أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد عبد الرضا شياع - الومضة الشّعرية: انكشاف العتمة وتوهج الذّات*















المزيد.....


الومضة الشّعرية: انكشاف العتمة وتوهج الذّات*


محمد عبد الرضا شياع

الحوار المتمدن-العدد: 1680 - 2006 / 9 / 21 - 02:16
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


شهد الشّعر العربي عبر تاريخه الطّويل الإبدالات التي تغيّرت معها مواطن القراءة مثلما تغيّرت مواقع الإبداع سواء تعلق الأمر بشكل النّص أم بمحتواه، بداخل النّص أم بخارجه، حيث يتشكّل النّص، أساساً، من خلال شبكة من العلائق للعناصر البانية له، حاضرة كانت أم غائبة...
لقد رافق هذه الإبدالات وغيرها قراءات نقدية وسمت النّص بميسمها، واختلفت في تحديد مواطن شعريته التي تقوم على المفارقة أو الفجوة: مسافة التّوتر مثلما يرى كمال أبو ديب(1) الذي يقول (( إنّ الفجوة: مسافة التّوتر لا تنشأ من وجود المادة اللغوية معزولة بل من وجودها العلائقي، أي من شبكة العلاقات القائمة بين المادة اللغوية وبين النّص الذي تتحرك المادة فيه وتتفاعل معه ))(2) وهذا يعني أنّ العمل المُبدَع يتعالى على التّسمية: سيان أن نقول شعراً أو نثراً. وبين هذا وذاك تعثر غايتنا، هنا والآن، على خطوتها المنتظرة المتمثلة في البحث عن شعرية النّص المسمى قصيدة الومضة المترعة بـ ( حرقة الأسئلة الشّعرية وتوهج الذّات )، والتي نتغيا معاينتها عند شعراء ينتمون إلى أجيال مختلفة، مثلما ينتمون إلى جغرافيّات متعددة، وإن كان يوحدهم اللغة والهدف، لا بل المقصد الإبداعي.
لعلّ لفظ الومضة قادم من رحم البناء اللغوي والتّكثيف الدّلالي المنطوي عليه، والمتجسد في أقل عدد من المفردات الموحية، (( ويرجع ذلك إلى أمر غاية في الدّقة والأهمية، مرده، في الحقيقة، إلى طريقة اشتغال الكلام قصد تحقيق كيان متفرد هو النّص الشّعري الأصيل )).(3)
يزخر تراثنا بهذا النّوع من العطاء الأدبي وربما هو الذي كان يصطلح عليه بـ ((الرّسائل _ البرقيات أو التّوقيعات))(4) ومن أمثلة هذه التّوقيعات ما كتبه أحد الخلفاء إلى أحد ولاته: ((كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت))(5) أو ما وقّـع به أحد الخلفاء عندما أُرسلت إليه مظلمة بكلمة واحدة تقول: ((كفيت))(6).
إنّ هذا النّوع من البرقيات يقوم على الإيجاز والتّكثيف وذلك يصح على قصيدة الومضة، لاسيما إذا ما أضفنا إليها قدرتها على الإيحاء. وهو ما سنقف عنده في النّماذج التي تم اختيارها للمقاربة.
يُعَدّ الشّاعر العراقي عبد الوهاب البياتي من جيل رواد القصيدة الحديثة (التّفعيلة) وقد شُغل بهذا النّوع من الإبداع، الأمر الذي نجده مبثوثاً في دواوينه، وبالتّحديد نتاج الثّمانينات والتّسعينات من القرن الماضي، ونكتفي في هذا المقام بقراءة واحدة من قصائده، وهي:
إلى نجيب محفوظ (7)
ثرثرة فوق النّيل ؟
أم وجع القلب الإنساني المخذول ؟
وهزيمة جيل ؟
أم نار أطفأها في العوامة
أمر يحتمل التّأويل؟
يروم البياتي في هذه القصيدة الكشف عن عالم نجيب محفوظ, وكلّ ما يكتنف هذا العالم من عمق في الرّؤيا, وتنوع في الفكر والفلسفة. بعبارة أخرى: إنّه يريد عبر هذه الومضة الشّعرية أن يزجّ بالقارئ في كلّ المواقف والقضايا التي ينطوي عليها عالم نجيب محفوظ الإبداعي, وهو عالم حافل بالصّور الإنسانية الكبرى: الحبّ, الموت, الصّراعات, الهزائم, الانكسارات, الفتوّات... الخ، وبهذا التّكثيف يكون الشّاعر قد تخلّص من الوقوع في شباك الثّرثرة الشّعرية التي تفقد القصيدة جماليتها وقدرتها على النّفاذ السّريع إلى نفس القارئ.
ليس بعيداً عن البياتي، يظلّ الشّاعر العراقي زكي الجابر مهووساً بهذا النّوع من الشّعر، فنقرأ له هذا الافتتان في أكثر من مكان، ونرى قصائده الثّلاثة المنشورة في الملحق الثّقافي للميثاق الوطني بالمغرب (8) جديرة بالمقاربة، وهي:
القصيدة الأولى: التّفاحة
وهذه التّفاحة الحمراء
أقسمها شطرين
بيني وبين من أحّبها
في ليلة ظلامها ضياء
وصمتها غناء
خشية أن تعود في أكفنا
حجارة صماء!
تستمد هذه القصيدة تأثيرها من خلجات النّفس وأحلامها السّابحة في فضاءات الخيال. إنّها تدفق شعري يعانق فيه الخيال الواقع. تقوم الصّورة فيها على التّلقائية ((غير أنّ التّلقائية هنا, ينبغي ألا تؤخذ عبارة مرادفة للاعتباطية. فهي تحتكم إلى منطقها وقوانينها الخاصّة, ذلك المنطق القائم على التّجربة والمعاناة, وتلك القوانين المرتبطة بالعناصر المكوّنة للعمل الإبداعي))(9). فهي ومضة شعرية تضيء خبايا الذّات وتبوح بما يعتلج داخل النّفس. تتأسس الشّعرية فيها على الصّفاء والألق، حيث الجمع بين المتضادات في المعنى والتّقريب بين المتنافرات في الدّلالة. فبين الهم والفرح والرّهبة والنّشوة تجد الشّعرية ملاذها. الشّعرية التي تتأسّس على الفجوة: مسافة الوتر عبر الصّور المتضادّة: "... في ليلة ظلامها ضياء/وصمتها غناء..." فهذا التّضاد يخلق متعة ونشوة لدى المتلقي يجعله يتأمل البناء الجديد للغة الشّعرية الذي لا يختلف عن بناء لغة النّثر من حيث المعنى، وإنّما يكمن الاختلاف في السّياق الجديد، أي السّياق الدّلالي الإيحائي الذي نقله الشّاعر إليه. وهذه الصّورة التي رسمها زكي الجابر بخيال الشّاعر المبدع تبوح بصورة الإنسان الذي يصهره الألم الخلاّق فتتحوّل عنده لغة الحكي إلى لغة الإبداع.
إنّ السّياق الذي تخضع إليه الصّورة الشّعرية عبر العناصر المتضادّة لم يكن نتيجة وعي مقصود من قبل الشّاعر, لأنّ الشّاعر لحظة كتابة القصيدة يكتب بالوعي الشّعري لا بالوعي العقلانيّ فيكون الاتّحاد بين الذّات والموضوع، والذي تذوب على أساسه عملية الفصل بين الثّنائيات. أي انحياز المعنى إلى المعنى فيتم التّوحد بين الأشياء رغم تنافرها. فالأشياء في الكون تعيش لحظة خفاء لمعناها بينما تعيش الدّلالة الشّعرية لحظة التّجلي. والشّاعر- بطبيعة الحال- لا يدرك ما يدركه المتلقي. لأنّ المتلقي يستقبل العمل الإبداعي بعقله الواعي فيحسّ بالفوارق بين الأشياء, بينما يكتب الشّاعر بعقله الباطني. لذلك فإنّ استيعاب العملية الإبداعية يتطلب من القارئ وعياً إبداعياً يمكّنه من سبر أغوار النّص والوصول إلى ضفته الأخرى.
القصيدة الثّانية: السّندباد
يا أيها المغامر السّندباد
هناك شيء دونه تموت
وثم أشياء لها تحيا
وثم وجه تافه
لا يستحق حتى بصقة الإهانة!
فامكث هنا!
فعندنا بقيّة من زاد
حكاية لم تروها شهرزاد.
تقوم هذه القصيدة على الكشف والمغامرة، على الرّغم من أنّها تبدو خضوعة لقصدية الشّاعر لما تنطوي عليه من توظيف للتراث، إلا أنّ تلقائية البناء وانسيابية الإيقاع لا تدلان على أنّ القصيدة قائمة على الافتعال. فأبياتها القليلة المتماسكة تجعلها بعيدة عن الصّنعة والسّبك الواعي. وتدفق الصّور يوحي بأنّها بنيت على ما تنطوي عليه كهوف ذاكرة الشّاعر من ترسبات ثقافية, فجاءت بوحاً في لحظة تجل جعلتها وعاء تتبلور فيه الدّلالات, وبذلك تعثر القصيدة على فتنتها وفاعليتها في الآخر. فهي تلتذ بدفق سجيتها الحكائية وترانيمها الإيقاعية الجميلة التي تمنحها توتراً شعرياً به تكون كياناً زاخراً بشعريته.
القصيدة الثّالثة: الوردة
الوردة الحمراء
تركتها لقبلة الفراشة
ففي رحيقها شرائبها
من سكر وماء
لكنّ تلك الزّهرة البيضاء
أجمل ما في الأرض من نساء
عانقتها.. وافيتها
بحرقة الدّماء
فاحترقت
وارتفعت برأسها
تضاحك السّماء
زاهية حمراء.
في هذه القصيدة قوة للعاطفة وتدفق وتكثيف للرّؤيا على الرّغم من أنّ الشّاعر لا يسمي الأشياء بأسمائها. لأنّ تسمية الأشياء من طبيعة العلم. أما استخدام الألفاظ المجازية فهو من طبيعة الشّعر. وهذا هو الانزياح الذي أكده نقاد الشّعر الحديث، بوصفه ضرورة من ضرورات الشّعر.. والحديث في هذه القصيدة عن الوردة يشتمل في مضمونه على صفات إنسانية خالصة. فالوردة كناية عن المرأة، وفي هذا انجذاب وغواية ونداء للذات في لحظة عشق دافئة تتيه فيها الرّوح في صحراء العدم..
إنّ موضوعات القصائد الثّلاث، ما هي إلا صرخة لنداء الذّات، تتسرب عبر ومضات شعرية، وصور خاطفة، تنم عن قدرة عالية في الخلق الإبداعي لحالات إنسانية تجد ملاذها في الحبّ الذي يعيش جنيناً في أحشاء الكون وفي بهاء النفوس.
في هذا الاتجاه نجد الكاتب الليبي إبراهيم الكوني يلعب على التّعدد الدّلالي للغة، وهو ما تكتسبه اللغة الشّعرية عبر التّكثيف البنائي للكلمات، وبالتّالي صدمة الإيحاء، إذ يقول: الألحان(10)
بيـان المخلوق _ لسـان،
وبيـان خالق المخلوق _ الألحان.
المعروف أنّ ((اللسان متعدد الجوانب، غير متجانس _ يشتمل على عدة جوانب في آن واحد _ كالجانب الفيزياوي "الطبيعي" والجانب الفسلجي "الوظيفي" والجانب السّايكولوجي "النّفسي"))(11). واللسان أكبر من اللغة فهي جزء محدد منه، وهو ((ملك للفرد والمجتمع لايمكن أن نصنفه إلى أيّ صنف من أصناف الحقائق البشكية، لأنّنا لا نستطيع أن نكشف عن وحدته))(12). في حين أنّ الألحان تعني هالة أو حزمة من المعاني الرّامزة المنداحة في الآفاق، والتي تصافح آذان المتلقين مهما كانوا، وكيف كانوا فتمنحهم بهاء وألقاً. أي أنّ الألحان عصية على التّحديد والتّقييد، وبذلك تكون هذه الومضة برقاً يحمل في أطياف ضوئه ارتعاشات الألق وفورة الوجدان، حيث ثمة أشياء تمتزج مع أشياء أخرى قد تتناسق معها أو قد تختلف لا يهم مادام المقصد ناجزاً... ويستمر الكوني لاعباً على هذا الوتر الدّلالي، فيقول:
الوعد(13)
تَعدنا الدّنيا بأكثر]كذا[ مما تهب.
يهبنا البحر بأكثر]كذا[ مما يَعِد.
مبرهناً على أنّ الأشياء لا تقاس بظواهرها أو بحجمها، وإنّما بقدر عطائها. فالبحر أعمق من الدّنيا، هذه التي تتطلب منا تطهيراً داخلياً لنمنحها ما يمنح البحر، لعلّها تجود بما كان مرتجى. وفي هذه "الومضة" ما يدعو إلى معاينة التّناقض وتعميقه، فقد يؤدي تعميق التّناقضات إلى تجسيد عناصر الوحدة، أو كما يرى كارل يونغ أنّ ((الوعي واللاوعي لا يتناقضان، بل، على العكس، يتكاملان ليكوّنا كلاً: الفردية))(14) التي يتجاوز فيها المرء أناه الواعية، فتتناوس الذّات مع واقعها الموضوعي، لترى مالا تراه من قبل. بيد أنّ إبراهيم الكوني يعمّق جدلية التّناقض هاته وهو يقرأ ماهية:
الامتلاك(15)
لا نستطيع أن نمتلك الوردة
ونُبقي في آنٍ
على حياة الوردة.
وكأنّه متسربل في هذه الظّاهرة التي يبدو أنّه يعيش_ من خلالها_ حالة قبض على جمرات الواقع المرئي واللامرئي، وهي حالة تضاهيها صيحات أندريه بروتون في "الخطوات الضائعة"(16) حيث يردد:
لماذا نحن؟
ولمَ نقبلُ أن نخدم؟
ولم نترك كلّ أمل؟
من هذا القلق بالذّات، ولدت المسألةُ التي تشغلنا؟
لكنّ الكوني لم يستمر في تقريع الذّات وقراءتها انطلاقاً من وعيه بها، وبأبعادها النّفسية، بل يجنح هذه المرة للذود بالقرآن الكريم ليكون له منطلقاً، وكأنّه يريد تحقيق صحة ما ذهب إليه، حينما يرنو إلى ال
تغيير(17)
لا نحتاج إلى تغيير العالم،
إنْ استطعنا تغيير ما بأنفسنا.
فكلامه هنا مستمد من قوله تعالى:((إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم))(18). فالمرجعية النّصية واضحة هنا. بيد أنّه يظلّ سائراً في ضوء الهالة القرآنية وهو يسعى إلى تغيير حقيقي للذات لتبلغ مالا تبلغه الأفكار والكلمات، وهو يرصد هذه الذّات عبر:
نفوس الناس(19)
أيسر أن نغيّر ما بأنفسنا،
مِنْ أن نغيّر ما بنفوس الناس.
يبدو أنّ الشّاعر إبراهيم الكوني يعيش حالة بين حالتين: الرّضى وعدمية اليأس، أي أنّ الإنسان إذا عاد إلى ذاته كبرت طاقته، وإذا ذهب إلى الآخرين يعوزه التّطلع، وهي حالة الطّهرنة الذّاتية التي تسمو فيها الذّات وتتجاوز جراحها التي يمكن أن تكون سِفراً لجراح الآخرين.
إنّ هذه الومضات التي كتبها الأديب الليبي إبراهيم الكوني لهي إضاءات وقراءات لواقع تُقرأ فيه الذّات قبل الآخر، وكأنّ الكون يبدأ تغييره من هنا: أنا الإنسان.
هذا ما نرصده عند شاعر ليبي آخر هو محيي الدين المحجوب الذي يرى أنّ الذّات الإنسانية لا تملك غير ذاتها تورّثها للآخرين، هذا ما نقرؤه في ومضته الشّعرية:
إرث(20)
ليس لديّ ما أورّثه
سوى شهقة
متعددة الأهواء
تشيّد رئتي.
نعم إنّه إرث متعدد الأهواء: المقاصد، الرّموز، الدّلالات... فهذه الشّهقة ما هي إلا عودة الدّاخل إلى الخارج، حيث الكتابة الإبداعية علاقة جدلية بين الدّاخل والخارج فلا يكتب الكاتب إلا بعد الامتلاء، وما يملأ الأعماق قراءة لواقع معيش تستنشقهُ الذّات الكاتبة، فتنصت لصداه في دواخلها، لتعيد هذا الصّدى ثانية إلى حيز الوجود.
لكنّنا إذا قرأنا هذه الشّهقة الكلمة "المحور" في هذه الومضة سنجدها بوصلة العبور بين الوعي واللاوعي، فالوعي ليس سوى المظهر السّطحي لحياة تجري في الأعماق، وإذا ما توغلنا أكثر في اكتشاف الحياة الدّاخلية للإنسان، وتماشينا مع فرويد في كشف الغرائز المكبوتة سنجد أنّ ((للأنا جذوراً عميقة، لأنّ وراءها "الذّات" التي هي جوهر النّفس وميدان اللاوعي))(21) حينئذ ستكون شهقة المحجوب شهقة للذات الإنسانية، وقراءة معمّقة لبواطنها الدّفينة التي لا يمكن أضاءتها بغير الكلمات، والتي حشدها الشّاعر في ملفوظاته الوامضة، وبذلك يكون الإنسان وريثاً شرعياً للإنسان في أرخبيل الحياة هذا. وهو ما نعاينه ثانية إذ يأخذنا الشّاعر نحو وجهة أخرى من عالم اللاشعور، حيث يومض قائلاً:
في غفلة من حلمي(22)
لسبب ما
أوشي بي للعتمة
أردت في غفلة من حلمي
أن أفرك عينيّ
لارتباك الصباح.
لاريب أنّ خيال الإنسان أوسع من أيّ عنصر آخر يوظّفه لإدراك الواقع، بل يدفع الخيال الإنسان لتلمس ما وراء الواقع عبر التّشوف ونقر الخاطر والحلم، ومادام وقوفنا، هنا، منحصراً في حضرة الحلم الذي لا يبرح فضاء الخيال، فإننا نرى ما رآه جيرارد ده نرفال من أنّ ((الحلم وسيلة الدّخول إلى الذّات وصولاً إلى المعرفة العليا))(23) ولا نقصد أبداً بالمعرفة العليا غير تضاريس الكلام المتمعّن في جغرافية الداخل: الذّات الكاتبة، وبالتّالي الذّات الإنسانية.
إنّ الشّاعر الذي وشي به للعتمة أراد أن يغافل حلمه لينهد لمصالحة الضّياء، وعليه فإنّ للحلم سلطة إذن، ولتقويض هذه السّلطة كان لابد من الاحتيال ( في غفلة ) وكأنّ للحلم يقظته أيضاً، لكن ليست اليقظة الأسيرة الواقع العملي الذي يتحرك فيه المرء مشدوداً بمصالحه اليومية وقضاياه الحياتية، بل ذهاب هناك بعيداً حيث الصّور التي تطمح أعماق الذّات إلى معانقتها. لكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا يريد الشّاعر الفرار والعودة إلى الضّوء، إلى الوعي؟ إنّ إعادة قراءة هذه الومضة توصلنا إلى ضفة أخرى من القراءة، حيث الحلم أضواء وصور، والعتمة عكس ذلك تماماً، وهذا ما يتحقق في الأحلام. فالشّاعر قد أوقظ من حلمه وتراه يحث خطاه ناشداً العودة إليه، وهو غاية ما يتمنى. لأنّه لا شيء أجمل من أن يحلم الإنسان، ففي هذا السّياق يقول فرويد: (( في وصول الإنسان إلى هذا الكون، يصل إلى وعي قوي لذاته الدّاخلية، لكننا، إرادياً، نترك في الظّل، هذا الكون، وننصرف إلى الحياة والنّجاح، مما يتطلبه كائننا))(24). وقد يكون في رأي فرويد هذا ما أراد الشّاعر الوصول إليه، حيث انفلات لغة الشّاعر من قيد اللغة الواصفة التي تسمي الأشياء بأسمائها، وعليه تظلّ قراءاتنا ناصتة لدبيب الدّلالات الهاجعة في ظلّ النّص، والتي تقودنا لحلم آخر، لكنّه حلم مركّب هذه المرة لا تشيّده سوى جغرافية الدّاخل كما أومأنا،إذ يقول المحجوب:
لعلّي في حلمي(25)
أشيّد منارة لأحلامي
لعلّي في حلمي
أحتاج إلى
بصيص ضوء.
لعلّ هذا الحلم وذاك يقوداننا إلى التّساؤل: هل يمكن أن يكون تناوس بين أحلام المرء؟ وهل يمكن أن تكمّل الأحلام بعضها؟ وما طبيعة الأحلام المتكررة، بل والمركّبة التي يقرأ بعضها بعضاً؟ أسئلة لابد قد شُغل بها غيرنا، وإذا كان قد وقع هذا فعلاً ونحن غافلون عنه، فإننا نستطيع البوح بأنّ أحلام المحجوب يربطها خيط شفيف، ربما هو بصيص الضّوء الذي يبحث عنه، والذي لا مشاحة في أنّه منبعث من الذّاكرة التي لا تحتفظ بالصّور كلّها، وبالتّالي تظلّ الذّات مشدودة بما فُقد، لعلّها تجمعها ثانية ولو عبر الحلم، لتجعل منها منارة تكون رمزاً لصور لا يمكن لملمتها إلا عبر تطلعات ذات تحلم باستمرار، لا يكون الحلم أداة معرفة بيدها تحقق مبتغاها من خلاله فحسب، بل أداة تحليل أيضاً.
من هنا نستطيع القول إنّه لا يمكن كتابة الومضة الشّعرية إلا من خلال اللغة الملبّدة بأبعادها الرّمزية التي تكون فيها الدّلالات فناراً يشع في كلّ اتجاه، والتي لابد لها من التّعتق في كهوف ذاكرة الذّات النّاصتة لدواخلها، والمتوهجة بمعانقة أكوان تظلّ دائماً متعلقة بحرقة السّؤال الشّعري...









الهوامش:
1_ كمال أبو ديب- في الشّعرية, مؤسسة الأبحاث العربية, بيروت, ط.1, 1987.
2_ المرجع نفسه، ص: 94.
3_ محمد لطفي اليوسفي_لحظة المكاشفة الشّعرية: إطلالة على مدار الرّعب، الدّار التّونسية للنشر، تونس، 1992، ص: 141.
4_ انظر د. حامد أبو أحمد-عبدالوهاب البياتي في إسبانيا, المؤسسة العربية للدراسات والنّشر, ط.1, 1991, ص:64.
5_ انظر المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.
6_ انظر المرجع نفسه، الصّفحة نفسها.
7_ عبد الوهاب البياتي-بستان عائشة-المؤسسة العربية للدراسات والنّشر, بيروت, ط.3, 1994، ص :39.
8_ زكي الجابر_قصائد، الملحق الثقافي_جريدة الميثاق الوطني(المملكة المغربية)، 19/20مارس 1995.
9_ د. أحمد الطّريسي أعراب- بين الرّؤية والرّؤيا في التّصور المنهجي, الموقف، ع.2 ، 1987, ص:61.
10_ إبراهيم الكوني_أبيات، دار الملتقى للطباعة والنّشر، بيروت_قبرص، 2000، ص: 200.
11_ فردينان دي سوسور_علم اللغة العام، ترجمة الدّكتور يوئيل يوسف عزيز، مراجعة النّص العربي الدّكتور مالك يوسف المطلبي، بيت الموصل، 1988، ص: 27.
12_ المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
13_ إبراهيم الكوني، م.س، ص: 202.
14_ إيفون دوبليسيس_السّوريالية، ترجمة هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت_باريس، 1983، ص: 117.
15_ إبراهيم الكوني، م.س، ص: 204.
16_ إيفون دوبليسيس_م.س، ص: 118.
17_ إبراهيم الكوني، م.س، ص: 205.
18_ الرّعد, الآية:11.
19_ إبراهيم الكوني، م.س، ص: 206.
20_ محيي الدّين المحجوب_الغيمة في يدي، منشورات مجلة المؤتمر، سلسلة تعنى بتقديم نماذج من الإبداع الليبي الحديث والمعاصر، 2002، ص: 92.
21_ انظر إيفون دوبليسيس_م.س، ص: 106.
22_ محيي الدّين المحجوب_م.س، ص: 88.
23_ إيفون دوبليسيس_م.س، ص: 37.
24_ المرجع نفسه، ص: 38.
25_ محيي الدّين المحجوب_م.س، ص: 26.
*نشر هذا البحث في مجلة دراسات وهي مجلة فصلية بحثية محكّمة تصدر عن المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر.السنة السادسة.العدد الثاني والعشرون .الخريف 2005ف.



#محمد_عبد_الرضا_شياع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لوث غارثيا كاستنيون: تؤكد عشقها للشعر العربي ولبغداد وللقاهر ...
- الشّاعر أحمد المجاطي بين عذاب الكتابة وألق الإبداع
- فيديريكو غارثيا لوركا وثقافة الموت
- أوكتابيو باث: زمن المكاشفة وبوح الذّات*
- الاغتراب في الإبداع الأدبي
- *نازك الملائكة: قارورة الحزن الشفيف
- السّفر في عذابات الرّوح
- الرّؤيا الشّعريّة سفر على أجنحة الخيال
- دلالة المكان الدّائري في رواية جسد ومدينة
- خليل حاوي : سنديانة الشعر والموت
- محمد علي شمس الدّين والتّحولات اللوركية في شعره


المزيد.....




- من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد ...
- نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا ...
- -لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف ...
- كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي ...
- الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص ...
- ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
- مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
- إيران متهمة بنشاط نووي سري
- ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟ ...
- هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد عبد الرضا شياع - الومضة الشّعرية: انكشاف العتمة وتوهج الذّات*