أساءت سياسات التعريب و التطهير العرقي التي مارستها حكومة البعث بحق الكرد في مناطق واسعة من كوردستان العراق الى العرب قبل الآخرين لأنها أظهرتهم كغاصبين لأراضي و ممتلكات الغير بصورة غير مشروعة . ولابد أن أشير هنا الى أن نظام صدام حسين إستغل جوع و فقر أعداد كبيرة من العرب في الجنوب و الوسط لأقتلاعهم من جذورهم و إسكانهم في المناطق الكردية وسط أناس يشعرون أقل ما يقال عنه بالأسى لقيام إخوان لهم في الوطن بالسيطرة على أراضي و ممتلكات الغير دون وجه حق وبصورة تتناقض مع أبسط قيم العدالة و الأنسانية . وقد لمست بنفسي مدى معاناة عدد كبير من هؤلاء الناس الذين أقتلعوا من جذورهم و مدى الغربة التي كانوا يعانون منها في بيئة غريبة عنهم و عن مراتع طفولتهم و ذكرياتهم و أقاربهم و المأزق الذي وضعوا فيه بسبب أوضاعهم الأقتصادية البائسة . وقد أجرم البعث برأيي بحق هؤلاء قبل غيرهم . وقد حول نظام البعث الذي إشتهر بتدميره لمنظومة القيم الأجتماعية للشعب العراقي و تبنيه للأفاقين و الأنتهازيين و الباحثين عن الكسب الرخيص مجموعة كبيرة من العراقيين الى أناس لايعيرون لقيم الحق و العدالة إهتماما يذكر . فعلى سبيل المثال لا الحصر أشير هنا الى مثال معبر يختصر هذه الحالة المأساوية . بعد سقوط النظام و تخلي السكان العرب عن الأراضي الزراعية العائدة لمواطنين كرد في العديد من المناطق الكردية حتى دون أن يطلب منهم ذلك لأدراكهم بأن هذه الأراضي ليست لهم و لابد أن تعود الى أصحابها الأصليين . إلا أنهم بعد أن أدركوا بأن الظروف الجديدة لن تسمح باللجوء الى قمع الناس لمجرد التظاهر او المطالبة بشئ عادوا و طالبوا أصحاب الأراضي بالسماح لهم بجمع النتاج الزراعي لهذه السنة كونهم قاموا بزراعة هذه الأراضي . وعندما أخبروا بأن الأكراد عندما أجبروا على ترك أراضيهم قبل سنوات تركوا مزارعهم و لم يسمح لهم بجني المحاصيل و قاموا هم و لسنوات طويلة بزراعة هذه الأراضي و جني المحاصيل دون أن ينافسهم في ذلك أحد و لن يطالبهم الكرد بتعويضهم عن تلك السنوات التي جمعوا في معسكرات الموت و التي سميت ظلما بالمجمعات السكنية بل و حتى العصرية! و عاشوا حياة قاسية و غير إنسانية . مع ذلك لجأ هؤلاء الى قوات الأحتلال و جرت الموافقة على قيامهم بجمع المحاصيل وفق مبدأ المناصفة . ورغم الغبن الذي لحق بأصحاب الأراضي الكرد وافقوا على مضض بناء على توجيهات من القيادات السياسية الكردية لعدم فسح المجال أمام قيام المنازعات و التوتر بين السكان الكرد و العرب . أليس من الغريب أن لايثير مثل هذا الأمر شيئا من التعاطف من لدن من يدعون تبني الديمقراطية و ينادون بالعمل على خلق الأمة العراقية الواحدة ؟
أعتقد بأنه لايختلف إثنان بأن ثقافة (الفرهود ) شكلت سياسة رسمية لنظام البعث منذ تسلمه السلطة في العراق بدءً من نهب ممتلكات الكرد الفيليين و التجار المغضوب عليهم و المعارضين و ممتلكات القرويين الكرد على مدى 4أربعة عقود . قلما يجد المرء في كوردستان قرويا كرديا لم تتعرض ممتلكاته للنهب عدة مرات على أيدي قوات الجيش العراقي و فرسان خالد بن الوليد و صلاح الدين و غيرها من قطعان النهب و السلب . كما أن جيش القادسية نهب الممتلكات الأيرانية في المناطق الحدودية خلال سني الحرب العراقية الأيرانية . في حين أن جميع مؤسسات الدولة العراقية بما فيها الجامعات العراقية قامت بنهب الكويت وفق قرارات رسمية صادرة من قمة هرم السلطة في العراق وقد ظهرت نتائج ثقافة الفرهود البعثية بأقبح صورها بعيد سقوط النظام في بغداد و المحافظات . ورغم محاولات بعض القنوات الإعلامية العربية تهويل الأمور في المدن الكوردستانية إلا أن حبل الكذب قصير و تبين فيما بعد بأن المدن التي دخلتها القوات الكردية كانت الأقل عرضة لعمليات النهب و السلب بل و لعبت هذه القوات في بعض الأحيان دورا كبيرا في إعادة الأمن و الأستقرار الى مدن الموصل و كركوك بسرعة كبيرة و سيطرت على الأوضاع و أعادت الكثير من المواد المنهوبة . هذا لا يعني قطعا تبييض صفحة ضعاف النفوس من بين الكرد الذي إنغمسوا بدورهم في مستنقع ثقافة الفرهود اللعينة .
العرب الذين جئ بهم الى كركوك و المناطق الكوردستانية الأخرى و سمتهم الدوائر الحكومية في مكاتباتها الرسمية بالوافدين بينما سماهم الناس بجماعة العشرة ألاف لأن الحكومة كانت تعطيهم قطع أراضي سكنية و عشرة آلاف دينار . ولابد من الأشارة الى أن السكان فرقوا دوما بين هؤلاء و بين المواطنين العرب الذين قدموا الى كركوك و غيرها من مدن و قصبات كوردستان بدوافع السكن أو العمل الأمر الذي يتجاهله العديد من الكتاب لدوافع مفهومة لدى القراء. وقد عاش هؤلاء بين الكرد و التركمان و الكلدان و الآشوريين في كركوك و لم يشعروا أبدا بأنهم غير مرغوب فيهم ، و ينظرون بدورهم بكراهية الى جماعة العشرة آلاف لأعتقادهم ، وهم محقون في ذلك ، بأن جلب هؤلاء بهدف تغيير التركيبة القومية لسكان كركوك سيحدث شرخا كبيرا بين المواطنين و قد تعرضوا لذلك و بسبب مواقفهم الى التمييز و القهر .
الأنكى من كل ذلك أن النظام البعثي الذي كان يحلم بتحقيق ( الوحدة الوطنية ) بالقوة الغاشمة، ويبدو أن العديد من الكتاب العراقيين الذين يعيشون في ظل الديمقراطية الغربية يشاركونه الفكر و الأسلوب رغم إختلاف التعابير ، مارس سياسة تقوم على إعتبار هذه المناطق وكأنها مناطق محتلة وجب إحداث التغيير في تركيبتها القومية . لا يسأل هؤلاء السادة انفسهم لماذا يقوم النظام بتغيير التركيبة السكانية لهذه المدن و البلدات و المناطق إذا كانت تعتبرها جزءا من الوطن العراقي و يسكنها مواطنون عراقيون أيا عن جد ؟ يروى عن صدام حسين بأنه كان يردد بأن الكرد كأمة مجزأة سيطالبون يوما بإقامة دولتهم المستقلة و ستكون كركوك بمثابة القلب بالنسبة لهذه الدلة، وهو أمر لم يحدث حتى الآن ، لذلك ومن هذا المنطلق وجب القيام بعمل يجعل من هذا الأمر شيئا مستحيلا . وكانت الأطماع في نفط كركوك و خانقين و غيرها هو السبب الرئيسي لهذه السياسات التي دشنها البريطانيون عند إحتلالهم للعراق أثناء الحرب العالمية الأولى. وكثيرا مايحاول بعض الكتاب تصوير تمسك الكرد بكركوك و المناطق الكوردستانية الأخرى وكأنه أمر تحركة (الأطماع ) في النفط ، رغم أن الكرد يلعنون اليوم التي أكتشفت منابع النفط في هذه الأراضي و التي تحولت و بعكس المناطق الأخرى في العالم الى نقمة على مدينتهم و بلادهم ولم يلمسوا من نعم البترودولار سوى قنابل النابالم و القنابل الفسفورية قبل أن يحوز مغول العصر على الأسلحة الكيمياوية ليدكوا بها المدن و القرى الكردية الآمنة و يلجأوا الى حملات الأبادة الجماعية . لا تكمن أهمية كركوك للكرد في النفط بل أصبحت كركوك تمثل رمزا و تجسيدا للسياسات الظالمة بحق هذا الشعب . وتتضمن الأشرطة المسجلة بصوت جزار كوردستان على كيمياوي و التي وقعت بأيدي رجال الأنتفاضة عام 1991 و أصبحت الآن بحوزة منظمات حقوق الأنسان الدولية ، الأدلة التي لا يرقى اليها الشك في الأساليب الهمجية التي إعتمدها النظام في تنفيذ سياسات التطهير العرقي و الأبادة الجماعية . ويستخدم علي الكيمياوي مصطلح التعريب عندما يتحدث عن هذه السياسات . الغريب أن العديد من الكتاب العرب يعيبون علينا إستخدام هذا المصطلح و يعتبرونه مسيئا للأخوة العربية الكردية .
ومنحنا طارق عزيز ( مكرمة ) عندما أعطانا حق البكاء على كركوك عند المرور بها كما يبكي العرب على حد تعبيره على ضياع الأندلس . وهي إشارة واضحة لمن يود فهم سياسة التطهير العرقي و لايكابر في إدراك النتائج المأساوية لهذه السياسة على مستقبل العراق و التعايش السلمي بين العراقيين جميعا.
هل يمكن لأحد أن يشك في أن التصدي العقلاني للنتائج المدمرة لهذه المأساة و محاولة إيجاد حلول إنسانية لها بهدف عدم الأضرار بجميع الأطراف المكتوية بأثارها المدمرة أمر لابد من القيام به إذا أريد للعراقيين أن يتعايشوا بسلام في هذه البقعة الجغرافية التي قدر لهم أن يعيشوا فيها ؟
ألا تشكل الدعوة الى تكريس نتائج سياسات التعريب و التطهير العرقي تناقضا بل و طعنة في عملية خلق الأمة العراقية التي ينادي بها هذا البعض ؟ هل كان بالأمكان خلق الأمة السويسرية أو البلجيكية و غيرها من المجتمعات ذي التكوينات اللغوية المختلفة و التي كانت فيما مضى من القرون تكوينات قومية دون تبني النظام الديمقراطي و الأعتراف بخصوصيات العناصر المختلفة ضمن الأمة الديمقراطية ؟ هل يمكن لأحد أن يعتقد بأن هذه الأمم تشكلت و تشابكت مصالحها وفق منطق القوة الغاشمة و عمليات التطهير العرقي ؟ أشير الى النموذجين السويسري و البلجيكي لأنه كثيرا ما يشار اليهما دون التطرق الى الظروف التاريخية التي رافقت تطور هذين النموذجين . السويسري الذي يتحدث اللغة الألمانية أو الفرنسية أو الأيطالية ينتمي في أصوله الى الأمم الألمانية والفرنسية و الأيطالية ولكن النظام الديمقراطي السويسري صهر هذه المجاميع في بودقة أمة جديدة هي الأمة السويسرية ، مع الأعتراف الكامل بلغات هذه العناصر على قدم المساواة و التي لابد وأن يشعر بها من يعيش في ظلها قبل الآخرين . كما و تشابكت مصالحها الأقتصادية الى الحد الذي لم يكن بإمكان أحد من أبناء هذه المجاميع أن يفكر بالأنفصال عن الأمة السويسرية و يلتحق بأممها الأصلية . ويرفض السويسري المتحدث بالألمانية أو الفرنسية أو الأيطالية أن يسمى بألماني أو فرنسي أو إيطالي بل ويشعر بفخر كبير بالأنتماء الى الأمة السويسرية . ونفس الشئ يقال بحق البلجيكيين من المتحدثين بالفلامندية و الفرنسية و أقلية صغيرة تتحدث الألمانية . فهم يشعرون بالأنتماء الى الأمة البلجيكية القائمة على أساس فيدرالي و مساواة كاملة بين اللغتين الرئيسيتين . أين هذه من أوضاع الكرد في العراق ؟ لقد حاولت الحكومات العراقية المتعاقبة و بخاصة نظام البعث بأساليب في غاية الوحشية على فرض ( هوية عراقية ) قائمة على العنصرية و محاولة صهر القوميات الغير عربية في بودقة الأمة العربية ؟ كيف يمكن لحوالي ثلث سكان العراق من الكرد و التركمان و الكلدانيين و الآشوريين أن يشعروا بالهوية الوطنية العراقية في الوقت الذي يعتبر العراقيون العرب و معهم جميع العرب العراق دولة عربية و ينتمي شعبها عرقيا أو ثقافيا الى الأمة العربية ؟ لن تفرض الهوية الوطنية العراقية على مكونات العراق من خلال إعتبارهم جزءا من الأمة العربية و عبر الوسائل القسرية و الأنسجام مع نتائج عمليات التطهير العرقي . أعتقد مخلصا أن الأبتعاد عن تبني هذا الخطاب السياسي و إدانة سياسات الأبادة الجماعية و حملات التطهير العرقي و الصهر القومي يشكل المدخل الصحيح لتدشين عملية خلق و تثبيت الهوية الوطنية العراقية .
مناسبة هذا الكلام مقال السيد سليم مطر تحت عنوان ( حملات التطهير العرقي الكردية ونذر الحرب الأهلية في العراق ) الذي عرف بكتاباته التي تحمل نفسا معاديا لكل ماهو كردي خلال السنوات الماضية و أشتد أوارها عشية و بعيد سقوط النظام البعثي الهمجي في العراق . يتضمن المقال بعض الآراء و المفاهيم و الأخبار التي تحتاج الى التدقيق و التعقيب .
بادئ ذي بدء أعتقد أن الحظ لم يحالف السيد مطر في إختيار عنوانه . فحتى لو وافقناه الرأي ولو للحظة واحدة بهدف المناقشة فقط فإن مايدعيه في مقاله من قيام الكرد بإجبار العرب على ترك بيوتهم في بعض المناطق فإن ذلك لايدخل في إطار سياسة تطهير عرقي ، بل هو إجراء لأزالة آثار سياسة التطهير العرقي التي مارسته الحكومة العراقية و التي تضمنت إبادة الكرد و ترحيلهم و إجبار الباقي منهم على تغيير قوميتهم . هل يمكن إطلاق تسمية التطهير العرقي على إجبار عدد محدود من المستوطين العرب على ترك كركوك ، هذا فيما إذا صحت مزاعم الكاتب في هذا المجال ، و مقارنته بما كانت تقوم بها الحكومة العراقية ؟ . في الوقت الذي لايمكن الجزم بأي رقم في كل ما يتعلق بعراق اليوم ، كيف إستطاع الكاتب من مكمنه في جنيف أن يحدد عدد العوائل العربية المهجرة بألفي عائلة ؟ ألا يدخل هذا في إطار تهويل الأمور ؟ وهل يصح مثل هذا التوجه مع من يدعي الموضوعية و العلمية في كتاباته ؟ . بينما تناقض المعطيات التي أعلنت من قبل مختلف الأطراف أرقام الضحايا في أحداث كركوك يوم 20 مايس 2003 التي ذكرها الكاتب ، رغم أنني أعتبر مقتل شخص واحد أمر لا يمكن التهاون بشأنه.
كما أن إعتباره للقانون الذي سنه برلمان كوردستان و القاضي بإزالة آثار التعريب و هو حق مشروع لابد لكل من يؤمن بالقيم الأنسانية أن يطالب به ، خطوة لأضفاء الشرعية على سياسة التطهير العرقي مأزق آخر يقع الكاتب فيه . لم يطالب البرلمان الكردي بطرد العرب من كوردستان كما لم يطالب بتوسيع المحافظات الكردية . وعندما يؤكد البرلمان الكردي ومعه جميع الكرد على نتائج إحصاء عام 1957 كأساس للتعامل مع سياسات التطهير العرقي لايعني بأي حال من الأحوال طرد العرب القادمين الى كوردستان بعد هذا التاريخ ، بل لأنه آخر إحصاء للسكان لم تنله يد التشويه و التزييف . أعتقد أن السيد مطر يعرف بأن البعث وافق في حينه عند توقيع إتفاقية 11 آذار 1970 الركون الى نتائجه لتحديد حدود منطقة الحكم الذاتي ، إلا أنه تراجع عن ذلك عندما أدرك بأن معطيات ذلك الأحصاء ليست في صالح سياساته العنصرية . يتذكر الجميع ماقام به نظام البعث من تقطيع أوصال المحافظات الكوردستان كجزء من سياسة التطهير العرقي وقد حدث ذلك خلال العقود الثلاثة الماضية ولابد أن السيد مطر رافق تلك الأحداث . وإذا لم يكن الكاتب مطلعا على هذه الحقائق ، لدي من الأسباب ما يجعلني أشك في ذلك ، بإمكانه أن يعود الى مصادر التقسيم الأداري في العراق و يدرك بشاعة تلك السياسات. فقد مزقت الوحدات الأدارية التابعة لكركوك و بعض المحافظات الأخرى لا لأعتبارات إدارية يفرضها حسن الأدارة بل بدوافع عنصرية تهدف الى تقليل عدد الكرد في هذه المحافظات و توزيعهم على المحافظات الأخرى . فقد ألحقت طوزخورماتو بتكريت و كفري بديالى و جمجمال و كلار بالسليمانية و ألتون كوبري بأربيل و غيرها . لايستطيع السيد مطر أن يهضم فكرة أن خانقين و مندلي و شهربان و هي مدن كوردستانية ولم يكن الجزء الأكبر من سكانها حتى منتصف االسبعينات يعرفون العربية تتبع محافظة ديالى . ويبدو أن السيد مطر لايعرف أن محافظة دهوك قد تشلكلت عام 1969 أصلا من عدد من الأقضية الكردية التي كانت تتبع الموصل سابقا بعد أن أقتطعت منها مناطق الشيخان و سنجار و زمار و غيرها . ماذنب الكرد إذا كانت بلادهم على مدى التاريخ المعروف و لازالت تمتد من سنجار على الحدود السورية و الى مندلي على الحدود الأيرانية . هل هناك سبب لأستفزاز الأنسان من حقيقة وجود مئات الآلآف من الكرد في بغداد و غيرها من مدن العراق ؟ .
لايفوت السيد مطر فرصة للجوء الى السياسات المجربة على مدى تاريخ الدولة العراقية و التي كثيرا ما يتهم الأستعمار بها و نقصد بها سياسة فرق تسد ، إذ يقحم إسم التركمان و الآشوريين في الأمر دون سبب واضح ليتوقع أن تنالهم سياسات الكرد ( التوسعية ) دون الأستناد الى أية أسس سياسية و تاريخية. ويعتبر بعض التصرفات الفردية التي يمكن أن تحدث في ظل سيادة الفوضى في أي مكان في العالم مقدمة لحرب أهلية مدمرة . ويدخل هذا ضمن التوقعات التي هللت لها و لازالت القنوات الأعلامية العربية .
يحاول السيد مطر تنزيه جميع العرب الوافدين الى كركوك و كأنهم جلبوا دون إرادتهم للقيام بمهمة لايعرفون بشاعتها و آثارها المدمرة على الوحدة الوطنية . يعرف السيد مطر و غيره أن الأستمارات كانت توزع في عرض العراق و طوله و التي كانت تتضمن أدق التفاصيل عن الأنتقال الى كركوك ونقل سجلات النفوس و المكاسب التي يمكن الحصول عليها من وراء ذلك . أنا لا أنكر إستغلال البعث لفقر و يأس عدد كبير من الناس ليدفعهم الى هذا المأزق الخطير . ولكن بالمقابل هناك آلاف مؤلفة من الناس الذين قاموا بهذه المهمة بهدف الحصول على مكاسب وقتية رخيصة . وقد شاهدت بنفسي أساتذة جامعات و كتاب يشار اليهم بالبنان قاموا بهذا العمل المعيب . كما أن الأحياء العربية في كركوك و التي بنيت على شكل حزام عسكري يحيط بالأحياء الكردية دليل واضح على خطل تحليلات السيد مطر. بينما جرى تسليح سكان المستوطنات العربية التي بنيت خارج المدن بمختلف أنواع الأسلحة و أقيمت ربايا عسكرية بالقرب منها لحمايتها من ( هجمات الكرد !!) ، بل ومنعت حكومة البعث الملاكون الجدد من إستخدام بالملاكين السابقين حتى كأجراء لديهم .
لعلني أشير الى حالة خاصة قد تقنع السيد مطر بمدى الغبن الذي يشعر به مواطنوه الكرد من هذه السياسات العنصرية . أنا من مواليد كركوك و كنت أستاذا مساعدا في كلية الآداب بجامعة الموصل في الثمانينات من القرن الماضي وقد أشتريت قطعة أرض من إبن عم والدي وتقدمت بطلب الى دائرة الطابو في كركوك لنقل ملكية الأرض وقد رفض طلبي لمرتين متتاليتين لأسباب أمنية لأنني أشرت في الحقل الخاص بالقومية بأنني كردي . الحكومة العراقية كانت لاترى ضيرا في أن أشرف على تدريس طلبة الجامعة و طلبة الماجستيرو الدكتوراه في حين تعتبر ملكيتي لقطعة أرض سكنية في مسقط رأسي خطرا على الأمن القومي العربي !!!. هل يعرف السيد مطر مثالا مشابها في أي مكان آخر في العالم ؟
لعلني ألمس قسوة شديدة في كلمات السيد مطر عندما يتعامل مع عمليات تهجير الكرد بهذه الكلمات الباردة و يعتبرهم مدينين للبعث لأنه أسكنهم أحيانا في مناطق ( قد تكون أكثر قيمة ) . أية قسوة يمكن أن تعتبر قلع الأنسان من جذوره و مراتع طفولته و ذكرياته و مزارعه الخضراء ليزرع في صحارى غرب و جنوب العراق القاحلة عملا يمكن إيجاد المبررات له ؟
قراءة السيد مطر لتأريخ مايعرف اليوم بالعراق و بخاصة ما يتعلق منه بالكرد مليئة بالتناقضات التي لا تدعمها أية مصادر علمية يعول عليها. و تظهر إفتقار السيد مطر الى قراءات معمقة في التاريخ الكردي و تاريخ المنطقة ، لذلك أجد صعوبة كبيرة في مناقشته على هذه الآراء لأنني سأضطر في حالة الرد عليها الى شرح البديهيات في التاريخ الكردي . و رغم مشاعية العلم و الكتابة إلا أنني كنت أتمنى أن لا يورط السيد مطر نفسه بالكتابة في موضوع لايمتلك ناصيته.
قد أفهم أسباب هذه التناقضات التي وقع فيها السيد مطر لأعتماده على مصادر غير موضوعية و مليئة بالأفكار المشوهة . فقد إنشغلت الدراسات التاريخية العراقية خلال العقود الأربعة الأخيرة إما بتشويه التاريخ الكردي أو إكتفت بعدم الأشارة الى أي شئ يمت بصلة الى الكرد . وهناك مجلدات ضخمة عن تاريخ العراق دونت في ضوء كذبة إعادة كتابة التاريخ التي أطلقها صدام حسين لا تتضمن شيئا عن الكرد و كأنهم لم يسكنوا العراق و لم يشكلوا جزءا من شعبه .
يطرح السيد مطرا مجموعة من الملاحظات لمعالجة هذه المشكلة بصورة ( ضميرية و وطنية بعيدا عن المزايدات و الأكاذيب الدعائية السائدة ) على حد تعبيره . ولكن الآراء الواردة فيها لاتقدم أية معالجة ملموسة لهذه القضية الملتهبة . ولأن المنطلقات التي إنطلق منها السيد مطر غير صحيحة لذلك جاءت معالجاته عرجاء لا تستطيع أن تساعد العراقيين على التعامل مع هذه الكوارث التي حلت بهم.
يمكن الأتفاق مع السيد مطر في الدعوة الى البحث عن حلول إنسانية تأخذ بنظر الأعتبار مصالح جميع الأطراف و تشكل مدخلا صحيحا لقيام تعايش حقيقي بين العرب و الكرد و التركمان و الكلدان و الآشوريين على أساس المساواة و العدالة . كما يجب عدم السماح لأحد أن يحل محل القانون و المحاكم ليفرض الحلول على الآخرين . إلا أن البداية الصحيحة لكل ذلك يجب أن يكون على أساس إحقاق الحق و العمل على إزالة آثار سياسات التطهير العرقي التي مارستها حكومة البعث بحق الكرد . و يتحمل الكتاب و المثقفون العراقيون واجبا وطنيا و إنسانيا إزاء هذه الكوارث و سيسجل التاريخ بفخر مواقف المثقفين العراقيين الذين أدانوا هذه السياسات و طالبوا بإزالة آثارها ، بينما ستشكل كل محاولة لتبرير تلك السياسات أو دعمها نقطة سوداء في تاريخ أصحابها و نتمنى مخلصين أن لايكون بينهم أي من المثقفين العراقيين .