|
كفى نفاقاً: قيس سعيّد صنيعٌ وليس صانعاً
جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)
الحوار المتمدن-العدد: 7322 - 2022 / 7 / 27 - 11:03
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
تمخّض جبل السعيّدية في تونس فولّد فأراً، إذ إن خير دستور أُخرِج للناس حسب زعم صائغه الأوحد لم يشارك بالتصويت عليه سوى أقل من ثلاثين بالمئة من الناخبين والناخبات وفق الأرقام الرسمية التي تشير كذلك إلى أن نسبة التأييد بين أولئك تعدّت التسعين بالمئة. وهذا يعني أن الدستور السعيّدي قد نال بأحسن الأحوال موافقة ربع الجسم الانتخابي التونسي، لا أكثر، أي أن شرعيته تقلّ بوضوح عن شرعية دستور 2014 الذي صاغه مجلس تأسيسي شارك في انتخابه حوالي نصف الناخبين والناخبات، وأيّده أكثر من تسعين بالمئة من أعضاء المجلس المنتخب. لكن هل لهذه الأرقام من أهمية، يا تُرى؟ أي هل أننا حقّاً أمام امتحان ديمقراطي تعود كلمة الفصل فيه للأغلبية الشعبية كما يدّعي الرجل الذي تزعّم الانقلاب على الدستور والمؤسسات الناجمة عن أول ثورة ديمقراطية في التاريخ التونسي؟ قطعاً لا، فلم يصل احترام هذا الرجل للشعب إلى حدّ تعيين حدّ أدنى لإضفاء الشرعية على دستوره، لاسيما إزاء دعوة المعارضة إلى مقاطعة المسرحية الانتخابية. فسعيّد قزمٌ وليس عملاقاً في نظر التاريخ. وهو ليس من صنف شارل ديغول الذي استقال من رئاسة فرنسا غداة الاستفتاء الذي دعا إليه في 27 أبريل/ نيسان 1969 لتعديل الدستور والذي شارك في التصويت عليه ثمانون بالمئة من الناخبين والناخبات، وأيّده ما يناهز 48 بالمئة منهم، أي ما يفوق نسبة تأييد دستور سعيّد بكثير (حوالي 40 بالمئة مقابل 25 بالمئة). ومع ذلك، فبما أن تعديلاته الدستورية لم تحصل على تأييد أغلبية الجسم الانتخابي، استقال ديغول في اليوم التالي بالرغم من شرعيته التاريخية العظيمة. لا، ليس سعيّد من صنف ديغول بالتأكيد، بل ليس حتى من صنف زين العابدين بن علي. ليس المقصود هنا أن بن علي شخصية تاريخية تستحق الاحترام لسجلّها التاريخي على غرار ديغول، والحال أن تونس لم تعرف رئيساً من هذا الطراز بعد الحبيب بورقيبة الذي يستحق رأفة التاريخ لنضاله من أجل استقلال البلاد. بل المقصود أن بن علي قاد انقلاباً على حكم بورقيبة المترهّل بصفته قائداً فعلياً للأجهزة المسلّحة بخلاف قائدها الاسمي، بورقيبة، إذ كان بن علي وثيق الارتباط بالمؤسستين العسكرية والبوليسية، تدرّب على الفنون العسكرية والمخابراتية قبل أن يتولّى مهاماً عليا في شتّى المؤسسات من أمن عسكري وأمن وطني ووزارة دفاع ووزارة داخلية، وصولاً إلى رئاسة الوزراء التي منها أطاح بالرئيس العجوز.
قيس سعيّد، لا سطوة له على الأجهزة المسلحة، العسكرية منها كما البوليسية، بل ليس سوى واجهة استغلتها تلك الأجهزة في عزمها على إنهاء العقد الديمقراطي الذي عرفته تونس منذ الإطاحة ببن علي
أما قيس سعيّد، فلا سطوة له على الأجهزة المسلحة، العسكرية منها كما البوليسية، بل ليس سوى واجهة استغلتها تلك الأجهزة في عزمها على إنهاء العقد الديمقراطي الذي عرفته تونس منذ الإطاحة ببن علي. وفي هذا الواقع تجلية لحقيقتين أساسيتين: الحقيقة الأولى أن «ثورة 14 جانفي» 2011، إذ أرست مناخاً من الحرّيات والديمقراطية الانتخابية في تونس، لم تقضِ على «الدولة العميقة» من أجهزة مسلّحة ومؤسسات قمعية التي أرساها بورقيبة وعزّزها بن علي، وهذا يُعدّ حقّاً أول إخفاق أصاب السيرورة الثورية طويلة الأمد التي انطلقت من سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010. أما الحقيقة الثانية، فهي أن تلك «الدولة العميقة» ذاتها عادت لتأخذ ثأرها، مستغلّة الشعبية الديماغوجية («الشعبوية») التي نالها قيس سعيّد، ليس بنتيجة أفضاله بالتأكيد، بل بنتيجة رداءة الطاقم السياسي الذي أشرف على أمور تونس بعد بن علي وقد بلغت ذروتها على خلفية جائحة الكوفيد. إن قيس سعيّد دمية تتستّر وراءها الأجهزة المسلّحة التونسية التي حكمت البلاد بيد من حديد طوال عهد بن علي على الأخص، والتي أدركت أن قيامها بانقلاب عسكري على طريقة عبد الفتّاح السيسي في مصر لم يكن ممكناً إذ إن الشعب التونسي لم تتولّد لديه أوهام حول المؤسسة العسكرية كالتي تولّدت لدى الشعب المصري منذ عقود طويلة، إذ يعود أصلها إلى «ثورة 23 يوليو» لعام 1952 وقد تعزّزت لدى الإطاحة بحسني مبارك وبمحمد مرسي من بعده. وهذا يعني أنه لو بلغ الاستياء الشعبي حدّ الانفجار من جديد، وهو أمر محتّم حيث ليس لدى سعيّد ولا لدى الأجهزة التي تتستّر وراءه أي إجابة عن المشاكل الاقتصادية المتفاقمة التي تعاني منها تونس، بل جاء سعيّد بخرافاته الدستورية الشعبوية ملهاةً بائسة عن تلك المشاكل المستعصية، فإن ما سوف يلي ليس إعادة إحياء للنظام السياسي السابق لسعيّد، بل على الأرجح انتقال سافر إلى الدكتاتورية العسكرية ـ البوليسية. وهذا يحيلنا بدوره إلى مسؤولية القوى السياسية والاجتماعية التونسية، وعلى رأسها كافة القوى التي تولّت الحكم بعد بن علي ومعها قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل، ليس في إيصال البلاد إلى الحالة البائسة التي وصلت إليها وحسب، بل أيضاً في غياب الجسارة الكافية لديها لتسمية الأمور بأسمائها الحقيقية، أي إدانة سلوك الأجهزة المسلّحة ومطامعها عوض تركيز حملتها على سعيّد وحده كأنه صانع الوضع الراهن وليس صنيعة «الدولة العميقة».
#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)
Gilbert_Achcar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حينما يتصارع الكبار ينفرج الصغار
-
زيارة بايدن في المنظور الاستراتيجي
-
عسكر السودان: أخلاق مسالمة أم خوف من الشعب؟
-
إنكار الاستقلالية باسم الجيوسياسة و/أو السلم
-
حلف الناتو بين الهائج والهادئ
-
روسيا وإيران تسرّعان مشروعهما المنافس لقناة السويس
-
ملك بلجيكا يعرب عن «أسفه»
-
في استقبال اللاجئين وبيتنا الزجاجي
-
عن تصورات الديمقراطية في منطقتنا
-
في سبر غور أردوغان
-
«كلّن يعني كلّن» والانتخابات اللبنانية
-
ما وراء زيارة بشّار الأسد لطهران؟
-
السودان: الطغمة الانقلابية وتجدّد المجزرة
-
أسئلة مصيرية حول الانتخابات الرئاسية الفرنسية
-
عندما يعتقد مقلّدو النازية أنهم معصومون منها
-
شبحٌ ينتاب العالم – شبح الفاشية الجديدة
-
في ارتكاب الفظائع والمحاسبة عليها
-
رقصة الدبكة فوق قبر بن غوريون
-
ستّةُ أسئلة بشأن مناهضة الإمبريالية اليوم والحرب في أوكرانيا
-
روسيا واليسار في المنطقة العربية
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|