|
فى القطار الى المنيا
شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7308 - 2022 / 7 / 13 - 22:33
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
في القطار إلى المنيا --------------------------------------
هبطت من السيارة في ميدان "رمسيس" ، ودخلـت إلـى محطة مصر، شاقا طريقي بين أفـواج الخـارجين منهـا، والداخلين إليها. توقفت في منتصف الساحة الواسعة التي لـم أدخل إليها منذ عشرات السنين. بدا لي أن لا شيء تغير فيها، مازال سقفها المصنوع من الزجاج تحمله ضلوع من الحديد يحولها إلـى قفـص كبيـر، ومازالت القاطرات وعربات السكة الحديد كالحة اللـون كأنمـا أعياها السفر الطويل، لكن اختفي "البوفيه" الكبيـر بمقاعـده المريحة، ومفارشه البيضاء ، كنت أتناول فيه برادا مـن الشـاي بالحليب وساندويتش روزبيف. اختفت القاطرات السود التـي تنفث دخانها ساعة الرحيل، وبائعو السميط والجبن الرومـي والبيض ، ليحل محلهم أكشاك قبيحة تبيع كل المأكولات المغلفة التي تسبب البدانة وأمراض كثيرة. راحت رفرفة السعادة التي كنت أشعر بها ، عندما يدق جرس القيام ويتردد رنينـه إيـذانا بانطلاقي إلى المصيف، أو إلى القرية حيث كانـت تنتظرنـي جدتي لتطعمني بالقشدة، والعسل الأبيض، والفطير. في هذا اليوم كنت متجها إلى "المنيا" للاشتراك في نـدوة عن الحركات الاجتماعية الجديدة. كان المقعد المحجـوز لـي بجوار النافذة . بعد أن انتهيت من المرور على عناوين الصحف ، أخذت أطل منها على الحقول الخضراء تناثرت فيها مئات مـن أشجار النخيل، الفلاحين "يعزقـون" الأرض بفئوسـهم أو "يحِشون" البرسيم، والنساء والأطفال يزحفون بين الخطـوط لتنقية الحشائش، أو لنقل حمولة من الردم، والسبخ على ظهرالحمير، ألمح النظرة الحزينة للجواميس عندما ترفع رؤوسها لتتأمل القطار، كأنها تحسد الراكبين فيه. بدا لي ريف الصعيد أليفا، وقريبا مِني . المسافات هنا لا تمتـد بعيـدا، والإنسـان والحيوان فيها يبقي مرئيا، بارزا أكثر منه في وجه بحري، لم يأخذ في الاختفاء بنفس القدر أمام الجرارات وماكينات الـري والدريس، وسيارات النقل، والدراجات البخاريـة، والمقـاهي، والمطاعم، والعمارات، وأمام جميع مظاهر التحضر الزائف التي شوهت الحياة في المدينة والريف. هنا مازالت تخطف أنظاري منازل الأعيـان القديمـة، أوالبيوت الصغيرة المبنية بالطوب الأخضر والطين، والفئـوس، والمحاريث وأساليب العمل اليدوية، هنا الإنسان أقرب إلـى البساطة والطبيعة رغم زحف "التحديث". السفر في القطار يطلق العنان للذاكرة والخيـال، ربمـا حركة العجلات فوق القضبان ، والمناظر تتوالي فيها مع إنتقالي في الزمن والتاريخ. خطر في بالي وأنا أتتبع المناظر ، سؤال تكرر توجيهه إلىّ من أشخاص مختلفين وأنا جالس في ندوة، أو سـائـر فـي الشارع، أو منتظر دوري في محل أبتاع منه بعض ما نحتـاج إليه، سؤال يواجهني في بداية النهار، ويؤرقني في الليل عندما أوي إلى الفراش، سؤال يشعرني بنوع من العقم : " لماذا توقفت عن الكتابة ؟ ". عاد إلىّ السؤال وأنا جالس في القطار. سألت نفسي: هل السبب هو إحساسي بأن هناك تدهورا سريعا يصيب كل نواحي المجتمع، ومع ذلك ما أكثر الكلام، وما أقل الأفعال التي نواجه بها هذا التردي المستمر في حياتنا ؟ . هل هـو الشـعـور بـأن الناس ملت المقالات، والبيانات وحملات النقد ضد الفساد الذي تغلغل إلى أركان النظام الحاكم في بلادنا، حملات يشارك فيهـا ليس فقط منْ يطلق عليهم وصف "المعارضـة" ، ولكـن أيضـا أنصار النظام والمنتفعون به، الشعور بأن كـل مـنْ يـشـارك بالكتابة يصبح جزءا من هذه المظاهرة الكلاميـة، مـن هـذه التمثيلية النقدية التي ترتدي ثوب المعارضة ، وتدعي أن دافعها هو الإصلاح، والتغيير . هل أصبحنا جميعا في سلة واحدة نكرر نفس الكلام، ونحافظ على ما حصلنا عليه في الحياة ، فانصرف عنا القراء ؟. هل أستطيع أن أقول ما يجب أن يُقـال دون أن ُيلقى به في سلة المهملات ؟. هل سيكون له أثر بعد أن اختلط الحابل، بالنـابـل، واليمين باليسـار، وبعـد أن زايـد المنتفعون في سوق الدفاع عن مصالح النـاس ليظلـوا فـي مقاعدهم، ليبقـى النظـام ضـاغطا علـى أعناقنـا ، وتختفـى الدكتاتورية الراسخة خلف الديمقراطية المزيفة ، ويذهب وزراء ويجـئ وزراء، وتذهب حكومات وتجئ حكومات، وتنظم انتخابـات، وتعلو أصوات في مجلسي الشعب والشورى، بينمـا لا يتغيـر شئ بل وتسوء الأحوال ؟؟. قلت لنفسي ما فائدة الكتابة؟ . ما الفائدة من تكرار ما ُيكتب يوميا في الصحف والمجلات قومية كانـت أو مستقلة أو معارضة ؟. ما الفائدة من الكتابة إذا كان من المحال أن أنشـر ما يجب أن ُيقال؟. فلا يوجد رئيس تحريـر علـى اسـتعداد أن يتشرد بتهمة المساس بالسلطات العليا السياسية، أو الدينيـة. أليس عندنا نظام للحكم يتحمل عنا مهمة الدفاع عن مصالحنا ، عن حقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة، وحقـوق الثقافة، والمعرفة ، ولذلك أنشئت المجالس العليا، عنـدها سلطة تصدر القرارات ولا يجوز مساءلتها ؟؟. منذ خمس وثلاثين سنة كنت جالسا في القطـار المتجـه إلى "المنيا"، في عربة من عربات الدرجة الثالثـة. فـى ذلـك الوقت كانت قد تشكلت في نقابة الأطباء بمبادرة مِنى لجنة ، كان هدفها تشجيع الأطباء على المشاركة في تطوير مهنـة الطـب وقوانينها، والمساهمة في تحسين مستوى الخدمات الصحية. عرضت الفكرة على الدكتور "نور الدين طراف" ، كـان أنـذاك مسئول المهنيين في الاتحاد الاشتراكي، وشجعني على السـعى لتنفيذها. بذلت فيها جهدا كبيرا بالتعاون مع غيري من الأطباء فوصل المنضمون إليها ما يقرب من خمسين طبيبا ، بينهم عدد من أساتذة كلية الطب ، أصبح بعضهم فيما بعد وزراء للصحة. اتسع نشاط اللجنة، وتحولت النقابـة إلـى جـهـاز فـيـه حيوية، وقدرة على التأثير في المجـالين اللذين اختارتهمـا لنشاطها، ثم جاء موعد انتخابات النقابة وتحدد لها شهر إبريل سنة 1969، وقرر "عبد المجيد فريـد " ، أمـين عـام الاتحـاد الاشتراكي في محافظة القاهرة عقد اجتماع لأعضـاء اللجنـة ليختاروا من بينهم عددا من المرشحين للنقابـة العامـة ، والنقابات الفرعية . ذهبنا أنا و" نوال السعداوي" ، التي كانت من أعضاء اللجنة لحضور الاجتماع بناء على الدعوة التي وُجهت إلينا. جلسنا جميعا في صالة كبيرة تطل نوافذها على شـارع"عبد الخالق ثروت". بعد قليل خرج إلينـا الـدكتور "إبراهيم الشربيني" وكان من المقربين إلى قيادة الاتحاد الاشتراكي ، توقف عند باب الحجرة ، وتوجه إلينا قائلا: "ياللا ياسادة اتفضلوا الاجتماع". اندفع الجالسون في الصالة نحو الباب الذي يقـف عليـه ، بتلك الحركة المتوترة التي يقبل بها النـاس علـى أصحاب السلطة. وقفت أنتظر إلى حين يخف الزحام . لكن عنـدما وصـلت إلى الباب مال علىّ الدكتور "إبراهيم الشربيني" وخـاطبنی بصوت خافت قائلا: "يا دكتور "شريف" إنت ما تقدرش تحضر الاجتماع ده" ؟ وقفت صامتا إزاء المفاجأة، عاجزا عن استيعاب ما قاله، ثم سألت: " ليه ؟ ". قال: "دى تعليمات السيد عبد المجيد فريد". تراجعت في الصالة. كانت "نوال السعداوى" لا تزال جالسـة على مقعد بعيد. لمحت الضيق الظاهر على وجهى ، فلما اقتربت منها سألتني: "إيه.. فيه حاجة حصلت حاجة ؟" . قلت: "عبد المجيد فريد" منعنى من حضور الاجتماع". برقت عيناها بالغضب ثم قالت: "وأنا كمان مش هاحضر، دول ما يستهلوش الجهد إللى انت بذلته. ياللا بينا، الجو بره حلو.. تعالى نجلـس فـي الشـمس أحسن ما نضيع وقتنا في اجتماعاتهم المقرفة". لما عدنا إلى شقتنا في "الجيزة" تشاورنا فـي الموقـف. قررنا أن نخوض انتخابات ضـد قائمـة الاتحـاد الاشتراكي ، وأصبحنا نسافر لحضور اجتماعات الأطباء التي أخذ ينظمها بالاتفاق مع المحافظين، تأييدا للقائمة، ونطلب الكلمة فيها، كان الأطباء ينصتون إلينا ، بعد أن سئموا القيادات المفروضة عليهم ، ولضيقهم من تدخل الجهاز الحكـومـي فـي الانتخابـات، أمـا أصدقائي الذين عملت معهم في اللجنة ، فكانوا يتظاهرون بعـدم رؤيتنا عندما نلتقى بالمصادفة في أي مكان. تكفل الاتحاد الاشتراكي بمصاريف الحملـة الانتخابيـة الخاصة بالمرشحين في قائمة الاتحاد الإشتراكي ، بمـا فيهـا الإنتقال إلى المحافظات، والمبيت فـي الاسـتراحات، وولائـم الغذاء. أما " نوال" وأنا فقد اعتمدنا علـى مواردنـا الخاصـة المحدودة. كنا ننتقل في عربات الدرجة الثالثـة ، بينمـا كـان مرشحو القائمة يسافرون في الدرجة الأولى وتنتظرهم سيارات المحافظة. لكن لما ظهرت نتائج الانتخابات حصلت "نوال السعداوي" على الأغلبية الساحقة في النقابة العامة، على أصوات أكثر من النقيب "الدكتور عبد الوهاب شكرى"، ووصلت أنا إلى النقابـة الفرعية لمحافظة القاهرة ، رغم الحملة التـي شـنـتـهـا ضـدی السلطات للتأثير على الأطباء ، بقولها إننى عنصر لـه تـاريخ سياسي طويل في اليسار، ولى اتجاهات لا تتفق مـع مصـالح الوطن، ومصالح الأطباء. تذكرت كل هذا وأنا جالس في القطار. رأيت نفسي راكبـا في عربة الدرجة الثالثة بين زحام الرجال والنساء و "القفـف" والِسلال، من حولي صخب الأصـوات، وصراخ الأطفـال، أستنشق رائحة العرق والحلبـة، والتـراب. أتأمـل الوجـوه الشاحبة المرهقة تنظر إلىّ أحيانا بابتسام، كنت مرهقا أنا أيضا من كثرة التنقل عبر المسافات ، مع ذلك كنت راضـيـا سـعيدا، مقبلا على التحدى، على هذه الرحلة الليلية إلى "المنيا" سأصل إليها في الفجر، على صحن من الفول، والطعمية وكوب مـن الشاي، وعلى الإفطار والحوار مع شريكتي في الحيـاة " نوال السعداوى " التى كانـت تنتظرني هناك. من كتاب " يوميات روائى رحّال " 2008 --------------------------------------------------------------------
#شريف_حتاتة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يا سعادة المندوب السامى !
-
مدينة روائى رحّال
-
يجب أن تكون أحلامنا كبيرة
-
تأملات مسافر
-
كنا أربعة فى قارب
-
- نون - و - مُنى - بنت الطبيعة والرومانسية الساذجة
-
القاتل .. مارلبورو
-
فلسفة المِشرط
-
المعذبون فى - مارينا - ضجيج الارهاب وضجيج - الجت سكى -
-
قلبى ينبض مع أبعد نجمة فى السماء
-
ماذا وراء التحالف الدولى لمقاومة الارهاب ؟؟؟
-
- بغداد - قطرة فى بحر العذاب
-
العلم والثقافة
-
- تونى بلير - وفك الحصار عن العراق
-
هكذا تكلم البحر
-
القنبلة العقائدية
-
سمك القرش
-
على شرف الأحلام .... قصيدة
-
يغذى الدودة فى الحجر
-
مجاهدى خلق ورحلة الى لندن
المزيد.....
-
ما هي حقيقة زيادة الرواتب؟ .. المالية تكشف عن جدول صرف رواتب
...
-
WFTU Declaration in Solidarity with the Arrested Unionists i
...
-
العملاق الألماني فولكسفاغن يعاني: إضراب وسط تفاقم الأزمة!
-
ألمانيا.. إضراب ما يقرب من 100 ألف عامل في -فولكس فاجن-
-
بعد مشاركة 100 ألف عامل.. إنهاء إضراب فولكس فاغن التحذيري
-
بيان الذكرى 72 لاغتيال الزعيم الشهيد فرحات حشاد على الع
...
-
دعوى على أبل بسبب -التجسس على الموظفين-
-
المرصد العمّالي يطالب بتحسين البنية التحتية بالقطاع الخاص لت
...
-
المرصد العمّالي يطالب بتحسين البنية التحتية بالقطاع الخاص لت
...
-
” 200 مليون دينار ” سلفة من مصرف الرشيد فورية في حسابات المو
...
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|