سعد سوسه
الحوار المتمدن-العدد: 7317 - 2022 / 7 / 22 - 15:23
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
أ - الديمقراطية المباشرة:
وهي أقدم صورة من صور تطبيق الديمقراطية في العالم , ويمكن اعتبارها التجسيد الفعلي والعملي لمقولة أن الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب وللشعب , فالشعب في مثل هذه الصور من الديمقراطيات يمارس مهامه في الحكم ويباشرها من دون الحاجة إلى وسطاء أو وكلاء ينوبون عنه في الحكم .
وتعد الديمقراطية المباشرة (من الناحية النظرية) من أرقى أنواع نظم الحكم, حيث أنها تفسح المجال للفرد العادي للمشاركة في العملية السياسية واتخاذ القرارات التي تتعلق بمصيره ومصير البلد, وتحقق قدر الإمكان مبدأ السيادة الشعبية الذي تقوم الديمقراطية على أساسه, فما دام الشعب هو صاحب السيادة فيجب أن يتولى بنفسه خصائص هذه السيادة .
فالديمقراطية المباشرة هي "النظام الذي فيه جميع القرارات السياسية تتخذ من قبل المواطنين". ويفترض هذا النوع من الديمقراطية بأن المواطنين يمكن أن يحكموا أنفسهم ويمارسوا بشكل مباشر سلطة صنع القرارات السياسية بدلاً من وسطاء أو نواب ينوبون عنهم . فتكون كافة الهيئات السلطوية من تشريعية وتنفيذية وقضائية بيده, بمعنى أن يصبح الشعب هو الهيئة الحاكمة والمحكومة في الوقت نفسه ( 1 ) . ويتطلب هذا النوع من الديمقراطية إمكانية اجتماع جميع المواطنين معاً بانتظام لمناقشة وتقرير المسائل المهمة .
وكان من أبرز دعاة هذه الديمقراطية والمدافعين عنها الفيلسوف (جان جاك روسو) الذي يعتبرها التطبيق المثالي والحقيقي للسيادة الشعبية . وأعتبرها التطبيق الوحيد لمبدأ سيادة الأمة التي تتحقق بواسطة السيادة الشعبية على أكمل وجه ( 2 ) .
وقد عرفت المدن اليونانية القديمة مثل إسبارطة وأثينا( بالنسبة للمواطنين دون الرقيق ) وفي بدايات تاريخ روما هذا النوع من الديمقراطيات وأخذت به .غير أن النظام الديمقراطي المباشر لا يوجد في الوقت الحاضر ألا في بعض المقاطعات الجبلية في سويسرا القليلة العدد في السكان ( 3 ) .
وكان تطبيق هذا النوع من الديمقراطيات في المدن اليونانية القديمة يتم من خلال اجتماع مواطني مدينة أثينا في ساحة عامة وفي الأوقات التي يقررونها, وتعقد الاجتماعات عادة في كل شهر ويناقشون أمورهم وشؤون الدولة ويقرون القوانين ( 4 ) , وكانت هذه الاجتماعات تسمى الجمعية الشعبية أو المؤتمر العام وتتكون من مواطني أثينا الأحرار, ممن بلغت أعمارهم عشرين عاما فما فوق, والذكور دون الإناث, ولا يحق للرقيق والأجانب الدخول في عضوية هذه الجمعية ( 5 ) .
وتقوم الجمعية بمهام عديدة أبرزها مساءلة الموظفين والقضاة ووضع القوانين والميزانية وفرض الضرائب وإعلان الحرب والسلم, وعقد المعاهدات مع الدول الأجنبية . إضافة إلى انتخاب مجلس مكون من (500) عضوا ينوبون عن الشعب في تسيير الشؤون العامة ويكونون تحت رقابة الجمعية, أي أن أعضاء هذا المجلس ليسوا بنواب أو ممثلين منتخبين من قبل الشعب وإنما يتم اختيارهم من قبل الجمعية وعن طريق ( القرعة ) ( 6 )
من هنا إن الصياغات الفكرية التي جاء بها الفلاسفة الإغريق عن الديمقراطية، كانت تعكس وتجسد واقعاً سياسياً تعيشه دويلات المدن الإغريقية. وكانت أثينا تمثل قمة النضوج والتطور الحضاري والسياسي الذي بلغته تلك المدن، ففي عام (594) ق.م وضع (سولون)( سولون:مفكر ومؤرخ يوناني، أول من وضع دعائم الديمقراطية في اليونان عام (594) ق.م ) ( 7 ) دستور أثينا،الذي ينص على تشكيل مجلس الخمسمائة الذي يضم عشرة نواب منتخبين عن كل قبيلة من قبائل أثينا الخمسين، ومهمة هذا المجلس تشريع القوانين،والإشراف على الحياة العامة، ويضم هيئات ولجان تتولى الإشراف على تنفيذ القرارات, وفي حالة وقوع خلافات يتم اللجوء إلى المحاكم، التي تتألف هي الأخرى من قضاة ومحلفين منتخبين من قبل الشعب لحماية القانون والتأكيد على سيادته،الذي لم يكن في جوهره سوى رأي مجموع شعب المدينة .
وقد نظم الأثينيين حكومتهم على هيئة جمعية تشريعية انتخبت بواسطة الأغلبية، وكانت كل السياسات العامة في أثينا تقرر في هذه الجمعية , التي كانت تعقد أربعين مرة في السنة لمناقشة القضايا السياسية المهمة مناقشة مباشرة، بدلاً من التصويت لاختيار النواب ينوبون عنهم في اختيارها .
ومع إن الديمقراطية الإغريقية جعلت السلطة بيد مجموعة من المواطنين واعترفت لهم بحرية الرأي والمساواة، إلا إن ذلك كان في المظهر دون الجوهر، إذ لم يكن للأفراد في دولة المدينة حقوق قبل الجماعة، وحتى الحرية التي كان يتمتع بها هؤلاء المواطنون كانت تقتصر على المشاركة في إدارة شؤون المدينة دون منحهم الحرية الشخصية أو حرية التملك أو المعتقد ( 8 ) .
فالديمقراطية الإغريقية كانت ذات طابع خاص يبعدها عن الديمقراطية الحقيقية ويقربها من النظام الأرستقراطي، ذلك لأن الذين كانوا يساهمون في الحياة السياسية العامة وحكم المدينة هم أقلية ضئيلة من السكان لهم حق التمتع بصفة المواطنة وهم الأحرار البالغين من الذكور، أما أغلبية السكان من العبيد والنساء والأجانب فقد كانوا مستبعدين من الاشتراك في الجمعية والمساهمة في الحياة السياسية .
وعليه يمكن القول بأن الديمقراطية الأثينية كانت بعيدة عن الكمال، حيث قامت هذه الديمقراطية على شرطين أساسيين، أحدهما مستحيل عملياً , هو أن النقاش السياسي واتخاذ القرار يجب أن يكون وجهاً لوجه ، والآخر غير مرغوب به في الديمقراطيات الحديثة , وهو اقتصارها على فئة صغيرة من المواطنين .
وبالإضافة إلى المدن اليونانية القديمة فقد انتشر هذا النوع من الديمقراطية في بلدات (New England) خلال القرن السابع عشر, وما زال هذا النوع من الديمقراطية يطبق في بعض المقاطعات ( الكانتونات ) السويسرية مثل كلاريس (Claris) وانترولدن (Unterwalden), وفي مقاطعة أبنزيل (Appenzwll) .
وتكون المؤسسة الأساسية للديمقراطية المباشرة في هذه المقاطعات هي جمعية المواطنين (Landsgemeinde), والتي تجتمع مرة واحدة في السنة, حيث يقوم المواطنين بانتخاب ممثليهم , كما يقوموا بإدارة الشؤون العامة, مثل وضع الضرائب, النظر في الميزانية, أو القيام ببعض الأعمال الإدارية, واختيار كبار الموظفين والقضاة ( 9 ) .
إلا أن هذا النظام يستحيل تطبيقه الآن لزيادة عدد السكان ونمو حجم الدول، وعدم قدرة جميع أفراد الشعب على فهم وإدراك المشاكل والأمور السياسية والفنية المعقدة التي تواجه حياتهم.
وبالرغم من أن الكثير من فقهاء القانون يعدون نظام الديمقراطية المباشرة خير ما تحقق للبشرية في مجال أنظمة الحكم, من حيث تمكين أفراد الشعب من ممارسة شؤون الحكم وإدارة أمورهم السياسية بأنفسهم , إلا أن هناك بعض الملاحظات أو الانتقادات التي يمكن أن توجه لهذا النوع من الديمقراطيات , وهذه الملاحظات يمكن تلخيصها بالأتي:
1- في ضل الزيادة الهائلة للسكان وارتفاع نسبة المؤهلين للدخول في الجمعية (المؤتمر العام) , يصبح من الاستحالة جمعهم من الناحية المادية في مكان واحد , خاصة في الدول ذات التعداد السكاني الكبير, ولو أردنا تطبيق هذا النوع من صور تطبيقات الديمقراطية في دولة مثل العراق يبلغ مجموع هيئة الناخبين فيها ما يقارب الأربع عشر مليون شخص حسب تقديرات المفوضية العليا للانتخابات في العراق , فكيف سيكون شكل هذه الجمعية (المؤتمر العام) , وأين هي القاعة أو البناية التي يمكن أن تسع مثل هذا العدد أو أقل منه حتى لو كان مليونا واحدا وليس أربعة عشر.
2- حتى مع فرض وجود إمكانية التغلب على الملاحظة السابقة من الناحية المادية وإيجاد المكان المناسب لهم, من خلال تقسيم أفراد الشعب إلى مجموعات كما يرى البعض للتخلص من موضوع الكثرة العددية , تبقى لدينا مسألة مناقشة القرارات, وإيجاد صيغة مناسبة لإقناع الآخرين بالتصويت أو عدمه , ومن ثم فان الموضوعات التي تعرض قد لا يتسنى دراستها بصورة كاملة وبالتالي اتخاذ القرارات السليمة بشأنها .
3- كما أن أعمال الدول أصبحت في الوقت الحاضر من الكثرة والتعقيد بحيث يلزم لمباشرتها فنيون وخبراء دربوا على هذا النوع من العمل , أما أفراد الشعب فمعظمهم لا تتوافر لديه هذه الدراية , ولذلك فهناك استحالة مادية في ذلك , وليس أدل على ذلك من أن عدد الولايات (المقاطعات) السويسرية التي تأخذ بالمبدأ الديمقراطي المباشر أخذ في النقصان ( 10 ) .
4- هناك الكثير المسائل السرية التي لا يمكن مناقشتها بصورة علنية من قبل هذا العدد الكبير لأعضاء الجمعية وإذا ما تم طرحها بهذا الشكل زالت سريتها وقد تعرض الدولة للخطر أو قد توقعها في مشاكل مع غيرها من الدول , أو ربما تعرضها إلى مشاكل وصعوبات اقتصادية أو اجتماعية معينة , وهذا يتنافى مع مفهوم الدولة في العصر الحاضر .
5- في الديمقراطية المباشرة ليس هناك من سبيل للتصويت في الجمعية (المؤتمر العام) سوى التصويت العلني مما يعرض الكثير من أفراد هذه الجمعية لتأثير أصحاب النفوذ الاجتماعي والديني وكبار الموظفين في الدولة والخضوع لرغباتهم , لذا يصعب القول أن بأن الأفراد ( المواطنين ) يكونون أحرار أثناء مثل هذه الاجتماعات .
وعليه يمكن القول أن الديمقراطية المباشرة وبالرغم من مثاليتها, وتمتع المواطنين في ضلها بحرية حقيقية , واشتراك الشعب في تحمل المسؤوليات العامة وممارسة الحكم و أمور السياسة بصورة مباشرة من دون وكالة إلا أنها تعد مثل عليا يستحيل بلوغها من الناحية العملية في أرض الواقع لتعقد شؤون الدولة واستحالة متابعة مشكلاتها الفنية والتقنية والتي بلغت حدا كبيرا من التعقيد والصعوبة .... يتبع
#سعد_سوسه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟