وتستمرّ المهازل... في ليلة عيد الأضحى
حمه الهمامي
2022 / 7 / 10 - 02:44
وتستمرّ المهازل...
في ليلة عيد الأضحى
"إنّ أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين حافظوا على حيادهم في أوقات الأزمات الأخلاقية".
دانتي أليغيري
ظهر قيس سعيّد ليلة عيد الأضحى، مساء الجمعة 8 جويلية 2022، في بعض وسائل الإعلام ليهنّئ التونسيات والتونسيين بالعيد ولكن ليحدّثهم خاصة عن "دستوره" الذي عرضه عليهم قبل أيام ليستفتيهم فيه يوم 25 جويلية القادم، لا عن معاناتهم في هذا الظرف الصعب (انقطاع الماء، غلاء الأسعار...). قال قيس سعيد إنّ "أخطاء في الشكل والترتيب" تسرّبت إلى مشروع الدستور المنشور ووجب تصويبها. ولم يقدّم تفسيرا لمصدر هذه الأخطاء سوى كونها من باب الأمور "العادية"، "المعهودة والمألوفة" في نشر "سائر النصوص القانونية وفي الأحكام والقرارات القضائية". كما أضاف بأنه بمناسبة تصويب هذه الأخطاء الشكلية ستتم إضافة جملة التوضيحات درء "للالتباسات والتأويلات" مشيرا إلى كون النصوص القانونية كلها ليست بمنأى عن التأويلات... النابعة عن حسن نية أو سوء نية، عن قصد "مقبول" أو عن "حسابات سياسية" الخ...
لقد جانب قيس سعيد، كعادته، الحقيقة في كل الأسباب التي قدمها سواء لتبرير الأخطاء الشكلية الفضيحة الواردة في مشروع دستوره أو التحويرات الجزئية التي أدخلها على بعض فصوله. إن الأمر يتعلق في الجملة بـ46 تصويبا أو تعديلا على دستور لا تتجاوز فصوله الـ142 فصلا التي تمسه حوالي الخمس صفحات من جريدة من حجم "تابلويد". وهذا ليس بالأمر الهيّن، وإنما هو فضيحة، ولا يمكن تقديمه على أنّه أمر عادي وتشبيهه بما يحصل في "سائر النصوص القانونية وفي الأحكام والقرارات القضائية"، لأنّ الأمر لا يتعلّق بأي نص قانوني أو بمجرّد حكم قضائي لخّصه أحد كتبة المحاكم أو أحد القضاة الجالسين على عجل، وإنّما بدستور بلاد من شأنه أن يحدّد مؤسسات حكمها وحقوق مواطنيها ومواطناتها وواجباتهم وهو ما يستحقّ اهتماما خاصّا في الشكل والمضمون، لا استهتارا بالناس وتمريغا لأنوف نساء القانون ورجاله في التراب.
إن السبب الحقيقي وراء كل المهازل الشكلية الواردة في مشروع دستور قيس سعيد، والتي ما تزال قائمة حتى بعد التصويبات التي قام بها، يكمن في نزعة الانفراد بالرأي التي تقوده والتسرّع الذي طبع سلوكه في تقديم مشروعه ونشره للعموم. إن الحكام الذين يحترمون شعوبهم يوفّرون الأشهر لها لكي تطّلع على مشاريع الدساتير أو القوانين التي ستعرض عليها للاستفتاء وتناقشها وتستوعبها وتحدّد منها موقفا بكلّ روية. كما أنّهم يستمعون بجدية لأهل الاختصاص ويستشيرونهم. أمّا في بلاد "الزعيم المنقذ"، "مصحح مسار الثورة والتاريخ" فالمواطنات والمواطنون لا أهمية لهم، هم "حفنة من تراب"، لا يعلمون شيئا، لآخر لحظة، عن مشروع الدستور الذي سيعرض عليهم للاستفتاء. لقد كتبه سعيّد بمفرده وباسمهم ونشره مباشرة في الرائد الرسمي وهم مطالبون بالذهاب إلى صناديق الاقتراع للجواب بنعم أو لا حتى دون الاطلاع عليه. دستور "قطوس في شكارة".
وليس هذا فقط فحتى اللجنة التي كلفها، شكليا، قبل أسابيع قليلة، بإعداد مشروع دستور، فقد ألقى بعملها في سلة المهملات ولم يأخذه بعين الاعتبار مما اضطر رئيس اللجنة ومساعده إلى الاحتجاج والتبرّؤ ممّا فعله "سيّدهم" مؤكدين أنه لم يأخذ مطلقا عملهم بعين الاعتبار ومع ذلك فإنّه الذي لم يتحرّج، من الادعاء في توطئة "دستوره" بأنّه نظر في/أو استند إلى/ "نتائج الحوار الوطني حتى لا ينفرد أحد بالرأي أو تستبد جهة بالاختيار"، تماما مثلما ادّعى في نفس التوطئة، على لسان الشعب التونسي، "بأننا عبرنا عن إرادتنا واختياراتنا الكبرى من خلال الاستشارة الوطنية..." التي يعلم القاصي والداني أنه لم يشارك فيها أكثر من 4 أو 5 بالمائة من الجسم الانتخابي وأنّ أغلبية المستجوبين من هذه النسبة القليلة لم تطالب بدستور جديد وفقا للإحصاءات الرسمية المنشورة وإنما بتعديل دستور 2014.
فكيف لمشروع دستور تم في مثل هذه الظروف، من طرف شخص واحد، وبالإضافة إلى ذلك محدود فكريا وسياسيا وقانونيا وفقير الزاد اللغوي، أن يكون شكليا على غير الحالة التي جاء عليها. هذا بخصوص الجانب الشكلي. أما بخصوص "التّدقيقات" التي قام بها سعيد "درءً للتأويلات" وخاصة منها التّأويلات "الخبيثة" فإنها لا تهم سوى بعض النقاط الجزئية التي لا تعني أحيانا شيئا مثل إضافة "في نظام ديمقراطي" للفصل الخامس . ومن الواضح أن قيس سعيد قام بهذه التدقيقات، على محدوديّتها، تحت ضغط سيل النقود الجارف الذي وجه إلى مشروعه حتى من المقربين إليه (إضافة حق النساء في الترشح للرئاسة وتأنيث بعض المصطلحات أو التنصيص على الانتخاب الحر والمباشر للنواب...). ولكن سعيد وهذا هو الأهم لم يمس مطلقا جوهر الدستور الذي أعدّه بنفسه ولنفسه. فقد حافظ على الطابع الأوتوقراطي لنظام الحكم: رئيس فوق كل المؤسسات وبيده كل السّلطات، لا يُسأل ولا يُراقب ولا يُحاسب من أي جهة كانت ولا يعزل، يتحكم في الحكومة وفي القضاء وفي "الغرفتين" التشريعيتين، وفي حالة الاستثناء، وفي تنظيم الاستفتاءات، وفي تأويل مقاصد الشريعة وتطبيقها...كما أنه ظل متمسكا بعدم إدراج فصل خاص بمدنية الدولة كما هو الحال في دستور 2014 ، وحتى عبارة "في نظام ديمقراطي" التي أضافها إلى الفصل الخامس فإنها شكليّة، لا تغير في الأمر شيئا وإنما هي لذر الرماد في العيون، إذ لا معنى "لتحقيق مقاصد الشريعة" في "نظام ديمقراطي"، فإما نظام مدني، ديمقراطي، يفصل فيه الديني عن السياسي وإمّا نظام ديني تعلو فيه الشريعة كل القوانين الوضعية. هكذا تطرح المسألة وليس بشكل آخر، غامض وملتبس. إن صياغة الفصل الخامس ظلّت كماكانت سلفية، أصوليّة.
إن سعيّد أبقى على جوهر دستوره المعادي للديمقراطية الذي يعبّد الطريق نحو إقامة نظام حكم فردي مطلق. وهو ما يجعلنا لا نغيّر في شيء من موقفنا الداعي إلى مقاطعة الاستفتاء المهزلة ليوم 25 جويلية 2022. ولكن قيس سعيّد وضع المصفقين له أمام مشكل حقيقي: كيف سيبررون التغييرات التي أجراها قيس سعيّد بعد أن قضّوا أياما في تبرير النقاط التي حذفها أو غيّرها؟ ما هي أحوالهم اليوم وبأي وجه سيظهرون أمام الناس الذين يحتكون بهم؟ هذا من جهة. ومن جهة أخرى ماذا ستقول هيئة "التزوير" أمام الإشكال القانوني الذي وضعها فيه "الحاكم بأمره"؟ لقد خلق سعيّد بـ"تصويباته الشكلية" و"توضيحاته" التي تمسّ بعض المضامين والتي طالب بتضمينها في نسخة جديدة من مشروع الدستور تنشر في الرائد الرسمي إشكالا قانونيا جديا: فكيف يغيّر سعيد مشروع الدستور، موضوع الاستفتاء، خلال الحملة، بل بعد نشره في الرائد الرسمي وهو يدرك أن ذلك يفقده قانونا إمكانية تغييره؟ فإما أن تعتبر "الهيئة" هذه النسخة الجديدة خارج الآجال أي غير قانونية فلا تؤخذ بعين الاعتبار وهذا هو الأصل، أو أن تعتبرها بمثابة النسخة الجديدة التي تلغي الأولى وهو ما يتطلب إعادة الحملة إلى النقطة الصفر باعتبار أن التحويرات المجراة على المشروع يمكن أن تؤثر في سلوك الناخبين والناخبات؟.
وبالإضافة إلى هذه النقطة كيف ستتعامل هيئة "التزوير" مع سعيّد، الماسك اليوم بكافّة السلطات و"صاحب الاستفتاء"، وهو يدعو الناخبات والناخبين إلى التصويت بـ"نعم"؟
نحن لا ننتظر شيئا من هيئة التزوير غير التطبيل والتزمير وتنفيذ تعليمات "الحاكم بأمره".
هذه مهزلة... ولا شكّ أنّ مهزلة أخرى في الطريق لتبيّن لكل ذي عقل أننا أمام شخص شعبوي، يعتبر نفسه "ربّا أعظم"، يفعل ما يخطر بباله دون حسيب أو رقيب.
ولكن في الأثناء ثمة وطن يضيع وشعب يئنّ تحت وطأة الفقر والبؤس والبطالة والمرض.
وإذا سئلنا ما الحلّ؟ فالجواب واضح: قبضة واحدة لوضع حدّ للانهيار.
وهو أمر ممكن.
فلا وسط بين الحرّية والاستبداد.
تونس في 9 جويلية 2022