يسود صمت شعبي ورسمي في العالم العربي على مأساة المقابر الجماعية الفظيعة التي تم اكتشاف العديد منها في أعقاب سقوط النظام الشمولي الاستبدادي واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية البريطانية في التاسع من نيسان الماضي .
إن ما تم الكشف عنه حتى الآن رهيب فعلا ، و لا يتعلق بمجزرة صغيرة واحدة أو بممارسات قمعية مألوفة تمارسها الأنظمة الشمولية والدكتاتورية في العالم الثالث عموما والوطن العربي خصوصا ، بل بمقابر عديدة ضمت عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء أطفالا ونساء ومسنين وشبابا، مدنيين وعسكريين تم إعدامهم رميا بالرصاص ودفنوا بعد ذلك مباشرة بطريقة همجية . ومن أكبر تلك المقابر التي نتجت عن عمليات إعدام جماعي حتى الآن مقبرة " المحاويل " التي تضم ما يقارب الخمسة عشر ألف جثة ومقبرة في شمال العراق يعتقد إنها تضم أربعين ألف جثة لمواطنين عراقيين من الكرد الذين اختفى منهم أكثر من مائة وثمانين ألف إنسان خلال عملية الإبادة التي قام بها النظام والمعروفة باسم " عمليات الأنفال " ، إضافة إلى العديد من المقابر الأخرى في كافة أرجاء العراق الأمر الذي يعني بكل صراحة ووضوح حدوث كارثة إنسانية كبرى، و أن حرب إبادة فعلية كانت تحدث في العراق في ظل ذلك النظام طوال سنوات حكمه .
مظاهر الصمت العربي الذي بدأ يثير ردود أفعال غاضبة ومستنكرة لدى العراقيين عامة ، ولدى ذوي الشهداء والمفقودين خاصة ، وصلت إلى درجة المطالبة بانسحاب العراق من الجامعة العربية وقطع العلاقات مع بعض الدول العربية التي دافعت عن النظام علنا ، مظاهر الصمت هذه عديدة أيضا ، ومنها مثلا محاولات إغفال هذه الوقائع في وسائل الإعلام العربية الحكومية والمستقلة مع بعض الاستثناءات أو التخفيف منها والمرور عليها مرور الكرام من قبل أقلام مثقفة ووسائل إعلام كثيرة . أما الحكومات العربية و الجامعة العربية فلم يصدر منها حتى تصريح بسيط يدين أو يستفهم أو يعلق بخير أو بشر على هذه المأساة . وعلى المستوى المجتمعات المدنية والقوى السياسية والمنظمات القاعدية غير الحكومية فالصمت الغريب ذاته يسود هنا أيضا ، ولم يحدث أن أعلنت تلك الهيئات والأحزاب عن تضامنها أو مواساتها للشعب العراقي وإدانتها لجرائم الحكم الفاشي .
إن هذا الصمت لم يعد مفهوما ، بل يمكن تفسيره على أنه استمرار لصمت طويل بدأ منذ وصول الحزب الحاكم إلى السلطة في الثامن شباط / فيفري 1963 وحتى الآن . فقد حدث الكثير من الكوارث والجرائم الإبادية كمجزرة " حلبجة " أو إغراق انتفاضة ربيع 1991 في الجنوب والوسط بالدماء ، وقد صرخ المعارضون العراقيون من سياسيين وأدباء وفنانين وعلماء طويلا ، وقدموا الكثير من الأدلة والوقائع على حدوث تلك الجرائم ، ولكن صوتا عربيا مهما لم يرتفع متضامنا مع الضحايا أو مستنكرا ممارسات النظام الملطخ بدماء الأبرياء . وعلى العكس من ذلك ، فهذا النظام ظل يُنْظَرُ إليه في السبعينات والثمانينات ، وخلال حربه المجنونة التي خاضها نيابة عن الغرب ضد إيران ، حتى في بعض دول الخليج وفي مقدمتها الكويت ، كحامي حمى العروبة وحارس البوابة الشرقية ضد الأطماع الإيرانية ، أما الإدانات التي تصدر اليوم في هذه الدولة تحديدا فهي نوع من تصفية الحسابات القديمة التي لا تهتم لمئات الآلاف من ضحايا الدكتاتورية القومية الحاكمة في العراق بل هي منساقة مع المخططات الأمريكية المعادية للعراق ككيان ولشعبه .
وكنتيجة لهذا الصمت العربي الرسمي والشعبي على مأساة الشعب العراقي ، لابد أن تصدر ردود فعل قاعدية ونخبوية في المجتمع العراقي ، الذي عرف بولائه الشديد والمعمد بالتضحيات للقضايا العربية الكبرى ، ولا تكاد تخلو دولة من دول المواجهة مع الكيان الصهيوني من مقابر الشهداء العراقيين . ردود أفعال هذه ، التي بدأت بالظهور منذ فترة ليست قصيرة ، ينبغي أن تقابل بالتفهم أولا، وبالتحرك العربي السريع – شعبيا ورسميا – في محاولة للتعويض عما فات ، وتصحيح ما حدث من تخريب عميق لروح التضامن بين الشعوب العربية بفعل ذلك الصمت . للأسف الشديد ، فإن قوى سياسية عراقية معروفة بانعزاليتها ومناوأتها للعروبة عموما ، ولعروبة العراق تحديدا ، تحاول اليوم استثمار هذا المناخ السياسي السيئ و هذه الخطيئة التي ترتكبها الدول والنخب العربية فتحدث شرخا عميقا بين العراقيين ومحيطهم وانتمائهم العربي، وقد نجحت تلك القوى نجاحا مهما بلغ درجة التصريح بصداقتها للكيان الصهيوني واستعدادها لعقد معاهدة سلام معه والإساءة لضيوف العراق من أشقائنا الفلسطينيين الذي وفدوا إلى العراق بعد نكبة 1948 على خلفية ممارسات بعض المنظمات الفلسطينية ذات الوجود المسلح في العراق إلى جانب قوات النظام خلال انتفاضة 1991 وإخراج العديد من الأسر الفلسطينية من قبل نفر مشبوه وعصابات انعزالية تحركها بعض أحزاب المعارضة العراقية العميلة للاحتلال من بيوتهم وإسكانهم في مخيمات . وكما تصاعدت حدة المطالبة بضرورة إخراج العراق من محيطة وعلاقاته وانتمائه العربي فيما تحاول قوى أخرى ومنها التيار الوطني الديموقراطي العراقي والقوى الديموقراطية والإسلامية والقومية المعادية للاحتلال أن تقلل من حجم الضرر الذي تلحقه القوى الانعزالية ، وبكل صراحة يمكننا أن نعلن منذ الآن أن هذه الجهود المخلصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وكسر الحمى الانعزالية المتفاقمة لن يكون لها أية آفاق إذا ما استمر الصمت العربي على المأساة العراقية كما هو الآن .
ولعل ذروة هذا الصمت ، أو أكثر تجلياته صعوبة وطرافة في وقت واحد ،هو أن الحكومة المصرية والمنظمات القاعدية غير الحكومة وممثلي الرأي العام في مصر صمتوا ليس عن مأساة العراقيين والجرائم المرتكبة بحقهم فحسب بل لقد طال هذا الصمت غير المبرر والكئيب حتى المصرين الذين قتل العشرات منهم مع أشقائهم العراقيين برصاص النظام الفاشي وعثر على العشرات من جثثهم في تلك المقابر .
ترى لماذا هذا الصمت ؟ هل ثمة خشية لدى الأنظمة العربية من عودة محتملة للنظام فيعاقبها بإلغاء الصفقات المليارية معها ؟ لقد زال نظام صدام حسين من الوجود ولن ينجح بالعودة إلى الحكم بعد هذه الجرائم المروعة التي كشف النقاب عنها والتي بلغت تفجير السجناء وهم أحياء بالمتفجرات عن بعد ( بثت قناة المنار - مشكورة - مشاهد لهذه المناظر نقلا عن تلفزيونات و وكالات أنباء عالمية ) ، لن يعود إلى السلطة ولو اجتمعت من أجل ذلك الجن والأنس .
لقد بادرت بعض القيادات السياسية العراقية إلى مصارحة العرب الرسميين بضرورة الاعتذار إلى الشعب العراقي عن مواقفها المتضامنة مع النظام الاستبدادي المنهار ،وعن صمتها الطويل ، ومن تلك القيادات الوفد الكردي الذي قاده السيد "برهم صالح" من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يقوده السيد "جلال الطالباني " والذي زار القاهرة قبل بضعة أيام وطرح فكرة الاعتذار على مسئولي الجامعة العربية ولم يتم التجاوب مع تلك الدعوة . ومع إننا نؤيد تماما دعوة السيد "برهم صالح " تلك ولكننا ندعو أيضا السيد "جلال الطالباني" زعيم الحزب المذكور إلى أن يعتذر إلى الشعب العراقي عن حادثتين مأساويتين : الأولى هي المجزرة البشعة التي قامت بها ميليشياته المسلحة بالتنسيق مع القوات الحكومية في منطقة "بشتآشان " والتي قتل فيها عشرات الأسرى من مليشيات الحزب الشيوعي العراقي الذين كانوا يقاتلون دفاعا عن الشعب الكردي ، حيث تم فصل الأسرى على أساس قومي فأطلق سراح الشيوعيين من أصول كردية وقتل الشيوعيون العرب العراقيون ومن الأقليات القومية الأخرى *. وهذه المجزرة موثقة ومعروفة ويعتبرها حزب الطالباني من انتصاراته المهمة . أما الحادثة الثانية التي يجب أن يعتذر عنها هذا الحزب وقيادته فهي خذلانه لانتفاضة العراقيين في الجنوب والوسط سنة 1991 ، وقيامه هو والسيد مسعود البرزاني بزيارة إلى بغداد التقى خلالها أمام عدسات التلفزيون بالدكتاتور الدموي صدام حسين واحتضنه وقبله حتى قبل أن تجف دماء الشهداء . نعتقد أن المطالبة باعتذار عربي للشعب العراقي صائبة وصحيحة ولكن لكي يستقيم وينسجم من يدعو إليها مع نفسه فلابد له من أن يقوم هو ذاته بهذا الواجب أمام شعبه قبل أن يطالب الآخرين بفعل الأمر ذاته .
وأخيرا فإن التضامن الإنساني ليس كلاما في الهواء ، أو محاضرات يلقيها هذا المفكر أو ذاك ، بل هو وقبل كل شيء أفعال معبرة ونشاطات تضامنية فعلية ذات قيمة تاريخية وأخلاقية وسياسية تبادر إليها صادقة الأطراف المتضامنة . والشعب العراقي اليوم لا يشحذ أو يتوسل تضامنا خجولا بل هو يطالب محيطه العربي بطي صفحة الأخطاء ومغادرة خندق التحالف مع الأنظمة على حساب الشعوب ، والقيام بالواجب التضامني دون تردد ، وبدون المبادرة السريعة إلى أداء هذا الواجب وكسر الصمت الخانق على مأساة العراقيين الحزينة والباهظة سيكون المتهم الأول بدفع العراقيين إلى انعزالية مناوئة للعروبة هو هذا الصمت العربي المدان .
هامش بخصوص خالد صبيح :
بمناسبة التطرق إلى مأساة مجزرة بشتآشان ، أود أن أسجل استنكاري ورفضي للشتائم ذات الرائحة العنصرية التي وجهها خالد صبيح في مقالة له نشرت على الانترنيت بتاريخ 2/5/2003 حول نفس الموضوع ، فهو لم يكتف بتوجيه نقده المحق إلى حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يطلق عليه تسمية " حزب الجلاليين " المأخوذة من قاموس الصراع بين هذا الحزب وغريمه " الحزب الديموقراطي الكردستاني " بل إنه وسع من دائرة هجومه بالشتائم لتشمل الشعب الكردي حين وصف أعضاءه حرفيا "بالدناءة وخسة الأصل " و ربما يكون الكاتب قد زل لسانه " أو قلمه " ليس إلا ، وبالتالي فأقترح عليه أن يعتذر عن تلك السقطة ! إذ أن الأصل سواء كان كرديا أو عربيا ليس هو سبب ارتكاب المجازر والجرائم السياسية ومنها تلك المجزرة بل هي المصالح والرؤية السياسية والعلاقات الأمنية السرية بالخارج أو بالداخل، وكما إن من الخطأ أن نقول أن صدام التكريتي ارتكب تلك المجازر الشنيعة بحق العراقيين لأنه من "أصل عربي خسيس " فإن من الخطأ أيضا أن نقول أن حزب الطالباني اقترف مجزرة بشتآشان بسبب " خسة أصله " !
ملاحظة مضافة : كتبت الملاحظة أعلاه كتبت بعد أيام على نشر مقالة خالد صبيح حول مجزرة " بشتآشان " ، ثم عاد وكتب يوم أمس الخميس 22/5/ مقالة قصيرة يرد فيها على تعقيب لي و مقالته الأخير جاءت تحت عنوان ( تحكيم القراء في شتائم علاء اللامي ) فلنلحظ هذا العنوان الذي يحاول به تحريض القراء ضد من دافع عن نفسه لا أكثر ،ولم يكن البادئ في توجيه الاتهامات ، وفي هذه المقالة الجوابية التي حكم فيها القراء عاد شتمني فيها من جديد بكلمات من قبيل " الخبث " و "الدس " و ليس أهلا للنقاش .. الخ ، ثم مسح فمه ببراءة وأعلن بأن نفسه تأنف من توجيه الشتائم ، عجبي !!
ومما ورد في مقالته الأخيرة قوله ( إن نقد أو حتى شتيمة فرد أو جهة سياسية أو قائد ما في الحركة الكردية لا تعني إنها شتيمة للشعب الكردي بالإضافة إلى انه لم يكن هناك أي نفس عنصري في نقدي للاتحاد الوطني الكردستاني، فأنا لي موقف من هذا التنظيم وقائم على تجربة ومتابعة، واعتبره جهة سياسية ذات نزعة عنصرية و أصحاب دور تخريبي في الحركة الوطنية العراقية .. ) وبصراحة فكلامه هذا صحيح لو أنه اكتفى بنقد أو شتم قائد أو مسؤول في أي حزب عراقي ، كردي أو عربي أو تركماني ، وأنا شخصيا لا أرحم هذه "المخلوقات السياسية " في نقدي حين تخطئ وهي " موهوبة " فعلا في ارتكاب الأخطاء و جني الهزائم ، ولكني لا أمس أصولهم وانتماءاتهم القومية أو الدينية ، أما خالد صبيح - للأسف - فلم يكتف بشتم ونقد حزب الطالباني أو قيادة حزب الطالباني أو الطالباني ذاته ، بل شتم أصلهم والعبارة موجودة حرفيا في مقالته التي مازالت منشورة على أحد المواقع العراقية على الإنتريت ورفعت من مواقع أخرى ، وكعلامة على حسن الظن فقد فسرتُ ذلك بزلة قلم من قبله .. أسفي شديد لأنني انتظرت من هذا الشخص اعتذارا عما ظننته زلة قلم ، و عبرت عن احترامي له في تضاعيف مقالي في أكثر من فقرة ، ولكني فعلا وصفت بعض اتهاماته لي وخصوصا بالدعوة إلى المصالحة مع نظام صدام أو التقلب الفكري بأنها أكاذيب وقدمت الدليل على ذلك موثقا ، فلماذا يطلق شتائمه مجددا ثم ينفي في المقالة نفسها أنه يشتم ، عوضا عن أن يدافع عما يكتبه أو يعتذر عما يجود به يراعه من زلات إن كانت زلات فعلا ؟ وأكرر قولي بأني لم أكن البادئ كالعادة في هكذا " سجالات ! " بل مارست حق الدفاع عن النفس والتوضيح الموثق .