٱلكسب فردىّ ينتظر ٱلسؤال وٱلنظر وٱلعلم وٱلتطور. وبٱكتساب هذه ٱلخبرة تتحرك ٱلنفس عن أمّة ٱلأبآء وتصنع لنفسهاۤ أمّة تحنف ولا تنسخ إلا ما ينفعها فى تطورها. فتتطور وتتغيّر وتتجدد بفعل ٱلمبادرة ٱلفردية وٱلسير فى ٱلأرض نظرا وبحثا وعلما. وبيّن ٱلبلاغ أنّ إبرٰهيم هو ٱلمثل على هذا ٱلاكتساب للأمّة ٱلجديدة:
"إنَّ إبرٰهِيمَ كان أمّةً قانتًا لِّلّّه حنيفًا ولم يكن من ٱلمشركين"120 ٱلنّحل.
وهو إمام ٱلناس فى ٱلمثل علىۤ أمّة ٱلفرد وٱلشخصية ٱلتى تنفصل عن أمّة تنسخ أمّة ٱلأبآء:
"قال إِنِّى جاعِلُكَ لِلنَّاس إِمَامًا قال ومِن ذُرّيَّتِى قال لا ينالُ عهدى ٱلظَّٰلمين" 124 ٱلبقرة.
إبرٰهيم هو ٱلإمام ٱلقدوة للّذين يسيرون فى ٱلأرض ينظرون كيف بدأ ٱلخلق. أما ذرّيّة ٱلإمام. فمنهم من يجعل إبرٰهِم إمامه ويسعى عبر مبادرته ومسئوليته ٱلفردية لسلوك سبيل ٱلنظر وٱلعلم وٱلتطور. ومنهم مَّن يتبع أمَّة ٱلأبآء ٱلسَّلفيَّة فيسفّه نفسه ويظلمها "لا ينال عهدى ٱلظَّٰلمين".
فكلمة أمّة تدلّ على منهاج ٱلسلوك. وجميع ٱلكآئنات ٱلحيّة ٱلبهيمة بما فى ذلك ٱلبشر لهاۤ أمم بها تعيش وفق منهاج لونها ٱلجمعىّ (38 ٱلأنعام). أمّا ٱلإنسان ٱلفرد فينفصل ويتبرّأ من منهاج قومه ٱلجمعى. وفى ٱلبلاغ ٱلعربىّ بيانه عن إبرٰهيم ومَن معه:
"قَد كَانَت لَكُم أُسوَة حَسَنَة فِىۤ إبرَٰهِيمَ وٱلّذِينَ مَعَهُ إذ قَالُوا لِقَومِهِم إنَّا بُرَءَٰؤُا مِنكُم ومِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ ٱللّهِ كَفَرنَا بِكُم وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ ٱلعَدَٰوَةُ وِٱلبَغضَآءُ أبَدًا حَتَّىٰ تُؤمِنُوا بٱللَّهِ وَحدَهُ" 4 ٱلممتحنة.
فٱلّذى يسأل وينظر ويعلم ويقرأ ويطلب ٱلاطمئنان لقلبه مثل إبرٰهيم فإنّ أمّته تبادر وتسير فى سبيل تطورٍ وتغيّرٍ وعلوّ لشخصه. وقد يكون سبيله إلى ذلك فى هجرته عن دياره وقومه كما فعل إبرٰهيم وٱلذين معه. وأمّا ٱلّذى لا يسأل ولا ينظر ولا يقرأ ولا يطلب ٱلاطمئنان لقلبه فإنّ أفعاله تجرى وفق أمّة لونه ٱلبشرىّ وقومه وينسب إليها بٱلاسم (أمّىّ) ويتبع فى عيشه منهاجًا جمعيًّا لا يدرى به.
وأرىۤ أنّ ٱلأمِّيِّن ٱلذين "لا يَعلَمُون ٱلكِتَٰبَ إلآ أَمَانِىَّ وإِن هُم إِلا يَظنُّونَ" هم ٱلّذين يندفعون للقتال فى ٱلعراق وفى لبنان وفى فلسطين بزعم ٱلدفاع عن ٱلدِّين وٱلوطن. كمآ أرى فيما يفعله هؤلآء بيانًا لسلوك أمّة سلفيّة تنفر صدًّا وعدوانًا علىۤ ٱلذين يتبعون أمّة فردية شخصية. وفى قتالها لهم تُظهر عدوان ٱلأمّة ٱلجمعية ٱلأبآئية ٱلقريشية ٱلتى تقاتل مَن يطالب بمفهوم ٱلقول ٱلعربىّ "لكم دينكم ولىَ دينِ". وهىَ أمّة لا تقبل بحرية ٱلفرد فى ٱلدين "ولىَ دينِ" ٱلتى تبيّنهاۤ أمّة إبرٰهيم ٱلفردية. وهذه ٱلأمة ٱلجمعية تندفع بأفعالها ٱلأميّة تتمنّى وتظنّ أنها تقدر علىۤ إسكات ٱلمطالبين بأمّة إبرٰهيم وتقدر على حبسهم وعلى قتلهم دفاعًا عن دينها ٱلجمعىّ "لكم دينكم". وأذكّر هؤلآء ٱلأميِّن بما جآء فى ٱلبلاغ ٱلعربى:
"كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرة بِإِذنِ ٱللَّهِ وٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبرينَ" 249 ٱلبقرة.
فقد بيّن ٱلبلاغ ٱلعربىّ أنّ كثرة ٱلعدد لا تأتى بنصرٍ. وأنّ عددا كبيرًا من ٱلأميِّن يسهل على فئة قليلة مؤمنة أن تغلبهم. وأرىۤ أنّه على هذه ٱلفئة ٱلقليلة ٱلمؤمنة بحقوق أفرادها أن تتحالف مع جميع ٱلمؤمنين بحقوق ٱلفرد فى جميع ٱلأرض. وأن تسقط من نفسها مفاهيم ٱلوطن وٱلقوم ٱلأبآئية وتتبع مفهوم كلمة ناس فى بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ وتعتصم بحبله:
"وٱعتصموا بحبل ٱللَّه جميعًا ولا تفرَّقوا وٱذكروا نعمة ٱللَّه عليكم إذ كنتم أعدآءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوٰنًا" 103 ءال عمران.
وحبل ٱللَّه هو ٱلميثاق بين ٱلناس (على ٱختلاف أصولهم ٱلقومية وٱلفكرية) وقبولهم بمفهوم ٱلقول ٱلعربى "لاۤ إكراه فى ٱلدِّين". وبٱلميثاق تقوم سلطة مؤمنين يدفعون عنهم عدوان ٱلأمِّيِّن وأمانيّهم وظنونهم.

مَن نحن؟

فى تاريخنا ﭐلقومىّ وﭐلدينىّ مواقع أساس لكلٍّ منهاۤ أهله وأفكاره ومواقفه وسلطته. وهو ما نهودُ إليه ﭐليوم فى جميع أمورنا ٱلفكرية وٱلسياسية وٱلتشريعية. وكانت مكّة فى وسط ٱلحجاز هى ﭐلموقع ﭐلرئيس بين تلك ﭐلمواقع ٱلتاريخية وٱلدينية ٱلتى نهود إليها فى يومنا هذا. وكان أهلها قريش يتوزعون بين قريش ﭐلبطاح (وهم سكان حاضرة مستقرون يعملون فى ﭐلتجارة بما فى ذلك تجارة ٱلأموال وتجارة ٱلعبور "ٱلترانزيت" وفى ﭐلصناعة وﭐلزراعة) وبين قريش ﭐلظواهر (وهم سكان ﭐلضواحى ﭐلذين لم يكمل ﭐستقرارهم وهم يعملون فى ﭐلرعى وفى بعض فروع ﭐلتجارة). وكان معظم قريش ٱلبطاح يدينون بٱلمسيحية ولهم رتبة قسٍّ. وكانوا على علاقة طيبة مع ملوك ٱلغسانيين فى ٱلشام من بنى قضاعة ٱلمسيحيين.
وفى جنوب وجنوب غرب مكّة كانت قبآئل من ٱلأعراب (بدو) يعملون فى ٱلرعى وٱلتجارة. وكان لهذه ٱلقبآئل مَن يمثلها فى دار ٱلندوة. ولهم روابط قرابة ومصاهرة وتحالفات عسكرية مع قريش.
وفى نجد شرقا كانت قبآئل ٱلأعراب (أسد وفزارة ومرّة وأشجع) يعملون فى ٱلرعى وسرقة ٱلقوافل ٱلتجارية. وكانوا يتوزعون بين ٱليهودية وٱلزارادشتية. وكان بينهم وبين قريش تحالف ويشاركون فى حماية قوافلها ٱلتجارية ٱلعابرة بين ٱلشرق ٱلفارسىّ وٱلغرب ٱلرومىّ مقابل أجور متفق عليها.
وفى شمال مكّة موقع أخر هو يثرب. وفيه أحيآء أهلها متحضرون ومستقرون يعملون فى ٱلصناعة وٱلزراعة ٱلمستقرّة كٱلبساتين وفى ٱلتجارة. وهم من ٱلأوس وعوف وٱلنجار وٱلشطيبة وساعدة وٱلحارث وجشم وٱلنّبيت. وجميعهم يدينون بٱليهودية (راجع بنود ٱلصحيفة).
وفى ضواحى يثرب قبآئل لم يكتمل ٱستقرارها وتعمل فى ٱلتجارة وتموين ٱلقوافل وٱلرعى. وهم قنيقاع وقريظة وٱلنضير. وكانت هذه ٱلقبآئل تدين بٱليهودية.
وفى ٱليمن أكثرية يهودية إلى جانب نفوذ حبشى رومى مسيحىّ ونفوذ فارسى زارادشتى. وكانت ٱلسلطة فى ٱليمن تتبدل بتبدل ميزان ٱلقوّة بين ٱلإمبراطوريتين ٱلأعظم.
هذه ٱلمواقع وأهلها هى ٱلتى نلتفت إلى بعضها ٱليوم نستمدّ منه تاريخنا وديننا وتشريعنا. وما نستثنيه من بين هذه ٱلمواقع فلا نلتفت إليه هو موقع يثرب ٱلذى حمل ٱسم ٱلمدينة. فليس له عندناۤ أىّ أهميّة تذكر. بل نحن لا نذكره إلا لنبيّن ٱلمجد ٱلذى نالته قريش فيه عشية موت ٱلرّسول محمد. وما نحمله ٱليوم من أفكار ومفاهيم عن ٱلسلطة وٱلتشريع وٱلدين هىۤ أفكار ومفاهيم ٱلقوم قريش ودينهم وأسلوب سلطتهم ٱلوراثية. وهى ٱلتى ما تزال تحكم عيشنا وتوقف تطورنا.
لقد بيّن كتاب ﭐللّه أنّ أوّل قرية فى حياة ﭐلإنسان نشأت فى مكّة. وجآء فيه عنهاۤ أنّهاۤ أمُّ ٱلقرى. وﭐلقرية هى مجتمع يلتقى فيه مهاجرون من تجمّعات مشاعية يتواثقون على ﭐلسلطة فىۤ أول حاضرة مستقرّة لمجتمع ﭐلإنسان (مقال "مكَّة وقريش" ومقال "مجتمع مكَّة ومجتمع ٱلمدينة من ٱلأمس إلى ٱليوم" ومقال "حرية ٱلفرد ركن ٱلديمقراطية ٱلأساس"). وفى ٱلقرية تؤسس سلطة إجرآئية تخضع إلى ما تشرعه هيئة ٱلقرية ٱلمنتخبة وفق عهد وميثاق. وكان فى مكّة هيئة للتشريع حملت ٱسم دار ٱلندوة (منتدى- برلمان) ويشترط فيمن ينتسب إليهاۤ أن يكون بلغ ﭐلأربعين. هذه ﭐلهيئة ﭐلقرّيَّة وأسلوب عملها فى ٱلتشريع وفى مراقبة أعمال ٱلسلطة ٱلإجرآئية هو ما يعرف ﭐليوم بٱسم ﭐلديمقراطية. وقد نقض قصىّ ٱبن كلاب شرط ٱلعمر لمن ينتسب إلى دار ٱلندوة مستثنيا أولاده منه. وحصر بهم مواقع ٱلسلطة ٱلإجرآئية جميعها. وصارت مواقع ٱلسلطة ٱلإجرآئية فى مكّة تورّث للقبآئل ٱلمتصلة بنسبهاۤ إلى قصىّ. وبقيت سلطة قريش ٱلوراثية مستقرّة فى مكّة لا ينقضها أحد حتى جآء رسول ٱللّه محمد وأعلن مفاهيما ممّا أوحىَ إليه تنقض سلطة قريش وتنقض معها مفاهيم عصبية ٱلقوم وٱلقبيلة وٱلعشيرة. وبتلك ٱلمفاهيم طلب للعلوّ فى ٱلحقِّ ٱلشخصىّ (ذكرا كان أم أنثى) ومسئولية فردية للشخص بمعزل عن ٱلقوم وٱلقبيلة. وإقامة لسلطة توافق تلك ٱلمسئولية فلا تكره صاحبها فيما يتبعه من مفاهيم. ومن ٱلأفكار ٱلتىۤ أعلنها محمد ينقض بها سلطة قريش: "كلّ نفسٍ بما كسبت رهينة. لاۤ إكراه فى ٱلدين. ولكم دينكم ولىَ دينِ. ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنّ ٱلسَّمع وٱلبصر وٱلفؤاد كلّ أولٰئك كان عنه مسئولا. قل ٱلحقُّ من ربِّكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة. لست عليهم بمصيطر. وأمرهم شورى بينهم. وشاورهم فى ٱلأمر".
بهذا ٱلإعلان بدأ يطلب سلطة مدينة تقوم على ٱلشخص من دون ٱلنظر إلى قومه وعشيرته. وقد ٱلتحق به أحباش وفرس وروم ممن كانوا يعيشون فى مكّة من دون حقوق كما يعيش ٱليوم أمثالهم فى شبه ٱلجزيرة من دون حقوق أهل ٱلبلد. وناصرته مملكة ٱلحبشة بفتح أبوابهاۤ أمام أتباعه ٱلمهاجرين. ثمّ ناصره أهل يثرب ٱلمستقرون وهم يهود وكانوا يقتتلون فيما بينهم فى حرب أهلية بسبب ٱلسلطة فى يثرب وبفعل فتنة عملت عليها سلطة قريش وتعاون معها فى صناعة ٱلفتنة بنو قنيقاع. وقد هاجر محمد إلى يثرب بٱلاتفاق مع مكونات مجتمع يثرب من ٱليهود ٱلمستقرين ٱلذين وجدوا فيما يدعوۤا إليه ما يخلصهم من ٱلتثريب وقد تعاهدوا وتواثقوا فى ٱلصحيفة لتكون دستورا لدولة ٱلمدينة يحكم تشريعها وعمل ٱلسلطة فيها.
لم تقبل قريش بما حدث فى يثرب من بنآء لسلطة يعلو فيها ٱلفرد بقدرته ٱلشخصية بعيدا عن أصله ٱلقومى وٱلقبيلى. فبدأت تعمل علىۤ إقامة ٱلتحالفات للقضآء على هذا ٱلوليد ٱلخطر على قيم ٱلقبيلة وسلطتها ٱلمستقرّة. وقد ٱلتحقت بقريش جميع قبآئل ٱلأعراب (ٱلبدو) سوآء ءكانوا مسيحيين أم يهود أم زارادشتيين. وكان يهود قنيقاع وقريظة وٱلنضير وخيبر من هذا ٱلتحالف ٱلبدوىّ ٱلذى ينفر من حرية ٱلفرد وتفكك روابط ٱلعشيرة وٱلقبيلة وٱستبدالها بروابط تشرّع ٱلحقوق ٱلشخصية لتحلّ مكان ٱلحقوق ٱلجماعية للقبيلة. ودارت ٱلحرب بين أكثرية يهود قبآئل ٱلبدو برئاسة مسيحية قريش وبين أقلية يهود حقوق ٱلشخص فى دولة ٱلمدينة. وبسبب ٱلهداية ٱلرّسولية وتطوع أشخاص مجتمع ٱلمدينة ٱلعهدىّ للقتال دفاعا عن دولتهم ٱنتصرت دولة ٱلمدينة على جميع تحالف ٱلقبآئل. ورضخ ٱلجميع وٱستسلم لسلطة ٱلمدينة لمدّة سنتين من بعد فتح مكّة بما فى ذلك ملوك ٱلغسانيين ٱلمسيحيين. وكان بهذا ٱلنصر وٱستسلام كثرة بدوية سببا لتبديل ميزان ٱلقوّة لصالح أنصار ٱلقبيلة قريش وحلفآؤها من ٱليهود ٱلأعراب (ٱلبدو). فكانوۤا أكثرية عددية طغت بكثرتها علىۤ أهل ٱلمدينة من ساعة موت محمد. وسارعت قريش لأخذ ٱلسلطة فى ٱلمدينة وإعادتهاۤ إلى ٱلقبيلة قريش وتشريعها ٱلسلطوىّ. وقد قامت بٱنقلابها فى ٱجتماع سقيفة بنى ساعدة. وما زالت سلطتها ومفاهيمها قآئمة إلى يومنا هذا لا تقبل ولا تفتح أىّ منفذ لحرية ٱلشخص. فٱلجميع يسلم ويخضع لمصلحة ٱلقوم ٱلتى يبينهاۤ أهل ٱلسلطة فى ٱستقرار سلطتهم ٱلموروثة وٱستقرار مصالحهم. وجميعنا نتحدث ٱليوم ننسخ مفاهيم قريش فنتكلم عن تفكك ٱلروابط ٱلأسرية فى ٱلغرب ونعيّب عليه غياب شعوره ٱلقومى وحرياته ٱلشخصية. وكأننا لم نتخطَّ عتبة أولئك ٱلبدو ٱلذين قاتلوا محمدا ودولة ٱلمدينة. ولسان حالنا ما زال يقول "أهل مكّة أدرى بشعابها" فليس لناۤ أى ذكرى من ٱلمدينة إلا ٱلأسى على قتلانا ٱلذين سقطوا فى قتالها.
لقد قام أهل سلطة قريش ٱلمتجددة فى سقيفة بنى ساعدة بكتابة تاريخ سلطتهم مظهرين أنّ نسبهم وحقهم ٱلوراثى فى ٱلسلطة يرجعان إلى جميع ٱلرسل وٱلأنبيآء وصولا إلى ءادم. وسطّروا لدينهم ٱلقبيلىّ تشريعا يوافق بقآءهم فى ٱلسلطة من دون نزاع. وأقاموا لهذا ٱلدين كهنوتا يحرسه من مفاهيم ٱلمدينة وتشريعها ٱلذى يحمى حقوق ٱلأشخاص. ومنعوا ٱلناس من ٱلهداية ٱلشخصية بكتاب ٱللّه ومنعوا ٱستعماله فى مسآئل ٱلسلطة وٱلحقوق ٱلشخصية. وزعموۤا أن ٱلعمل بهدايته هو من أعمال ٱلكفر ٱلتى توجب قتل صاحبه. وهم ٱليوم لا يخجلون من ٱتهامه بٱسم كتاب ٱللّه ٱلقرءان فيسمّونه "قرءانىّ".
وٱلغريب فى ذلك ٱلتاريخ هو ٱلموقف من ٱليهود. فقد كان يهود يثرب ٱلمستقرّون هم أنصار ٱلرّسول حتى مات وقد صاروۤا أقلية. وكان يهود قريظة وقنيقاع وٱلنضير ويهود قبآئل غطفان فى نجد هم أنصار قريش ضد ٱلمدينة وٱلرّسول حتىۤ أسلموا خاضعين. وقد ظهر من تاريخ قريش ٱلسلطوىّ بعد ٱنقلابها فى سقيفة بنى ساعدة أن يهودية ٱلأعرابىّ ٱستُبدلت بدين قريش ٱلجديد "ٱلإسلام لدين قريش". وأن يهودية أهل ٱلمدينة هى ٱلتى نالها ٱلتشهير بٱلنفاق وٱلغدر ثمّ ٱلقتل وٱلطرد.
ونحن أعراب ٱليوم ٱلمسلمون لدين قريش وٱلحاملون لغوا وتحريفا للاسم عربىّ جميعنا يهود بدو وعلى موقف ٱلضد من ٱلحريات ٱلشخصية ٱلتى يتمتع بها ٱلفرد فى ٱلمجتمعات ٱلمدينية ٱلغربية. وكلنا يزعم أنها مجتمعات يهودية يهودها كيهود يثرب يعملون على تفكيك روابط ٱلأسرة وٱلقوم وٱلدين. وأولادنا ٱلذين هاجروۤا إلى مجتمع ٱلغرب ٱلمدينىّ يعيشون فيه يحصرون أنفسهم داخل تجمعات هىۤ أقرب إلى تجمعات ٱلفطور. تحيط بهم مخاوفهم على بناتهم وزوجاتهم من ٱلحرية ٱلشخصية. فيخلقون ٱلظنون وٱلتخريص عن تلك ٱلحرية فى نفوس أولادهم ٱلصغار. وهم بتلك ٱلمفاهيم يتحولون إلى غربآء ومرضى ينبذون أنفسهم ويمنعون عنها ٱلعيش ٱلمدينىّ ومكاسبه ٱلإنسانيّة.
لقد بين ٱللّه للناس أنّه جعل منهم خليفة فى ٱلأرض. وٱللّه هو ٱلواحد ٱلأحد وله ٱلأسمآء ٱلحسنى. ومَن يريد من ٱلناس ٱلخلافة لا يكون له ذلك وهو فى قطيع. بل واحد يجمع فى نفسه بعض أسمآء ٱللّه ٱلحسنى كٱلعليم وٱلبصير وٱلسميع وٱللّطيف وٱلخبير وٱلقدير وٱلخالق وٱلرّحيم وٱلقوى وٱلمنتقم وٱلجبار إلىۤ أخر ٱلأسمآء ٱلحسنى. وفى مفاهيم ٱلقبيلة وٱلقوم تمتنع على ٱلفرد فرديته وشخصيته وخلافته. وله أن يختار بين موقفين. أن يكون شخصا مسئولا يسعى للخلافة فى بعض أسمآء ٱللّه ٱلحسنى. أو يكون فردا فى قطيع لا شخصية تميزه ولا مسئولية تقع عليه وحده وبذلك لا يكون له بٱلخلافة شأن.
وأسأل ٱلمفكرين من ٱليهود ٱلأعراب. أين وجدتم فيما كتبه ءابآؤكم ٱلقريشيون من تاريخ أنّ ٱليهود كانوۤا أقلية فى شبه جزيرتكم؟ أم أنكم تريدون يهود يثرب ٱلمدينيون وحدهم؟
وأجيبكم أنا على ٱلسؤال. فأقول لكم حقًّا كان يهود يثرب أقلية تحمل فى نفسها تشريع مدينة. وقد عملت هذه ٱلأقلية على نصرة ٱلرّسول وحملت معه جميع أوزار ٱلحرب ضد قومية قريش وأكثرية ءابآئكم ٱليهود ٱلأعراب. ثمّ حملت وزر عملها من بعد موت ٱلرّسول.
أماۤ أنتم ٱليوم فأكثرية يهودية أعرابية مثل ءابآئكم قريش وقنيقاع وقريظة وٱلنضير وغطفان تنفرون من تشريع ٱلمدينة وتعملون على قتل كل شخص يدعوۤا إلى ما دعىۤ إليه رسول ٱللّه محمد.
فهل تستطيعون ٱلتغلب على مفاهيم ءابآئكم قريش وٱليهود ٱلأعراب؟
وهل تقبلون حقًّا بٱلحرية ٱلشخصية وما يتبعها من تشريع مدينىّ؟
أنتظر رسآئلكم ٱلتى تحمل ٱلجواب!

ٱللّغة ٱلفصحى لسان باطل!

يزعم أصحاب ٱللّغة ٱلفصحىۤ أنّ لسانهم عربىّ وأنّه يمثّل لسان كتاب ٱللَّه ٱلقرءان. وهم يسمُّون أنفسهم كقوم بهذا ٱلاسم. أمّا كلمة "عربىّ" فقد جآءت فى ٱلقرءان لوصف لسانه وقرءانه وبيانه. وقد جآء ٱلقرءان بلسان محمّد وهو من أهل مكّة ويتكلم بلسان قومه ٱلشَّاميين:
"فإنّما يسرّنـٰه بلسانك" 97 مريم.
"وماۤ أرسلنَا مِن رَّسولٍ إلا بلسان قومهِ ليبيِّنَ لهم فَيُضلُّ ٱللَّهُ مَن يشآءُ ويهدى مَن يشآء وهو ٱلعزيز ٱلحكيم" 4 إبراهيم.
ٱلرسالة يحملها لسان ٱلقوم. أمّّا ما تحمله ٱلرِّسالة من بيان فيبيِّنه وصف لسان ٱلقرءان بٱلاسم عربىّ. وما تحمله ٱلرسالة هو بيان مِّن ٱللَّه. وبيانُ ٱللَّه بأىِّ لسان يكون عربيًّا. أمّا بيان لسان ٱلقوم فهو أعجمىّ. وقد أتى فى بيان ٱللَّه تفريق بين لسانه ٱلعربىّ ٱلمبين وبين لسان ٱلبشر ٱلذى يعجم فى ٱلحقِّ:
"ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر لّسان ٱلّذى يُلحِدون إليه أعجمىّ وهٰذا لسان عربىّ مُّبين" 103 ٱلنّحل.
ﭐلفعل عجم يضمّ دليل ٱلأفعال (عوق وسدّ وغلق وقفل وبهم وستر وخفى). أمّا ﭐلفعل عرب فيضمّ دليل (فتح وظهر وكشف وبسط وصفى ويسر).
لقد جآء فى ٱلبلاغ 103 ٱلنّحل أنّ لسان ﭐلبشر "أعجمىّ". وسبب ذلك ٱلوصف أنّ لسان ٱلبشر مهما كان بيانه فى ٱلحقِّ واسعًا فإنّه يعجم فى ﭐلبلاغ عنه جميعه. ولا يكون بيانه إلا بمقدار ما وصل إليه من علمٍ فيه.
وجآء فى ٱلبلاغ أنّ لسان ٱلوحى "عربىّ مّبين" لأنّه لسان ٱللَّه وهو ﭐسم نور ٱلسّمٰوٰت وٱلأرض ٱلّذى يعلم بكلِّ شىء. فٱسم ٱلوصف عربىّ لا يكون إلا لبيانٍ يُعرب عن جميع ٱلحقِّ ويُبيِّن كلَّ شىء من دون بهم ولا عوق ولا لبس ولا شوب ولا عسر ولا غلق ولا سدّ ولا خفى ولا ستر ولا قفل. ولسان ﭐلوحى ٱلذى يحمل ٱلبيان عن جميع ٱلحقِّ نزل على قلب ﭐلرّسول وثُبِّت به فؤاده. وﭐلرّسول بشر أُوحِىۤ إليه بيان ٱللَّه ٱلعربىّ بلسان قومه فنطقَ ٱلبيان ٱلعربىّ بلسانه وخطَّه بيده.
وما فعله أصحاب ٱللَّغة ٱلفصحى هو خلط كلام لسان ﭐلوحى وبيانه ٱلعربىّ مع كلام لسان ﭐلبشر وبيانه ٱلأعجمىّ. وجعلوا بيان لسان ٱلوحى ٱلعربىّ يتبع بيان بشر شاعر ويتوقف عند إدراكه وبيانه. وبذلك طغىۤ إدراك ﭐلبشر فىۤ أحكامهم ٱلأعجمية على ﭐلقول ﭐلموحى وبيانه. وظنّوۤا أنّ بيان لسان ﭐلوحى ٱلعربىّ هو بيان لسان شعرآء وخطبآء من قومِ مَكَّةَ ٱلشّاميين ومن حولها. وما بيان لسان مكَّة إلا بيان لسانِ بشرٍ أعجمىّ. وإنّ ٱلّذى يُلحدون إليه سوآء ءَكان ﭐلقسُّ ورقة ﭐبن نوفل أم ﭐلرّاهب بحيرة أم سلمان ﭐلفارسىّ فإنّ بيان لسانه أعجمىّ لأنّه بيان لسان بشرٍ.
وقد ٱختار أصحاب ٱللّغة ٱلفصحى لبيان لسانهم ﭐسم "ٱللَّغة" وألحقوا به ٱسم "ٱلعربية" ظنًا منهم أنّ ٱسم "عربىّ" يدلّ على قوم. وهم إلى ٱليوم لا يعلمون أنّ ٱلكلمة لا تدلُّ على لون بشرىّ. وهذا ٱلظنّ وٱلجهل جعل بيان لسانهم وحدهم من بين جميع ﭐلشعوب يحمل ٱسم "لغة" لأنهم وحدهم من دون غيرهم لا يملكون نورًا فى ٱلحقِّ وهم وحدهم يلغون فى بيانه ولا يعربون. وبيان لسانهم هو باطل يحجب ويكفر ويعوق ٱلعلم فى ٱلحقِّ. وٱلمتعلمون بلسان ٱللّغة يبطلون ويحجبون ويكفرون ويعوقون ٱلعلم فى ٱلحقِّ. وهذا يبيّن سبب قول ٱلرّسول لربِّه يوم ٱلقيامة:
"وقال ٱلرّسولُ يَـٰرَبِّ إنّ قومى ٱتَّخَذُوا هٰذا ٱلقرءانَ مَهجُورًا" 30 ٱلفرقان.
وأكثر قوم ٱلرّسول يكفرون ويلغون فى ٱلحقِّ ويقمحون فى ٱلقول فخرًا وشعرًا وكذبًا:
"يسۤ(1) وَﭐلقرءَانِ ﭐلحَكِيمِ(2) إِنَّكَ لَمِنَ ﭐلمُرسَلِينَ(3) علىٰ صِرَٰطٍٍ مُّستَقِيمٍ(4) تَنزِيلَ ﭐلعَزِيزِ ﭐلرَّحِيمِ(5) لِتُنذِرَ قَومًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُم فَهُم غَٰفِلُونَ(6) لَقَد حََقَّ ﭐلقَولُ عَلَىٰۤ أَكثَرِهِم فَهُم لا يُؤمِنُونَ(7) إِنَّا جَعَلنَا فِىۤ أَعنَٰقِهِم أَغلَٰلا فَهِىَ إلى ﭐلأذقانِ فهم مُقمَحُونَ(8) وجعلنا مِن بَينِ أيدِيهِم سَدًّا ومِن خلفِهِم سَدًّا فأغشَينَٰهم فَهُم لا يُبصِرُونَ(9) وَسَوَآء عَليهِم ءََأَنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم لا يُؤمِنُونَ(10)" يسۤ.
وهذا كلّه بسبب بيان لسانهم ٱلذى يزعم ٱلعربية وهو لسان أعجمىّ لا يبيِّن من ٱلحقِِّ شيئًا. بل هم فيه يلغون ويبطلون ويكفرون.
لقد ٱستخرج أصحاب ٱللّغة ٱسم لسانهم "لغةٍ" من دليل ٱلفعل "لَغَوَ". وهم يقولون عنه فى مصادرهم ٱلِّسانيّة أنّه (للقول ٱلباطل ٱلمآئل عن ٱلحقِّ وما لا يعتدّ به من كلام وغيره). وهذا ما فعلوه فى دليل ٱلكثير من ٱلأفعال وٱلأسمآء. ونضرب أمثلة على لغوهم فيها (قرأ وتلو ودرس بدليل واحد) و(رأى ونظر وبصر بدليل واحد) و(عقر وعقم بدليل واحد) و(فؤاد وقلب أبدلهما لغوهم بكلمة دماغ) و(كلمة سوّى أبدلت بكلمة نفَّذ) و(كلمة مأرب بكلمة هدف) و(كلمة عربى بكلمة شفاف ٱلعبرية) و(كلمة مقدار أبدلت بكلمة رياضيات ٱلمحرّفة عن ٱلأصل روض) و(كلمة خرص أبدلت بكلمة خرف ٱلعبرية) و(كلمة نوى حُرف دليلها بكلمة نيّة ووضعت فى مكان كلمة إرادة) و(كلمة ضوء حُرف دليلها بكلمة وضوء ووضعت فى مكان كلمة غسل) و(كلمة صلوٰة حُرفت عن موضعها وجعلت فى مكان كلمة نسك) و(كلمة زكوٰة حرف دليلها ووضعت فى مكان كلمة مكّ ومكوس "ضريبة") و(كلمة ضريبة جآءوا بها من ٱلفعل ضرب وحرفوا دليله) و(كلمة زعيم جآءوا به من ٱلأصل زعم وحرفوا دليله) و(كلمة وطن جآءوا بها ووضعوها فى مكان كلمة ديار) و(كتاب وقرءان وفرقان جُعل لها دليل واحد) و(كلمة ذرّة وضعوها فى مكان سورة) و(كلمة ملّة جعلوها بدليل كلمة طآئفة) و(كلمة والد وكلمة أب بدليل واحد) و(كلمة ٱبن وكلمة ولد بدليل واحد) و(كلمة أمّ وكلمة والدة بدليل واحد) و(كلمة فُلك وكلمة سفينة بدليل واحد)... ونتوقف عند هذا ٱلحدّ من ٱلمثل لأن ٱحصآء هذا ٱلعمل ٱلتحريفى ٱللاغى يحتاج لجهد كبير ومقال طويل.
وإذا نظرنا فى لغوهم فى دليل ٱلفعل "بَطَلَ" ٱلّذى يدلّ على ٱلهزل وٱلنقض وٱلعطل وٱلكسل وٱلفساد. وهم يقولون فيه (بطل وسقط حكمه. تعطَّل عن ٱلعمل فهو بطّال). فإنّ ما يقولون عنه هو حال لسانهم ٱللاغى. وهم يُخرجون منه ٱسم "ٱلبَطَل" ليدلّ بلغوهم على مَن يستبسل فى قتال! و"ٱلبَطَلُ" هو ٱسم قد يكون صاحبه مستبسلا فى قتال لكن ما يريده من ٱستبساله هو سلطة ٱلباطل وٱللّهو وٱلجهل!
إذن منهاج ٱللّغة ٱلفصحىۤ هو منهاج لغو ومَيل عن ٱلحقِّ وتعطيل للنظر فيه. وقد رأيت فى ٱلبلاغ ٱلعربىّ بيانًا عن صانعه:
"وقالَ ٱلَّذين كفروا لا تَسمَعُوا لِهٰذا ٱلقرءانِ وٱلغوا فيه لَعلَّكم تَغلِبونَ" 26 فصلت.
وقد عمل ٱلكافرون على صناعة لغو ٱللّغة وباطلها لتكون وسيلتهم فى كَفر ومَنع تنزيل ٱلِّسان ٱلعربى ٱلمبين فى قلوب ٱلناس. وكذلك لمنعهم من ٱستعمال لسانهم ٱلفطرىّ ٱلذى يسهل عليهم ٱلإدراك كما فعل ٱلناس فى دولة إسرٰءيل. وكان لغوهم سببًا لتعطيل أفعال ٱلإدراك وسببا لأمراض ٱلتَّعريب وٱلفهم عند أكثرية ٱلشَّاميين ٱلذين تسميهم ٱللّغة بلغوها عربًا. وتشبه صناعة لغو ٱلكافرين صناعة مناهج ٱلفيروسات وٱلهكرز وغيرها من صناعة تخريب ٱلويندوز على ٱلانترنيت وصناعة كَفر مواقعه. وهو ما تظهره قلوب ٱلناس فى بلاد ٱلشام من عطل وكسل عن ٱلحقِّ وبطولات ترجف فى ٱلأرض قتلا وتخريبًا لتعظيم ٱلباطل وٱلطغوى وٱلهزل وٱلسخرية من شرعة حقوقهم كبشر نفخ ٱللّه فيهم من روحه ليكونوا خليفة فى ٱلأرض يعلمون ويُسألون.
لقد بيّن ٱلبلاغ أنّ ٱلَّذين يصنعون ٱلتَّحريف هم مِنَ ٱلَّذين هادوا:
"مِنَ ٱلَّذين هَادوا يُحرِّفُونَ ٱلكَلِمَ عن مَواضِعِهِ" 46 ٱلنسآء.
وهؤلآء هم ٱلسّلفيون ٱلجاهلون بكلِّ ألوانهم ٱلقوميّة. وهم ٱلذين يشدّون حاضرهم بقوّة منهاج أمتهم ٱلمنسوخة وٱلتى يفعل بها منهاج ٱللّغو فيجعلها لا تقبل بتنزيل طور علمىّ جديد. وبهذه ٱلأمّة ٱلمخرّبة يتوقفون عند ماضٍ ميّتٍ لا حياة فيه. وهو ظنّ جاهلين يأتى به ٱلجهل وٱللّغو فى ٱلكتاب وٱلامتناع عن تنزيله وٱلكفر بٱلأمر ٱلعربىّ:
"ولا يلتفت منكم أحد"81هود .
وفى ٱلبلاغات ٱلتالية ما يبيّن دليل ٱللَّغو:
"لا يُؤَاخِذُكُم ٱللَّه بٱللَّغوِ فىۤ أَيمانِكُم" 225 ٱلبقرة.
"وٱلَّذين هُم عَنِ ٱللَّغوِ مُعرِضُونَ" 3 ٱلمؤمنون .
"وٱلَّذينَ لا يَشهَدونَ ٱلزُّورَ وإذا مَرُّوا بٱللَّغوِ مَرُّوا كِرَامًا" 72 ٱلفرقان
"وإذا سَمعوا ٱللَّغوَ أَعرَضُوا عنه" 55 ٱلقصص.
"يَتَنَازَعُون فيها كأسًا لا لَغو فيها ولا تأثيم" 23 ٱلطور.
"لا تسمعُ فيها لاغيَةً" 11ٱلغاشية.
وأقول أنّ ٱسم "لغة" هو لكلِّ ما نجم وينجم عن ٱلفعل "لَغَوَ". وهو ٱسم لفاسد ومعطّل عن إدراك دليل ٱلكلام وبيانه. وهذا هو حال لسان ٱللّغة ٱلفصحى وأفعالها فىۤ إفساد وتعطيل إدراك كلام بلاغ ٱللّه ٱلعربىّ.
لقد ﭐتّبع ﭐلرّسولُ محمدٍ ﭐلقرءانَ ٱلمنزّل على قلبه خطًّا بيده ونطقًا وحديثًًا بلسانٍ عربىّ مّبينٍ. وجآء ﭐلخطّ ٱلموصول ونطقُ ٱلكلمة نسخًا لّما نُزّل على قلبه وما ثُبّت به فؤاده. وهو قبل ﭐلتّنزيل لم يكن يدرى:
"وكذٰلك أوحَينَآ إليك رُوحًا مِّن أمرِنا ما كُنتَ تَدرِى مَا ﭐلكِتَٰبُ ولا ﭐلإيمَٰنُ" 52 ﭐلشّورى.
وما كان يتلوا من كتاب ولا يخطّه بيمينه:
"وما كُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِن كِِتَٰبٍٍ ولا تَخُطُّّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لاّرتابَ ﭐلمُبطِلُونَ" 48 ﭐلعنكبوت.
ومن بعد ٱلتنزيل وٱلتثبيت صار يتلوا ويخطّ ويُعلِّم "ﭐلكتٰب وﭐلحكمة" بلسانٍ عربىّ مّبينٍ. وهذا تبينه مناهج ٱلكتابة وٱلطباعة وٱلصوت فى ٱلكومبيوتر.
أما خطّ قومه لكلامهم فهو خطّ مَّفروق يوافق ٱلطور ٱلذى وصل إليه لسانهم كٱلخطّ ﭐلأرامىّ ٱلسيريانىّ أو ﭐلنَّبطىّ أو ٱلعبرىّ أو ﭐليمنىّ أو ٱلسّبأئىّ. وهو خطّ منشأه نفخُ ٱلرُّوح أول مرّة "ءَادم" وما تبعها من مناهج تطوير أتى بها ملٰئكة وأنبيآء ورسل.
فى كُتُبِ ﭐلسَّلف قصّة عن ﭐلخطّ تخالف ماۤ أقوله. فتقولُ ﭐلقصّةُ أنّ بعض أصحاب ﭐلرّسول خطّ ما سمعه من ﭐلرّسول حديثًا منطوقًا. وأقول أنّ كلّا مِّنهم قد يكون خَطَّ ما سمعه حديثًا منطوقًا بٱلخطّ ﭐلّذى ﭐكتسبه. أمَّا نسخة ﭐلقرءان ﭐلّتى بين أيدينا ﭐليوم فهى ما خطّه ٱلرَّسول بيده كما هو فى فؤاده. وهى ﭐلنّسخة ﭐلّتى ﭐختارهآ عثمان وأصحابه من بين هٰذه ٱلنسخ وعرَّفها تاريخ ٱلانقلابيين فى سقيفة بنى ساعدة بٱسم "مصحف عثمان".
هٰذه ﭐلقصّة تقول ظنًّا أنّ ﭐلنََّّسخة ﭐلمختارة كانت بلا قوى فعلٍ (ﭐلحركات وﭐلنّقط) وهذا ٱلقول ينطبق على ما خطّه ٱلأصحاب. وتزعم ٱلقصّة أنّ ﭐلخوف من ضياع ﭐلنّطق دفع بعض ﭐلمهتمين لإبداع ما يسمّى (ﭐلحركات وﭐلنقط). وهذا تفسير لٱنتقال هذه ٱلحركات إلى خطِّ ٱلسلطة ٱلتى تبنّت ٱلخط ٱلسريانى ٱلاسطرنجيلى وأخذت من ٱلقرءان بعض ٱلحركات له من دون دراية بأفعالهآ. أمّا قولهم عن ضياع ٱلنطق فهو ريب فى قدرة ﭐللّه وكتابه. كماۤ أنّه لغو فى ﭐلقولَ ﭐلعربىّ:
"إنّا نَحنُ نَزَّلنَا ﭐلذِّكر وإنَّا لَهُ لَحَٰفِظُونَ" 9 ﭐلحجر.
فٱلحفظ من دون حفظ ٱلخطِّ ليس حفظًا. وخطُّ كتاب ٱللَّه وقوى ٱلفعل فيه لا يعلمه بشر من قبل. بل لا يعلم به إلى ٱليوم. فكيف سيكون ٱلحفظ للذِّكر وخطّه؟
هناك سبيل واحد. وهوَ أن يخطَّه ﭐلرّسول بيده وهو ٱلذى لم يكن يتلوا من قبله من كتاب ولا يخطُّه بيمينه. فكيف سيفعل ذلك؟
فى كتاب ٱللَّه بيان ذلك. فقد قرأ محمد ٱلقرءان مَّفروقًا ولم يقرأه جملة واحدة. وهٰذا يبيّنه ﭐلبلاغ ﭐلعربىّ:
"وقال ﭐلّذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه ﭐلقرءانُ جُملَةً وٰحدةً كذٰلك لنثبِّتَ بِه فؤادَكَ ورَتَّلنَٰهُ ترتيلاً" 32 ٱلفرقان.
فقد ثبت فؤاده به وبأرتاله files (ملفاته فى ٱللّغة) وجعله يتبعه فلا يخالفه. وقد بيَّنَ ٱلبلاغ سَّبَب قرءانه ٱلمفروق:
"وقُرءَانًا فَرَقنَٰهُ لِتَقرَأَهُ عَلَى ٱلنّاسِ علىٰ مُكثٍ ونَزَّلنَٰهُ تَنزِيلاً" 106 ﭐلإسرآء.
قرءانه من قلبه غير مرتبط بأسباب نزول كما يظنّ أصحاب ٱللّغة. وقرءانه هو إخراجه من أرتاله ٱلمفروقة فى فؤاده إلى مرءاة قلبه ومنهآ إلى لسانه لينطق به وإلى يده ليخطّه بها وينسخ ما فى مرءَاة قلبه كما يحدث فى مُخرج ٱلصوت وطابعة ٱلكومبيوتر.
أمّا بيان ٱلقرءان فيأتى بعد ذٰلك وفى وقتٍ بعيدٍ وهو ما بيّنه ﭐلبلاغ:
"إنَّ عَلَينَا جَمعَهُ وَقُرءَانَهُ(17) فَإِذا قَرَأنَٰهُ فٱتَّبِع قُرءَانَهُ(18) ثُمَّ إنَّ عَلَينَا بَيَٰنهُ(19)" ٱلقيٰمة.
وفيه أنّ ﭐلمنزّل هو ﭐلّذى يجمع ما تفرَّق فىۤ أرتال files. وجمعه له هو ﭐلّذى يجعله قرءانًا نطقًا وخطّا. ويبيّن ٱلبلاغ أنّ جمع ﭐلقرءان وقرءانه (إخراجه من مكان حفظه فى ٱلفؤاد) قام به ﭐلمنزّل. وأنَّ ﭐلأمر "فٱتّبع قرءانه" يشير إلى ﭐلنّسخة ﭐلّتى خرجت من ﭐلفؤاد نطقًًًًا وخطّا. وقد صار ليد ولسان ٱلرّسول منهاج تعريف يجعله ينطق ويخطُّ كلام ٱلقرءان كما نزل على قلبه وثبّت به فؤاده.
وبعد وفاة ٱلرّسول أحضرت نسخة مخطوط يده إلى دار عثمان. وهى ٱلتىۤ عُرفت بـ "مصحف عثمان". أما قوم ٱلرَّسول فكانوا يظنّون أنّ ٱلرَّسول بقىَ من بعد ﭐلوحى لا يخطّ ولا يتلوا. وتناقلوا فيما بينهم ﭐلنّسخ ﭐلمخطوطة بخطوط ﭐلأصحاب. وهى خطوط بلا قوى فعلٍ وٱلأقرب إلىۤ إدراكهم ولسانهم. وظنّوۤا أنّ هٰذه ﭐلنّسخ ﭐلبشريَّة تمثّل ﭐلوحى ٱلمنزّل. ومنها نشأت ﭐلتلاوات ٱلمتعدِّدة ﭐلمعروفة بٱسمٍ لَغوٍ "ﭐلقراءات". وبقيت مسألة خطّ ﭐلقرءان ﭐلمنزّل على قلب ﭐلرّسول غآئبة عن ﭐلنّاس. وجرى ﭐلظّنّ بينهم أنّ ﭐلخطّ وﭐلقوى من وضع ﭐلبشر. وقد ٱختلقوا قصصًا تلغو فيها. ونجدها فى كتب ﭐلسّلف وﭐلخلف لا تطابق ﭐلخطّ ﭐلرّسولىّ. وجآء فى كتب قوم ﭐلرّسول ﭐسم "لغة" وأخذ مكان ﭐسم "لسان". وٱسم "حروف" جمع حرفٍ من أصل ٱلفعل حَرَفَ للأبجدية. وصار ﭐلعلم عندهم فى ﭐلكلام علم لغو باطل وتحريف جاهل لا علم لسان. وما جآءوا به أفسد وعطّل وما زال يفسد ويعطّل أعمال ﭐلعقل وﭐلتّصديق.
وأقول أنّ ٱلعربىّ هو ٱلبيِّن من دون حجب ولا كفر ولا عوق. وبيان دليله لا تبينه كلمة شفاف ٱلعبرية وحدها وٱلتى يظنّ أصحاب ٱللّغة ٱلفصحىۤ أنها من ٱلِّسان ٱلعربى. كماۤ أنّ ٱسم عربىّ ليس للونٍ بشرىّ. وقوم ٱلرَّسول هم شاميون ولسانهم هو لسان شام بفروعه ٱلغربية وٱلشمالية وٱلجنوبية ٱلقريّة منها وٱلبدوية. وخطّ لسان ٱلشام مفروق ٱلأبجدية. وهو يناسب لسان ٱلفطرة ٱلذى ينطق به عامّة أبنآء ٱلشام إلى يومهم هذا من دون أن يتعلموا خطّ نطقه بأبجدية تناسبه كما فعل بعضهم فى دولة إسرٰءيل. ولذلك هم لا يتواصلون بلسانهم ولا يملكون ٱلقدرة على ٱلرّبط بين ما يتعلمون من خطِّ ٱللّغة ولغوها وما فىۤ أنفسهم من منهاج لسان فطرتهم.



#سمير_إبراهيم_خليل_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ٱلبابا بندكتوس وٱلمسلمون ٱلبخاريون!
- هل أنّ ٱللّه ربّ ٱلسّمٰوٰت وٱل ...
- جدلية وحش إنسان
- ٱلعمل ٱلسياسىّ بهداية كتاب ٱللّه
- عام 2050 على ٱلأبواب
- مَن نحن؟
- أيها ٱلديمقراطيون لا تلوموا ٱلرئيس على عبد ¤ ...
- ٱلعلمانية مفهوم يحرف ٱلإدراك ويلغو فيه
- ما هى حاجتناۤ إلى ٱلميثاق؟
- ٱلجميع سيقبل ٱلفيدرالية!
- ٱلفيدرالية هى ٱلسبيل إلى ٱلديمقراطية و ...
- بيان ٱلحىّ حىّ
- ٱلديمقراطية مستغربة
- ٱلخليفة
- ٱلأول من أيَّار
- حوار كهنوت لا حوار أديان
- بداية طيبة
- تعليق على رسالة
- ٱلديمقراطية حاجة إنسانيّة
- ٱلاتهام: قرءانيون


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سمير إبراهيم خليل حسن - ٱلديمقراطية وٱلفيدرالية وحقوق ٱلإنسان