|
إستغراق في الديمقراطية
رحيم العراقي
الحوار المتمدن-العدد: 1681 - 2006 / 9 / 22 - 09:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ريمون آرون هو أحد المفكرين الفرنسيين في القرن العشرين، إلى جانب جان بول سارتر ولكن من منظورين مختلفين، فآرون كان منظر الليبرالية بامتياز بينما كان سارتر فيلسوف اليسار بامتياز أيضا. كان الاثنان قد مرا بمدرسة المعلمين العليا في باريس حيث عُرفا ب«الأخوين العدوين» أو «الصديقين اللدودين».
قدم ريمون آرون عدداً من الأعمال التي أصبحت مراجع في ميدانها. ومن أشهر كتبه «السلام والحرب بين الأمم» و«مراحل الفكر السوسيولوجي» و«المشاهد الملتزم».
«التأمل بالحرية، التأمل بالديمقراطية» هو عمل يضم مجموعة من الإصدارات والدراسات المتفرقة وهي «ثورة مناهضة للبروليتاريا. إيديولوجية النزعة القومية ـ الاشتراكية وواقعها» و«الدول الديمقراطية والدول الشمولية» (التوتاليتارية)، و«الإنسان ضد الطغاة»، و«ثورة مضاهية للشمولية: هنغاريا 1956»، و«المأساة الجزائرية»، و«الثورة الضائعة»، و«ثمانية عشر درسا حول المجتمع الصناعي»، و«الديمقراطية والتوتاليتارية»، و«نزع أوهام التقدم. دراسة حول ديالكتيك الحداثة»، و«فجر التاريخ الكوني»...
وكان ريمون آرون قد تحدث في هذا العمل الأخير «فجر التاريخ الكوني» عما يشابه «نهاية التاريخ» التي قال بها المفكر الأميركي ذو الأصل الياباني فرنسيس فوكوياما على أساس الانتصار النهائي للرأسمالية على الاشتراكي، ويقول آرون قبل عقود عدة: «لم يكن لدى البشر أبدا من الدوافع بقدر ما لديهم اليوم كي لا يقتتلوا فيما بينهم.
ولم يكن لديهم أبدا القدر نفسه من الدوافع كي يحسوا أنهم شركاء في المشروع نفسه. لكنني لا أستنتج من هذا أن عصر التاريخ الكوني سيكون سلميا. إننا نعرف أن الإنسان هو كائن عاقل لكن البشر هل هم عاقلون أيضا؟».
وفي المقدمة التي يكتبها الباحث نيكولا بافوريز لهذا الإصدار الجديد لأعمال ريمون آرون، يرى في هذا المفكر الكبير تجسيدا للمفكر الملتزم والأخلاقي إذ يكتب: «إرث آرون هو حالة ذهنية وأخلاق فكرية والتزام مواطن. الحالة الذهنية تكمن في إرادة الفهم قبل إصدار الأحكام وذلك عبر التأمل في العالم كما هو وليس كما تريده الأحلام. والأخلاق الفكرية تمر عبر احترام الوقائع وعدم التحيز في النقاشات. وعبر المزج بين المعرفة والنضال من أجل الحرية يصبح البشر جديرين بها وتجعل منهم مواطنين يملكون عقلا نقدياً ومسؤولاً».
إن ريمون آرون، كما يتم تقديمه في هذا الكتاب، يمثل «رهان الحرية والعقل في مواجهة التوتاليتارية والعنف». وإذا كان قد ردد بأشكال وصيغ ومواقف متعددة ومختلفة مناهضته للحرب، فإنه «اجتاز» القرن العشرين الذي شهد حربين كونيتين.
لقد كان هذا القرن هو زمن «الحروب الكبرى التي قامت باسم الإيديولوجيات» وجرى فيها استخدام تكنولوجيات المجتمع الصناعي، ولم تكن بعيدة عن بروز الفاشية والنازية في إطار الحضارة الليبرالية. وإذا كان آرون قد نظر لليبرالية ودافع عنها وعن قيمها فإنه بالمقابل حذر من انحرافات المجتمعات الصناعية، لاسيما فيما يتعلق بمسألة الحرية التي دافعت عنها أوروبا اعتبارا من القرن الثامن عشر.
ريمون آرون من مواليد عام 1905، أي العام الذي شهد فصل الدولة عن الكنيسة رسميا في فرنسا، وتوفي عام 1983 وهكذا واجه إذن مثل جميع أبناء جيله دورة الحروب الكبرى والمعارك الإيديولوجية والتبدلات التي شهدها العالم وتغيرات الخارطة الأوروبية، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
وقد حاول آرون أن يفهم التاريخ الإنساني على ضوء ما تسمح به معرفة «جميع قطاعات المجتمع الحديث من اقتصاد وعلاقات اجتماعية وعلاقات طبقية وأنظمة سياسية وعلاقات بين الأمم ونقاشات إيديولوجية» كما يعبر آرون نفسه.
ويؤكد آرون في جميع كتاباته عن فكرة الالتزام بالحرية في مواجهة كل أشكال الدكتاتوريات، والإصرار على ترجيح العقل في مواجهة الفوضى والعنف، وهذا ما يعبر عنه بالقول: «لقد اخترت قبل خمس وثلاثين سنة المجتمع الذي يسود فيه الحوار. وينبغي لهذا الحوار أن يكون عقلانيا إلى أقصى درجة ممكنة (...). إن مجتمعات الحوار هي رهان بالنسبة للإنسانية. النظام الآخر يقوم على عدم الثقة بالمحكومين، وزعم أقلية من المتنفذين أنهم يمتلكون الإرادة النهائية بالنسبة لهم وبالنسبة للمستقبل أيضا».
ومن خلال النظر في تسلسل دراسات ريمون آرون التي يحتويها هذا الكتاب بصفحاته التي تزيد على 1800 صفحة يبدو أن «المعركة» الفكرية التي خاضها قد اتخذت أشكالا عديدة. إذ كانت ذات طابع فكري نظري بحت خاصة مع نشر كتابه: «مدخل إلى فلسفة التاريخ» حيث أعلن عداءه السافر للفلسفة الوضعية.
ثم أخذت تلك المعركة شكلا ايديولوجياً خلال سنوات الحرب العالمية الثانية على أساس التهديد الكبير، الذي واجهته الديمقراطية مع تنامي قوة النظام النازي واستمر هذا التهديد بعد نهاية الحرب بصيغته الستالينية وتوترات فترة الحرب الباردة.
وكان ريمون آرون قد أولى اهتماما خاصا لدراسة المجتمعات الصناعية باثنين من أهم تعبيراتها، أي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وقد درس هذه المجتمعات من خلال التوترات التي تجتاحها من داخلها ولكن أيضا من خلال التحديات الخارجية التي تواجهها وتمثلت في الاتحاد السوفييتي (سابقا) وفي مشاكل التنمية في العالم الثالث وذلك على أساس المهمة «الكونية» المطلوبة لأية تنمية.
يقول آرون في دراسته التي تحمل عنوان «تاريخ التقدم»، ما يلي: «ليست غاية الاقتصاد هي إنتاج الحد الأقصى من السلع وإنما حل مشكلة الفقر الأساسية في العالم وتأمين شرط إنساني لأكبر عدد ممكن من الأفراد».
ومن خلال تنوع المشارب والاهتمامات التي تعرض لها ريمون آرون والواقعة «على الحدود» بين فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والعلاقات الدولية والاقتصاد يصيغ مفهوما سياسيا وليبراليا للديمقراطية، وهو مفهوم يمزج بين المسار العلمي والالتزام في النضال ضد التوتاليتارية وبين الحرص على الموضوعية والتعبير عن وجهة نظر المواطن.
وقد شكل موضوع أوروبا في هذا الإطار أحد اهتمامات ريمون آرون وذلك من خلال قلقه حيال «انتقالها من مصاف حضارة كونية إلى جعلها موضوعا للتنافس بين القوى العظمى في ظل الحرب الباردة» كذلك يرى أن أوروبا التي كانت قد اخترعت الحضارة الليبرالية الحديثة وارتقت إلى مرتبة حضارة كونية فريدة في عصرها خلال القرن التاسع عشر، ولدت فيما بعد حربين كونيتين أيضا، كما ولدت أنظمة استبدادية دمرت قوتها وفككت وحدتها، بل ومست هويتها نفسها من حددها ب«الخروج من التاريخ».
إن التاريخ بالنسبة لريمون آرون متحرك باستمرار بواسطة عاملين أساسيين هما العمل الإنساني والضرورة وما نجم عنهما من تكدس للثروات والمعارف، ولكن أيضا ما نجم عنهما من نزعات استعمارية جسدتها الأمم الأوروبية القوية في عمليات احتلال لعدد من مناطق العالم في أفق بناء إمبراطوريات استعمارية. وهكذا تصرفت أوروبا على عكس مبدأ الحرية الذي يعتبره آرون أساس حضارتها. يقول آرون «الحرية هي جوهر الثقافة الغربية وأساس نجاحها وسر انتشارها ونفوذها».
وعلى قاعدة الموقف من الحرية لم يتردد ريمون آرون في تأييد حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. وهذا ما عبر عنه في عمله الشهير «المأساة الجزائرية». وكان قد اتخذ في البداية موقفا يطالب بأن يترافق «الجهد العسكري» الفرنسي ببرنامج إصلاحات تؤدي في نهاية الأمر إلى قيام دولة جزائرية. وهذا ما أثار غضب العديد من رجال السياسة الذين كانوا يصرون على بقاء «الجزائر فرنسية».
ويلخص ريمون آرون موقفه من حرب الجزائر بكلمة للفيلسوف والمفكر الفرنسي الكبير «مونتسكيو» صاحب كتاب «روح الشرائع» جاء فيها: «ينبغي على المرء أن يتمسك بالحقيقة في مواقفه حيال الوطن. إن واجب كل مواطن التمسك بالحقيقة حتى في مواقفه حيال الوطن. إن واجب كل مواطن هو الموت من أجل وطنه. لكن ليس هناك أي شخص مرغم على الكذب من أجل هذا الوطن».
واعتبر ريمون آرون في حينه بأن الفرنسيين، وبعد استقلال المغرب وتونس، ثم اندلاع حرب التحرير الجزائرية، كانوا يحسون بالمرارة، وعلى رأسهم أنصار معسكر اليسار، حيال «خسارة شمال إفريقيا»، بل وإحساس ب«الهزيمة». وفي مواجهة مثل هذا الوضع تساءل آرون: «ألا ينبغي علينا أن نتحلى بالجسارة التي تجعلنا نفضل أفكارنا على مصالحنا وأن نضحي بالقوة من أجل احترام مبادئنا؟»
لكن بكل الأحوال أشار آرون، في معرض المقارنة بين أوضاع المغرب وتونس وحصولهما على الاستقلال وبين أوضاع الجزائر أثناء حرب التحرير، إلى أنه لم يكن في الجزائر حزب سياسي مثل «الدستور الجديد» في تونس وحزب «الاستقلال في المغرب.
لكن حرب التحرير الجزائرية فرضت واقعا جديدا بحيث «غدا على الصعيد الاقتصادي والمالي من الأفضل موافقة البرلمان ـ الفرنسي ـ على تكريس مبلغ ثلاثمئة مليار فرنك فرنسي من أجل ترحيل فرنسيي الجزائر وإعادتهم إلى فرنسا،
على اعتبار أن هذا الحل كان أقل كلفة من استطالة الحرب، وحتى لو كان الانتصار هو ما ستؤول إليه» كما قال آرون في عام 1956 ثم أضاف في موقع آخر: «لا يمكن لفرنسا أن تقاتل كي تدفع إلى ما لا نهاية استقلال الجزائر».
وكان آرون قد اعتبر «العامل الديمغرافي» حاسما في تحديد مآل المواجهة. وكان ريمون آرون قد كرس دراسة كاملة لما أسماه ب«الثورة الهنغارية»، أي لتلك الانتفاضة التي شهدتها بودابست عام 1956 وجرى سحقها بالدبابات السوفييتية. وكانت، كما رآها آرون، انتفاضة وطنية عفوية قادها طلبة وعمال ومثقفون وكان من بينهم شيوعيون، أو شيوعيون سابقون.
ومن الدرس الهنغاري يخرج ريمون بالقول «إن الغرب لا يستطيع ولا يريد التدخل - في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية الشيوعية آنذاك ـ ذلك أن الاتحاد السوفييتي يمتلك الإمكانيات والتصميم الضروري من أجل سحق الثورات. إن المنظور الوحيد هو قبول الممارسة الشيوعية في روسيا وفي البلدان التي تدور في فلكها.
إننا لا نعرف مدى هامش المتغيرات التي تحتوي عليها هذه الممارسة. ولكن نعرف بأن النظام السوفييتي ليس أكثر مقاومة من غيره أمام تأثيرات التنمية الاقتصادية وأمام انفعالات البشر وأحلامهم وأمام المؤثرات القادمة من الخارج وخاصة من الغرب. وأكثر من ذلك، إن هذا النظام مصاب بتصدع داخلي لم تكن الأنظمة الاستبدادية الشرعية تعرفه، إنه مدان بسبب الإيديولوجية التي يقول بها». هذا ما رآه ريمون منذ عام 1957.
#رحيم_العراقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كاثوليك ..مطلوبون للعدالة
-
السيد المسيح..جمهورياً
-
الأصولية
-
علماء وأنبياء..
-
الفكر الإغريقي والثقافة العربية
-
تاريخ الاشتراكية الفرنسية
-
إبن رشد والإرث الأندلسي
-
الكلدوآشوريين السريان والأطباق الطائرة
-
المسلمون في إسبانيا، بين عامي 1500-1614
-
المسيحية الحديثة والعلمانية
-
غوغان
-
هيجو .. حياته..أعمالة
-
وحدة الفلسفة السياسية
-
تجربة مع الشعوب السوفياتية
-
. كتاب : التوحش
-
رامبو في مهب الريح
-
ديكارت
-
شاتوبريان
-
كونفوشيوس
-
بيت في الوزيرية
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|