لبيب سلطان
أستاذ جامعي متقاعد ، باحث ليبرالي مستقل
(Labib Sultan)
الحوار المتمدن-العدد: 7307 - 2022 / 7 / 12 - 14:01
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
ازالت ثورة 14 تموز النظام الملكي في العراق وبدأت العهد الجمهوري منذ 64 عاما, ولليوم يعاني العراق من كبوات زلزلت المجتمع ودمرت لحمته الوطنية وروح المواطنة وانكفأ المجتمع على نفسه بعد ان نحرته الأنقلابات والحروب والديكتاتوريات والطائفية السياسية ودمرت فيه الطبقة المدنية وشرد ابناؤه وتبعثرت طاقاته ودمر أقتصاده وجفت انهاره واتربت مدنه المتهالكة وتصحرت اراضيه وانتهكت سيادته وساد سلطاته الفساد وأختفت فيه معالم الدولة الوطنية. هذا ليس وصفا كلاميا ,بل حصيلة واقعة لما حصده الشعب العراقي بعد 64 عاما من قيام ثورة 14 تموز الوطنية، التي فرح بها الشعب واحتضنها بكل فئاته وطبقاته ومثقفيه ومتنوريه تطلعا منهم لمستقبل افضل للعراق يليق بتاريخه وقدراته وثرواته وامكانياته ,وتطلع شعبه من خلالها الىالعيش اللائق الكريم في وطن معزز. ولكن الذي حصده الشعب من ثورة تموز كان العكس تماما ، لقد طال التدمير الدولة ومؤسساتها واقتصادها وكيانها بدل اصلاحها وتطويرها مثلما اراد الشعب الذي ساند الثورة، فاين تكمن أسباب نكبتها ونكستها وماتبع من ويلات على الشعب العراقي بعد سنوات قليلة على قيامها والى يومنا هذا، وكانت هي الحلم الوردي لأغلب العراقيين عند وقوعها؟
لم يطلع شعبنا ولحد اليوم (وفق معرفتي) على نقد علمي و موضوعي محايد وبنآء لماذا حدثت هذه الأنتكاسة المدمرة، والمجتمع العراقي والعربي عموما يميل الى تتابع مآسيه كذكريات ويترك الدروس , و ينبري اغلب مثقفينا في اقتصارهم على تعليلات اسيرة لمواقف أيديولوحية كأحزابنا السياسية اليسارية التي تبرع بأصدار البيانات الأحتفالية الممجدة للثورة وانجازاتها التقدمية وتضع تآمر الرجعية والأمبريالية سببا في انتكاستها دون نقد موضوعي لمسؤوليتها، وهي تعلم جيدا ان غالبية الشعب العراقي ومثقفيه كانوا ولحد اخر يوم هم من انصار الثورة والزعيم الوطني عبد الكريم قاسم وهم اقوى عددا وعدة من الرجعيين والناصريين والمتآمرين والأمبرياليين لو تم بناء صرح دولة ديمقراطية قوية بمؤسساتها وليست سلطة وطنية ضعفت لدرجة القضاء عليها بمؤامرة رجعية وبمجموعة من صغار الضباط يوم 8 شباط 1963 استطاعت بضربة واحدو الأستفراد بالزعيم وأنهاء حياته ومعه انهاء هذه الثورة.
أما القومجية والبعثيين فيضعون انحراف الثورة عن الخط الوحدوي العروبي وان الثورة قامت لأجل الوحدة ويبررون جرائمهم بحق الشعب العراقي لأقامة الوحدة العربية لحد قبرهم عام 2003 ولم ينجحوا حتى باقامة علاقة حسن جوار مع اي بلد عربي حولهم .اما القوى الدينية والأقطاعية فوقفت ضد هذه الثورة لتضرر مصالحهم بالقوانين التي اتت بها وقلصت نفوذهم لصالح الطبقات الفقيرة و المتمدنة والوسطى في المجتمع العراقي.
سأضع امامكم مسبقا، كمواطن ومثقف عراقي محايد، ما أراه أهم سبب لفشل وانهيار ثورة 14 تموز الوطنية : انه غياب مشروع لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية الليبرالية بعد هدم صرح الدولة الملكية على يد الثورة ، ولازال هذا الغياب هو السبب في تدهور العراق منذ الثورة ولحد اليوم ، واليكم الأسباب لهذا التشخيص.
كان العراق في العهد الملكي دولة دستورية وذو مؤسسات كفوءة ونظام برلماني وتوجهات علمانية وحتى ليبرالية تسمح بحريات الصحافة وتشكيل الأحزاب ، ولكنها جميعها كانت بحاجة لأصلاح مدني وتطوير وترميم يضع حدا لتدخل المعسكر الرجعي القوي المتمثل بالعسكر المتدرج من ثقافة المدرسة العثمانية والأتاتوركية والمتحالف مع الأقطاع في التدخل في ادارة الدولة والحد من تطور الحياة الديمقراطية والحقوق المدنية في العراق الملكي, حيث تقتضي مصالحهم, ومصالح الغرب الذي كان يستخدمهم ،خصوصا في الخمسينات ، لخوض الحرب الباردة للحد من النفوذ السوفياتي المتنامي في المنطقة والعالم. ولكن رغم ذلك فالمعركة بقيت اساسا داخلية بين التيارات المدنية والوطنية التي تطالب بالأصلاح الداخلي, والحد من الفقر, وبين الرجعية المتمثلة بالعسكر والأقطاع.
كان النظام الملكي عموما يرضخ لمطالب الشعب حينما يخرج للمطالبة بالأصلاح او للأحتجاج ويعين الملك رمزا وطنيا لترؤس الحكومة او للأستجابة لمطالب الشعب ، ولكن سرعان ما تستعيد الرجعية العسكرية الزمام ، وتمارس القهر والأعتداء على الحريات ،وهكذا كانت الحياة السياسية تتقدم خطوة وتتراجع اخرى ، ولكن عموما فان حركة بناء الدولة وتطور المجتمع كانت تسير بخطى بطيئة ولكنها ثابتة لصالح قوى التقدم الأجتماعي والمدني ومشروع بناء الدولة العراقية كان يسير للأمام حيث الأقتصاد الوطني بدأ بالنمو والمدارس والتعليم والجامعات تنتشر وكذلك الحريات المدنية والثقافية والفنية تتطور وتزدهر، حيث ان الصراع على السلطة كان محسوما للعائلة المالكة وتبقى الكرة بين المعسكرين التقدمي المدني والرجعي العسكري الأقطاعي ولكن الحركة تسير لصالح الأول .
انه وبكل موضوعية يمكن القول والأجتهاد انه ولولا حدوث ثورة تموز عام 1958 التي هدمت النظام الملكي لكان بامكاننا ان نتصور العراق اليوم واحد من اهم دول المنطقة واكثرها تطورا وديمقراطية ومؤسسات كفوءة ورفاه اجتماعي وتطور أقتصادي وحريات مدنية وأجتماعية يجاري بها الدول الأوربية ، وخير دليل على موضوعية هذه الأطروحة هو القاء نظرة على وضع جارتنا وافقر بلد عربي من حيث الموارد المائية والطبيعية وهي المملكة الأردنية الشقيقة التي كانت حكومتها ولحد منتصف الستينات تعتمد في ميزانيتها على المنحة المالية السنوية من بريطانيا لدعم مواردها المحدودة، بينما العراق بلد الرافدين العظيمين والأراضي الخصبة الواسعة والثروة النفطية العظيمة والقدرات البشرية والأنمائية الهائلة يفوق مئات المرات بما حققه الأردن اليوم ، بل وأي بلد عربي اخر بتوفر كل هذه الموارد، بينما واقع العراق اليوم يقول ان 31% من سكانه يعيشون تحت خط الفقر، وقارن بين وضع بلدنا ذو الموارد الطائلة وبلد عمليا بطون موارد لنرى دور الأدارة والأجادة في بناء الدول،
استبشر العراقيون خيرا بثورة تموز باعتبارها ستسمح لهم بالقيام باصلاحات اسرع واعمق من تلك التي كانت لدولتهم الملكية التي افتخروا بها ولكنهم ارادوا اصلاحها لتجعل طريقهم للتقدم والتطور اقصر واكثر سلاسة ، خصوصا وان الثورة وجهت ضربة لقوى العسكر والأقطاع الرجعية. انهم تألموا بأغلب فئاتهم على خسارة النظام الملكي ولكنهم ساندوا الثورة وفرحوا بها لما انتظروه منها من اصلاحات تسرع بعملية تطوير الديمقراطية والأقتصاد والقضاء على الفقر واعطاء الطبقة المثقفة الوطنية دورا اكبر في بناء البلد.. وكان الزعيم عبد الكريم قاسم فعلا رجلا وطنيا الهم الشعب ببساطته ووطنيته وتفانيه في خدمة وتطوير العراق ومحاربة الفقر فيه ومساعدة الطبقات الشعبية وتوسيع التعليم وتشجيع الصناعة والأقتصاد الوطني، هذا كان توجهه وهدفه منذ الأيام الأولى للثورة وهذا ما لمسه الناس . ولكنه وكعسكري وطني لم يكن سياسيا يعي كيفية اعادة بناء الدولة بعد هدم سقفها وجدرانها المتمثلة بالنظام الملكي وانهاء البرلمان ولم يستطع خلق بديل لهما خلال سنوات حكمه. والواقع ان الزعيم وبعد اشهر معدودة من الثورة وجد نفسه في صراع داخلي بامواج بشرية هائجة تسحبه الى صراع خارجي بين التطرف اليساري الذي يضغط للأنحياز للمعسكر السوفياتي ، وبين اليمين القومجي الذي اججه وقاده عبد الناصر والغرب ضد الحكم الوطني في العراق،وظل الوضع طوال سنوات الثورة فوضى معارك يخوضها الطرفان وبقي الزعيم يحاول التوازن ولكن دون جدوى، ولم يكن هو نفسه يملك مشروعا لبناء كيان ومؤسسات الحكم في الدولة الجمهورية الجديدة . كان الشيوعيون يناصرون الزعيم ولكنهم لا يملكون مشروعا لدولة بل يناصرونه في خروجه من حلف بغداد ومن منطقة الأسترليني واقامة علاقات اقتصادية مع السوفيات وجل شعاراتهم مشاركة بوزيرشيوعي في الحكم مطلب عظيم واعلى ما يريدونه وتصفية وضرب القوى الرجعية وشعارات سياسية عامة لا تمتلك رؤية لنظام حكم الدولة او تطوير دستور لنظام برلماني مستقر في ظل النظام الجمهوري، وانكر احد قادة الحزب الشيوعي، وهو من اقاربي ، حينما طرحت عليه في منتصف الثمانينات ان الحزب لم يمتلك برنامجا لبناء دولة ديمقراطية في العراق، اجابني ان الحزب كان دوما ينادي بالديمقراطية وطرح دوما برامج وطنية في كل مرحلة طوال الفترة مابعد الثورة، وهو يقصد بلا شك برامج الحزب السياسية المليئة بالشعارات والتمنيات . ولم يقتنع عندما بقيت اكرر عليه ان الحزب الأكثر جماهيرية ونفوذا في المجتمع العراقي بعد ثورة تموز لم يملك يوما برنامجا لبناء دولة ذات نظام برلماني ورئاسي انتخابي واقتصادي حر مثلما نراه في النظم الديمقراطية، فأجاب ان هذه برامج الأحزاب البرجوازية والحزب الشيوعي يؤمن بأقامة النظام الأشتراكي ، وهو محق بلاشك وعليه، وهذا استنتاجي، فالحزب لم يملك مشروعا لأقامة نظام ديمقراطي في العراق فهذه ليست مهمته، ولو طالب بها واقامها فهو سيحول العراق اذا فاز في الأنتخابات ( وهو كان فعلا قادرا على الفوز لشعبيته الواسعة ) الى دولة ظل سوفياتي ذو نموذج سوفياتي في الحكم والأقتصاد. ان هذا هو بعينه هو ما أخاف الزعيم عبد الكريم قاسم وانقلب على المزب ، وماطل ان يأخذ بالنظام البرلماني الجمهوري الدستوري الذي طرحه عليه قادة الحزب الوطني الديمقراطي وخصوصا محمد حديد وكامل الجادرجي على مدى ثلاثة سنوات ( وهم لم يذكروها حرفيا في مذكراتهم انهم طالبوه بها ولكنها مفهومة من بين الأسطر انه متردد في الأخذ به حتى يتم اضعاف الشيوعيين كي يضمنىعدم سيطرتهم ولم يأخذ جديا موضوع وضع دستور ديمقراطي دائم للبلاد) فالزعيم كان يرى ان سيطرة الشيوعيين على البرلمان ستجعل العراق يدور في فلك السوفيات ويعرض العراق للخطر امام الغربظ ونفس الأمر اذا فاز القوميون يوما سيحملون العراق على طبق ويودعونه لعبد الناصر وزبانيته الفاشلة. وبرأيي ان نفس تلك القناعة كانت لدى الجادرجي وحسين جميل ومحمد حديد وعبد الفتاح ابراهيم من المدرسة الوطنية الليبرالية العراقية الذين انسحبوا تدريجيا من مسرح الأحداث امام تلكؤ الزعيم باقامة نظام رئاسي برلماني في العراق. ومن غياب مشروع وطني ديمقراطي ليبرالي في عراق مابعد الثورة استفرد القومجية والعساكر الناصرية والرجعية بالزعيم وانهوا بضربة واحدة الزعيم وحكمه، وبه قضوا على حلم العراقيين باقامة دولة وطنيىة ومؤسسات مدنية حديثة تخدم تطور المجتمع وتحقق الرفاه الأقتصادي. انه الفشل في مشروع بناء الدولة ومؤسساتها الديمقراطية الوطنية ةالليبرالية هو الذي ادى لأنهيار ثورة 14 تموز الوطنية.
ورب سائل يسأل ها هو العراق بعد 2003 يملك دستورا وبرلمانا ، وها هو يسير نحو الأسوء والأنهيار ، حيث تسوده المحاصصة الطائفية والفساد الأداري والمالي فهل منعها النظام البرلماني أم على العكس قد رعاها ؟ وجوابي: ان العراق لاتحكمه دولة وطنية اليوم , بل تحكمه سلطة شتان بين الدولة والسلطة التي تتقاسم الغنائم وفق اسس طائفية وعرقية قنونت مغانمها من الدستور ومن واقع اللادولة الذي كرسته الطائفية السياسية ، فاهم ركائز الدولة ان مؤسساتها وطنية ولا تخضع لا للتسيس الأيديولوجي ولا الطائفي او الديني او القومي ، بل تعمل لمصلحة وطن ومواطن وفقط ، وهو ماندعوه بمشروع دولة ديمقراطية وليبرالية تحق الحقوق وحريات المواطنة وتحقق ووطنية الأقتصاد والمصالح العليا للدولة، وشتان بين المشروعين. شتان بين مشروع دولة ومشروع سلطة تتقاسم المغانم كما نراها في عراقنا اليوم.
ان النهوض بمشروع بناء دولة وطنية ليبرالية في العراق لن يقوم بدون حزب وطني ديمقراطي ليبرالي عراقي يقوده رجال بناة دول ولن تقوم لبلدنا قائمة مالم ينهض مثقفوه الوطنيون بهذه المهمة ويطرحون برنامجا واضحا لأعادة بناء الدولة العراقية على اسس العلمانية والوطنية والليبرالية والأقتصاد الوطني الحر ووضع الوطنية العراقية عقيدة ومنهجا لأعادة بناء بيتنا الوطني العراقي الذي ارادت ثورة تموز الوطنية اصلاحه فادت بغياب هذه الرؤيا والمشروع في بناء الدولة الى تهديمه، وبغيابه تكاثر السراق باسم الطائفة والقومية والمذهب الى نهبه وجفافه وتصخره واذلاله. ان هذا هو الدرس الأهم الذي نستخلصه من كل معاناتنا منذ اسقاط ثورة 14 تموز والى اليوم.
د. لبيب سلطان، كاليفورنيا
#لبيب_سلطان (هاشتاغ)
Labib_Sultan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟