إنه ليس طبعاً من الضرورة أن تكون سوكولارِياً حتّى تكون ديمقراطياً. وهذا صحيح لحد أنَّ السوكولارية (أو ما ينعتونه لغرض الدعاية ب"العلمانية") أحيانا تتوافق تماما مع الدكتاتورية. إن نظام صدام دليل على ذلك والحكومة الليبرالية البوشية القادمة في العراق دليل آخر، تركيا تاريخ آخر في الدكتاتورية السوكولارية، والأمثلة كثيرة. لا تنسى أنَّ عددا من ذوي التأثير القوي (مثل فريد زكريا، محرِّر "نيوزويك إنترناسيونال" والمحرِّر التجاري سابقاً ل"فورين أَفِّيرز") ينصحون الإدارة الامريكية بوضع مؤسسات ليرالية سوكولارية في العراق والغفول عن وضع مؤسسات ديمقراطية إلى أجل غير مسمّى. كما رأينا أيضا كيف أمَّن الأمريكان مصالح النفط تاركين المتاحف عرضة للناهبين. إن الفكر الديمقراطي عند الإغريق أسبق بكثير من الفكر السوكولاري المعاصر. السوكولارية فكر حديث، غربي، ليبرالي، مسيحي في عمقه. وإنه مما يبعث الأسى فِعلا أنَّ هذا الفكر، الذي تهجره أغلبية الجادين والمبدعين من الباحثين الغربيين، مايزال قائما في شكله المَرَضي الفيتْشي عند العرب.
لم يستقبل الشعب العراقي الجنود الأمريكان بالزهور والحلويات كما كان قد وعدهم بذلك كنعان مكية وأشباهه. وقد "فاجأ" العراقيون الغزات برسالتهم : أنَّ الديمقراطية كما يفهمونها تعني سيادة العراق وتقرير الشعب العراقي لذاته ولما يصلح من نظامٍ سياسيٍ لبلده. وما زال العراقيون "يفاجئون" المحتلّين مُظهرين استعدادهم لمقاومة الدكتاتورية ولو بأنواعها اللّيبرالية، مُظهرين تصميمهم على الكفاح من أجل ديمقراطية غير سوكولارية، ديمقراطية من النوع المابعدليبرالي غالبا--إشتراكي أو إسلامي أو جماعاتي (كوميونيتاري) بشكل عام .
صحيح أنَّ هناك من يُقلِّلون من أهمية ما سمَّيتُه سابقا "بالمقومات الجديدة في العراق"، متغاضين عن الامر وخطورته أو سالكين سياسة نَعام --"الغارديان" التي تذكُر ألفين مؤيد فى البصرة يوم السبت الماضي بينما يشير العديد من الوكالات ومن ضمنهم "رويتر" الى أرقام ترتفع الى مئة ألف نسمة. وأكيد أنَّ من الناس مَن يخشى فى الوضع الحالي أنَّ احتجاجات الجماهير المسلمة وإثبات وجود القوة الشيعية سيزيدون فقط من آمال الوطنيين العراقيين ولا يثيرون بالقدر الكافي من قلقهم. إن التحرك الحالي قد يعلن بالفعل مرحلة طلوع الحركات الطائفية الدينية مثلا. إلا أنَّ الشيء الذي يُقلَّل هنا من أهميته ويُهوَّن من خطورته هو أنَّ الأحداث الحالية ربما تُهدِّد أيضا بمرحلةٍ مقبلةٍ أخرى وبطائفية مضادة سوكولارية. الأسوأ من كل ذلك أنَّ هذه الأخيرة قد تكشف مَن هم ديمقراطيين ووطنيين على السطح فقط، وتُضلِّل آخرين لترمي بهم فى أحضان السوكولاريين الليبراليين اللاوطنيين، فى أحضان قوات الاحتلال وأحضان الذين قرَّروا مُقدَّماً أَنَّ الدولة العراقية الغيرسوكولارية "لن يكون لها وجود أبدا" (رامسفِلد).
فيما يخص القلق الاول، فإنه غير مُسَلَّم به على الاطلاق ان المرجعية الشيعية تريد فرض دولة اسلامية من النوع الايراني على العراق بتشكلته السكانية المعروفة. إن التصاريح عن ناطقين باسم الحوزة العلمية وعن السيد باقر الحكيم تقول أنهم لا يريدون دولة إسلامية بل "حكومة لكل العراقيين"، تضم الكورد والمسيحيين. الزعماء الشيعة لا يطالبون فقط برحيل القوات الامريكية وإحياء الاسلام، بل يأكدون أيضا على ضرورة القيم الديمقراطية.٭ بالمقارنة مع الجمهورية الإسلامية فى ايران.
إنني أعتقد أن الشيعة العراقيون قد اختاروا مفهوما شعبيا ليس ثييوقراطيا للديمقراطية. ومن الطبيعي أنهم يريدون أيضاً حكومة منتخَبة بشكل حرٍّ لأنهم يعلمون أنه في حالة انتخابات حرة وعادلة سيكونون في موضع جيد. إن اعتراضي عن الشيعة العراقيين يخصّ إدراجهم هنا موضوع الاغلبيات والاقليات فى صنع القرار. هذا المفهوم فى رأيي لا يصلح ولا يجوز مطلقا إستعماله فى تسوية مسألة الحكم فى التركيبات الإجتماعية الطوائفية النوع (كونسوسياسيون) على غرار تركيبة المجتمع العراقي. وذلك لأن هناك وبالتأكيد من الترتيبات الإجتماعية ما هو اكثر عدالة من ذلك وما يراعي مصالح كل الجماعات المعنية بالأمر، إثنياتٍ ومِلَلٍ، اللاسوكولارية والسوكولارية منها على حد سواء.
إنني أعتقد أيضاً أن الشيعة العراقيون على إختلاف الإيرانيين قد اختاروا من الحكم نوعا أقل مركزية، ولو أنَّه ليس بالقدر الكافي لتبنّيهم نوعا غير غربيٍّ من الفيدرالية، على الطراز "المِلَلي" (وربما قد يتوفق كنعان مكية فى بيع مشروعه الفيدرالي لهم، حيث أنَّ مشروعه يُقسِّم البلد على أساس الأقاليم وليس على أساس الجماعات كالإثنيات والمِلَل والطوائف والمذاهب. ومفهوم مكية عن الفيدرالية الإقليمية هو من الموضيل الأمريكي والألماني، مِمّا سهَّل قبول مشروعه من قِبل الإدارة الأمريكية. وقد خصص مقالة كاملة نشرها في "الحياة"، 14/1/2003، لترويج فكرته عن فيدرالية العراق ما بعد صدام حسين). وهنا بالظبط تقبع النّزعة الطائفية عند شيعة العراق بالدرجة الأولى. ولا يكفي في نظري أنَّ العديد منهم يحُثّ على الوحدة بين الشيعة والسنة، وينادي بحماية حقوق الأقليات، بما فيهم حقوق الأكراد. فإنهم مُطالَبون فى رأيي بموقف أدق بقدر أعلى من ذلك بكثير من شأن الحقوق الجماعية، بما فيها حقوق الحكم الذّاتي عل مستوى الهوية المحلية وحقوق التمثيل الخاص على مستوى المؤسسات المركزية الوطنية، إنهم يرغبون حقّاً أن يزيد العراقيون من تصديقم. إنهم مُطالَبون بذلك أيضا إن أرادوا تفادي رَدِّ الضربة عليهم من طائفيةٍ مضادة أخطر وإن شاءوا تفادي أصولية "المِلَّة" السوكولارية.
ومهما كان الأمر، فانضمام منظمات إسلامية، بما فيها حزب شيعي ذو شهرة وباع (حزب الدعوة) وحزب سنِّي (الحزب العراقي الإسلامي) مع منظمات أخرى--شيوعية (الحزب الشيوعي العراقي)، اشتراكية، قومية، ديمقراطية--يعطي صورة أخرى عن التطورات القادمة. ما سُمِّي ب"إتلاف القوى الوطنية العراقية" يعطي فعلا صورة معتدلة شيئا ما وصورة أكثر تفاؤل على كل حال. ورأيي أنَّه بمستطاع هذا النوع من التعاون السياسي أن يغري مجموعات المؤيِّدين ودوائر إنتخابية شيعية أوسع، وذلك بشرط أن يُرفع الحظر عن الموضوع أي السوكولارية الذي حَرَّمت "التقاليد العربية" مناقشته وذِكره ليومنا هذا. إنَّه يجب فى إعتقادي على الديمقراطيين العراقيين أن يتخلَّصوا، ولو جزئيا، من المُعتقَد المُقدَّس السوكولاري إن كانت غايتهم ربح المعركة ضد الطائفية.
عزيزي طاهر، إنه أمر ليس له بالتأكيد شيء من الحكمة أن تُرفع فى العراق راية الحكم السوكولاري. إن هذا ضرب من الحمق ومن التحيُّز الطائفي الذي يكون ربما أبشع من رفع راية الحكم الثّييوقراطي الشيعي. إنَّ ذلك سيكون بمثابة رفع راية حرب أهلية في العراق وسيهيء فرصة التغلُّب للمحتلّ الأنغلوأمريكاني.
لا تنسى أن المأساة الجزائرية مأساة اصطدام عقيدتين،الأصولية السوكولارية والأصولية الإسلامية. وكذلك فإن حرب أهلية عراقية ستكون حرب إصطدام طائفيتين، طائفة سوكولارية وطائفة دينية. بعبارة أخرى، المسألة ليست مسألة إمّا السوكولارية أو الثّييوقراطية لأن هناك أكثر من خيار؛ هناك شتّى الأشكال فى التنظيم السياسي التي تسمح بالتعدّد والتعايش "المِلَلي". هناك أنواع من الحكومة--سمِّيها أنظمة مابعدليبرالية--ترعى حقوق كل الجماعات العقائدية--سوكولاريون مُلحدون، سوكولاريون مؤمنون، لاسوكولاريون مؤمنون ولاسوكولاريون مُلحدون. وليست المسألةُ مسألةَ تنكُّرٍ لهوية العراق وثقافته العربية الإسلامية، فذلك الشأن من إختصاص "المكيات والجَلَبيات" والعرائس الأنغلوأمريكانية، بل على عكس ذلك، حيث أنَّ التاريخ السياسي والثقافي لمنطقتنا قد أظهر نماذج أخرى وأغنى من النماذج الغربية السائدة حاليا في النظام الإجتماعي.
تحياتي،
محمد بن جلون
http://medlem.spray.se/benjelloun/