أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - حاتم الشامي - نقض الاشتراكية الماركسية 2















المزيد.....



نقض الاشتراكية الماركسية 2


حاتم الشامي

الحوار المتمدن-العدد: 1679 - 2006 / 9 / 20 - 08:20
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


3
والطريقة الديالكتيكية الماركسية من حيث هي تأخذ ناحيتين في البحث: إحداهما ناحية البحث في الفكر، والثانية ناحية البحث في الطبيعة. فمن ناحية الفكر ترى أن الفكر

هو انعكاس الواقع على الدماغ، أي أن القضية هي قضية واقع وليست قضية فكر. فالواقع موجود أولاً، ووجوده هو الذي أوجد الفكر، فالواقع ينعكس على الدماغ، وانعكاسه هذا هو الفكر. يقول ماركس: "إن طريقتي لا تختلف عن الطريقة الهيغلية من حيث الأساس فحسب، بل ضدها تماماً. فحركة الفكر، هذا الفكر الذي يشخصه هيغل ويطلق عليه اسم "الفكرة" هي في نظره خالق الواقع وصانعه، فما الواقع إلا الشكل الحادثي للفكرة. أما في نظري فعلى العكس، ليست حركة الفكر سوى انعكاس الحركة الواقعية منقولة إلى دماغ الإنسان ومستقرة فيه". وعلى هذا فإن هيغل يرى أن الفكرة قبل الواقع. ولكن ماركس يرى أن الواقع قبل الفكرة، وأن الفكرة هو انعكاس الواقع على الدماغ. وتقول كتب الشيوعيين: تقوم المادية الفلسفية الماركسية على مبدأ آخر وهو أن المادة، والطبيعة، والكائن، هي حقيقة موضوعية موجودة خارج الإدراك وبصورة مستقلة عنه، وأن المادة هي عنصر أولي لأنها منبع الاحساسات، والتصورات، والإدراك. بينما الإدراك هو عنصر ثان مشتق، لأنه انعكاس المادة، انعكاس الكائن، وأن الفكر هو نتاج المادة لما بلغت في تطورها درجة عالية من الكمال، أو بتغيير أدق أن الفكر هو نتاج الدماغ، والدماغ هو عضو التفكير، فلا يمكن بالتالي فصل الفكر عن المادة دون الوقوع في خطأ كبير، فعند الشيوعيين المادة هي الأصل للإحساس، وهي الأصل للتصورات، وهي الأصل للفكر، فهي منبع هذه الأمور الثلاثة، وأن الفكر هو انعكاس المادة على الدماغ. وهم يصرحون بأن الفكر هو نتاج المادة ولكنهم يبينون كيف كان نتاجها بأنه انعكاس المادة.
ويقول انجلس: "إن مسألة علاقة الفكر بالكائن، وعلاقة العقل بالطبيعة، هي المسألة العليا في كل فلسفة. وكان الفلاسفة تبعاً لإجابتهم على هذه المسألة ينقسمون إلى معسكرين كبيرين. فأولئك الذين كانوا يؤكدون تقدم العقل على الطبيعة يؤلفون معسكر المثالية، والآخرون الذين كانوا يقررون تقدم الطبيعة ينتمون إلى مختلف المدارس المادية" ويقول فيما بعد: "إن العالم المادي الذي تدركه حواسنا، والذي ننتمي إليه نحن أنفسنا هو الواقع الوحيد، أما إدراكنا وفكرنا فهما، مهما ظهرا رفيعين ساميين، ليسا سوى نتاج عضوي مادي جسدي هو الدماغ. إن المادة ليست من نتاج العقل، بل أن العقل ليس سوى نتاج المادة الأعلى". وهذا الكلام يدل كذلك على أن المادة هي الأصل وأن الفكر هو نتاجها. ويقول لينين: "تقبل المادية بصورة عامة أن الكائن الواقعي الموضوعي (المادة) هو مستقل عن الإدراك، عن الاحساسات، عن التجربة. فالإدراك ليس إلا انعكاس الكائن، وهو في أحسن الحالات انعكاس صحيح تقريباً" أي انعكاس تام بالغ أعلى درجات الدقة. ويقول فيما بعد: "المادة هي ما ينتج الاحساسات بالتأثير في أعضاء حواسنا. المادة واقع موضوعي تعطينا إياه الاحساسات. المادة، والطبيعة، والكائن، والموجود الفيزيائي هي العنصر الأول، بينما العقل، والإدراك، والاحساسات، والموجود النفسي هي العنصر الثاني" ثم يقول: "الدماغ هو عضو التفكير". وهذا الكلام كله يعطي أن الواقع من مادة وطبيعة وكائن وموجود فيزيائي هو الأصل، وأنه نتج عن هذا الواقع العقل والإدراك، ونتج عنه الاحساسات، ونتج عنه الموجود النفسي. وهو وإن كان لم يبين كيف نتج عنه ولكن سياق الكلام يفهم منه أن انعكاس الواقع على الدماغ هو الذي أنتجها، وأن الدماغ إنما هو العضو الذي يجرى عليه الانعكاس، فيحصل من هذا الانعكاس العقل والفكر والإحساس والموجود النفسي. ويفهم من هذا الكلام أن الاحساسات نتيجة انعكاس المادة وليست جزءاً من تكوين الإنسان. فالواقع إذن هو الأصل، والإدراك والاحساسات تنتج عنه.
4
هذه هي الناحية الأولى في الطريقة الديالكتيكية، وهي البحث في الفكر. فهي تقول: "ليست حركة الفكر سوى انعكاس الحركة الواقعية منقولة إلى دماغ الإنسان مستقرة فيه" "فالإدراك ليس إلا انعكاس الكائن". فالفكر في نظر المادية الديالكتيكية هو انعكاس الواقع على الدماغ، فالمادة تسبق الفكر. ولذلك فإن المادة حين تنعكس على الدماغ يوجد بهذا الانعكاس الفكر، فيفكر في المادة التي انعكست عليه، أما قبل انعكاس المادة على الدماغ فلا يوجد فكر. وعليه فكل شيء مبني على المادة. "المادة والطبيعة والكائن والموجود الفيزيائي هي العنصر الأول، بينما العقل والإدراك والاحساسات والموجود النفسي هي العنصر الثاني". وهذا التعريف للعقل بأنه انعكاس المادة على الدماغ خطأ من وجهين:
الأول: إنه لا يوجد انعكاس بين المادة والدماغ، فلا الدماغ ينعكس على المادة، ولا المادة تنعكس على الدماغ. لأن الانعكاس هو ارتداد المادة المنعكسة عما انعكست عليه، فالانعكاس في الضوء مثلاً هو ارتداد الضوء إلى الخلف. فإذا جاءت أشعة الشمس على الجدار اصطدمت به وارتدت عنه، فهذا الارتداد هو الانعكاس. وإذا جاء الضوء إلى المرآة وارتد عنها، فهذا الارتداد هو الانعكاس، فالانعكاس هو ارتداد المادة أو الطاقة عن الجسم. وهذا غير موجود لا في الدماغ ولا في الواقع المادي. فالدماغ لا يصطدم بالواقع ويرتد عنه، وكذلك الواقع لا يصطدم بالدماغ ويرتد عنه فلا يوجد انعكاس بين المادة والدماغ مطلقاً. وعليه فإن الفكر ليس انعكاس المادة على الدماغ لأن الانعكاس بينهما ليس موجوداً، ولا يوجد، بل لا يتأتى وجوده. فلا يتأتى أن يحصل انعكاس من الواقع المادي على الدماغ ولا بحال من الأحوال. والمادة حين تنتقل إلى الدماغ لا تنعكس عليه انعكاساً وإنما تنتقل إليه بواسطة الحواس، فينتقل الإحساس بالمادة إلى الدماغ بواسطة الحواس فيحصل حينئذ إحساس بها، ونقل الإحساس بالمادة إلى الدماغ ليس انعكاساً بالمادة على الدماغ، ولا انعكاساً للدماغ على المادة، وإنما هو حس بالمادة. ولا فرق في ذلك بين العين وغيرها من الحواس. فيحصل من اللمس والشم والذوق والسمع إحساس كما يحصل من الإبصار. إذن فالذي يقع إنما هو إحساس بالأشياء وليس انعكاس الأشياء على الدماغ وإنما هو حس بالأشياء. فالإنسان يحس بالأشياء بواسطة حواسه الخمس، ولا تنعكس على دماغه الأشياء.
وأما ما يحصل في العين من الإبصار فإنه كذلك ليس انعكاساً وإنما هو انكسار، فإن الضوء ينكسر في العين، وتستقر صورة المادة على الشبكية ولا ترتد إلى الخارج، فالذي حصل انكسار وليس انعكاساً، وفرق بين الانعكاس والانكسار. فالانعكاس ارتداد الصورة إلى الخارج، والانكسار استقرار الصورة في الداخل. فالصورة التي تظهر في المرآة هي عملية انعكاس، وهي إنما تظهر حين ينعكس عليها الضوء، فتستقر الصورة، وحين لا يكون ضوء لا تظهر، فالانعكاس في هذه العملية هو للضوء على جسم غير قابل لاختراق الضوء إليه، ولذلك لا تظهر الصورة إذا لم ينعكس الضوء. فالوضع في هذه الحالة انعكاس للضوء وليس للصورة، أما الصورة فتستقر، ولذلك حين تظهر صورة الشخص أو المادة في عين آخر تظهر من انعكاس الضوء ولذلك لا تظهر في الظلام، وهذا أيضاً ليس انعكاساً للشخص أو المادة وإنما هو انعكاس للضوء. وفوق ذلك فإنه لا يحصل منه إبصار. ومن ذلك يتبين أن الصورة التي تظهر في المرآة، والصورة التي تظهر في عين شخص آخر هي عملية انعكاس وليست عملية انكسار، والانعكاس في هذه العملية هو للضوء على جسم غير قابل لاختراق الضوء له، وليس للصورة. وأما الإبصار فإنه ليس من هذا القبيل، فليس هو انعكاساً، وإنما ينكسر الضوء الآتي من المادة في العين، فيوجد صورتها على الشبكية فيحصل حينئذ من هذا الانكسار إبصار. فيكون أيضاً ما يحصل من نقل الواقع بواسطة حسن الإبصار إلى الدماغ ليس انعكاساً وإنما هو انكسار، ولهذا كله فإن موضوع الانعكاس من حيث هو غير موجود في عملية الفكر، ولا يتأتى وجوده، فيكون تعريف الفكر في الديالكتيكية خطأ مخالفاً للواقع.
الثاني: إن الحس وحده لا يحصل منه فكر، بل الذي يحصل هو الحس فقط، أي الإحساس بالواقع ليس غير، وإحساس زائد إحساس زائد مليون إحساس، مهما تعدد نوع الإحساس إنما يحصل منه إحساس فقط ولا يحصل فكر مطلقاً، بل لا بد من وجود معلومات سابقة عند الإنسان يفسر بواسطتها الواقع الذي أحس به حتى يحصل فكر. ولنأخذ الإنسان الحالي، أي إنسان، ونعطيه كتاباً سريانياً ولا توجد لديه أية معلومات تتصل بالسريانية، ونجعل حسه يقع على الكتابة بالرؤية واللمس، ونكرر هذا الحس مليون مرة، فإنه لا يمكن أن يعرف كلمة واحدة حتى يعطى معلومات عن السريانية وعما يتصل بالسريانية، فحينئذ يبدأ يفكر بها ويدركها. وكذلك لنأخذ الطفل الذي وجد عنده الإحساس ولم توجد عنده أية معلومات، ولنضع أمامه قطعة ذهب وقطعة نحاس وحجراً ونجعل جميع احساساته تشترك في حس هذه الأشياء فإنه لا يمكنه أن يدركها مهما تكررت هذه الاحساسات وتنوعت. ولكن إذا أعطي معلومات عنها وأحسّها فإنه يستعمل المعلومات ويدركها. وهذا الطفل لو كبرت سنه وبلغ عشرين سنة ولم يأخذ أية معلومات فإنه يبقى كأول يوم يحس بالأشياء فقط ولا يدركها مهما كبر دماغه، لأن الذي يدرك ليس الدماغ وإنما هو المعلومات السابقة مع الدماغ ومع الواقع الذي يحسه. والتلاميذ في المختبر لا يمكنهم إيجاد فكر عما بين أيديهم ولو أحسّوه بجميع أنواع الإحساس ملايين المرات ما لم تعط لهم معلومات عنه.. وهكذا. فإنه لا يمكن أن يوجد فكر مطلقاً بمجرد الإحساس بالواقع بل لا بد من معلومات عنه يفسر بواسطتها فيوجد الفكر. فالمعلومات السابقة أمر لا بد منه لإيجاد فكر أو إدراك إلى جانب الإحساس بالواقع وبدونه لا يوجد فكر على الإطلاق.
هذا من ناحية الإدراك العقلي، أما من ناحية الإدراك الشعوري فناتج عن الغرائز والحاجات العضوية. وما يحصل عند الحيوان من إدراك شعوري أو تمييز غريزي يحصل عند الإنسان كذلك. فيعرف من تكرار إعطائه التفاحة والحجر أن التفاحة تؤكل والحجر لا يؤكل كما يعرف الحمار أن الشعير يؤكل وأن التراب لا يؤكل. ولكن هذا التمييز ليس فكراً ولا إدراكاً وإنما هو رجع للغرائز وللحاجات العضوية، وهو موجود عند الحيوان كما هو موجود عند الإنسان. ولذلك لا يمكن أن يحصل فكر إلا إذا وجدت المعلومات السابقة مع نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس. وعليه فالعقل أو الفكر أو الإدراك هو نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحواس ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها الواقع.
يقولون أن الإنسان الأول قد اصطدم بالأشياء فانعكست عليه فصار بالحس يعرف أن هذه الثمرة تؤكل وهذه لا تؤكل، وصار يعرف أن هذا الوحش يؤذيه فيتجنبه وهذا الحيوان لا يؤذيه فيستخدمه ويركبه، وصار يعرف من الحس والتجربة أن الخشب يطفو على الماء فصار يستعمله لقطع الأنهار، وصار يعرف أن النوم في الكهف يقيه المطر والبرد فاتخذ المأوى، وهكذا توصل الإنسان الأول بالحس إلى إصدار حكمه على الأشياء والتصرف تجاهها حسب هذا الحكم أي حسب هذا الفكر وهذا يدل على أن الفكر هو نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحس دون الحاجة إلى وجود معلومات سابقة. والجواب على هذا القول هو أن ما كان عليه الإنسان الأول مجهول وغائب وما نريده هو الفكر والتفكير الذي يحصل عند الإنسان الحالي فلا يقاس المعلوم على المجهول ولا الحاضر على الغائب، وإنما العكس هو الصحيح فيقاس المجهول على المعلوم والغائب على الحاضر، فلا يصح أن نقيس الإنسان الذي أمامنا والمعلوم لدينا على الإنسان الأول الغائب والمجهول لدينا لنعرف من ذلك معنى الفكر عند الإنسان الحالي، وإنما نقيس الإنسان الأول على الإنسان الحالي فنعرف من معرفة الفكر والإدراك عند الإنسان الحالي، الفكر والإدراك عند الإنسان الأول. ولهذا كان من الخطأ إيراد هذا القول. ثم أن ما يرويه التاريخ عن الإنسان الأول أو كما يقولون الإنسان في العصر الحجري إنما كان يبحث عن طعامه فيستعمل الأدوات الحجرية لقطف الثمار في الغابات وصيد الأسماك وبناء المساكن ودفع أذى الحيوانات المفترسة. وهذا إذا صح فإنه شيء يتعلق بإشباع الغرائز ولا يتعلق بالفكر، أي يتعلق بالإدراك الشعوري ولا يتعلق بالإدراك العقلي. وما يتعلق بالغرائز يحصل فيه إدراك شعوري من مجرد الإحساس ومن تكرار هذا الإحساس وتنوعه. فيعرف من تكرار الإحساس وتنوعه الثمار التي تؤكل والكيفية التي يحصل عليها، ويعرف الحيوان الذي يؤذي والكيفية التي يدفعه بها، ويعرف أذى المطر والبرد والكيفية التي يتقيه بها من الكهف وبناء المسكن. فهذا كله يحصل بالإحساس وبتكرار الإحساس، وهو يحصل عند الحيوان كما يحصل عند الإنسان. وقصة القرد وقطف الموز مشهورة، فقد علقوا قطف موز في سقف غرفة ووضعوا في الغرفة كرسياً ووضعوا عصا وادخلوا القرد إليها، فنظر إلى قطف الموز وحاول الحصول على شيء منه فلم يستطع فصار يدور في الغرفة واصطدم بالكرسي فأحضره وصعد عليه وصار يحاول الوصول إلى الموز فلم يستطع ثم صار يدور في الغرفة فحصل على العصا وصار يحاول أن يأخذ الموز بها فلم يستطع وأخيراً صعد على الكرسي والعصا بيده فحاول الحصول على الموز بالعصا فاسقط من الموز على الأرض قطعاً فنزل وأكلها وهكذا صار يستعمل الكرسي والعصا فيحصل بذلك على الموز. فهذا العمل من القرد ليس فكراً وإنما هو إدراك شعوري يتعلق بالغرائز وإشباعها وهو يكفي فيه الإحساس بالواقع وتكرر هذا الإحساس وتنوعه. ومثل هذه الحادثة حادثة سرقة الفئران للبيض وهي كذلك واقعة ومشهورة. فإن الفئران حين تحاول سرقة البيض من المكان الذي هو فيه إذا كان في متناول الفأر، فينام الفأر على ظهره ويحاول الفأر الآخر دحرجة البيضة حتى يضعها على بطن الفأر النائم فيقبض عليها هذا برجليه ويديه، ثم يأخذ الفأر الآخر بذنب الفأر النائم ويجره حتى يصل وكره فيضع البيضة ثم يرجعان معاً لأخذ غيرها.. وهكذا. فهذا أيضاً وإن كان عملية معقدة وليست بسيطة ولكنه يحصل بالفعل وهو ليس فكراً وإنما هو إدراك شعوري يتعلق بالغرائز. وعلى هذا الوجه ورد وصف الإنسان الأول فيكون ما ورد عنه هو من قبيل الإدراك الشعوري وليس من قبيل الفكر. على أن تعريف الفكر يجب أن يكون يقينياً لا ظنياً، لأنه يتخذ أساساً لكل شيء وعليه يبنى التصرف تجاه الحوادث والأشياء فلا بد أن يكون دليله يقينياً لا ظنياً ولا تخمينياً، وما ورد عن الإنسان الأول إنما ورد في التاريخ وهو ظني وليس بيقيني فلا يصح أن يتخذ دليلاً على تعريف شيء يقيني، فيؤخذ أعظم شيء على الإطلاق لدى الإنسان وهو معنى العقل والفكر والإدراك من روايات تاريخية. والكل يعرف مدى الثقة بالتاريخ، أو من أدوات وأشياء وجدت آثاراً فيؤخذ منها الفكر عند الإنسان الأول ويبني على ذلك تعريف الفكر عند الإنسان الحالي. إن هذا لا يقبله عاقل، فلا يصح أن يجعل مستند شيء هو أعظم الأشياء على الإطلاق عند الإنسان رواية تاريخ أو آثار إنسان، بل يجب أن يوضع الإنسان الحالي، هذا الإنسان الذي نحسه ونشاهده، محل البحث، ومن البحث فيه نأخذ معنى الفكر. فنلاحظ ونشاهد ما يظهر عليه من علامات وآثار نتيجة لوضعه ضمن ظروف وشروط مختلفة، ونأخذ النتائج الدائمية التي لا تتخلف مطلقاً بعد أن تصبح يقينية ثم نضع تعريف العقل أو الفكر أو الإدراك. وبذلك نكون توصلنا إلى الحقيقة القطعية.
وقد يقال إن الإنسان قد يرى شخصاً ولا يكلمه وليس لديه أية معلومات عنه ثم يغيب عنه سنوات فيراه فيعرفه حالاً. فهنا استعاد الإنسان الإحساس وباستعادته أصدر حكماً بأن هذا الشخص هو عينه الذي رآه قبل سنوات. والجواب على ذلك هو أن الإحساس بالشيء يحصل في الدماغ ويحدث انطباعاً فيه، فإذا عرض الشيء مرة أخرى بواسطة نفس الإحساس يسترجع الإنسان إحساسه الأول فيعرف أنه هو عينه ويحدث تصرفاً بناء على هذا الاسترجاع. فمثلاً الطفل، ضع أمامه مصباحاً زجاجته ساخنة سخونة شديدة واجعل الطفل يلمسه فيحرق يده ثم بعد مدة أدن زجاجة المصباح من الطفل واطلب منه أن يلمسها فإنه يرفض، لأنه يسترجع إحساسه للزجاجة فيجد أنها تحرق فيرفض أن يلمسها، وكذلك الشخص الذي رأيته تسترجع إحساسك الأول فتعرفه، وهذه المعرفة ليست فكراً وإنما هي استرجاع الإحساس فقط، ولهذا فإنك إذا رأيته بالمشاهدة ولم تسمع صوته فإنك لا تعرفه إذا تكلم، ولا تعرفه إذا لمسته ولم تره، ولا تعرفه إلا إذا شاهدته، لأن الاسترجاع لا يكون للرجل وإنما يكون للإحساس الذي حصل بالنسبة له، فحسب الحاسة التي أحست به يحصل الاسترجاع. أما تصرفاتك تجاهه، إن كانت مما يتعلق بالغرائز كالخوف والأكل والدفاع أو ما شاكل ذلك فإنها تحصل بناء على استرجاع هذا الإحساس كما حصل للطفل حين لمس زجاجة المصباح الساخنة، وأما غير ما يتعلق بالغرائز فلا يحصل شيء لأنه بالنسبة لما يتعلق بالغرائز لم يحصل فكر وإنما حصل استرجاع للإحساس فقط. فهذا الإحساس وتكراره واسترجاعه لا يشكل فكراً وإنما يشكل إحساساً ليس غير، والمعرفة التي تحصل هي عبارة عن التعرف بواسطة الإحساس فقط، والتصرف الذي يحصل إنما هو تصرف يتعلق بالغرائز وهذا كله ليس فكراً وإنما هو حس، أو إدراك شعوري.
وقد يقال أنه قد يحصل أن يعطى شخص آلة معقدة وليست لديه معلومات سابقة عنها ويطلب منه حلها وتركيبها، فيأخذها الشخص ويحاول إجراء تجارب متعددة عليها فيصل من هذه التجارب إلى حلها ثم إلى تركيبها. فهذا وصل إلى فكر دون حاجة إلى معلومات سابقة. والجواب على ذلك هو أن هذا الشخص لديه معلومات متعددة. فأخذ بتجاربه المتعددة يربط المعلومات التي لديه بالواقع الذي بين يديه وبالمعلومات مع بعضها حتى توصل إلى إيجاد معلومات يفسر بواسطتها حل الآلة وتركيبها، وبهذه المعلومات التي توصل إليها وصل إلى الفكر. فهذا لا يؤتى به مثالاً لأنه توجد لدى الشخص معلومات، وإنما المثال الذي يؤتى به هو الطفل الذي لا توجد لديه معلومات إطلاقاً، أو الرجل الذي ليس لديه معلومات يمكن أن يستعين بها على إيجاد معلومات يفسر بها الواقع كأن تأتي بأعرابي وتدخله مختبراً وتتركه يجرب، أو أن تأتي بعالم من علماء اللغة وتضعه في مختبر الذرة وتطلب منه الوصول إلى سر القنبلة الهيدروجينية، فهذا ليس لديه معلومات ولذلك لا يصل إلى الفكر وهو الذي يؤتى به مثالاً وليس الشخص الذي لديه معلومات يمكن أن يستعملها.
وعلى هذا فإن من المقطوع به أنه لا يمكن أن يحصل فكر إلا بوجود معلومات سابقة يمكن بواسطتها تفسير الواقع. أما الواقع وحده فلا يمكن أن يحصل من الإحساس به فقط أي فكر وإن كان يمكن أن يحصل به إدراك شعوري يتعلق بالغرائز ويمكن أن يحصل به استرجاع للحس، ويمكن أن تحصل به معرفة بما أحس به، أما أن يحصل حكم عليه، أي أن يحصل فكر فلا يمكن مطلقاً. فيكون التعريف الصحيح للفكر هو نقل الواقع بواسطة الإحساس إلى الدماغ ومعلومات سابقة تفسر هذا الواقع.
ولا يرد هنا أن الواقع قبل الفكر أو الفكر قبل الواقع، لأن البحث ليس فيمن يسبق الآخر الفكر أم الواقع، وإنما البحث محصور في تعريف الفكر ما هو، فلا دخل للقبلية والبعدية فيه. وإذ قيل أن الفكر موجود قبل الواقع، وأن الفكر هو خالق الواقع وصانعه كما يقول هيغل فإن ذلك خطأ، من حيث أن الفكر هو الحكم على الواقع، ولا يتأتى إصدار الحكم إلا على موجود حين الإصدار. فلا بد أن يكون الواقع موجوداً حين التفكير فيه. فالواقع إذن ليس من خلق الفكر ولا من صنعه، بل كان موجوداً عندما وجد الفكر، أي عند وجود التفكير به. ولا يتأتى وجود فكر إلا إذا كان واقعه موجوداً حين وجوده. فلا يوجد فكر إلا وله واقع موجود. وما لا واقع له موجود، ليس فكراً مطلقاً، وإنما هو تخيلات وتخريف. أما إن قصد هيغل أن الخالق للواقع الموجد له من العدم موجود قبل الواقع فصحيح، لأن الواقع حادث والخالق أزلي، فالخالق قبل الواقع حتماً. والظاهر أنه أي هيغل لم يقصد ذلك وإنما قصد من الفكر التفكير ولذلك كان خطأ.
وإذا قيل إن الواقع قبل الفكر، وأن العقل ليس سوى نتاج المادة الأعلى كما يقول انجلس فإن ذلك خطأ، من حيث أن الفكر هو الحكم على الواقع، ولا يتأتى الحكم إلا بوجود معلومات سابقة عن الواقع. وهذه المعلومات جزء جوهري في الفكر حتى يوجد، فيكون وجوده متوقفاً على وجود المعلومات. فالبحث من حيث وجود الفكر قبل الواقع أو بعد الواقع لا بد أن يذهب إلى المعلومات السابقة التي بها أمكن أن يوجد فكر: هل هي قبل الواقع أو بعد الواقع؟ لأن هذه المعلومات نفسها هي فكر. فالبحث يجب أن ينصرف إليها أولاً ما دام قد ثبت بأنه لا يوجد فكر إلا بمعلومات سابقة.
وهذه المعلومات ليس حتماً أن تكون بعد وجود الواقع، فقد تكون قبل وجوده وقد تكون بعد وجوده. لأنه إذا ثبت أن المادة أزلية فيجب أن تكون المعلومات قد وجدت بعدها حتماً، فتكون حينئذ المعلومات وجدت بعد المادة، وبالتالي يكون الفكر أو العقل من حيث هو وجد بعد المادة. أما إن ثبت أن المادة ليست أزلية، وأنها مخلوقة لخالق فإنه حينئذ يجب أن تكون أول معلومات عن أول فكر موجود قبل المادة، فيجب أن تكون ممن خلق المادة، فالله الخالق هو الذي أنزل أول معلومات وهي سابقة أول فكر حصل في الوجود، ثم أن الفكر هو معنى الواقع والحكم، والفكر حتى يحصل لا بد له من معلومات، فأول فكر قد حصل لا بد له من معلومات قبله ولم يحصل قبله فكر حتى توجد معلومات عن الواقع فيتحتم أن تكون أول معلومات عن أول فكر موجودة قبل الواقع، إذ لو وجدت بعده لحصل الفكر بدونها فلا يكون أول فكر قد حصل بمعلومات بل حصل من الواقع وحده، وبالتالي لا يكون الفكر حتى يحصل محتاجاً لمعلومات، وهذا باطل، إذ لا يمكن أن يوجد فكر إلا بمعلومات سابقة، ولذلك كان لا بد أن تكون أول معلومات لأول فكر موجودة قبل المادة، لأن القول بوجود أول معلومات لأول فكر بعد المادة نفي الحاجة لسبق الفكر لأول فكرة حصلت. وعليه فإن ثبوت أن المادة مخلوقة لخالق يوجب أن تكون أول معلومات لأول فكر قد حصلت قبل المادة، وثبوت أن الفكر لا يوجد إلا بوجود معلومات سابقة يوجب كذلك أن تكون أول معلومات لأول فكر قد حصلت قبل المادة.
وأما الأفكار التي وجدت فيما بعد، أي التي توجد معلومات سابقة لها ووجدت بالمعلومات السابقة، فإن هذه الأفكار التي جاءت بعد الفكر الأول يجوز أن تكون المعلومات التي وجد الفكر بها قد وجدت قبل المادة ويجوز أن تكون قد وجدت بعدها، ولا يصح الجزم في مثل هذه الحالة بأن المعلومات وجدت بعد المادة، بدليل أن الفروض التي تسبق النظرية وتسبق العملية تحوي معلومات عن الشيء قبل اختراعه، وبعد اختراعه يحكم عليه بواسطة المعلومات السابقة. ولهذا لا يجزم بأن الفكر وجد بعد المادة، وعلى أي حال فإن هذا ليس بحثه هنا في تعريف الكفر، وإنما بحثه في المادة هل هي أزلية أم مخلوقة، أو بعبارة أخرى هل الكون والإنسان والحياة أزلية أم مخلوقة لخالق وليس بحثه في تعريف الفكر، ولذلك ليس وارداً ولا محل بحث.
5
هذه هي ناحية البحث في الفكر أو الأساس الذي يقوم عليه الفكر، وهذا هو نقضها. وهم يطبقون بحثهم في الفكر على درس الحياة في المجتمع، وعلى درس تاريخ المجتمع، ويقولون إنه إذا صح أن الطبيعة أو الكائن أو العالم المادي هو العنصر الأول، بينما الإدراك أو الفكر هو العنصر الثاني المشتق، وإذا صح أن العالم المادي هو واقع موضوعي موجود بصورة مستقلة عن إدراك الناس بينما الإدراك هو انعكاس هذا الواقع الموضوعي، نتج عن ذلك: أن حياة المجتمع المادية أو كيان المجتمع، هو أيضاً العنصر الأول. أما حياة المجتمع العقلية فهي عنصر ثان مشتق، وأن حياة المجتمع المادية هي واقع موضوعي موجود بصورة مستقلة عن إرادة الإنسان، أما حياة المجتمع العقلية فهي انعكاس هذا الواقع الموضوعي أو انعكاس الموجود. وبالتالي يجب البحث عن منشأ حياة المجتمع، وعن أصل الأفكار التي تبحث في تنظيم المجتمع، وعن النظريات التي تبحث في تنظيم المجتمع، وعن الآراء السياسية، والأوضاع السياسية، لا في الأفكار والنظريات، ولا في الآراء والأوضاع السياسية نفسها، بل في شروط الحياة المادية للمجتمع، في الموجود من وضع المجتمع التي تكون هذه الأفكار والنظريات والآراء وما إليها انعكاساً له.
وبالتالي إذا كنا نشاهد في مختلف أدوار تاريخ المجتمع أفكاراً ونظريات عن تنظيم المجتمع مختلفة، وآراء وأوضاعاً سياسية متباينة، إذا كنا نجد تحت نظام الرق هذه الأفكار والنظريات عن تنظيم المجتمع، وتلك الآراء والأوضاع السياسية، بينما نجد غيرها في ظل الإقطاعية، وغيرها أيضاً في ظل الرأسمالية، فتفسير ذلك ليس في طبيعة أو في خصائص الأفكار والنظريات والآراء والأوضاع السياسية نفسها، بل في شروط الحياة المادية للمجتمع في مختلف أدوار التطور في المجتمع. فالموجود الاجتماعي على حد تعبيرهم وشروط الحياة المادية للمجتمع هي التي تعين أفكار المجتمع ونظرياته وآراءه السياسية وأوضاعه السياسية. وقد كتب ماركس في هذا الموضوع يقول: "ليس إدراك الناس هو الذي يحدد معيشتهم، بل على العكس من ذلك، إن معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد إدراكهم". ومعنى ذلك أن مفاهيم الإنسان عن الحياة ليست هي التي تسيره في الحياة، بل الواقع الذي عليه المجتمع هو الذي يسيره، لأن مفاهيمه إنما هي انعكاس لهذا الواقع. ومعنى هذا أن المفكرين ليسوا هم الذين ينهضون الأمة وإنما الواقع الذي عليه المجتمع هو الذي ينهضها لأن أفكار المفكرين انعكاس لهذا الواقع، ومعنى ذلك أيضاً أن التشريع لا يضعه الفقهاء والمشرعون لمعالجة الوقائع التي تحصل وإنما الواقع الذي عليه المجتمع هو الذي يوجد التشريع، لأنه ينعكس على أدمغة المشرعين فيشرعون التشريع، وأن العلوم والمعارف إنما هي انعكاسات لواقع المجتمع. هذا هو ما تعنيه النظرية الديالكتيكية من ناحية فكرية ومن ناحية تطبيق نظرياتها في هذه الناحية على درس الحياة في المجتمع وعلى درس تاريخ المجتمع.
غير أن الشيوعيين لما رأوا أن أثر الأفكار والمفكرين في المجتمع لا يمكن إنكاره فإنهم اعترفوا بذلك ولكنهم أولوه على شكل ينسجم مع نظريتهم في تطبيق الفكر على المجتمع، ولذلك قالوا: أنه لا ينتج من أقوال ماركس "أن معيشة الناس الاجتماعية هي التي تحدد إدراكهم"، أي أن الأفكار والنظريات الاجتماعية والآراء والأوضاع السياسية، ليس لها شأنها وأهميتها في الحياة الاجتماعية، أو أنها لا تؤثر تأثيراً مقابلاً في المعيشة الاجتماعية، وفي تطور الشروط المادية للحياة الاجتماعية. فنحن لم نتكلم حتى الآن إلا عن أصل الأفكار والنظريات الاجتماعية والآراء والأوضاع السياسية، وعن نشوئها وظهورها، فقلنا أن حياة المجتمع الروحية هي انعكاس لظروف حياته المادية. أما من حيث أهمية هذه الأفكار والنظريات الاجتماعية، وهذه الآراء والأوضاع السياسية، ومن حيث دورها في التاريخ، فالمادية التاريخية لا تنكر ذلك، بل إنها على العكس تشير إشارة خاصة إلى دورها وأهميتها العظيمين في الحياة الاجتماعية وفي تاريخ المجتمع. وهذا يعني أنهم يسلمون بأهمية الفكر ولكنهم بعد أن يسلموا بذلك تراهم يرجعون إلى كونه نتيجة للحياة المادية وليس هو الذي أثر في الحياة المادية، ولذلك يقولون: "إن الأفكار والنظريات الاجتماعية والأوضاع السياسية تتولد من المهمات العاجلة التي يضعها تطور الحياة المادية للمجتمع، ثم تؤثر هي نفسها فيما بعد في المعيشة الاجتماعية، وفي حياة المجتمع المادية بخلقها الشروط اللازمة لحل المسائل العاجلة الملحة في حياة المجتمع المادية، وجعل تطور المجتمع إلى الأمام ممكناً". أي أن الحياة المادية هي التي تعطي الأفكار، ثم تصبح لهذه الأفكار أهميتها. فأهمية الفكر ليست آتية من أن الفكر من حيث هو فكر يؤثر في المجتمع، بل آتية من حيث أن المجتمع هو الذي أعطى الفكر ثم صارت لهذا الفكر الذي أعطاه المجتمع أهمية في المجتمع، فيقولون: "إن الأفكار والنظريات الاجتماعية الجديدة لا تبرز إلا عندما يضع تطور الحياة المادية للمجتمع مهمات جديدة أمام المجتمع، لكنها إذا ما برزت أصبحت قوة ذات أهمية من الدرجة العليا، تسهل إنجاز المهمات الجديدة التي يضعها تطور الحياة المادية للمجتمع، وتسهل رقي المجتمع، وتبدو إذ ذاك خطورة الدور الذي تقوم به الأفكار والنظريات الجديدة، والآراء والأوضاع السياسية الجديدة، من حيث هي قوة تنظيم وتعبئة وتحويل. وفي الحقيقة أن الأفكار والنظريات الاجتماعية الجديدة إنما تظهر لأنها ضرورية للمجتمع، فبدون عملها المنظم والمعبيء والمحول يستحيل حل المسائل العاجلة الملحة التي يقتضيها تطور الحياة المادية للمجتمع". وبهذا يتبين أن اعترافهم بأهمية الفكر ليس اعترافاً بأهميته في إيجاد المجتمع وتكوينه وجعله طرازاً خاصاً، وإنما هو اعتراف بأن المجتمع هو الذي انشأ الأفكار ثم صارت لهذه الأفكار أهمية من حيث تبني الناس لها واتخاذها وسيلة للتنظيم والتعبئة، فتكون أهميتها عندهم ليس بالنسبة للمجتمع بل بالنسبة لإعطائها للناس. أما بالنسبة للمجتمع فهي ناتجة عنه وليست موجودة له أو مؤثرة فيه.
6
هذه خلاصة رأي الشيوعيين بالنسبة لتطبيق نظريتهم في الفكر على درس الحياة للمجتمع فإنهم يقولون ما دام الفكر هو انعكاس الواقع على الدماغ فإنه يجب البحث عن منشأ حياة المجتمع العقلية في شروط الحياة المادية للمجتمع، أي في الطبيعة ونمو السكان وأسلوب الإنتاج الذي هو عندهم أدوات الإنتاج والناس ومعرفة الإنتاج وعلاقات الإنتاج. وهذا خطأ من وجهين:
الوجه الأول: هو ما ثبت من أن الفكر ليس انعكاس لواقع على الدماغ فما ترتب عليه من جعل الحياة العقلية انعكاساً للواقع خطأ، لأن الأصل ثبت خطؤه.
الوجه الثاني: أن سلوك الإنسان في الحياة مربوط بمفاهيمه عنها، والإنسان يكيف سلوكه في الحياة بحسب مفاهيمه عنها، فمفاهيم الإنسان عن شخص يحبه تكيف سلوكه نحوه على النقيض من سلوكه مع شخص يبغضه وعنده مفاهيم البغض عنه، وعلى خلاف سلوكه مع شخص لا يعرفه ولا يوجد لديه أي مفهوم عنه، فالسلوك الإنساني مربوط بمفاهيم الإنسان. وعند إرادتنا أن نغير سلوك الإنسان المنخفض ونجعله سلوكاً راقياً لا بد أن نغير مفهومه. وذلك أن الإنسان فيه طاقة حيوية تدفعه لطلب إشباعها، وهي تأخذ ناحيتين: إحداهما يندفع لإشباعها وإذا لم تشبع يموت، وهذا ما يسمى بالحاجة العضوية كالجوع والعطش وقضاء الحاجة، والثانية يندفع لإشباعها وإذا لم تشبع ينزعج ولكنه لا يموت وهذا ما يسمى بالغرائز وهي الشعور بالبقاء والشعور ببقاء النوع والشعور بالعجز والحاجة إلى قوة أعظم، أي غريزة البقاء، وغريزة النوع، وغريزة التدين. فالإنسان يندفع للإشباع بهذه الطاقة الحيوية، وكذلك الحيوان يندفع للإشباع بهذه الطاقة الحيوية. وهذه هي أصل الحركة والاندفاع في الحياة لكل من الإنسان والحيوان. غير أن الحيوان ينتقل الواقع إلى دماغه بوساطة الحواس فيحس به وينطبع في دماغه وعند تكرار هذا الإحساس أو تنوعه يسترجع الإحساس الأول فتحصل له معرفة بالواقع عما يتعلق بإشباع الطاقة الحيوية فيسلك سلوكاً لإشباع الطاقة إما أن يأكله أو أن يدفعه عن نفسه أو يتملقه أو ما شاكل ذلك، ولا يزيد تصرفه عن ذلك مطلقاً، أي لا يزيد تصرفه عن الأمور المتعلقة بإشباع الطاقة سواء أكان إشباع الحاجة العضوية أم إشباع الغريزة. ويظل محتاجاً للإحساس بهذا الواقع حتى تحصل عنده المعرفة به عما يتعلق بالإشباع. أما الإنسان فإن الواقع ينتقل إلى دماغه بواسطة الحواس، فيحس به وينطبع في دماغه، ولكنه لا يحتاج إلى تكرار الإحساس وتنوعه حتى يعرفه، بل يربط معلوماته السابقة فيعرفه، ثم لا تقتصر معرفته به على ما يتعلق بالإشباع، بل يعرف ما يتعلق بالإشباع، ويحكم عليه ما هو، ولذلك يسلك تجاهه سلوكاً لإشباع الطاقة الحيوية، وسلوكاً للتصرف بهذا الواقع حسب ما أدركه. وبهذا يوجد فرق كبير بين سلوك الإنسان من جراء إحساسه بالواقع وبين سلوك الحيوان، فسلوك الإنسان كان بناء عن ربط المعلومات السابقة بالواقع، أي بناء عن إدراكه للواقع إدراكاً عقلياً، بخلاف سلوك الحيوان فإنه كان بناء عن إحساسه فقط، وتكرار هذا الإحساس، واسترجاعه، وتنوعه. ولذلك كان سلوك الحيوان مربوطاً بإدراكه الشعوري أي الدافع الغريزي ليس غير. أما سلوك الإنسان فهو مربوط بإدراكه العقلي أي بمفاهيمه، وليس بالدافع الغريزي وحده. فإذا جعل انطباع الواقع على الدماغ هو الذي يوجد لديه الأفكار ويوجد لديه الأنظمة ويوجد لديه الآراء السياسية فإن ذلك يقتضي أن يوجد عند الحيوان، لأنه ينطبع عنده في الدماغ كما ينطبع عند الإنسان سواء بسواء من غير فرق من حيث الانطباع بواسطة الحواس. لكن المشاهد أن الحيوان يستحيل أن توجد لديه أفكار، ولا نظريات، ولا آراء سياسية، ولا أوضاع سياسية، وأن هذه إنما توجد عند الإنسان ليس غير، مما يثبت قطعاً أن لدى الإنسان شيئاً يزيد على انطباع الواقع على الدماغ ألا هو المفاهيم التي لديه. على أن المشاهد المحسوس أن الشعوب والأمم لا تنهض إلا عندما يوجد لديها مفكرون يرسمون لها الطريق، وأن الاشتراكية الماركسية نفسها أفكار وجدت لدى مفكر ألماني، فهي ليست من واقع روسيا وأنها لو لم يحملها لينين ويكوّن عليها حزباً سياسياً عقائدياً لم توجد النظام الاشتراكي في روسيا، وهذا وحده كاف ليدحض القول بأن منشأ الأفكار والنظريات والآراء السياسية هو الواقع وليس المفكرين، ويثبت أن الفكر هو أساس النهضة، وهو أساس الأنظمة، وهو أساس الآراء والأوضاع السياسية.
يقولون إننا لا ننكر أهمية الأفكار والنظريات والآراء والأوضاع السياسية في الحياة الاجتماعية بل نعتقد أن لها أهمية عظيمة في الحياة الاجتماعية وفي تاريخ المجتمع، وأن الأفكار والنظريات العتيقة التي فات أوانها فهي تعيق المجتمع، وأن الأفكار الجديدة تسهل رقي المجتمع وتطوره، فنحن لا ننكر أثر الأفكار ولكننا نقول إن أصل الأفكار الاجتماعية والآراء والأوضاع السياسية وأن نشوءها وظهورها هي انعكاس لظروف حياة المجتمع المادية. والجواب على ذلك هو أن هذا ليس اعترافاً بأهمية الفكر في إيجاد المجتمع ورقيه بل هو اعتراف بأهميته في إعطائه للجماهير وفي تعبئتهم حتى يسيروا. فهم لا يقولون أن العلاقات بين الناس ناشئة عما لديهم من أفكار ومشاعر وإنما يقولون إن الحياة المادية توجد الأفكار، وبعد ذلك تدفع هذه الأفكار الناس. فالأصل عندهم الحياة المادية للمجتمع. فعندما تتطور هذه الحياة المادية للمجتمع يضع هذا التطور مهمات جديدة أمام المجتمع، فتبرز حينئذ الأفكار والنظريات الجديدة، فالأهمية في المجتمع لم تكن للأفكار، بل كانت لما يسمونه بتطور المجتمع، وبعد أن تبرز هذه الأفكار تصبح حينئذ قوة ذات أهمية ولكن لا لإيجاد المجتمع ولا لتحسينه ولا لتقدمه أو تأخره وإنما لتتبناها الجماهير ولتعبئة هذه الجماهير وتنظيمها ضد القوى المتلاشية في المجتمع فتسهل بذلك إنجاز المهمات الجديدة التي وضعها تطور الحياة المادية للمجتمع أمام المجتمع. وبذلك لا يكون اعترافهم بأهمية الفكر على الوجه الذي جاءوا به اعترافاً بأهميته في الحياة وإنما هو اعتراف بأهميته في جعله وسيلة لاستخدام الناس للنضال من أجل تحويل المجتمع فلا يكون اعترافاً بالأصل. وقول ماركس صريح "ليس إدراك الناس هو الذي يحدد معيشتهم" أي ليس الفكر هو الذي يحدد العلاقات بينهم "بل على العكس من ذلك، إن معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد إدراكهم" أي أن العلاقات القائمة بينهم هي التي تحدد أفكارهم، فالأهمية ليست للفكر، بل هي للحياة المادية. وهذا بالطبع إنكار لكون الفكر هو الذي يوجد المجتمع ويحوله فضلاً عن إنكار أهميته في المجتمع، فهو ليس إنكاراً لأهميته فقط بل إنكاراً لوجود أي أثر له، وبالتالي إنكار لدور المفكرين والمشرعين في إيجاد المجتمع وتحويله. وجعل الأساس في إيجاد المجتمع وتحويله من حال إلى حال هو الحياة المادية، وهي وحدها ذات الأهمية وليس الفكر، وهذا خطأ كبير. فإن الفكر هو الأساس في النهضة، وليس الواقع الذي يعيش عليه المجتمع، وأن الذي يغير الواقع الذي عليه المجتمع هو الفكر، وأن الفكر المنحط يعيقه عن التقدم والفكر العالي هو الذي يسهل السير في التقدم. وذلك كاف ليثبت أن الأنظمة والنظريات والآراء السياسية هي أفكار. فتكون في الحقيقة ناشئة عن أفكار لا عن شروط حياة المجتمع المادية، لأنه إذا وجدنا مجتمعاً مثل الصين كان في حياة إقطاعية فلو استولت عليه أميركا لوجدت فيه أفكار الرأسمالية، ولكان الآن يطبق الأنظمة الرأسمالية والنظريات الرأسمالية، ولكن وجدت فيه أفكار اشتراكية فطبق الأنظمة الاشتراكية أو على الأصح ما يسمى لديهم بالديمقراطية الشعبية التي بين الرأسمالية والاشتراكية. فاختلاف الأنظمة نشأ عن اختلاف الأفكار، فالأنظمة تنشأ عن الأفكار ونشؤوها في روسيا وفي الصين وفي دول أوروبا الشرقية خير برهان على النظريات والأنظمة والآراء السياسية هي عدة أفكار، قد تكون منبثقة عن فكرة كلية، وقد لا تكون منبثقة عنها، وهذه الأفكار قد تكون عن واقع موجود وقد تكون عن شيء يراد جعله واقعاً. فإن كانت منبثقة عن فكرة كلية فهي مأخوذة من أفكار فنشأت عن فكر، وإن كانت غير منبثقة عن فكرة كلية فهي دون معلومات سابقة لا يمكن أن توجد، أي دون أفكار سابقة لا بمكن أن توجد فهي إذن أوجدها الفكر من الواقع، وإن كانت عن واقع موجود فهي لم تؤخذ منه وحده بل أوجدتها معه المعلومات السابقة فلم تكن ناشئة عن واقع، وإن كانت عن شيء يراد إيجاده فإنها لم تنشأ عن واقع موجود بل عن فكر محض. وعليه فإنه لا يوجد فكر نشأ عن واقع وحده مطلقاً، بل الفكر إما أن ينشأ عن فكر وإما أن ينشأ عن واقع مع الفكر. وعليه فإن البحث عن منشأ الحياة العقلية، وعن أصل الأفكار الاجتماعية والنظريات الاجتماعية والآراء السياسية والأوضاع السياسية إنما هو في الأفكار والنظريات وليس في المجتمع أي ليس فيما يسمونه شروط الحياة المادية للمجتمع. وأبسط دليل على ذلك أن البحث عن منشأ الحياة العقلية في روسيا حالياً وعن أصل الأفكار والنظريات والآراء السياسة فيها إنما يكون في الأفكار الماركسية وتفسيراتها وليس في حياة روسيا الحالية، ولا في حياة مجتمعها حين حصلت الثورة الشيوعية. فالفكر أساس الأنظمة، وأساس النظريات، وأساس الآراء السياسية، وهو الذي يغير المجتمع، وهو الذي ينهضه أو يؤخره، وهو الذي يكيف العلاقات على وضع معين، وهو الذي يحدد للإنسان سلوكه في الحياة.
والحاصل هو أن نظرية الشيوعيين القائلة بأن معيشة الناس الاجتماعية هي التي تحدد إدراكهم باطلة، لأن الواقع أن الأفكار التي يعتنقها الناس هي التي حددت معيشتهم، وبعثة الرسول  خير دليل على ذلك فإن معيشة العرب حين جاء الإسلام كانت مناقضة كل المناقضة للأفكار التي جاء بها، وجاءت أفكار الإسلام فحددت هي لهم معيشتهم، وأن البلاد التي فتحها المسلمون كانت معيشة أهلها تناقض أفكار الإسلام، ولكنها طبقت على المجتمعات التي فتحت فغيرتها كلها وجعلتها مجتمعاً واحداً، فمعيشة الفرس كانت خلاف معيشة الروم، ومعيشة الروم خلاف معيشة البربر في شمالي أفريقية، فجاءت أفكار الإسلام فغيرت الحياة المادية في كل هذه المجتمعات المختلفة وجعلتها حياة مادية واحدة فيها كلها. فهذا الواقع المحسوس يثبت أن الأفكار هي التي غيرت الحياة المادية، أي هي التي حددت للناس معيشتهم، سواء حين نشأت هذه الأفكار، وذلك عند بعثة الرسول  في جزيرة العرب، أو حين حملت هذه الأفكار وطبقت على الناس، وذلك في الفتوحات الإسلامية.
وأما القول بأن أهمية الأفكار محصورة في تبني الجماهير لها وتعبئتهم بها لتسهل إنجاز المهمات الجديدة وليس في إيجاد المجتمع فإنه خطأ، لأن أهميتها في كونها تغير المجتمع وفي دفع الناس لتغييره وليس في دفع الناس لتغييره فقط. فالرسول  نشأت عنده الأفكار بالوحي، فهو لم يأخذها من معيشته، ولا من المجتمع الذي كان يعيش فيه الناس الذين يعيش معهم. فهي لم تنشأ من الحياة المادية قطعاً، والناس الذين تقبلوها في المدينة وطبقها عليهم لم تكن أهميتها في كونها تبنتها الجماهير الشعبية وعبئت بها هذه الجماهير ونظمت بها ضد القوى المتلاشية، وإنما أهميتها في أنها غيرت حياتهم المادية وغيرت طراز معيشتهم وأحدثت انقلاباً جذرياً في عقلياتهم ونفسياتهم وطريقة معيشتهم فأوجدت مجتمعاً جديداً. فأهميتها كانت في الدرجة الأولى في إيجاد المجتمع وليس في سوق الناس للنضال ضد القوى المتلاشية، فهي التي أوجدت المجتمع الإسلامي في المدينة، ثم بعد ذلك كانت لها أهمية في حمل هذه الأفكار للناس وتطبيقها عليهم، فهي في كلتا الحالتين: في إنشاء المجتمع لأول مرة، وفي إنشاء المجتمع في كل بلد فتح كانت أهميتها ليس في تبني الناس لها فقط بل كانت في الدرجة الأولى في إيجاد المجتمع، فهي قد حددت المجتمع، وحملها الناس فطبقوها على أنفسهم، فوجد بها المجتمع، ثم حملوها رسالة للناس، فطبقوها عليهم، ثم أوجدوها عندهم، فأهميتها في إيجاد المجتمع وتحويله وليس في تنظيم الناس فقط. وبهذا يبطل قول الشيوعيين أن الأفكار والنظريات تتولد من المهمات العاجلة التي يضعها تطور الحياة المادية للمجتمع، ثم تؤثر هي نفسها في تسهيل المهمات الجديدة التي يضعها تطور الحياة المادية للمجتمع. وبطلان هذا القول بارز من الواقع الذي دل على أن الأفكار هي التي أثرت في المجتمع فأوجدته وحولته، فكان تأثيرها ليس في أنها سهلت تحول المجتمع بل بكونها أوجدته من الأساس. ودل الواقع كذلك على أن هذه الأفكار التي أثرت في المجتمع وحولته لم تؤخذ من حياة المجتمع المادية، ولم تتولد من المهمات العاجلة التي وضعها تطور الحياة المادية للمجتمع، بل جاء بها الوحي من عند الله، أي هي أفكار من خارج المجتمع الذي كان يعيش فيه الرسول، ومن خارج الحياة المادية للمجتمع الذي كان فيه. وهذا دليل كاف لنقض هذه النظرية من هاتين الجهتين: جهة تولد الفكر والنظريات والأنظمة وجهة تأثيره وأهميته.
7
هذا من ناحية تطبيق النظرية المادية في الفكر على المجتمع. وأما ناحية البحث في الطبيعة من النظرية الديالكتيكية فتتخلص آراؤهم فيها في أربع نقاط: إحداها أن الطبيعة كل واحد متماسك ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطاً تاماً. والثانية أن الطبيعة ليست في حالة سكون، بل هي في تطور وتغير دائمين. والثالثة أن حركة التطور هي تطور ينتقل من تغيرات كمية إلى تغيرات كيفية بشكل سريع وفجائي. والرابعة أن كل الأشياء وحوادثها تحوي تناقضات داخلية. ومجموع هذه النقاط الأربع يعطي الصورة الواضحة عن آرائهم في الطبيعة حسب المادية الديالكتيكية.
أما بالنسبة للنقطة الأولى فهم يقولون: إن الديالكتيك لا يعتبر الطبيعة تراكماً عرضياً للأشياء، أو حوادث بعضها منفصل عن بعض، أو أحدها منعزل مستقل عن الآخر، بل يعتبر الطبيعة كلاً واحداً متماسكاً، ترتبط فيه الأشياء والحوادث ارتباطاً عضوياً، ويتعلق أحدها بالآخر، ويكون بعضها شرطاً لبعض بصورة متقابلة. لذلك يعتبرون أن أي حادث من حوادث الطبيعة لا يمكن فهمه إذا نظر إليه منفرداً بمعزل عن الحوادث المحيطة به. إذ أن أي حادث في أي ميدان من ميادين الطبيعة يمكن أن ينقلب إلى عبث فارغ لا معنى له إذا نظر إليه بمعزل عن الشروط التي تكتنفه، وإذا فصل عن هذه الشروط. وعلى العكس يمكن فهم أي حادث من الحوادث وتبريره إذا نظر إليه من حيث ارتباطه ارتباطاً لا ينفصم بالحوادث المحيطة به. أي إذا نظر إليه كما تحدده وتكيفه الحوادث التي تحيط به. وهذا يعني أن الشمس مرتبطة ارتباطاً لا ينفصم بحركتها وبحركة الكواكب المحيطة بها، ويعني أن الإنسان مرتبط بالبلد الذي يعيش فيه ارتباطاً لا ينفصم، ويعني أن الحياة الموجودة في الكائن الحي مرتبطة بحلولها في الكائن الحي إن إنساناً أو حيواناً أو شجرة ارتباطاً لا ينفصم وأنه لا يمكن فهم الشيء إلا بالحادثة التي تكتنفه كما لا يمكن فهم الحادثة إلا بالشيء والأشياء التي تكتنفها. فيكون الشيء أو الحادثة كما تحدده الحوادث أو الأشياء التي تحيط به وليس كما تحدده ماهيته.
أما النقطة الثانية فإنهم لا يعتبرون الطبيعة حالة سكون وجمود، حالة ركود واستقرار، بل يعتبرونها حالة حركة وتغير دائمين، حالة تجدد وتطور لا ينقطعان. ففيها دائماً شيء يولد ويتطور، وشيء ينحل ويضمحل، ولهذا لا يصح أن يكتفى بالنظر إلى الحوادث من حيث علاقات بعضها لبعض، ومن حيث تكييف بعضها ببعض بل يجب أن ينظر إليها أيضاً من حيث حركتها، من حيث تغيرها وتطورها، من حيث ظهورها واختفائها. يقول انجلس: "إن الطبيعة بأجمعها من أضأل الأجزاء إلى أكبر الأجسام، من حبة الرمل إلى الشمس، من البروتيست (وهي الخلية الحية) إلى الإنسان، هي في حركة دائمة من النشوء والاضمحلال، هي في مد لا ينقطع، في حركة وتغير مستمرين أبديين" ويقول انجلس أيضاً: "ينظر بالدرجة الأولى إلى الأشياء، وإلى انعكاسها العقلي من حيث علاقاتها المتبادلة، من حيث تسلسلها، من حيث حركتها، من حيث نشوئها واضمحلالها" وهذا يعني أنه يجب أن ينظر إلى أن ما في الكون من أشياء من حبة الرمل إلى الشمس ومن الخلية الأولى الحية في الإنسان إلى الإنسان ليس مرتبطاً ببعضه ارتباطاً لا ينفصم فحسب بل هو أيضاً إلى جانب هذا يعيش في عملية حياة وفناء، وهذا يعني أن بعض ذراته تفنى وتحيا فيه ذرات أخرى غيرها. وعليه يجب أن ينظر إلى الشمس مرتبطة بحركتها، وينظر إليها بوصفها مادة تتغير وتتطور فتفنى فيها ذرات وتحيا فيها ذرات، وكذلك الإنسان وكذلك أيضاً الحياة في كل منها الارتباط بحركتها، والارتباط بعملية الحياة والإفناء الدائرة فيها.
وأما النقطة الثالثة فإنهم لا يعتبرون حركة التطور حركة نمو بسيطة لا تؤدي التغيرات الكمية فيها إلى تغيرات كيفية، بل يعتبرونها تطوراً ينتقل من تغيرات كمية ضئيلة وخفية إلى تغيرات ظاهرة وأساسية، أي إلى تغيرات كيفية. وهذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة، فجائية، وتحدث بقفزات من حالة إلى أخرى. وليست هذه التغيرات جائزة الوقوع بل هي ضرورية، وهي نتيجة تراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية. أي أن التغيرات الكمية التي تحدث في الماء من جراء الحرارة هي تغيرات كمية، وهي تغيرات غير محسوسة، وهي أيضاً تغيرات تدريجية، ولكنها حين تصل إلى نقطة الحرج أي إلى وضع معين يحصل التغير الكيفي بقفزة فيتحول الماء إلى بخار فينتقل من حالة إلى أخرى وهذا الانتقال ليس جائزاً بل هو ضروري. ولذلك يعتبر الشيوعيون أن من الواجب فهم حركة التطور لا من حيث هي حركة دائرية، أو تكرار بسيط من نفسه، بل من حيث هي حركة تقدمية صاعدة، وانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة، وتطور ينتقل من البسيط إلى المركب، من الأدنى إلى الأعلى. أي لا يصح أن ينظر إلى حركة التطور بأنها عملية حياة وفناء فحسب، أو عملية نشوء واضمحلال فقط بل يجب أن ينظر إلى أن هذا الفناء والحياة، أو الاضمحلال والنشوء إنما يحدث في طريق تصاعدي فينقل المادة من حال إلى حال غير الأولى وأحسن منها، فحركاتها تصاعدية وتطورها ارتقائي، وليس دائرياً يسير في الطريق نفسه فيدور من حيث أتى بل ينتقل من حال إلى حال أحسن.. وهكذا. يقول انجلس "إن الطبيعة هي محك الاختبار للديالكتيك، ولا بد من القول أن علوم الطبيعة الحديثة قد وفرت لهذا الاختبار مواد غنية إلى أقصى حد، وهذه المواد تزداد كل يوم. وهكذا برهنت هذه العلوم أن الطبيعة تعمل في النتيجة، بصورة ديالكتيكية لا بصورة متيافيزيقية، وأنها لا تتحرك في دائرة تبقى هي ذاتها دائماً وتتكرر إلى الأبد، بل أن لها تاريخاً واقعياً. وبهذه المناسبة ينبغي أن نذكر بالدرجة الأولى داروين الذي وجه ضربة قاسية إلى الفهم المتيافيزيقي للطبيعة، بإثبات أن العالم العضوي بأسره كما هو موجود اليوم، أي النباتات والحيوانات، وبالتالي الإنسان أيضاً، هي كلها نتاج تطور يجري منذ ملايين السنين" وبين انجلس أن التغيرات الكمية تنقلب إلى تغيرات كيفية في التطور الديالكتيكي فيقول: "في الفيزياء، كل تغير هو انتقال من الكمية إلى الكيفية، هو نتيجة التغير الكلي لكمية الحركة ـ كيفما كان شكلها ـ سواء أكانت ملازمة للجسم من داخله أم مضافة إليه من خارجه. فإن حرارة الماء مثلاً ليس لها في باديء الأمر تأثير في حالته من حيث هو سائل، ولكن إذا زيدت أو نقصت حرارة الماء جاءت لحظة تعدّلت فيها حالة التماسك التي هو فيها، وتحول الماء إلى بخار في إحدى الحالات، وإلى جليد في الحالة الأخرى. وكذلك نرى أن شريطاً من البلاتين يحتاج إلى تيار ذي قوة معينة لكي يصبح مضيئاً، ونرى أيضاً أن لكل معدن حرارة ذوبان، وأن لكل سائل موضوع تحت ضغط معين حداً معيناً للتجمد والغليان، وذلك بمقدار ما تسمح لنا وسائلنا بالحصول على درجات الحرارة اللازمة، ونرى أخيراً أن لكل غاز حرارة نقطة حرجة يمكن فيها تحويله إلى سائل ضمن شروط معينة من الضغط والتبريد. فالنقاط الثابتة كما يقال في الفيزياء ليست على الغالب سوى النقاط العقدية التي تؤدي فيها زيادة الحركة أو إنقاصها إلى حدوث تغير كيفي في جسم ما. أي أنها النقاط التي تتحول فيها الكمية إلى كيفية" أي أن زيادة الحركة أو نقصانها هي تغير كمي، فالحرارة كم وليست بكفيف، ومقدار الماء كم وليس بكيف. غير أن الحالة التي يكون عليها الماء بأن كان سائلاً أو بخاراً أو جليداً هي الكيف. فالتغير الكمي احدث تغيراً كيفياً ونقاط الانتقال بالكيف من حالة إلى أخرى هي النقاط العقدية أو النقاط الثابتة. فهذه العقد أي النقاط الثابتة هي التي صار فيها التحول من الكم إلى الكيف أي من الماء إلى البخار أو إلى الجليد.
ويقول انجلس في الكلام عن الكيمياء: "يمكن القول أن الكيمياء هي علم التغيرات الكيفية الناشئة في الأجسام عن تغيرات كمية. وكان هيغل نفسه يعرف ذلك في عهده. لنأخذ الأكسجين: فإذا جمعنا في جزئية ثلاثة ذرات عوضاً عن اثنتين كالعادة حصلنا على جسم جديد هو الأوزون الذي يختلف اختلافاً بيناً برائحته وبتأثيراته عن الأكسجين العادي، وماذا نقول عن مختلف تراكيب الأكسجين مع الأزوت أو مع الكبريت؟! إن كل تركيب منها يعطي جسماً مختلفاً من حيث الكيفية عن جميع الأجسام التي تعطيها التراكيب الأخرى" أي أن انجلس يبرهن بواسطة الفيزياء والكيمياء على التغير الذاتي الذي يحصل في الطبيعة من انتقال الأشياء من حالة إلى حالة أخرى أحسن من الحالة الأولى ويحصل الانتقال من كم إلى كيف ومن كيف إلى كيف بواسطة الكم فزيادة الذرات في الجزئية من اثنتين إلى ثلاث أعطت كيفية أخرى غير الأولى، تماماً كما هو في الفيزياء من زيادة الحرارة في الماء جعلته بخاراً، وهذا يعني أن حركة التطور التي تحصل في الطبيعة ليست حركة بسيطة تدور حول نفسها بل حركة تصاعدية تنتقل بزيادة الكم أو نقصانه إلى حالة أخرى.
وأما النقطة الرابعة فهي أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات داخلية، لأن لها جميعها جانباً سلبياً وجانباً إيجابياً، ماضياً وحاضراً، وفيها جميعها عناصر تضمحل وتتطور، فنضال هذه المتضادات، أي النضال بين القديم والجديد، بين ما يموت وما يولد، بين ما يفنى وما يتطور، هو المحتوى الداخلي لحركة التطور، هو المحتوى الداخلي لتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية. أي أن انتقال الماء بزيادة الحرارة إلى بخار أو بنقصانها إلى جليد لا يتم بواسطة تناسق الذرات في المادة بل يتم بواسطة تضاد هذه الذرات مع بعضها وهذا معنى أنه يحصل بواسطة التناقضات. فالاصطدام الذي يحصل بين الذرات في المادة هو الذي يوجد هذا التحول، وهذا هو معنى قوله أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات أي تحوي ذرات سالبة وموجبة فيحصل الاصطدام مع بعضها فينتج عن هذا الاصطدام التحول وهذا هو التناقضات. ولهذا تعتبر الطريقة الديالكتيكية أن حركة التطور من الأدنى إلى الأعلى لا تجري بتطور الحوادث تطوراً تدريجياً متناسقاً، بل بظهور التناقضات اللازمة للأشياء والحوادث، بنضال الاتجاهات المتضادة التي تعمل على أساس هذه التناقضات. يقول لينين: "أن الديالكتيك بالمعنى الخاص للكلمة هو درس التناقضات في ماهية الأشياء نفسها" ويقول أيضاً: "التطور هو نضال المتضادات".
8
هذه هي خلاصة آراء الشيوعيين في الطبيعة، وهي أن الطبيعة كل لا يتجزأ، وهي في حالة تطور وتغير دائمين، وأن هذا التغير ينتقل من تغييرات كمية إلى تغييرات كيفية في طريق ارتقائي من حالة أدنى إلى حالة أعلى، وأن ذلك يتم بواسطة التناقضات الحتمية الوجود في الأشياء والحوادث، أي بواسطة نضال المتضادات. وهذا كله خطأ في جميع النقاط الأربع، فإنها كلها مجرد فروض وقياسات شمولية.
فالنقطة الأولى إن هي إلا مجرد فروض، فإن الطبيعة هي مجموع الأجرام ومجموع النظام الذي تسير عليه، وبالنسبة لكوكب الأرض التي نعيش عليها هي عبارة عن القوانين التي تسير الأرض وما فيها من قابليات الحياة مع الأرض والأشياء التي عليها. فهذه الطبيعة أي الأشياء وقوانينها كل متماسك الأجزاء من حيث الكون كله، ومن حيث الأرض كلها، ومن حيث كل كوكب بوصفه كلاً. أما من حيث كل كوكب ومن حيث الأرض بالذات، فإنها في أشيائها الخاصة بها وقوانينها الخاصة بها غير مرتبطة بغيرها، بل هي من هذه الجهة منعزلة عن غيرها، وتعيش في وسط يتعلق بها وحدها من أشياء وقوانين، وإن كان ذلك يجري ضمن الإطار العام الجماع للكون. وكذلك الأشياء التي على الأرض مع قوانينها فإنها من حيث كل شيء فيما يتعلق به منفردة عن غيرها، ولكل شيء قوانين خاصة به، وغير مرتبط بغيره، وإن كان ذلك يجري ضمن قوانين الأرض ثم ضمن قوانين الكون، وهذا فيما يتعلق بالكوكب وبالأرض بالذات قد ظهر جلياً بشكل ملموس بعد رحلات الفضاء، حيث قد ثبت انقطاع الوزن عند وصول الشخص إلى مكان تعادل الجاذبيات فلم تعد جاذبية الأرض تؤثر عليه، إذ في النقاط التي تتعادل فيها جاذبية كوكبين أو أكثر تنعدم الجاذبية فيكون الشخص كأنه خرج من جاذبية الأرض فلم تعد قوانينها تؤثر عليه، وهذا يعني أن للأرض قوانين خاصة بها غير مرتبطة أي القوانين بغيرها أي بغير الأرض من الكواكب، وتجري بشكل منفرد، وإن كان لها قوانين أخرى مرتبطة بغيرها من الكواكب. فكل كوكب مرتبط مع غيره بقوانين، ومنفصل عن غيره بقوانين خاصة به غير مرتبطة بغيره. وهو فيما يتعلق بالأشياء والحوادث على الأرض واضح ملموس، فالزلازل في إيران لم يتأثر بها العراق، والبراكين في جهة لا تتأثر بها جهة أخرى لم يصل إليها تأثيرها. وما يجري على الحيوان لا يجري على الإنسان، فالحيوان يمشي على أربع، ويفقد الإدراك العقلي، ويعيش حسب الطاقة الحيوية من غرائز وحاجات عضوية، والإنسان يمشي على رجليه ويستعمل يديه على خلاف استعمال رجليه، ويملك الإدراك العقلي، وسلوكه في الحياة إنما هو حسب مفاهيمه وليس حسب غرائزه وحاجاته العضوية فحسب. وما عليه الجمادات غير ما عليه الكائن الحي فالجمادات لا تحتاج إلى غذاء والكائن الحي يحتاج إلى غذاء، والجمادات لا تحس وبعض الكائنات الحية تحس، والجمادات ليست لديها طاقة حيوية من غرائز وحاجات عضوية، وبعض الكائنات الحية لديها طاقة حيوية من غرائز وحاجات عضوية. ثم أن الإنسان نفسه يسير في الحياة من حيث الخلق على قوانين واحدة ولكنه يسير في معيشته وعلاقاته على أنظمة مختلفة، وهو يتمتع بالاختيار التام لما يريد من نظام، ومن تفكير ومن عيش. وليس مرتبطاً بالطبيعة ارتباطاً جبرياً، وليست هي التي تسيره في عيشه، بل هو الذي يسير من نفسه مختاراً. ومن هنا كانت هذه النقطة مجرد فرض. فإنهم لما رأوا أن الكون متماسك الأجزاء من حيث سيره ضمن قوانين معينة، وأن كوكب الأرض متماسك الأجزاء من حيث سيره ضمن قوانين معينة، قالوا إن الطبيعة كل متماسك الأجزاء، ونسوا أن هذه الكلية إنما هي في الكلية أي من حيث الكون كله، أي من حيث كليته أو من حيث كلية الشيء. أما من ناحية الأمور الخاصة بالأشياء فإنها متميزة عن غيرها، ومنفردة. فالأرض متميزة عن الزهرة ومنفردة وغير مرتبطة ارتباطاً حتمياً بقوانينها الخاصة، والحديد متميز عن الزئبق ومنفرد عنه وغير مرتبط به ارتباطاً حتمياً في قوانينه الخاصة مع أن كلاً منهما معدن، والإنسان متميز عن الحيوان وغير مرتبط به ارتباطاً حتمياً في قوانينه الخاصة مع أن كلاً منهما حيوان.. وهكذا. فالارتباط الحتمي في كل شيء بين أجزاء الكون وما يحويه غير موجود، بل الموجود هو الارتباط العام فقط.
فالكون وهو مجموع الكواكب، والإنسان، وهو هذا الحيوان الناطق، والحياة وهي الشي القائم في الكائن الحي هي مجموع العالم، فهي ككل مرتبط بعضها ببعض باعتبارها تكون العالم. فالإنسان يحيا في الكون فهو مرتبط بالكون والحياة، ولكن الحياة غير مرتبطة بالإنسان، والكون غير مرتبط بالحياة ارتباطاً جبرياً، والحياة إنما تقوم في الإنسان والحيوان والطير والحشرات والشجر والنبات وما شاكل ذلك، وهذه الأشياء تحيا في الكون فهي مرتبطة به، ولكن الكون غير مرتبط بهذه الأشياء، والإنسان غير مرتبط بهذه الأشياء ارتباطاً جبرياً. ومجموع الأجرام التي تشكل الكون مرتبط بعضها ببعض، فهي تشكل الكون، ولكن الأرض غير مرتبطة بالزهرة والشمس غير مرتبطة بعطارد ارتباطاً حتمياً من حيث جميع خواصها وما يتعلق بها. فيكون الوجود المدرك المحسوس مرتبط بعضه ببعض من حيث الكلية، أي من حيث أنها تكون العالم، ومن حيث أن الأرض بوصفها كلاً أي من حيث هي كوكب مرتبطة بالشمس، ومن حيث أن الإنسان بوصفه كلاً أي من حيث هو إنسان مرتبط بالأرض ومرتبط بالشمس ومرتبط بالحياة، ومن حيث أن الحياة بوصفها كلاً أي من حيث هي حياة مرتبطة بالكون ومرتبطة بالإنسان. فالوجود المدرك المحسوس بوصفه كلاً أجزاؤه الكون والإنسان والحياة مرتبط بعضها ببعض، وبوصف كل جزء من أجزائه يشكل كلاً منفصلاً عن الآخر مرتبط ككل بالآخر من ناحية كليته ومنفصل عنه من ناحية خواصه الخاصة به. فيكون الارتباط إنما هو بالكلية، ولكن كلاً من الكون والإنسان والحياة منفصل عن الآخر بما له من خاصيات وقوانين خاصة به غير مرتبطة بسواه.
ثم أنه ليس كل ما في الوجود المدرك المحسوس مرتبطاً بالآخر، أي ليس الشيء محاطاً بكل شيء في الوجود، فقد تكتنف الشيء أشياء ولا تكتنفه أخرى، والأشياء التي تكتنفه ليس دائماً وجودها شرطاً في بقائه، فقد تكون شرطاً لذلك وقد لا تكون. فالإنسان يكتنفه الضوء ويكتنفه الهواء، ومن شروط حياته الماء والغذاء ولكن لا علاقة له بالزهرة ولا بالمريخ، وليس معدن النحاس شرطاً من شروط حياته ولا الزئبق شيء لا يحيا بدونه. وبهذا يبرز أن الإنسان مرتبط بأشياء في الكون وغير مرتبط بأشياء أخرى، وأن الأشياء التي يرتبط بها منها ما يكتنفه وضروري لحياته ومنها ما يكتنفه وليس ضرورياً لحياته، وقل مثل ذلك في الحيوان والكواكب والجمادات وغير ذلك. وهذا يعني أنه ليس كل ما في الوجود مرتبطاً بعضه ببعض، وما دام ليس مرتبطاً به فليس هو جزءاً من ذلك الشيء، وبالتالي لا يشكل وإياه كلاً، فيكون اعتبار الطبيعة كلاً، واعتبار كل جزء منها متعلقاً بالآخر مخالفاً لواقع ما عليه الأشياء في العالم ومخالف لواقع الوجود المدرك المحسوس.
والإنسان وإن كان الماء شرطاً من شروط حياته، ولكنه أي الإنسان ليس شرطاً من شروط بقاء الماء ماءاً، والهواء وإن كان يكتنف الإنسان، ولكن الإنسان لا يكتنف الهواء ووجود الإنسان وعدمه ليس شرطاً من شروط بقاء الهواء، وقل مثل ذلك في الحيوان والشمس والجبل وغير ذلك، فإنها في الأشياء التي ترتبط بها ليس حتمياً أن تكون تلك الأشياء مرتبطة بها أيضاً، فلا يكون كل من هذه الأشياء المرتبطة متوقفاً بقاؤه على الآخر. وبالتالي لا يكون فهمه متوقفاً عليه بل يمكن أن يكون فهمه منعزلاً عما هو مرتبط به، فيمكن فهم الإنسان منعزلاً عن الماء ولو كان يكتنفه ويمكن فهم الماء منعزلاً عن الإنسان، ويمكن فهم الشمس منعزلة عن الإنسان ويمكن فهم النبات منعزلاً عن الهواء.. وهكذا. وعليه يكون من الخطأ القول إنه لا يمكن فهم الشيء إذا نظر إليه منفرداً بمعزل عن الأشياء المحيطة به.
والإنسان تحيط به الأشياء من كواكب كالأرض والشمس ومن جمادات كالجبال والأنهار ومن الأشياء حية كالنباتات والطيور ومع ذلك فالذي يحدده ما هو، إنما هو حقيقته الإنسانية وليس الأرض والشمس والجبال والأنهار والنباتات والطيور التي تحيط به وهو غير مرتبط بالبلد الذي يعيش به، فقد يقوم هو بتغيير البلد إلى الوضع الذي يريده هو كما يحصل مع المصلحين الانقلابيين، وقد يغير البلد فيرحل إلى بلد آخر، فهو إذن غير مرتبط بما يحيط به ارتباطاً حتمياً لا ينفصم عنه بل هو منفصل تماماً عما يحيط به يكيف نفسه كما يريد. وعلى هذا يكون من الخطأ القول بأن الشيء أو الحادثة إنما يكون كما تحدده الحوادث والأشياء التي تحيط به، لأن الواقع أن الأشياء والحوادث إنما تحددها ماهيتها وليس الأشياء المحيطة بها. وبهذا كله يظهر خطأ النقطة الأولى.
وأما النقطة الثانية فصحيح أن العالم في حالة تغير دائم، ولكنه ليس بصحيح أن كل شيء فيه يحوي أمرين معاً هما الولادة والفناء، أي ليس بصحيح أن كل شيء فيه يتجدد. ففيه أشياء يكون تغيرها حالة تجدد، فيه شيء يولد وشيء يموت كالغرسة وكالشباب، ولكن فيه أشياء أيضاً لا يوجد فيها شيء يولد وشيء يموت مثل الماء ومثل الصخر وكل شيء غير حي. وفيه أشياء أيضاً يكون تطورها حالة فناء كالشجرة الآخذة بالاضمحلال وكالشيخ الهرم. فالادعاء بأن كل شيء في العالم فيه يولد ويتطور وشيء ينمو ويضمحل ادعاء باطل يكذبه واقع الأشياء الموجودة في العالم. بل أن الشيوعيين أنفسهم يقولون أن الشيء الذي يبدو في لحظة معينة ثابتاً مستقراً وهو في الواقع آخذ في الفناء ليس مهماً ولا جديراً بالاعتبار، بل المهم والجدير بالاعتبار هو الشيء الذي يولد ويتطور، ويرتبون على ذلك أنه لا يصح أن يؤسسوا عملهم على الفئات التي توقفت عن التطور بل على الفئات التي تتطور. وهذا اعتراف صريح منهم بأن هناك أشياء يوجد فيها شيء يولد وشيء يفنى وهي المتجددة وهناك أشياء يوجد فيها شيء يفنى وهي الآخذة بالاضمحلال، وهذا هو واقع الأشياء في العالم. ومن هذا يتبين أن القول بأن كل شيء في العالم هو في حركة دائمة من النشوء والاضمحلال قول خاطيء مخالف للواقع، وبذلك يظهر فساد النقطة الثانية.
وأما النقطة الثالثة فليس بصحيح أن التغير الذي يحصل في الأشياء هو تغير من أدنى إلى أعلى ومن سيء إلى حسن، هذا مجرد فرض، فليس هو انتقالاً من حال إلى حال أحسن، ولا من حال حسنة إلى حال سيئة، بل هو تغير ليس غير. فقد يكون من حال إلى حال أحسن، وقد يكون إلى حال أسوأ، ففي غير الكائن الحي من الجمادات تختلف التغيرات. فتعفن الخبز انتقال من حال حسنة إلى حال سيئة، وتفتت الأحجار انتقال من حال حسنة إلى حال سيئة، وفي الكائن الحي من إنسان وحيوان ونبات تختلف كذلك التغيرات، ينتقل الطفل في النمو من حال حسنة إلى حال أحسن، ومثله نبتة الزرع، وصغار الحيوان. ولكن انتقال الإنسان من الشباب إلى الهرم انتقال من حال حسنة إلى حال سيئة فالتغير موجود في غير الكائن الحي وفي الكائن الحي، ولكنه مجرد انتقال من حال إلى حال بغض النظر عن الانتقال إلى الحسن أو إلى السيء. فما يقولونه أن الشيء يتطور بمعنى ينتقل إلى حال أحسن كلام باطل بالمشاهدة، فإن الذي يحصل هو مجرد تغير، إما إلى أحسن وإما إلى أسوأ، ثم إن الانتقال يجعل الحالة التي جرى الانتقال منها قديمة والحالة التي جرى الانتقال إليها جديدة، وإذا كان الذي يحصل في الأشياء هو تطوراً أي انتقالاً إلى حال أحسن فإنه يكون دائماً الجديد خيراً من القديم، ولكنه ثبت بالمشاهدة أن هذا باطل، وأن الذي يحصل في الأشياء إنما هو مجرد تغير، فقد يكون إلى أحسن وقد يكون إلى أسوأ، فالقول أن الحركة تقدمية صاعدة، وأن التغير يكون صاعداً وإلى أحسن قول ظاهر البطلان. والماء نفسه الذي جاءوا به للتدليل على نظريتهم هذه يكذب هذه النظرية، فإن الماء عندما يتحول إلى بخار يمكن أن يكثف ويبرد، وبذلك يرجع إلى كيفيته الأولى أي إلى الماء، وهذا ليس تغيراً صاعداً، ولا إلى أحسن بل رجوع إلى الصورة الأصلية. وعليه فإنه ليس دائماً الجديد يكون حسناً، كما أنه ليس دائماً يكون سيئاً. وليس القديم يكون دائماً سيئاً، كما أنه ليس دائماً يكون حسناً، فكون الشيء جديداً لا يعني أنه حسن أو سيء، وإنما يعني أنه جديد ليس غير، وكون الشيء قديماً لا يعني أنه سيء أو حسن، وإنما يعني أنه قديم ليس غير. فالهرم جديد والشباب قديم، والعفن في الخبز جديد والسليم من الخبز قديم، كما أن العجين قديم والخبز جديد، والنطفة قديمة والطفل جديد، وهكذا ملايين الأشياء المتغيرة ليست جميعها حركة صاعدة ولا حركة نازلة، بل قد تكون صاعدة كالماء يتحول إلى بخار والطفل يصبح شاباً والغرسة تصبح شجرة، والعجين يصير خبزاً وشريط البلاتين يصبح مضيئاً وما شاكل ذلك. وقد يكون تغير الأشياء حركة نازلة كالبخار حين يتحول إلى ماء والشاب حين يصبح هرماً والشجرة الهرمة حين تسقط وتبلى، والخبز حين يتعفن، وشريط البلاتين حين يذهب عنه التيار ذو القوة المعينة فينطفيء وما شاكل ذلك. فالحركة هي مجرد حركة، والتغير هو مجرد تغير لا يوصف بالصعود ولا بالنزول لأن الصعود ليس خاصية للحركة ولا خاصية للتغير، وكذلك النزول ليس خاصية للحركة ولا خاصية للتغير فلا يكون أياً منهما ملازماً له، ولذلك كان القول بأن التغير يكون صاعداً قولاً خاطئاً ومخالفاً لواقع الحركة ولواقع التغير. وكذلك ملايين الأشياء المتغيرة ليست جميعها يكون فيها التغير إلى أحسن، فقد يكون إلى أحسن وقد يكون إلى أسوأ، فليس أحد يشك بأن الشباب أحسن من الهرم، وأن الخبز السليم خير من المتعفن، وأن الحي خير من الميت والعشب الأخضر خير من الهشيم وبئر النفط المفعم بالنفط خير منه بعد نفاد النفط منه، فهذه الأشياء كان التغير فيها إلى أسوأ وليس إلى أحسن، فهي تكذب القول أن التغير يكون إلى أحسن لأنها تغير إلى أسوأ، ولكن هذا أيضاً لا يدل على أن التغير يكون إلى أسوأ إذ قد يكون إلى أحسن. فلا أحد يشك بأن الشاب خير من الطفل وأن الشجرة أحسن من الغرسة، وأن الخبز خير من العجين، وأن الطفل خير من النطفة، وأن الكتكوت أحسن من البيضة، فهذه الأشياء كان التغير فيها إلى أحسن، ولكنها لا تدل على أن التغير يكون دائماً إلى أحسن، بل كل الأمثلة وواقع الأشياء كلها يدل على أن التغير قد يكون إلى أحسن وقد يكون إلى أسوأ. فكون الشيء حسناً أو سيئاً ليس آتياً من التغير، وليس متعلقاً بكونه جديداً أو قديماً، بل متعلق بماهيته هو سواء أكان قديماً أم جديداً.
ثم أن التغير من حال حسنة إلى حال سيئة ليس هو محصوراً في حالة الانتكاس فقط حتى يقال أن الانتكاس قد يحصل، وهذا موجود في بحث الماركسية في أبحاث ما يسمى بالردة. بل أن التغير قد يكون انتكاساً كما يحصل في البخار حين يرجع إلى ماء، وقد يكون ليس انتكاساً إلى الحالة الأولى بل إلى حالة أخرى غير الأولى تكون هذه الحالة سيئة كالتغير من الشباب إلى الهرم، ولذلك فإن التطور من حيث هو بمعنى التجدد والانتقال إلى أحسن ليس هو الصفة الملازمة للأشياء في العالم، بل الصفة الملازمة للعالم ولكل شيء هو التغير فقط سواء إلى الأمام أي إلى أحسن أم إلى الخلف أي حصول الانتكاس، أم إلى حالة أخرى لم تكن موجودة من قبل وهي حالة سيئة.
ثم أن التغير في الأشياء ليس حتمياً أن ينقلها إلى أشياء أخرى غير الأولى، بل هو قد ينقلها إلى أشياء غير الأولى وقد تبقى رغم التغيير هي عينها الأشياء الأولى لم تتغير ويستحيل أن تتغير مهما حصل فيها من عوامل التغيير. فمثلاً يمكن في عملية كيميائية أن يغير الشيء تغييراً كلياً فيصبح غير الشيء الأول كالمثال الذي جاء به انجلس وهو لنأخذ الأكسجين فإذا جمعنا في جزئية ثلاث ذرات عوضاً عن اثنتين كالعادة حصلنا على جسم جديد هو الأوزون الذي يختلف اختلافاً بيناً برائحته وتأثيراته عن الأكسجين العادي. ولكن هناك أمثلة كثيرة تغاير هذا ويستحيل أن تصبح شيئاً آخر غير ما هي عليه ماهيتها. فمثلاً الحديد لا يمكن لأية عملية أن تحوله إلى ذهب، والحصان لا يمكن لأية عملية أن تحوله إلى جمل، ونطفة الرجل لا يمكن لأية عملية أن تجعلها تتحول إلى طفل إذا وضعت في القرد أو الفرس أو الناقة أو أي كائن حي غير المرأة، والحجر لا يمكن لأية عملية أن تحوله إلى كائن حي وهكذا ملايين الأشياء التي يستحيل أن تتحول إلى شيء آخر غير ماهيتها. وعليه فإن القول أن النباتات والحيوانات وبالتالي الإنسان هي كلها نتاج تطور يجري منذ ملايين السنين، هذا القول قول فاسد يكذبه الواقع. فإنه إذا كان تراكم الأتربة والهواء والماء على خشبة قد جعلها على مر السنين تتحجر فتصبح حجراً، فإن حبة القمح منذ عرف الإنسان القمح حتى الآن لم تتغير ماهيتها ولا نبتتها، وأن الشاة منذ عرف الإنسان هذا الحيوان حتى الآن لم تتغير حوانيتها ولا ماهيتها، وأن الإنسان من ذكر وأنثى لم يوجد فيه أدنى تغير في إنسانيته وفي حيوانيته ولا في الطاقة الحيوية ولا في خاصية دماغه وهي الربط للحكم على الأشياء. أما ما يحصل من صغر حبة القمح وكبرها ومن صغر الشاة وكبرها ومن صغر حجم الإنسان أو حجم جمجمته أو حجم عظامه أو كبرها أو شكلها فإن هذه كلها تغيرات في الشكل لا في الماهية. فالتغير يحصل حتما وقد يحصل في الحجم والشكل ولكن التغير في الماهية ليس حتمياً أن يحصل. فقد يحصل فتصبح شيئاً آخر، وقد يكون من المستحيل حصوله مهما حصل من عوامل التغير. وعليه فإنه من الخطأ القول إن هذه الأشياء التي في العالم هي غير الأشياء التي كانت فيه من قبل، وبذلك يظهر فساد ما ذهب إليه داروين من أن العالم العضوي بأسره كما هو موجود اليوم هو نتاج تطوري يجري منذ ملايين السنين، أي هو غير العالم الأول قبل ملايين السنين. فإن الحديد والماء والتراب والهواء وما شاكلها هي نفسها مهما تقادم عليها العهد، وأن الجمل والفرس والشاة والأسد وغيرها من الحيوان هي نفسها مهما تقادم عليها العهد، وأن الإنسان هو نفسه منذ أن عرف وجوده على وجه الأرض لم يحصل فيه أدنى تغيير في ماهيته. فالعالم يتغير ما في ذلك شك ولكن لا يعني تغيره خروجه عن ماهيته ولا يعني تغير الأشياء فيه هو خروجها عن ماهيتها التي وجدت عليها.
ومن هذا كله يتبين أن التطور الذي يعنونه من حيث كونه حركة تقدمية صاعدة وانتقالاً من الأدنى إلى الأعلى ومن حسن إلى أحسن أو من سيء إلى حسن، ومن حيث كونه ينقل الشيء إلى شيء آخر، هذا التطور بهذا المعنى ليس خاصية من خواص التغير، وليس ضرورياً أن يحصل. فالعالم يتغير، ولكن تغيره هذا لا يعني التطور الذي يعنونه، وهذا التطور الذي يعنونه ليس حتمياً أن يحصل في الأشياء، فيكون الادعاء بأنه ملازم للتغير لا ينفك عنه، والادعاء بحتمية حصوله في الأشياء، ادعاءاً باطلاً ويكذبه الواقع. وبذلك يظهر فساد النقطة الثالثة.
وأما النقطة الرابعة فليس بصحيح أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات. فإن هذا مجرد فرض نظري. إذ ثبت أنه ليس كل شيء يوجد فيه حياة وفناء معاً. وهذا وحده يثبت أنه ليس كل شيء يحوي تناقضات، وأيضاً فإن كون الأشياء تولد وتموت وتفنى وتوجد لا يعني أن هذا تناقضاً لازماً لها. فالجسم الحي فيه خلايا تولد وخلايا تموت، غير أن ذلك لا يعني وجود تناقض في الجسم الحي، ثم أن الأجسام غير الحية يحصل فيها فناء ولكنه لا تحصل ولادة، أي لا يحصل وجود. ولهذا فإن ما يسمى بالتناقضات ليس ملازماً للأشياء والحوادث. أما بالنسبة للأشياء فظاهر في الأجسام غير الحية، فإن الماء إذا ترك كما هو قد ينقص ولكنه لا يزيد، ولا يحصل فيه لا سالب ولا موجب، ولا تحصل فيه تناقضات. والرمل إذا ترك كما هو لا يلاحظ عليه وجود تناقضات. وأما الحوادث فإن عمليات البيع تجري دون حصول أي تناقض فيها أي في إجراء العقد، وعملية الصلاة تحصل دون أي تناقض فيها. فالادعاء بملازمة التناقضات للأشياء والحوادث ادعاء باطل. فإذا كانت الاتجاهات متضادة ولم يحصل بينها توفيق وحصل الاصطدام فإنه حينئذ يحصل ما يسمى بالتناقض في الجسم الحي وفي المجتمع، ولكن الاتجاهات المتضادة إذا حصل بينها توفيق يرفع التضاد كوقف الحرارة عن الماء قبل بدء التحول إلى بخار فإنه لا يحصل التناقض ولا يجري التحول، وكإعطاء العمال فوق كفايتهم فإنه لا يحصل الاصطدام مع أصحاب العمل. فالقول بحتمية حصول التناقضات قول خاطيء لأنها ليست حتمية في جميع الأشياء وليست حتمية في المجتمع، وبذلك يظهر خطأ النقطة الرابعة.
ومن نقض هذه النقاط الأربع يظهر خطأ آراء الشيوعيين في الطبيعة، وبالتالي يظهر خطأ رأيهم بأن التطور في العالم بالمعنى الذي يعنونه أمر حتمي. فهم يعتبرون الطبيعة كلاً لا يتجزأ بمعنى أن كل شيء فيها مرتبط بالآخر، فما يحصل لشيء من الأشياء يؤثر على الآخر، وأن كل شيء في العالم في حركة دائمة وتغير دائم وفيه شيء ينشأ وشيء يضمحل، شيء يولد وشيء يموت، وأن هذه الحركة حركة صاعدة وهذا التغير تغير إلى أحسن، وأن كل شيء في الطبيعة يحوي تناقضات داخلية لأن في كل شيء نضالاً بين الحياة والفناء بين ما يولد وبين ما يفنى، وهذا النضال بين المتضادات هو التطور، ولذلك يقول لينين: "التطور هو نضال المتضادات" فمعناه أن التطور يحصل في كل العالم. فيكون رأيهم أنه ما دام كل شيء في العالم فيه نضال المتضادات بين ما يموت وما يولد، وما دام كل شيء في العالم يتحرك حركة صاعدة ويتغير إلى أحسن، وما دام كل شيء في العالم يتغير وفيه ما يولد وما يموت، وما دام العالم كلاً لا يتجزأ وكل شيء فيه مرتبط بالآخر، فإن نضال المتضادات الذي يجري في كل شيء حتماً يجري حتمياً في العالم. فالعالم إذن بفضل التناقضات ينتقل حتمياً من حال إلى حال حسن، وإلى حال غير الأولى، وهذا هو التطور، أي أن التطور في العالم أمر حتمي ولا مناص من حصوله. وقد ظهر فساد ذلك في كلياته وجزئياته. فالتناقض ليس حتمياً في كل شيء، فهناك أشياء لا يحصل فيها تناقض كالمعادن وهناك حوادث لا يحصل فيها تناقض كالبيع بالتراضي، فعلى فرض صحة باقي النقاط يثبت بهذا وحده أن التطور في العالم ليس أمراً حتمياً. وأيضاً فإن انتقال الأشياء إلى أحس وإلى أشياء أخرى غير الأولى ليس حتمياً في كل شيء، فهناك أشياء تنتقل إلى أسوأ كالشباب حين ينتقل إلى الهرم، وهناك أشياء تبقى كما هي فلا ينقلها التغير إلى أشياء أخرى غير الأولى، وبذلك لا يحصل التطور، وبهذا يثبت أن التطور في العالم ليس أمراً حتمياً. وأيضاً فإن تغير الأشياء لا يلزم فيه وجود شيء يولد وشيء يموت لأنه ليس خاصية من خاصيات التغير. وما دام لا يوجد نشوء واضمحلال أو حياة وموت، أو ولادة وفناء فإنه لا يوجد فيه تناقضات فلا يوجد فيه نضال المتضادات أي لا يوجد فيه تطور لأن التطور هو نضال المتضادات، وبهذا يثبت أن التطور في العالم ليس أمراً حتمياً. وأيضاً فإن العالم لا يرتبط فيه كل شيء بالآخر بحيث تتأثر الأشياء ببعضها، فالمشاهد أن سكان الأرض لا يتأثرون بالمريخ وأن أهل سبيريا لا يتأثرون بأهل البرازيل، فلو فرضنا وحصل نضال المتضادات في أشياء أو في أجزاء من العالم فإنه ليس حتمياً أن يحصل في أشياء أخرى أو في أجزاء أخرى من العالم، وبهذا يثبت أن التطور بالمعنى الذي يريدونه وهو الانتقال إلى حال أحسن وإلى حال غير الأولى ليس حصوله في العالم أمراً حتمياً، وبذلك يبرز فساد رأيهم في الطبيعة.
9
غير أن الشيوعيين لا يكتفون بإعطاء آرائهم في الطبيعة وبإعطاء نظريتهم في حتمية التطور في العالم، وإنما هم يخضعون دراسة الحياة في المجتمع ودراسة تاريخ المجتمع لهذه الآراء، أي لأفكار الطريقة الديالكتيكية. فيقولون إذا صح أن ليس في العالم حوادث منعزلة، وإذا صح أن كل الحوادث مرتبطة فيما بينها ويكيف بعضها البعض الآخر بصورة متبادلة فمن الواضح أن كل نظام اجتماعي، وكل حركة اجتماعية في التاريخ، لا ينبغي الحكم عليهما من ناحية العدالة الأبدية، أو من ناحية أية فكرة أخرى مقررة سلفاً كما يفعل المؤرخون على الغالب، بل ينبغي لنا أن نبني حكمنا على أساس الظروف التي ولدت هذا النظام وهذه الحركة الاجتماعية المرتبطين بها.
إن المطالبة بإقامة الجمهورية البرجوازية في ظروف القيصرية والمجتمع البرجوازي مثلاً في روسيا عام 1905 كانت شيئاً مفهوماً وصحيحاً وثورياً تماماً، لأن الجمهورية البرجوازية كانت تعني إذ ذاك خطوة إلى الأمام، ولكن المطالبة بإقامة الجمهورية الديمقراطية البرجوازية في ظروف الاتحاد السوفياتي الحاضرة تكون خرقاً وشيئاً رجعياً مضاداً للثورة، لأن الجمهورية البرجوازية هي خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى الجمهورية السوفياتية، كل شيء يتعلق بالظروف، بالمكان والزمان، وعلى هذا المنوال يجري تطبيقهم للنقطة الأولى.
هذه خلاصة رأيهم في تطبيق النقطة الأولى، وهي أن الطبيعة كل لا يتجزأ على دراسة الحياة في المجتمع، أي في إخضاعهم دراسة الحياة في المجتمع ودراسة تاريخ المجتمع للنقطة الأولى من رأيهم في الطبيعة. وهذا الرأي خطأ محض. فإن المشاهد أن كل شيء في العالم له أمور خاصة به تميزه عن غيره وقوانين خاصة به تختلف عن قوانين غيره. فالأرض متميزة عن الزهرة ومنفردة وغير مرتبطة ارتباطاً حتمياً في قوانينها الخاصة، والحديد متميز عن الزئبق وغير مرتبط به ارتباطا حتمياً في قوانينه الخاصة مع أن كلاً منهما معدن، والإنسان متميز عن الحيوان وغير مرتبط به ارتباطاً حتمياً في قوانينه الخاصة مع أن كلاً منهما حيوان.. وهكذا. فالارتباط الحتمي في كل شيء بين أجزاء الكون وما يحويه غير موجود بل الموجود هو الارتباط العام فقط. ثم أن الإنسان بالذات من حيث اختياره المحض لطريقة حياته ولأسلوب عيشه، ولسيره حسب القانون الذي يختار منفرد عن كل شيء في الكون، وغير مرتبط من هذه الناحية بشيء مطلقاً، بل في مقدوره أن ينفصل أفراد منه عن أفراد آخرين منه في طريقة الحياة وأسلوب العيش. فالارتباط في طريقة الحياة بين الإنسان والطبيعة غير موجود. وعليه فإن كل نظام اجتماعي وكل حركة اجتماعية لم تولدها ظروف حتمية وإنما ولدتها أفكار تتعلق بالحياة، فوضع هذا النظام، وقامت هذه الحركة، فإذا غيرت هذه الأفكار تغير النظام.. وهكذا. وبلاد مثل البلاد الإسلامية كانت تحكم بالإسلام وتتبع نظام الخلافة في الحكم فاستولى عليها النصارى الرأسماليون ووضعوا فيها الأفكار الرأسمالية وطبقوا النظام الرأسمالي، فإذا غيرت أفكار الناس ووضعت لديهم الأفكار الإسلامية رجعوا لنظام الإسلام واتبعوا نظام الخلافة. فهذا ليس خرقاً وبدعة مضادة للطبيعة وإنما هو المنسجم مع الواقع في أن كل أمة إنما تسير في الحياة حسب ما لديها من أفكار، وأوروبا الشرقية في الوقت الذي يتزحزح عنها كابوس الحكم الاشتراكي الماركسي ترجع لأفكار الرأسمالية وتتبع نظام الحريات، وهذا ليس خرقاً للطبيعة وإنما هو المنسجم مع الواقع في أن كل شعب إنما يسير في الحياة حسب ما لديه من أفكار، وحتى روسيا الآن التي تسير على الاشتراكية الماركسية تخشى من أن ترجع إليها أفكار الرأسمالية فتقاوم الفكر بالحديد والنار، لأنها تثق أنه إذا أصبحت الأفكار الرأسمالية في روسيا هي الطاغية فلا شك أن النظام الاشتراكي الماركسي سينسف،وسيحل محله النظام الرأسمالي. وعليه فإن كون الأشياء والقوانين في الكون بوصفة كلاً وفي كل جزء من أجزاء الكون تعتبر كلاً متماسك الأجزاء لا يعني أن الجزء ليست له قوانين إلا القوانين الكلية، أو ليست له حركة إلا الحركة الكلية، فإن المشاهد أن له قوانين خاصة به، وله حركات خاصة به، وبهذه القوانين الخاصة، وبتلك الحركات الخاصة، هو متميز عن شيء آخر، وغير مرتبط به رغم أنهما مرتبطان بكلية الكون وقوانينه. وأن الإنسان يتميز عن جميع أجزاء الكون بأن له قوانين خاصة به، وحركات خاصة به، وأنه يسيطر على الأشياء والحوادث في دائرة واسعة، ويختار القوانين التي يريدها، ويقوم بالحركات التي يريدها، وإن كان يخضع للقوانين الخاصة به كدقات القلب، وللقوانين العامة للوجود المدرك المحسوس، فهو إذن لا يكيف سلوكه بكل شيء في الكون، ولا يتكيف سير غيره كالمريخ مثلاً به، فالادعاء بأن كل الحوادث مرتبطة فيما بينها ويكيف بعضها البعض الآخر بصورة متقابلة ادعاء باطل، وبالتالي الادعاء بأن الإنسان يسير في عيشه سيراً جبرياً ادعاء باطل، واعتبار اختياره للنظام الذي يريده خرقاً وبدعة مضادة للطبيعة كلام كاذب مخالف للواقع، فالإنسان منفرد عن باقي الأشياء والحوادث الموجودة في العالم، في دائرته التي هو مختار فيها يختار من النظام ما يريد.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن المطالبة بإقامة الجمهورية الديمقراطية في روسيا في ظروف القيصرية سنة 1905 لا يعتبر تقدماً وخطوة إلى الأمام لأنه منسجم مع ظروف القيصرية الآخذة بالانحلال، بل يكون تقدماً إذا كان نظام الجمهورية الديمقراطية خيراً من نظام القيصرية لا للظروف والحوادث والطبيعة. فكون المطالبة بالنظام تقدماً وتأخراً راجع للنظام نفسه المطالب به لا للظروف والحوادث والطبيعة، وكذلك فإن المطالبة بإقامة الجمهورية الديمقراطية في ظروف الاتحاد السوفياتي الحاضرة لا يكون خرقاً وشيئاً رجعياً مضاداً للثورة وخطوة إلى الوراء، لأنه غير منسجم مع ظروف الاتحاد السوفياتي الآخذة بالتقدم ولأنه مضاد لها، بل يكون رجعياً إذا كان نظام الجمهورية الديمقراطية يؤخر تقدم الأمة أو يحول بينها وبين التقدم، لا للظروف التي عليها الاتحاد السوفياتي. والدليل على ذلك أن ألمانيا الشرقية حين حكمت بالنظام القائم فيها الآن رجعت إلى الوراء، وتعاظم شقاء الناس في ظله فأخذوا يفرون منه زرافات ووحداناً. وأن بلغاريا تشعر أنه إذا حكمت بالجمهورية الديمقراطية تقدمت إلى الأمام مع أن النظام الذي فيها أقامه الاتحاد السوفياتي، مما يدل بشكل واضح أن كون النظام تقدمياً أو رجعياً ليس راجعاً للظروف والحوادث والطبيعة وإنما هو راجع لنفس النظام، فإن كان يأخذ بيد الأمة في مدارج الارتفاع الفكري والتقدم المادي فهو نظام تقدمي، وإن كان يؤخر الأمة عن النهوض الفكري أو التقدم المادي، أو يعوقها عن النهوض والتقدم فهو رجعي بغض النظر عن الظروف والحوادث والطبيعة.
وبهذا يظهر بوضوح خطأ تطبيق النقطة الأولى من رأيهم في الطبيعة على دراسة الحياة في المجتمع. والخطأ آت من جهتين:
إحداهما أنهم قالوا إن الطبيعة كل لا يتجزأ، وهذا يعني أن الإنسان مرتبط بما حوله من جبال وأنهار وكواكب ارتباطاً يجعلها تكيفه وتكيف سلوكه، والواقع يكذب ذلك، فإن ما حول الإنسان ليس هو الذي يكيف سلوكه، بل الذي يكيف سلوك الإنسان هو ما لديه من مفاهيم، وبهذا يظهر عدم ارتباط الأشياء فيما بينها ارتباطاً يكيف بعضها البعض بصورة متقابلة. أما الجهة الثانية الآتي منها الخطأ فهي أنهم طبقوا كون الطبيعة كلاً على حياة المجتمع فخرجوا بنتيجة هي أن الظروف هي التي تولد النظام. ويحكم على النظام على أساس الظروف التي ولدته فتكون حياة المجتمع مسيرة بالظروف وتسييرها إنما هو نتيجة للظروف، والواقع يكذب ذلك أيضاً، فإن حياة المجتمع هي تسيير العلاقات فيما بين الناس، والذي يسير هذه العلاقات فيما بينهم إنما هو المفاهيم التي يحملونها. فلو فرضنا جدلاً أن الإنسان مرتبط بالشمس والجبل والنهر وغير ذلك من الأشياء في العالم، ولكن تطبيق هذا الارتباط على العلاقات الجارية بين الناس لا يتأتى، لأن الأشياء التي في العالم لا علاقة لها بتسيير العلاقات، بل الذي يسير العلاقات هو المصالح التي يندفعون لقضائها والأشياء الأخرى ليست محل بحث ولا موضع لها وهي هنا قضية ليست ذات موضوع، فيكون لا وجود لها بتسيير العلاقات، ولذلك لا ينطبق الارتباط الموجود بين أشياء الطبيعة على العلاقات الجارية بين الناس ولا يتأتى فيه التطبيق. وبهذا يظهر أيضاً أن الحوادث لا يكيف بعضها بعضاً بصورة متقابلة نتيجة لارتباطها فيما بينها، فيظهر خطأ إخضاع الحياة في المجتمع للارتباط الحاصل بين الحوادث وبين الأشياء على فرض وجود هذا الارتباط.
وأما قولهم إن كل شيء يتعلق بالظروف، بالمكان والزمان، واعتبار المطالبة بنظام معين تقدمية في ظروف ورجعية في ظروف أخرى فإن مثالاً واحداً يجري الحديث عنه اليوم في أوروبا كافٍ لبيان فساد رأي الشيوعيين، ألا وهو نظام السوق الحرة ونظام السوق المشتركة المطبقين اليوم في أوروبا، فإنجلترا والسويد والنرويج والنمسا والدانمارك وسويسرا والبرتغال تسير حسب نظام مخصوص فيما بينها اسمه السوق الحرة، وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولنده وبلجيكا ولوكسمبورغ تسير حسب نظام مخصوص فيما بينها اسمه السوق المشتركة، وجميع الظروف في هذه الدول من حيث المكان والزمان واحدة، ومع ذلك ارتبطت كل واحدة من المجموعتين بنظام غير النظام الذي ارتبطت به المجموعة الأخرى، ولم تكن المطالبة بأي النظامين رجعية ولا تقدمية، ولكن ظهر بعد التطبيق أن نظام السوق المشتركة قد تقدمت به الدول الست التي تسير عليه تقدماً مادياً بشكل ملحوظ لفت نظر العالم، فهل هذا يسمى نظاماً تقدمياً للظروف، للمكان والزمان، أم تقدمياً للأفكار التي يتضمنها النظام؟ ثم إن الدول السبع التي تسير حسب نظام السوق الحرة تحاول دخول السوق المشتركة وترك نظام السوق الحرة، فهل يعتبر عدم تقدمها المادي في نظام السوق الحرة رجعية لأنه خطوة إلى الوراء بالنسبة لظروف هذه الدول، أم أنه ظهر لها عدم نجاحه فأرادت تغييره؟ أليس هذا برهاناً محسوساً بأن الظروف لا شأن لها بالنظام ولا بجعله تقدمياً إذا انسجم مع الظروف ورجعياً إذا كان خرقاً وبدعة مضادة للطبيعة، وإنما الذي يجعل النظام صالحاً أو فاسداً الأفكار التي يتكون منها النظام؟
10
هذا من حيث التطبيق النقطة الأولى. أما من حيث تطبيق النقطة الثانية فإنهم يقولون إذا صح أن العالم يتحرك ويتطور دائماً وأبداً، إذا صح أن اختفاء القديم ونشوء الجديد هما قانون للتطور أصبح من الواضح أن ليست هناك أنظمة اجتماعية ثابتة غير قابلة للتغيير، ولا مباديء أبدية للملكية الخاصة والاستثمار، وليس هناك أفكار أبدية عن خضوع الفلاحين لكبار ملاكي الأرض والعمال للرأسماليين، وبالتالي يمكن أن يحل النظام الاشتراكي محل النظام الرأسمالي، كما حل النظام الرأسمالي في حينه محل النظام الإقطاعي.
إن هذا الرأي بني على رأيهم في الطبيعة من حيث أنها تتغير ومن حيث أن هناك أشياء تنشأ وأشياء تضمحل، فتكون الأنظمة كذلك تتغير، أي أنه لا بد أن يحصل تغير في الأنظمة، وأن هناك أنظمة توجد وأنظمة تختفي. وهذا خطأ محض، فإنه صحيح أن العالم يتغير ولكن ذلك لا يعني أن الأنظمة تتغير حتماً ما دام العالم يتغير، إذ يجوز أن تتغير الأنظمة ويجوز أن لا تتغير، فهي غير مرتبطة بتغير العالم من جهة، ولا ينطبق عليها ما ينطبق على الطبيعة وعلى أشياء الطبيعة من جهة ثانية. فإن تغير الأشياء في العالم قد يحدث من جراء عوامل معينة كتغير التراب بتحجره، وهذا لا ترتبط به كيفية التراب ولا شراء الحجر. فالأنظمة غير مرتبطة بتغير الأشياء، ثم أن العوامل التي أدت إلى تغيير الأشياء لا تنطبق على الأنظمة في المجتمع كما أن العوامل التي تؤدي إلى تغيير الأنظمة في المجتمع لا تنطبق على الأشياء. فربط تغير الأنظمة بتغير العالم لا وجه له للتباين الواضح بينهما، ولذلك كان القول بحتمية تغير الأنظمة لأن التغير في العالم أمر حتمي قول خاطيء. نعم إن الأنظمة يجوز أن تتغير سواء تغيرت الأشياء أم بقيت كما هي، فجواز تغير الأنظمة ليس هو الخطأ، بل الخطأ هو جعل تغير الأنظمة أمراً حتمياً، وأنها تتغير لأن العالم يتغير. هذان الأمران هما الخطأ، لأنه لا علاقة مطلقاً بين تغير العالم وبين الأنظمة.
ثم أن موضوع كون الأنظمة ثابتة أو متغيرة غير وارد، وليس التغير والثبات محل بحث في الأنظمة. لأن الأنظمة هي معالجات للحوادث والأشياء، فالنظرة إليها ليست نظرة ثبات أو تغير، وإنما نظرة صلاح وعدم صلاح. فنظام إباحة الملكية نظام قديم، ونظام إلغاء الملكية نظام جديد، فلا يقال إن اختفاء القديم ونشوء الجديد هما قانون للتطور. فنظام إباحة الملكية لأنه قديم يجب أن يختفي وأن ينشأ على أنقاضه نظام إلغاء الملكية، ولا يقال ذلك لأن الواقع أن نظام إباحة الملكية باق ولم يتغير، ونظام إلغاء الملكية وجد لوجود أفكار جديدة تقول به وليس لأن القديم اختفى ونشأ نظام جديد. ونظام الحروب نظام قديم ونظام السلم ونزع الأسلحة نظام جديد. فلا يقال أن نظام الحروب لأنه قديم يجب أن يختفي وأن ينشأ نظام السلم ونزع الأسلحة، لا يقال ذلك لأن الواقع أن نظام الحروب موجود وهو الذي له واقع، وأن نظام السلم ونزع الأسلحة لا يزال مجرد أفكار ونظريات. ونظام عدم معاقبة الرسل أي ما يسمى بالحصانة الديبلوماسية قديم. ولم يأت نظام خلافه، فلا يقال أنه قديم ويجب أن يختفي ويأتي نظام جديد، لأن الواقع أنه موجود ولم يوجد خلافه بعد. وعليه فإن النظرة إلى الأنظمة ليست نظرة ثبات وتغير فإن هذا لا يرد مطلقاً بل النظرة نظرة صلاح وعدم صلاح، فلا يصح أن تبحث الأنظمة على أساس الثبات والتغير بل يجب أن يكون بحثها على أساس الصلاح وعدم الصلاح ليس غير. فالنظام من حيث هو ليس كالرغيف تعفن ولا كالعجين صار خبزاً فتغير، وليس كالطفل صار شاباً ولا كالشاب صار هرماً، وإنما هو معالجات لوقائع فلا ينطبق عليه ما ينطبق على العالم من حتمية التغير وعدم الثبات، وليس هو مربوطاً بالعالم، ولذلك لا يقال أنه لا توجد هناك أنظمة ثابتة لأن العالم غير ثابت بل متغير، ولا يقال أنه لا توجد هناك أفكار ثابتة دائمية لا تتغير لأن العالم غير ثابت بل يتغير، إذ التغير والثبات ليس محل بحث في الأنظمة وهو محل بحث في العالم، وما ينطبق على العالم من التغير لا ينطبق على الأنظمة، والأنظمة غير مربوطة بالعالم حتى يكون تغيره مؤدياً بشكل حتمي إلى تغيرها. فهذه الثلاث تنقض هذا القول وتكذبه. وأكبر دليل على ذلك واقع الأنظمة وواقع الأفكار. فهناك أنظمة لم تتغير بعد رغم قدمها كنظام عدم معاقبة الرسل أو ما يسمى بالحصانة الديبلوماسية، وكنظام التسلح، وكنظام التجسس على الأعداء. وهناك أفكار لم تتغير بعد رغم قدمها، كفكر أن الشمس مضيئة، وأن الواحد والواحد يساوي اثنين، وأن الإنسان لا يعيش بدون غذاء. فلو كان التغير في الأنظمة والأفكار حتمياً لما بقي نظام واحد ولا فكر واحد لم يتغير لأنه لا يوجد في العالم شيء لا يتغير، ولو كانت الأنظمة مربوطة بالعالم لاستحال أن يوجد نظام واحد أو فكر واحد لم يتغير لأنه لا يوجد في العالم شيء لم يتغير، ولكن الواقع أنه توجد بعض الأنظمة لم تتغير وتوجد بعض الأفكار لم تتغير فدل ذلك على أن القول بحتمية التغير في الأنظمة والأفكار قول خاطيء، وعلى أن القول بأن الأنظمة والأفكار مربوطة بالعالم من حيث الثبات والتغير قول خاطيء أيضاً.
صحيح أن هناك أنظمة كثيرة قد تغيرت، وهناك أفكار عديدة قد تغيرت، فنظام جعل الحكم حقاً إلهياً مقدساً للملك ولورثته من بعده قد تغير وحل محله نظام جعل الحكم للأمة تختار من تشاء ليكون حاكماً لها، ونظام الإمبراطوريات بإعطاء امتيازات لمركز الإمبراطورية على سائر المقاطعات قد تغير وحل محله نظام المساواة بين سائر المقاطعات في الحقوق والواجبات، ونظام التمييز العنصري بتفضيل عنصر على عنصر لأنه أبيض أو لأنه من شعب معين قد تغير وحل محله نظام عدم التمييز بين عنصر وعنصر، ولكن هذا التغير لم يكن لأن العالم يتغير، وإنما حصل التغير لأنه ظهر فساد هذه الأنظمة والأفكار وعدم صلاحها لمعالجة مشاكل الإنسان فتغيرت ووضع مكانها ما يظن أنه علاج صالح لهذه المشاكل. فتغيرها لم يكن لأن التغير في الأنظمة أمر حتمي ولم يكن لأنها مربوطة بالعالم والعالم يتغير فتغيرت، بل كان تغيرها لأن الناس رأوها غير صالحة لمعالجة مشاكلهم فغيروها، فلا يتخذ وجود التغير في الأنظمة والأفكار دليلاً على أن التغير فيها أمر حتمي ولا على ارتباطها بالعالم من حيث تغيره.
وقد يحصل تغير الأنظمة لتغير الوقائع، فيكون النظام موضوعاً لواقع معين، فيتغير هذا الواقع ويوجد مكانه واقع جديد فيصبح النظام غير صالح لهذا الواقع الجديد، ولذلك يحتاج إلى نظام آخر غير النظام الأول، فتغير النظام لتغير الواقع. وهذا قد يحصل في أحكام جزئية وقد يحصل في أنظمة عامة. فمثلاً عصير العنب واقع معين، يعالج بحكم معين وهو إباحة شربه وبيعة وحمله، فيتخمر هذا العصير ويصبح خمراً، وبذلك يتغير الواقع فيحتاج إلى نظام آخر غير الأول فيعالج بحكم آخر غير الأول وهو تحريم شربه وبيعه وحمله. فالحكم قد تغير لتغير الواقع. ومثلاً حين تكون حالة الحرب الفعلية قائمة بين أمتين يكون هناك واقع معين للعلاقات بينهما ويكون لهذا الواقع نظام معين وهو إباحة دماء وأموال وأراضي العدو المحارب، فتعقد بين الأمتين معاهدة صلح وحسن جوار وأمان عام، وبذلك يتغير الواقع للعلاقات بينهما فيحتاج إلى نظام آخر غير الأول وهو احترام المعاهدة، وعدم التعرض لهم ولا لأموالهم ولا لأراضيهم، فالحكم قد تغير لتغير الواقع. ولكن هذا التغير لم يحصل لأن التغير حتمي في الأنظمة، ولا لأن العالم يتغير، بل لأن الواقع الذي يعالجه النظام قد تغير، وهذا الواقع ليس هو العالم، ولا لأنه شيء يتغير، بل لأن النظام وضع له، فلما لم يعد موجوداً لم يعد هناك مكان للنظام الذي يعالجه.
على أن تغيير الأنظمة إذا تغيرت الوقائع، وتغييرها إذا ظهر فسادها إنما يكون بحسب الأفكار التي يحملها الإنسان الذي يغير هذه الأنظمة. فإذا كانت الأفكار ترى أن الواقع الجديد لم يعد النظام القديم صالحاً له يحصل تغيير النظام، وإذا كانت هذه الأفكار لا ترى ذلك وترى أن النظام القديم لا يزال صالحاً للواقع الجديد لا يحصل التغيير. فمثلاً عصير العنب لا يرى بعض الناس أن تغير واقعه وكونه أصبح خمراً يحتاج إلى نظام جديد غير الأول ولذلك يبقي له نظامه الأول، فتبقى إباحة شربه وبيعه وحمله، في حين أن بعض الناس يرى أن تغير واقعه يجعل النظام الأول غير صالح له فلا بد من نظام جديد يصلح لمعالجته. ومثلاً استعمار الشعوب الضعيفة، يرى أكثر العالم أنه نظام فاسد، وهناك رأي عام عالمي ضده، وترى الدول الرأسمالية أنه نظام صالح، ولذلك تتمسك به، وبالرغم من الضغط العالمي لم تر تغييره ولم تغيره مختارة، وإنما استبدلت اسلوبه، فبعد أن كان عن طريق الجيوش والقتال صار عن طريق القروض والمساعدات. فالنظام الاستعماري لم يتغير رغم ظهور فساده، ورغم الضغط العالمي فما لم تنزع الأفكار الرأسمالية من رؤوس الدول الرأسمالية لا يمكن أن يتغير نظام الاستعمار ما دامت توجد لدى الدول الرأسمالية قدرة على القيام به. فالتغير في الأنظمة فوق أنه لا يكون حتمياً ولا يجري لأن العالم يتغير فإنه حتى في الوقائع التي يجري بحسبها تغيير الأنظمة وهي ظهور فسادها، أو تغير الواقع الذي تطبق عليه، لا يوجد إلا إذا وجدت الأفكار التي تقتضي تغيير النظام لدى الإنسان الذي يغيره.
والناظر في الوقائع منذ أن وجد الإنسان يرى أن الإنسان حين يأخذ نظاماً غير نظامه الأول لا يجري في تغييره حسب تغير الكون أو حسب تغير الأشياء والحوادث، وإنما يجري تغييره بتغير الأفكار التي يحملها والمشاعر المتيقظة لديه، كما جرى تغيير الوثنية ووضع الإسلام مكانها، وكما جرى تغيير الرأسمالية في روسيا ووضع الاشتراكية مكانها. أما تغيير الأشياء والوقائع التي تجري فإنما يتطلب معالجة جديدة للأشياء والوقائع الحادثة، ولا يتطلب تغيير النظام، لأن النظام هو مجموعة معالجات قد يستند إلى فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة كما هي حال المباديء الثلاثة: الإسلام والرأسمالية والاشتراكية الماركسية، وقد لا يستند إلى فكرة كلية ولكنه في مجموعة مترابط، يعطي وجهة نظر خاصة وطريقة خاصة كاليابان. فتغير الأشياء والحوادث لا يغيره وإنما يتطلب معالجات لهذه الأشياء والحوادث، ويظل الشعب متمسكاً بالنظام الذي يعيش عليه. والنظام عادة يكون خطوطاً عريضة، والحوادث تتجدد والأشياء تتغير، وتغيرها لا يعني تغير الخطوط العريضة وإنما يعني وضع معالجات للحوادث والأشياء الجديدة من تلك الخطوط العريضة، وإذا لم يوجد فيها قابلية أخذ المعالجات الجديدة كما هي الحال في النظام الرأسمالي وفي الفقه الغربي، فإنهم يضعون لها معالجات جديدة، ويحاولون تأويل الخطوط العريضة لتنسجم معها المعالجات الجديدة، فتصبح بعد هذه التأويلات والتفسيرات جزءاً من النظام.. وهكذا. ولا يحصل التغير في النظام إلا إذا تغيرت الأفكار وليس الحوادث والأشياء. فالأفكار التي يحملها الإنسان، والمشاعر المتيقظة لديه، هي التي ترى تغيير النظام مع بقاء الوقائع كما هي، وهي التي ترى وضع معالجات من هذا النظام للوقائع المتجددة والأشياء المتجددة وهي التي ترى تغيير المعالجات لتغير الوقائع والأشياء. فكان التغيير كله سواء في الأنظمة من حيث هي، أم في وضع معالجات من تلك الأنظمة للوقائع والأشياء المتجددة، أم في تغيير المعالجات لتغير الوقائع إنما هو من الأفكار والمشاعر ليس غير، ولا دخل لتغير العالم في شيء منها ولا لتغير الوقائع والأشياء في تغييرها وعدم تغييرها. ومن هنا لا توجد حتمية التغير في النظام ليحل محله نظام آخر بناء على تغير العالم أو تغير الحوادث والأشياء، وإنما القضية في الأنظمة هي قضية الأفكار التي يحملها الناس، والمشاعر المتيقظة لديهم، فإذا تغيرت يتغير النظام وإذا لم تتغير لا يتغير ويبقى أبدياً ما دام الناس يحملون أفكاره ومشاعره. وعلى ذلك لا ضرورة لأن يحل النظام الاشتراكي محل النظام الرأسمالي، ولا النظام الرأسمالي محل الاشتراكي، بل يحل نظام محل نظام في حالتين فقط. إحداهما إذا تغيرت الأفكار والمشاعر، والثانية إذا جاءت قوة أقوى من قوى الأمة مادياً وفكرياً وفرضت عليها نظامها فحينئذ يتغير النظام، وما عداهما لا يحصل تغيير في النظام مطلقاً.
وعليه كان من الخطأ القول بأن الأنظمة تتغير لأن العالم يتغير، وكان من الخطأ القول بأن تغير الأنظمة أمر حتمي، وكان من الخطأ القول أن الأنظمة الثابتة غير موجودة، وكان من الخطأ القول بأن النظام الاشتراكي يحل محل النظام الرأسمالي. وبذلك يظهر خطأ النقطة الثانية.
وهنا قد يقال إن حتمية التغير في الأنظمة هي حتمية اجتماعية، وليست قدرية طبيعية، والحتمية الاجتماعية هي حتمية تحصل بالقوة أي بالفعل، بفعل فاعل، وليست آلية، فهي في دور الكمون ولا بد من تدخل الإنسان، بمعنى أن التغير في النظام يكون كامناً فيه ولكنه لا يتحول من نفسه آلياً بل لا بد من تدخل الإنسان، أي لا بد من القيام بأعمال ليحصل هذا التغير، وعلى ذلك فإن عدم حصول التغير في نظام في بعض الحالات لا يتعارض مع النظرية، فالنظرية لا تقول بالتغير الآلي وإنما تقول بالتغير بفعل فاعل ولكن كونه يصبح قابلاً للتغير هو الأمر الحتمي. والجواب على هذا هو أن الشيوعيين يقولون إن اختفاء القديم ونشوء الجديد هما قانون للتطور فيكون تغير النظام القديم ومجيء نظام جديد كذلك هما قانون التطور في الأنظمة. أما القول بأن ذلك إنما يكون كامناً فيه وليس متحولاً بالفعل، وأنه حتى يتحول بالفعل لا بد من تدخل الإنسان فهو تفسير لحتمية التطور التي يقولون بها، أي أنهم يفسرون حتمية التطور بأنها تجعل في النظام قابلية للتحول وليس تحولاً واقعاً بالفعل، وأيضاً مع هذا التفسير تكون النظرية خطأ. أما بالنسبة لكون التغير يكون كامناً في النظام، أي يتحول النظام من حالة معينة إلى حالة فيها قابلية التغير، فإن المشاهد أن هناك عدة أنظمة لا تزال من قديم الزمن حتى الآن كما هي، فنظام الحرب ونظام الرسل أي السفراء بين الدول ثابت أنهما قديمان وأنهما باقيان، فلو كان التغير يحصل حتماً بتحوله إلى وجود قابلية فيه لحصل في هذين النظامين، وبما أنه لم يحصل فيهما فتكون حتمية التغير في كونه يكون كامناً فيه غير صحيحة، لأنه أي كون التغير كامناً فيه لا يلزم أن يوجد في كل نظام، فهناك بعض الأنظمة لا يكمن فيها التغير أي لم يحصل فيها قابلية التغير. فلو كانت الحتمية الاجتماعية أي وجود النظام في دور الكمون للتغير لا بد من حصولها لأن اختفاء القديم ونشوء الجديد حتمي لكان نظام الحروب ونظام السفراء قد آن له أن يصل إلى دور الكمون للتغير بناء على الحتمية الاجتماعية التي يقولون بها، وبما أنه لم يوجد فيها هذا الكمون بعد أن لم يكن، لا في نظام الحروب، ولا في نظام السفراء، فتكون الحتمية الاجتماعية لم تحصل.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن النظام هو إما أفكار تعالج مشاكل، وإما أفكار تبين الطريقة لتطبيق هذه الأفكار التي تعالج المشاكل، وكل منها فيه قابلية التغير في كل وقت بواسطة تدخل الإنسان، فليس النظام شيء يصل إلى حالة يحصل فيها كمون للتغير كما يحصل في الماء حين تزاد حرارته أو تنقص لدرجة معينة. فالنظام من أساسه فيه قابلية التغير بتدخل الإنسان وليس عند وصوله إلى حالة من الحالات. فالاشتراكية التي تطبق في روسيا الآن فيها قابلية للتغير إذا حملوا أفكار الإسلام فإنهم قطعاً سيغرونها ويضعون الإسلام بدلها، والرأسمالية التي تطبق في ألمانيا الغربية إذا استولت روسيا عليها فإنها تغيرها وتضع بدلها الاشتراكية، ففيها قابلية التغير. فكون النظام فيه قابلية التغير أمر طبيعي ولكن ذلك لم يحصل فيه حتمياً كما يحصل التغير في العالم، ولم يحصل فيه حتمياً حين يصل إلى درجة معينة كما يحصل في الماء، أي لم يكن كامناً فيه من قبل وصار كامناً فيه عندما وصل إلى حد معين، بل قابلية التغير في كل نظام آتية من حيث كونه أفكاراً تطبق على وقائع يمكن أن يأتي أي إنسان ويطبق غيرها. وبهذا يظهر أن الحتمية الاجتماعية غير موجودة في واقع الحياة ولا في واقع الأنظمة.
صحيح أن النظام إذا ظهر فساده يصبح مستدعياً للتغير، وإذا تغير الواقع الذي كان يعالجه يصبح مستدعياً للتغيير ولكن هذا ليس من قبيل ما يسمونه الحتمية الاجتماعية، أي ليس هو تغيراً في النظام من حال إلى حال صار فيها في دور الكمون للتغير، وإنما هو آت من حيث كون النظام إنما أخذ ليعالج أي ليصلح فإذا صار فاسداً ذهب المبرر لأخذه ووجد المبرر لتغييره، وآت من حيث كونه أخذ لمعالجة واقع معين، فذهب هذا الواقع فلم تكن هناك حاجة إليه. فالتغير هنا الذي صار يستدعيه وضع النظام في هذه الحالة هو صلاحية النظام لواقع معين وعدم صلاحيته وليس التطور ولا الحتمية الاجتماعية. ومن هذا يتبين أن النظام لا يتطور حتى يصل إلى دور الكمون للتغير فيحتاج إلى تدخل الإنسان حتى يفجر هذا الكمون أي يساعد حتمية التطور فيخرجها من الكمون إلى التطور بالفعل وإنما هو أفكار لمعالجة واقع معين، فإذا ظهر فساد هذه الأفكار استدعى ظهور فسادها تغييرها بأفكار صالحة أي بنظام صالح، وكذلك إذا تغير الواقع الذي تعالجه ووجد واقع غيره استدعى تغير الواقع تغيير الأفكار أي تغيير النظام والإتيان بأفكار أخرى أي نظام آخر يطبق على الواقع الجديد. وبذلك يظهر فساد القول بالحتمية الاجتماعية، وبالتالي يبطل القول بحتمية التطور. فيمكن أن يوجد نظام أبدي لا يتغير إذا ثبت أنه صالح ولم يحصل فيه فساد، ويمكن أن يوجد نظام يتغير إذا ظهر فساده. فالقول بحتمية التغير في الأنظمة قول باطل قطعاً.
11
وأما من حيث تطبيق النقطة الثالثة على المجتمع فإن الشيوعيين يقولون إذا صح أن الانتقال من التغيرات الكمية البطيئة إلى تغيرات كيفية فجائية وسريعة هو قانون للتطور، فمن الواضح أن الثورات التي تقوم بها الطبقات المضطهدة هي حادث طبيعي تماماً ولا مناص منه. وبالتالي فالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وتحرر الطبقة العاملة من النير الرأسمالي يمكن تحقيقها لا بتغييرات بسيطة بطيئة، ولا بإصلاحات، بل بتغيير كيفي للنظام الرأسمالي فقط، أي بالثورة.
وهذا الرأي خطأ، فإنهم يطبقون في هذه النقطة القياس الشمولي، إذ يطبقون ما يجري في بعض الأجسام على حركات الكون، وبالتالي على حركات المجتمع. وهذا هو القياس الشمولي. وهو أن يعطى الطفل برتقالة فيجدها حامضة فيقيس كل البرتقال عليها. فكون الماء يتحول إلى بخار في حالة وإلى جليد في حالة أخرى يقاس عليه الكون كله، وتقاس عليه المجتمعات، وهذا هو عين القياس الشمولي. ووجه الخطأ في قياس الكون والمجتمعات على تحول الماء إلى بخار أو إلى جليد هو أن الماء وإن كان جسماً وقد أثرت فيه الحرارة التي سلطت عليه فإن هذا لا يعني أن الحرارة تحول جميع الأجسام كما تحول الماء، ولا يعني أن غير الحرارة يحول الأشياء من حال إلى حال كالحرارة. وكون الماء تحول فجأة حين وصل إلى نقطة الحرج لا يعني أن المجتمع يتحول فجأة بواسطة الثورات حين يصل إلى نقطة الحرج لأن المجتمع هو أناس وعلاقات، وتحوله يحصل بتحول الأفكار، وليس بالثورات والاضطرابات، ومن الخطأ قياس طبائع الإنسان على طبائع الجمادات للاختلاف البيّن بينهما. وعلى ذلك فإنه لا ضرورة لأن ينتقل المجتمع من حال إلى حال فجأة، ولا ضرورة لأن يحصل الانتقال من جراء الاضطهاد. فالنظام الرأسمالي وجد في أوروبا وأميركا بشكل تدريجي وليس بشكل فجائي. ونظام الإسلام وجد في جزيرة العرب بشكل فجائي. واضطهاد الأوروبيين للسود في أفريقية استمر مئات السنين ولم يحصل أي انتقال من جراء الاضطهاد، بل لم تحصل ثورات ذات بال مع وجود الاضطهاد، وما شوهد في أفريقية في الأيام الأخيرة من محاولات ما يسمى بالاستقلال جاءت من جراء الأفكار من دول كبرى مثل أميركا وروسيا وليس من الناس أنفسهم، فقد أخذت كل منهما تبث في أفريقية مفاهيم الاستقلال والتحرر وتقوم بأعمال دولية ضد المستعمرين الآخرين، وعليه فإن ما حصل في الماء من التغير لا ضرورة لأن يحصل في المجتمع إذا حصلت فيه ثورات. وتطبيق ما برهنت عليه العلوم الطبيعية من تغييرات في بعض الأجسام على المجتمع الخاطيء لأنه لا يوجد أي شبه بينهما فضلاً عن أن واقع المجتمع قد دل على أن منهاج التغير فيه ـ يعني المجتمع ـ لا يجري على كيفية معينة ثابتة محتومة كما هي الحال في الجمادات حين تتغير أي تنتقل من حال إلى حال. وما دام هذا التطبيق كله خطأ فالتغير من حيث هو لا ضرورة لأن يحصل، أي ليس حتمي الحصول، لأن حصول الثورات ليس حتمياً، وكذلك حصول الانتقال على فرض حصول الثورات ليس حتمياً، فقد تحصل ثورات وقد لا تحصل، وعلى فرض حصولها قد يحصل الانتقال وقد لا يحصل، وعلى ذلك فإن ما ترتب على حتمية حصول الانتقال من النشوء والارتقاء ليس حتمي الحصول، لعدم انطباق ما يجري على الأجسام حسب العلوم الطبيعية على المجتمع.
صحيح أن وجود أفكار ومشاعر في شعب من الشعوب أو جماعة من الجماعات، وسيطرة هذه الأفكار والمشاعر عليها تجعل مجتمع ذلك الشعب أو تلك الجماعة يتحول بشكل حتمي من حال إلى حال ومن نظام إلى نظام، ولكن ذلك لا يحصل كحادث طبيعي بل هو حادث قد جرى قصد وتعمد للقيام به، فهو حادث مقصود أو مصطنع. إذ لولا بث الأفكار والمشاعر، ووصولها إلى حد جعلها مسيطرة لم يحصل التحول، فهو ليس حادثاً طبيعياً، ولم يحصل بشكل طبيعي، وإنما حصل بحركة مقصودة أي مصطنعة. والحتمية ليست في حصوله، وإنما هي في حصوله إذا حصلت سيطرة الأفكار والمشاعر على الشعب أو على الجماعة، وبث الأفكار وسيطرتها لا تحصل طبيعياً ولا حتمياً، فيكون تحول الشعب أو الجماعة من حال إلى حال، ومن نظام إلى نظام ليس طبيعياً ولا حتمياً. والشيوعيون لا يقولون أنه إذا حصلت سيطرة الأفكار والمشاعر على الشعب يحصل تحول المجتمع وإنما يقولون إن حصول الثورات التي تقوم بها الطبقات المضطهدة يجعل الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية حتمياً ولا مناص منه، ولا يقولون إذا حصلت الثورات يحصل الانتقال، وإنما يقولون حصول الثورات أمر حتمي ولا مناص منه، فيكون في نظرهم انتقال المجتمع من حال إلى حال ومن نظام إلى نظام أمراً حتمياً ولا مناص منه. وهذا هو الخطأ، لأن حصول الثورات من الطبقات المضطهدة ليس حتمياً، ولأن انتقال المجتمع من حال إلى حال ومن نظام إلى نظام على فرض حصول الثروات ليس حتمياً. فقياس المجتمع على الطبيعة والأجسام بأن تلك تتغير حتماً فالمجتمع إذن يتغير حتماً قياس خاطيء، لأن التغير في المجتمع ليس حتمياً كما هي الحال في الأجسام والطبيعة، ولأن تطبيق ما ثبت بالنسبة للجمادات على الإنسان ومجتمعه خطأ فاحش، لأنه حتى يمكن تطبيق مثل هذه القاعدة على الإنسان أو على المجتمع لا بد أن يكون هنالك قاسم مشترك بين الإنسان ومجتمعه وبين الجمادات يكون هو (يعني القاسم المشترك) موضوع القاعدة حتى يصح القياس أو التطبيق.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التغيرات التي تحصل في الكون ليست حركة تقدمية صاعدة، وانتقالاً من أدنى إلى أعلى، بل هي مجرد تغير، قد يكون صاعداً وقد يكون نازلاً. وكذلك التغيرات التي تحصل في المجتمعات ليست تغيرات صاعدة وإلى أحس، بل هي مجرد تغير، قد يكون صاعداً وقد يكون نازلاً. صحيح هو انتقال من حالة قديمة إلى حالة جديدة ولكنه ليس بضروري أن تكون هذه الحالة الجديدة صاعدة سائرة في طريق الارتقاء، وأن تكون أحسن من الحالة القديمة، بل قد تكون الحالة القديمة أحسن، وقد تكون انتقالاً إلى الوراء بدل أن تكون إلى الأمام، ومن هنا كان تطبيق نظرية داروين في النشوء والارتقاء على المجتمع فاسداً، لأن موضوع النظرية هو الناحية الفسيولوجية في أفراد الكائنات الحية، فتطبيق النظرية على المجتمع البشري هو تطبق ناحية فسيولوجية على ناحية أخرى غير فسيولوجية. فواقع المجتمع شيء والواقع الذي تتناوله النظرية شيء آخر، فتطبيق أحدهما على الآخر باطل لا شك فيه. أضف إلى ذلك أنه ليس ضرورياً أن يكون اتجاه التغير ـ يعني الانتقال من حال إلى حال ـ نحو الأحسن، فقد يكون نحو الأحسن وقد يكون نحو الأسوأ، والشيوعيون أنفسهم يقولون في بحث الماركسية في أبحاث ما يسمى بالردة، أن من الممكن قيام نظام رجعي على أنقاض نظام تقدمي. وواقع المجتمعات في العالم يرى بوضوح أن التغييرات التي تحصل في المجتمعات ليس حتمياً أن تكون انتقالاً من أدنى إلى أعلى وإلى الأمام، بل قد ينتقل إلى أعلى وقد ينتقل إلى أسفل. فالمجتمع في جزيرة العرب انتقل ببعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أعلى، ولكنه حين أسيء فيه تطبيق الإسلام رجع إلى الوراء، وحين انحسر عنه نظام الإسلام وصارت الجزيرة عدة دول انحط إلى أسفل، والمجتمع في أميركا الشمالية حين كانت تحت سلطة الاستعمار كان مجتمعاً منحطاً، وحين تحررت من الاستعمار ارتفع المجتمع، ولكنه حين ازدادت فيه العلوم أزداد ارتفاعاً، في حين أن المجتمع في أميركا اللاتينية ظل منحطاً، وظل مشغولاً بالثورات والانقلابات. والمجتمع في إيران أيام الخلافة العباسية كان في حالة ارتفاع، وحين انفصلت إيران عن جسم الدولة الإسلامية نزل إلى أسفل. وهكذا عشرات الأمثلة من واقع المجتمعات تنطق بوضوح أن التغيرات في المجتمعات لا ضرورة لأن تكون تغيرات صاعدة وإلى أحسن بل قد تكون إلى أحسن وقد تكون إلى أسوأ. وعلى ذلك فإن حركة المجتمع في انتقاله من حال إلى حال ليست حركة تقدمية صاعدة، والانتقال فيها من حال إلى حال ليس انتقالاً من التغيرات الكمية البطيئة إلى تغيرات كيفية فجائية وسريعة، بل هي مجرد انتقال من حال إلى حال قد تكون صاعدة وقد تكون نازلة. وقد يكون الانتقال من جراء الثورة كما حصل في أميركا الشمالية حين تحررت من الاستعمار، وكما حصل في روسيا حين أزالت القيصرية وجاءت بالاشتراكية، وقد يكون الانتقال من جراء زيادة العلوم والمعارف كما حصل في روسيا والولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، وقد يكون الانتقال بشكل تدريجي كما حصل في أوروبا وقد يكون بشكل فجائي كما حصل في جزيرة العرب حين اعتنقت الإسلام وحملته رسالة للعالم. وكذلك قد يكون الانتقال إلى أسفل تدريجياً كما حصل في المجتمع الإسلامي في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد يكون الانتقال إلى أسوأ فجائياً كما حصل في ألمانيا الشرقية حين احتلها الشيوعيون. وبذلك تبطل النقطة الثالثة من نقاط النظرية الديالكتيكية في الطبيعة. وإذا كان انتقال الماء من حالة الجليد إلى حالة السيولة ثم إلى الحالة الغازية يعتبر حركة تقدمية صاعدة فإن تحول بخار الماء إلى ماء ثم إلى جليد يعتبر حركة رجعية نازلة. وبما أن كلتا الحركتين تجريان حسب قوانين طبيعية كان حظ الحركة التقدمية الصاعدة في الكون ليس بأوفر من حظ الحركة الرجعية النازلة. فعلى أي أساس إذن قرروا أن اتجاه التغير في الكون إنما هو اتجاه تقدمي صاعد؟
وعلاوة على هذا فإن الأنظمة التي تطبق على الحوادث والأشياء من قبل الإنسان هي أفكار. فكونها حسنة أو سيئة ليس مرتبطاً بكونها قديمة أو جديدة بل مرتبطة بكونها صحيحة أو خطأ. فواحد زائد واحد يساوي اثنين فكر قديم، ولكن قدمه لم يجعله سيئاً. وكون الإنسان يستر عورته فكر قديم ولكن قدمه لا يجعله خطأ، وإنشاء صناديق التوفير فكر جديد، وكونه جديداً لا يجعله حسناً فإن صناديق التوفير تؤخر اقتصاد البلاد بل تضر به، ومذهب العري فكر جديد، وكونه جديداً لا يجعله حسناً، وهكذا. فلو فرضنا جدلاً أن الطبيعة تنتقل في حركتها من البسيط إلى المركب ومن الأدنى إلى الأعلى فإن ذلك لا ينطبق على المجتمع، لأن الذي يحوله من حال إلى حال هو الفكر، والفكر إنما يكون حسناً إذا كان صحيحاً وغير حسن إذا كان خطأ، وبحسب ما يوضع في المجتمع من أفكار تكون حاله من حسن أو سوء، فلا يكون فيه انتقال حتمياً إلى أحسن، وإنما يكون انتقالاً من حال إلى حال ليس غير، وقد تكون حسنة وقد تكون سيئة. وهذا أيضاً يبطل تطبيق النقطة الثالثة على المجتمع.
وعلى ذلك فإن القول أن التغيرات التي تحصل في المجتمع هي تغيرات من أدنى إلى أعلى خطأ، لأنها مجرد تغيرات، والقول أنها تغيرات فجائية كذلك خطأ لأنها قد تكون فجائية وقد تكون تدريجية. والقول أن الثورات حتمية في حالة الاضطهاد أيضاً خطأ، لأنه قد تكون قوى المضطهدين أكبر من أن تستطيع ثورة أن تقف في وجهها كما هي الحال في المجر، وقد يكون الاضطهاد شديداً وقديماً إلى درجة بعث الذل واليأس من الخلاص كما هي الحال في بعض بلدان أفريقية، وبالتالي فإن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية غير حتمي وقوعه، لأنه قد لا يحصل اضطهاد للعمال يحملهم على الثورة كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية في هذه الأيام، وقد يحصل الاضطهاد ولا يحصل على الخلاص منه كما هي الحال في إيران، فإن ما فيها من حركات لا يقوم بها الشعب وإنما يقوم بها عملاء أميركا، ولا يوجد ما يدل على أن الشعب يفكر بالقيام بثورة. ولهذا تكون النقطة الثالثة في تطبيقها على المجتمع خطأ.
12
وأما النقطة الرابعة فيقولون في تطبيقها على المجتمع إذا صح أن التطور يجري بانبثاق التناقضات الداخلية، وبالنزاع بين القوى المتضادة على أساس هذه التناقضات، وإن غاية هذا النزاع هي قهر هذه التناقضات والتغلب عليها، فمن الواضح أن نضال البروليتاريا الطبقي هو حادث طبيعي تماماً ولا مناص منه، وبالتالي لا ينبغي إخفاء تناقضات النظام الرأسمالي، بل ينبغي إبرازها وعرضها، ولا ينبغي خالق النضال الطبقي بل ينبغي القيام به إلى النهاية، ولذلك يجب أن اتباع سياسة بروليتارية طبقية حازمة لا سياسة إصلاحية تقول بالتناسق بين مصالح البروليتاريا ومصالح البرجوازية، ولا سياسة تفاهمية تقول بإدماج الرأسمالية في الاشتراكية.
وهذا الرأي مبني على رأيهم في أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات داخلية، وبتطبيق ذلك على المجتمع تكون النتيجة أن كل مجتمع من المجتمعات يحوي تناقضات داخلية. فكما أن لأشياء الطبيعة وحوادثها جميعها جانباً سلبياً وجانباً إيجابياً، ماضياً وحاضراً، وفيها جميعها عناصر تموت وعناصر تولد كذلك في كل مجتمع من المجتمعات جانب سلبي وجانب إيجابي، ماض وحاضر، وفيه عناصر تموت وعناصر تولد. وكما أن نضال هذه المتضادات في كل أشياء الطبيعة وحوادثها، أي النضال بين القديم والجديد، بين ما يموت وما يولد هو المحتوى الداخلي لحركة التطور، لأن التطور هو نضال المتضادات كذلك نضال هذه المتضادات في المجتمع هو المحتوى الداخلي لحركة التطور فيه، أي أن النضال بين المتضادات في المجتمع أمر حتمي، فوجود التناقضات فيه أمر حتمي، فتكون النتيجة أنه لا يصح أن تكون هناك إلا طريقة واحدة لتطوير المجتمع وهي إبراز هذه التناقضات والقيام بالنضال الطبقي.
وهذا كله خطأ في خطأ، فإن الادعاء أن كل أشياء الطبيعة فيها شيء يولد وشيء يموت ادعاء باطل يكذبه الواقع وهو مجرد فرض نظري. فإن في الطبيعة أشياء فيها شيء يولد وشيء يموت كنبتة الزرع، وكالشاب، وفيها أشياء فيها شيء يموت ولكن لا يوجد فيها شيء يولد، وذلك كالجمادات وكالضوء وكالجاذبية، وسائر الأشياء غير الحية، فإن الماء إذا ترك كما هو قد ينقص ولكنه لا يزيد، ولا يحصل فيه لا سالب ولا موجب، ولا تحصل فيه تناقضات، والرمل إذا ترك كما هو لا يلاحظ عليه وجود تناقضات، فلو فرضنا أن النضال موجود بين ما يولد وما يموت فإن في مثل الجمادات لا يتأتى وجود المتضادات فيه، فلا يتأتى حصول التناقضات. وبذلك يبطل القول أن كل أشياء الطبيعة وحوادثها تحوى تناقضات داخلية، وبالتالي يبطل القول بأن كل مجتمع من المجتمعات يحوى تناقضات داخلية. وأكبر دليل على ذلك المجتمع في الهند من غير المسلمين فإنه مجتمع ميت لا أثر للحيوية فيه، فهو منذ أن ذهب عنه حكم الإسلام وحكمه الإنجليز حتى اليوم مجتمع جامد ميت لم يتغير ولم يتحرك ولم يحصل أي تبدل فيه، وإذن ليس كل مجتمع يحوي تناقضات، فليس في كل مجتمع نضال المتضادات، وهذا كله وحده كاف لنقض هذه النقطة من أساسها.
على أنه لو سلمنا بوجود التناقض في كل شيء من أشياء الطبيعة فإن هذا التناقض إذا أزيل أحبط مفعول عملية التناقض، وأمكن تلافي الحتمية في نتائج عمليات التناقض، فالمغناطيس يجذب قطعة الحديد من أي طرف من أطرافها، ولكنك إذا مغطست قطعة الحديد صار لا يستطيع أن يجذبها إلا من الطرف المعاكس لطرفه هو، يعني إذا كان طرف المغناطيس المقابل لقطعة الحديد سالباً فلا يجذب قطعة الحديد إلا إذا كان طرفها المقابل للمغناطيس موجباً والعكس بالعكس. والأفعى إذا لدغت إنساناً أحبط مفعول سمومها في الدم بمادة المصل، والحوامض يزال تأثيرها الحامضي بتفاعلها مع القواعد. فحامض الكبريتيك مثلاً يتفاعل مع الخارصين ويذيبه، ولكن إذا جعلت الحامض يتفاعل مع كمية كافية من هيدروكسيد الصوديوم فإنه يتعادل ويفقد تأثيره الحامضي، ولذلك فإنك لو طرحت قطعة خارصين على حامض الكبريتيك بعد أن يتعادل مع قاعدة هيدروكسيد الصوديوم فإنها لا تذوب. وإذا أخذت ورقة عباد شمس زرقاء وغمستها في حامض احمر لونها، وإذا غمستها بعد ذلك ـ وهي حمراء ـ في محلول قاعدي عاد لونها إلى حالته الأولى ـ يعني الأزرق، وهكذا. فبالقاعدة أحبطت مفعول الحامض، وبالحامض أحبطت مفعول القاعدة. والزيت إذا وضع مع الماء لم يذب فيه لتناقض خاصية الذوبان بينهما، ولكن إذا وضعت معها مادة هيدروكسيد الصوديوم مثلاً زال التناقض بينهما وذاب الزيت في الماء. والحديد إذا تعرض للرطوبة والأكسجين تأكسد (صدئ) ولكن إذا دخل تركيب الحديد نسبة معينة من الكربون صار فولاذاً لا يصدأ ولو تعرض للرطوبة والأكسجين، يعني بالكربون أحبطت عملية التأكسد (الصدأ). والتقاء مني الذكر ببويضة الأنثى يؤدي إلى الإخصاب أي الحمل، وهذا يمكن إحباطه بإدخال مادة إلى رحم المرأة من شأنها أن تعرقل عملية الإخصاب، أو تقتل الحيوانات المنوية، وهكذا يمكن رفع التناقض بين شيئين والحصول على نتائج جديدة، وبذلك يمكن تجنب الحتمية بتوليد نتائج أخرى بواسطة عملية مختلفة، وعليه فإن وقوع التناقضات في كل شيء ليس حتمياً لأنه يمكن رفعه قبل وقوعه.
على أن قياس المجتمع على الطبيعة وتطبيق ما في الطبيعة على المجتمع عمل خاطيء، لأن أشياء الطبيعة أجسام والمجتمع علاقات بين أناس، والعوامل التي تؤثر على الأجسام غير العوامل التي تؤثر على المجتمع، فقياس المجتمع على أشياء الطبيعة قياس خاطيء لاختلاف العوامل المؤثرة في كل منهما، وبالتالي تطبيق ما يحصل في أشياء الطبيعة على المجتمع عمل خاطيء لأن ما يحصل في أشياء الطبيعة هو من تأثير الحرارة والرطوبة، وما يحصل في المجتمع هو من تأثير الأفكار والمشاعر، وواضح البون الشاسع والفارق الكبير بين الجهتين.
وأيضاً فإن ما يحصل في الطبيعة من انتقال الأشياء من أدنى إلى أعلى كانتقال الغرسة إلى شجرة والصبي إلى شاب في بقعة من البقاع لا يؤثر عليه ما يحصل لما حوله من غرسات أخرى أو صبيان آخرين في بقعة ثانية من عوامل تؤخر انتقالهم أو تعجل في انتقالهم، بخلاف المجتمع فإن ما يحصل في المجتمعات الأخرى المحيطة بمجتمع ما من انتقال من حال إلى حال يؤثر عليه. لأن الذي ينقل أشياء الطبيعة من حال إلى حال هو الغذاء والماء والهواء وما شاكل ذلك وهذه لا تؤثر إلا فيما تصيبه فقط، بخلاف المجتمع فإن الذي ينقله من حال إلى حال هو الأفكار والمشاعر، وهذه تنقل عبر المجتمعات بشكل عجيب وتخترق جميع الحواجز. فإذا وجدت أفكار في مجتمع انتقلت إلى غيره بسرعة مدهشة وبشكل عجيب فتحدث فيه تأثيراً قد يرجعه إلى الوراء وقد يدفعه إلى الأمام. فقياس المجتمع على أشياء الطبيعة وتطبيق ما يؤثر على أشياء الطبيعة على المجتمع ظاهر أنه قياس خاطيء وأنه تطبيق في غير محله. فلو فرضنا أن هناك تناقضات تحصل في أشياء الطبيعة فليس ضرورياً أن تكون هناك تناقضات في المجتمعات، أي لو فرضنا أن هناك نضالاً بين ما يولد وما يموت في جسم الغرسة أو نبتة الزرع أو الشاب فليس بضروري أن يكون هناك نضالاً بين العمال وأصحاب العمل أو بين البائعين والمشترين أو بين الفلاحين وأصحاب الأراضي أو بين الملاك والمستأجرين، لأن جسم الغرسة أو نبتة الزرع أو جسم الشاب مغاير كل المغايرة للعلاقات القائمة بين العمال وأصحاب العمل أو بين البائعين والمشترين أو بين الفلاحين وأصحاب الأراضي أو بين الملاك والمستأجرين. فلا يوجد ما يستدعي حتمية حصول التناقضات في العلاقات لمجرد أن هذه التناقضات تحصل في أشياء الطبيعة، وهذا يبطل القول أن نضال البروليتاريا الطبقي أمر حتمي.
على أنه لو سلمنا جدلاً أنه توجد في المجتمعات متضادات فإنه ليس بضروري أن يحصل نضال بين هذه المتضادات لأنه قد يحصل بينها توفيق يرفع التضاد، فلو رفضنا أن مصالح العمال مضادة لمصالح أصحاب العمل ومصالح المشترين مضادة لمصالح البائعين ومصالح الفلاحين مضادة لمصالح أصحاب الأراضي ومصالح المستأجرين مضادة لمصالح أصحاب الأملاك فإنه ليس بضروري أن يحصل نضال بين كل فئتين، أي ليس بضروري أن تحصل التناقضات في العلاقات بينهم، إذ يمكن أن توضع أنظمة تنظم هذه العلاقات تنظيماً يرفع النزاع ويوفق بين مصالحهم فلا يحصل أي نضال ولا توجد أية تناقضات، وهذا هو الوضع الذي كان قائماً في المجتمع الإسلامي خلال بضعة عشر قرناً فإنه لم تحصل فيه أية تناقضات من جراء تضاد المصالح في العلاقات القائمة بين الناس، لأن أحكام الإسلام التي تعالج العلاقات ترفع النزاع، ولذلك لم تحصل تناقضات. على أن العمال في البلدان الرأسمالية فإنهم في بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية أحسن حالاً منهم في الاتحاد السوفياتي الاشتراكي، ولا يوجد هناك نضال البروليتاريا الطبقي، فكيف يقال أن حصول نضال البروليتاريا الطبقي أمر حتمي والواقع تاريخياً وواقعياً يكذبه، بل أن واقع الحياة بين الناس ينقضه من أساسه. فإن الاتجاهات المتضادة أياً كانت إذا حصل بينها توفيق يرفع التضاد فإنه لا يحصل التناقض كإعطاء العمال فوق كفايتهم فإنه لا يحصل الاصطدام مع أصحاب العمل. فالقول بحتمية حصول التناقضات قول خاطيء لأنها ليست حتمية في المجتمع.
والشيوعيون أنفسهم يقولون ما يدل على أنه يمكن التوفيق بين المضادات فلا تحصل التناقضات. فإنهم يقولون لا يجوز اتباع سياسة إصلاحية تقول بالتناسق بين مصالح البروليتاريا ومصالح البرجوازية، ولا سياسة تفاهمية تقول بإدماج الرأسمالية في الاشتراكية. وهذا القول يعني أن هناك سياسة تناسق بين المصالح يمكن اتباعها فلا يحصل نضال المتضادات ولا تقع التناقضات، وهو اعتراف بأن حصول التناقضات في المجتمع ليس أمراً حتمياً. لأنه لو كان حتمياً لما أمكن إيجاد التناسق بين مصالح العمال ومصالح أصحاب العمل، ولكن ما دام التوفيق بين الاتجاهات المتضادة أمراً ممكناً وهو يحصل بالفعل فإنه في هذه الحال لا تحصل التناقضات وبذلك يوجد المجتمع الذي لا توجد فيه متناقضات. وبذلك يبطل القول بحتمية حصول التناقضات في المجتمع.
والمدقق في كلام الشيوعيين يصل إلى هذه النتيجة بشكل قطعي لا يحتمل التأويل، ولهذا فإنهم قد احتاطوا للحيلولة دون رفع التناقضات أي الحيلولة دون وجود المجتمع الخالي من التناقضات. فقالوا باجتناب التوفيق بين الاتجاهات المتضادة حتى لا يوجد المجتمع الذي لا توجد فيه تناقضات. ولم يكتفوا بذلك بل حضوا على إبراز التناقضات إذا وجدت فقالوا لا ينبغي إخفاء تناقضات النظام الرأسمالي، بل ينبغي إبرازها ـ وعرضها، ولا ينبغي خنق النضال الطبقي، بل ينبغي القيام به إلى النهاية. وهذا القول منهم يعني أن وجود التناقضات في المجتمع ليس أمراً حتمياً بل لا بد لإيجادها من القيام بأعمال مقصودة، فيجب الحيلولة دون إخفائها وخنقها، ويجب إبرازها وعرضها، ويجب القيام بالنضال الطبقي إلى النهاية حتى توجد التناقضات في المجتمع، ومعناه أنه إذا لم يقوموا بهذه العمليات لا توجد التناقضات في المجتمع، فيكون وجود التناقضات في المجتمع ليس أمراً حتمياً بل ولا أمراً طبيعياً بل هو عملية مصطنعة توجد من جراء القيام بأعمال معينة، وما لم يقم بهذه الأعمال لا توجد. وهذا كاف لإبطال ما يقولونه من حتمية النضال الطبقي وحتمية تصادم العمال مع الرأسماليين وحتمية اصطدام الاشتراكية مع الرأسمالية.
على أن الخلاف العقائدي القائم اليوم بين زعماء الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي وزعماء الشيوعيين في الصين الشيوعية يثبت أن حصول النضال بين الاتجاهات المتضادة ليس أمراً حتمياً، أي يبطل نظريتهم التي تقول بحتمية وجود التناقضات في المجتمع. فإن زعماء الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي يسيرون على سياسة تقول بالتناسق بين مصالح روسيا ومصالح أميركا وبالتفاهم بين روسيا وأميركا. وهذا يعني التوفيق بين الاتجاهات المتضادة وعدم حصول التناقضات في المجتمع الدولي، وزعماء الشيوعيين في الصين الشيوعية يشجبون هذه السياسة ويحاربونها ويقولون بضرورة إبراز التضاد بين مصالح المعسكر الشيوعي ومصالح المعسكر الرأسمالي لإيجاد التناقضات في المجتمع الدولي. وهذا الخلاف بينهم يعني أنهم جميعاً يسلمون أن وجود التناقضات في المجتمع الدولي يحتاج إلى القيام بأعمال واتباع سياسة توجد النضال بين المعسكرين وتمنع التوفيق بينهما، وزعماء الاتحاد السوفياتي لا يريدون إيجاد هذا النضال ويعملون لجعل المجتمع الدولي مجتمعاً ليس فيه تناقضات بمحاولتهم التوفيق بين المصالح الاشتراكية في روسيا والمصالح الرأسمالية في أميركا، وهذا يبطل القول بحتمية وجود التناقضات في المجتمع.
وأيضاً فإنه إذا كان النزاع بين البشر أمراً لا بد منه لاختلاف النزعات فإن ذلك لا يعني أن التناقضات لا بد أن تحصل في كل شيء، وأنها لا بد أن تحصل بين العمال وأصحاب العمل، أي بين الأجراء والمستأجرين، فقد تحصل وقد لا تحصل. فحصولها ليس ضرورياً وليس مما لا مناص منه، وبالتالي فإن ما يسمى بالنضال الطبقي من جراء التناقضات لا يحصل طبيعياً فضلاً عن أن يكون حصوله حتمياً. فإذا وجدت مفاهيم النضال يحصل وإذا لم توجد لا يحصل. وعليه فإن الادعاء بأن التطور يجري بانبثاق التناقضات الداخلية خطأ، لأن الذي يحصل مجرد تغير وليس تطوراً بمعنى انتقال إلى حال أحسن، ولأن هذه التناقضات ليست أمراً لازماً في كل شيء. وكذلك الادعاء بأن نضال العمال ضد أصحاب العمل أمر لا مناص منه خطأ، لأنه قد يحصل وقد لا يحصل، ولأن ما يسمى بالتناقضات ليست أمراً حتمياً في المجتمع. ولذلك كانت النقطة الرابعة من حيث تطبيقها على المجتمع خطأ مخالف للواقع.

13
وبهذا كله يظهر خطأ النقاط الأربع، وخطأ تطبيقها على المجتمع، فتماسك الطبيعة لا يعني ارتباط كل شيء فيها بالآخر ارتباطاً عاماً في كل شيء بشكل حتمي، فما يسمى بقوانين التطور غير موجود، بل الموجود هو قوانين الكون كله، والقوانين الخاصة بكل جزء من أجزاء الكون، وبكل شيء من الأشياء التي يحويها الكون كل على حدة. وهذه القوانين العامة والخاصة ليست هي قوانين التطور. ثم إن كون الحوادث والأشياء تتغير لا يعني أنها تتغير من أدنى إلى أعلى ولا يعني أن تغير الأشياء يحتم تغير الأنظمة. وكون التغير في الماء يجري من كم إلى كيف بشكل فجائي لا يعني أن التغير في المجتمع يجري بشكل فجائي، ولا يعني أن الثورات لا مناص منها. وكون النزاع بين الناس لا بد منه لاختلاف نزعاتهم لا يعني ضرورة وجود التناقضات في المجتمع. ولا يعني ضرورة وجود التناقضات بين العمال وأصحاب العمل. وعليه يكون حديث الديالكتيكية عن الطبيعة خطأ، وتطبيقه على المجتمع خطأ. فالإنسان ليس سائراً سيراً جبرياً في الحياة وفي الأنظمة التي يعيش عليها حسب ما تسيره الطبيعة، وإنما هو سائر سيراً اختيارياً محضاً يختار النظام الذي يراه، وهو يسخر ما يسمى بالطبيعة للنظام الذي يختاره لنفسه فيكيفها هو حسب ما يريد. ولا يوجد عليه أي إجبار في أفكاره وأنظمة حياته وآرائه السياسية، وأوضاعه السياسية، بل هو مختار اختياراً مطلقاً لا يوجد من يخضعه جبرياً لشيء من ذلك مطلقاً.
هذا هو واقع النظرية الديالكتيكية في الفكر وتطبيقه على المجتمع، وفي الطبيعة وتطبيقها على المجتمع، وهي كلها خطأ في خطأ، وما هي إلا فروض نظرية وقياسات شمولية، والخطورة فيها نظرتها إلى الإنسان، ونظرتها إلى المجتمع، فإنها تجعل الإنسان جزءاً من الكون كأي جزء من أجزائه بغض النظر عن الحياة التي فيه وعن الميزة التي تميزه عن الحيوان وهي العقل، فإنها في جعلها العقل عبارة عن انعكاسات الوقائع على الدماغ، وجعلها الحياة العقلية عبارة عن انعكاس الواقع الموضوعي أو انعكاس الموجود لم تجعل أي فرق بين الإنسان والحيوان، ولم تقم أي وزن لما يمتاز به دماغ الإنسان عن دماغ الحيوان من قدرته على ربط المعلومات بالواقع، وأسقطت من الحساب قدرة الإنسان ـ بربطه المعلومات بعضها ببعض ـ على إيجاد وقائع لم تكن موجودة من قبل؛ وغاب عنها أن الفروض التي تسبق النظريات والقوانين هي أفكار يشتقها الإنسان من ربط أفكار بأفكار دون أن يكون واقعها في متناول حواسه حين يستنبطها، أو قد يكون واقعها شيئاً لم يوجد بعد ولكن يراد إيجاده، أو أنه سيوجد، وهذا ولا شك إهدار لقيمة العقل في الحياة كلها وجعل القيمة كلها للواقع وليس للعقل. ثم أنها ـ أي الديالكتيكية ـ قد جعلت الإنسان إنما يسير في حياته ضمن قوانين الكون فحسب دون النظر إلى أنه له قوانين خاصة به تتعلق به وحده: بوجوده وبحياته، ولم تلتفت إلى أنه بالمشاهد المحسوس يفعل أشياء كثيرة مختاراً ويتركها مختاراً وخاصة طريقة حياته وأسلوب عيشه يختارها اختياراً مطلقاً، نعم لم تلتف لهذا وجعلته يسير ضمن قوانين الكون في كل شيء حتى في طريقة حياته وأسلوب عيشه. وهذا ولا شك فوق مخالفته للواقع المشاهد في قوانين الكون وفي قوانين الإنسان، وللواقع المشاهد في حياة الإنسان وعيشه، فإنه إلغاء لوجود الإنسان بوصفه شيئاً آخر غير الكون وغير الحياة، بل اعتبر جزءاً من الكون كأي كوكب بل كأي جزء من أجزاء الأرض كالحديد والتراب وغيرهما. مع أن الإنسان غير الكون وغير الحياة، فإنه وإن كان جسمه جزءاً من الكون، وحياته من نفس الحياة الموجودة في أي كائن حي فإنه فيما وهب من عقل ومن خاصيات انفرد بها وحده قد صار شيئاً ثالثاً في الوجود المدرك، إذ أن الوجود المدرك ليس الكون فحسب، ولا الكون والحياة فقط بل الوجود المدرك هو الكون والحياة والإنسان.
هذا بالنسبة لنظرة الديالكتيكية إلى الإنسان. أما بالنسبة لنظرتها للمجتمع فإنها في جعلها الحركة في الطبيعة نتيجة للتناقضات، نتيجة نضال المتضادات، وفي جعلها الطبيعة كلاً متماسكاً وجعلها الإنسان جزءاً منها، وفي جعلها حركة الطبيعة إنما هي حركة تطور بمعنى انتقال من أدنى إلى أعلى، قد جعلت الإنسان يسير في المجتمع سيراً جبرياً حسب سير الطبيعة ولا يملك أن يتخلف عنه، وجعلت الطبيعة هي التي تكون المجتمع للإنسان ليعيش فيه حسب ما تكونه وليس الإنسان هو الذي يوجد المجتمع الذي يريده، وجعلت حياة الإنسان هي عبارة عن نضال بين المتضادات، وأنها دائماً انتقال إلى أحسن. وهذا لا شك مخالف للواقع. فالإنسان يعيش في دائرتين: إحداهما تسيطر عليه، والأخرى يسيطر عليها. أما التي تسيطر عليه فهي الدائرة التي تنطبق فيها عليه أنظمة الوجود، فهو يسير والكون والحياة طبق نظام مخصوص لا يتخلف، ولذلك تقع الأعمال عليه في هذه الدائرة على غير إرادة منه، وهو فيها مسير وليس بمخير، فقد أتى إلى هذه الدنيا على غير إرادة منه، وسيذهب عنها على غير إرادته، وهو لا يملك أن يخرج على نظام الكون، وهذه الدائرة ليست هي المجتمع، ولا هي تكوّن المجتمع، فلا علاقة له في موضوع هذا البحث. وأما الدائرة التي يسيطر عليها فهي الدائرة التي يسير فيها مختاراً ضمن النظام الذي يختاره، وهذه الدائرة هي التي تقع فيها الأعمال التي تصدر من الإنسان أو عليه بإرادته، فهو يمشي ويأكل ويشرب ويسافر في أي وقت يشاء، ويمتنع عن ذلك في أي وقت يشاء، يفعل مختاراً ويمتنع عن العمل مختاراً والمجتمع وتكوينه، والأنظمة وتغييرها، والحياة وتسييرها، كل ذلك يقع في هذه الدائرة، فالإنسان هو الذي يسيطر على الطبيعة أي على الأشياء وقوانينها فيسخرها لنفسه، وليست الطبيعة هي المسيطرة عليه، وهو يعيش مختاراً حسب ما يريد وليس مجبراً بل يختار النظام الذي يريده، وهو الذي يوجد المجتمع وليست الطبيعة هي التي توجده له، وحياته نضال بين متضادات وانسجام بين متوافقات وليست نضالاً فقط، وقد تنتقل إلى أحسن كما حصل مع العرب حين صاروا مسلمين، وقد تنتقل إلى السيء كما حصل مع المسلمين حين تخلوا عن الإسلام في معترك الحياة. ولهذا كله كانت المادية الديالكتيكية بقسميها خطأ محضاً.
14
هذه هي المادية الديالكتيكية وهذا ما تقول به لدى تطبيقها على الحياة في المجتمع وعلى تاريخ المجتمع. أما المادية التاريخية فتعني تطبيق الأفكار الديالكتيكية على حياة المجتمع، وهم يقولون أن شروط الحياة المادية في المجتمع التي تحدد في النهاية هيئة المجتمع وأفكاره وآراءه وأوضاعه السياسية وما إليها هي الطبيعة أو الوسط الجغرافي، وازدياد السكان، وأسلوب الإنتاج. ويقولون أما الطبيعة التي تحيط بالمجتمع أو الوسط الجغرافي فإنها تؤلف أحد الشروط الضرورية الدائمة لحياة المجتمع المادية، وهي تؤثر ولا ريب في تطور المجتمع ولكنها لا تكون القوة الرئيسية التي تحدد هيئة المجتمع وتعين نظام الناس الذي يعيشون عليه، وتقرر الانتقال من نظام إلى آخر، ويقولون صحيح أن الوسط الجغرافي هو دون جدال أحد الشروط الدائمة والضرورية للمجتمع، ومن المؤكد أنه يؤثر في هذا التطور، فهو يعجل أو يبطيء سير التطور، ولكن هذا التأثير ليس حاسماً. لأن تطور المجتمع وتغيراته تجري بصورة أسرع بكثير من تطور الوسط الجغرافي وتغيراته. فلا يمكن أن يكون الوسط الجغرافي السبب الأساسي أو السبب الحاسم للتطور الاجتماعي. إذ أن ما يبقى دون تغير خلال عشرات الألوف من السنين لا يمكن أن يكون السبب الأساسي لتطور شيء معرض لتغيرات أساسية خلال بضع مئات من السنين. ويقولون وأما نمو السكان وكثافتهم فإنه يؤلف أحد الشروط لحياة المجتمع، لأن الناس هم عنصر أساسي لا بد منه في شروط الحياة المادية للمجتمع، وبدون حد أدنى من الناس لا يمكن أن تكون هناك أية حياة مادية للمجتمع. ويقولون غير أن نمو السكان وكثافتهم لا يكون القوة الأساسية التي تحدد طابع نظام الناس الاجتماعي. ويقولون صحيح أن نمو السكان يؤثر في التطور الاجتماعي فيسهله أو يبطئه، ولكن لا يمكن أن يكون القوة الأساسية للتطور الاجتماعي، ولا يمكن أن يكون تأثيره فيه تأثيراً حاسماً. لأن نمو الناس من حيث هو لا ينشأ عنه نوع نظام اجتماعي أعلى أو أرقي، بدليل أن كثافة السكان في الصين أعلى بأربع مرات منها في الولايات المتحدة، ومع ذلك فالولايات المتحدة هي في مستوى أعلى من الصين من حيث التطور الاجتماعي، وكثافة السكان في بلجيكا أعلى بتسع عشرة مرة منها في الولايات المتحدة، ومع ذلك فالولايات المتحدة هي في مستوى أرقى من بلجيكا من حيث التطور الاجتماعي، فنتج عن ذلك أن نمو السكان لا يمكن أن يكون القوة الأساسية لتطور المجتمع، أي القوة التي تحدد طابع النظام الاجتماعي وهيئة المجتمع. ويقولون وأما أسلوب الإنتاج فإنه وإن كان يؤلف أحد شروط الحياة للمجتمع كالطبيعة وكنمو السكان ولكنه هو الذي يكون القوة الأساسية لتطور المجتمع أي القوة التي تحدد هيئة المجتمع. فأسلوب الحصول على وسائل المعيشة الضرورية لحياة الناس، أي أسلوب إنتاج الحاجات المادية كالغذاء واللباس والأحذية والمسكن والوقود وأدوات الإنتاج.. الخ التي لا بد منها حتى يستطيع المجتمع أن يحيا ويتطور، هذا الأسلوب هو الذي يحدد طابع النظام الاجتماعي وهيئة المجتمع. وهم يشرحون ذلك فيقولون:
لا بد لأجل الحياة من غذاء ولباس ومسكن ووقود.. الخ، ولأجل الحصول على هذه الحوائج المادية يجب إنتاجها، ولأجل إنتاجها لا بد من أدوات الإنتاج التي ينتج الناس بواسطتها هذه الحوائج. ولا بد من معرفة استخدام هذه الأدوات. فأدوات الإنتاج، والناس الذين يستعملون هذه الأدوات، ومعرفة استخدامها، هذه هي العناصر التي تؤلف بمجموعها قوى المجتمع المنتجة. غير أن هذه القوى المنتجة لا تؤلف إلا جانباً واحداً من أسلوب الإنتاج، وهو الجانب الذي يعبر عن سلوك الناس نحو أشياء الطبيعة وقواها التي يستخدمونها لإنتاج الحوائج المادية. أما الجانب الآخر لأسلوب الإنتاج فهو علاقة الناس فيما بينهم أثناء سير الإنتاج، أو ما يسمى علاقات الإنتاج بين الناس. ذلك أن الإنتاج مهما تكن الشروط لحياة المجتمع المادية هو إنتاج جماعي وليس إنتاجاً فردياً. فالناس في نضالهم مع الطبيعة التي يستثمرونها لإنتاج الحوائج المادية ليسوا منفردين، ولا منعزلين عن بعضهم. وليسوا أفراداً أحدهم منفصل عن الآخر بل هم ينتجون معاً في جماعات أو جمعيات. ومن هنا كان الإنتاج إنتاجاً جماعياً وليس إنتاجاً افرادياً. وفي أثناء الإنتاج يقيم الناس فيما بينهم هذه العلاقات أو تلك ضمن نطاق الإنتاج، ويمكن أن تكون هذه العلاقات علاقات تعاون وتعاضد بين أناس محررين من كل استثمار، ويمكن أن تكون علاقات سيطرة وخضوع، كما يمكن أن تكون علاقات انتقال من شكل من أشكال علاقات الإنتاج إلى شكل آخر. ولكن مهما يكن الطابع الذي تتسم به علاقات الإنتاج سواء أكانت تعاوناً وتعاضداً أم كانت سيطرة وخضوعاً أم كانت انتقالاً من شكل إلى شكل آخر فإنها دائماً وتحت كل الأنظمة عنصر ضروري لا غنى عنه في الإنتاج، مثلها في ذلك مثل قوى المجتمع المنتجة سواء بسواء. يقول كارل ماركس: "في الإنتاج لا يؤثر الناس في الطبيعة فقط، بل يؤثر بعضهم في البعض الآخر أيضاً. فهم لا ينتجون إلا بالتعاون فيما بينهم على شكل معين، وبتبادل النشاط فيما بينهم. ومن أجل أن ينتجوا يدخل بعضهم مع بعض في صلات وعلاقات معينة. ولا يتم تأثيرهم في الطبيعة، أي لا يتم الإنتاج إلا في حدود هذه الصلات والعلاقات الاجتماعية".
ومن هذا كله يتبين أن القوة التي تحدد هيئة المجتمع هي أسلوب الإنتاج. وأن أسلوب الإنتاج هو قوى المجتمع المنتجة وعلاقات الإنتاج. وعليه فإن شروط الحياة المادية للمجتمع التي تحدد في النهاية هيئة المجتمع وأفكاره وآراءه وأوضاعه السياسية وما إليها هي الطبيعة أو الإقليم الجغرافي، ونمو السكان وكثافتهم، وأسلوب الإنتاج، أي القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. غير أن الذي يحدد طابع النظام الاجتماعي وهيئة المجتمع هو أسلوب الإنتاج، أي الناس، والأدوات، ومعارف الإنتاج، والعلاقات التي تقوم بين الناس أثناء الإنتاج.
15
هذا هو شرح المادية التاريخية للمجتمع أو على حد تعبيرهم لشروط الحياة المادية للمجتمع وهي خطأ في أساسها وفيما تسميه بخواص الإنتاج. والخطأ فيها آت من أساس نظرتها إلى المجتمع. فهي ترى أن المجتمع مؤلف من الوسط الجغرافي ومن نمو السكان وتكاثفهم، ومن أسلوب الإنتاج. هذه العناصر الثلاثة هي التي تكوّن المجتمع. ولكن النظرية تعود فتنفي تأثير اثنين منها، إذ تنفي عن الوسط الجغرافي وعن نمو السكان، أن يكون أي منهما القوة التي تحدد هيئة المجتمع، وتحصرها بأسلوب الإنتاج فقط، فتقول أن القوة الأساسية التي تحدد هيئة المجتمع وطابع النظام الاجتماعي وتقرر تطور الإنتاج من نظام إلى آخر إنما هي أسلوب الإنتاج. فيكون عندها المجتمع مكوناً من عناصر ثلاثة ولكن الذي يحدد هيئة المجتمع عنصر واحد هو أسلوب إنتاج الحاجات المادية. وهذا الفهم لمعنى المجتمع خطأ محض وهو مخالف لواقع أي مجتمع في الدنيا. إذ المجتمع مؤلف من ناس، وأفكار، ومشاعر، وأنظمة، ولا دخل للوسط الجغرافي فيه، ولا لأدوات الإنتاج. وبيان ذلك أن المجتمع هو مجموعة من الناس تنشأ بينهم علاقات دائمية. ففرد زائد فرد زائد فرد.. الخ يساوي جماعة، أي ينشأ من هذه المجموعة من الأفراد جماعة. فإذا نشأت بين هؤلاء الأفراد علاقات دائمة كانوا مجتمعاً، وإذا لم تنشأ بينهم علاقات دائمة ظلوا جماعة، ولا يشكلون مجتمعاً إلا إذا نشأت بينهم علاقات. فالذي يجعل مجموعة الناس تشكل مجتمعاً إنما هو العلاقات الدائمية فيما بينهم. وهذه العلاقات إنما تنشأ بدافع مصالحهم. فالمصلحة هي التي توجد العلاقة. ومن غير وجود مصلحة لا توجد علاقة. فالناس لقضاء مصالحهم يحتاج بعضهم إلى البعض الآخر، فتنشأ من قضاء هذه المصالح العلاقات. إلا أن هذه المصالح إنما يعينها من حيث كونها مصلحة أو مفسدة مفهوم الإنسان عن المصلحة، فإن رأى الشخص أن هذا الأمر مصلحة نشأت العلاقة، وإن رأى أن هذا الأمر ليس مصلحة لا تنشأ العلاقة. فالمسلم يرى أن بيعه للنصراني بقرة يربح فيها مصلحة له، فتنشأ بينهما علاقة، ولكنه يرى أن بيعه خنزيراً ليس مصلحة فلا يبيعه إياه مهما دفع من ثمن فلا تنشأ بينهما علاقة. فالذي عين كون الشيء مصلحة أو ليس مصلحة إنما هو مفهوم الشخص عن الشيء بأنه مصلحة أو ليس مصلحة. فالمفهوم هو الذي عين المصلحة وبالتالي المفهوم هو الذي أوجد العلاقة. وبما أن المفاهيم هي معاني الأفكار فتكون الأفكار هي التي أوجدت العلاقة. غير أن هذه الأفكار لا يكفي أن توجد عند واحد ولا توجد عند الآخر ممن يراد أن تنشأ بينهم علاقة، بل لا بد أن توجد عند الاثنين حتى توجد العلاقة. فإذا لم توجد عند الاثنين لا توجد علاقة. فإذا كان أحدهما يرى أن هذا الأمر مصلحة والآخر يراه ليس مصلحة لا يمكن أن توجد بينهما علاقة. ولا يتأتى أن توجد بينهما علاقة إلا إذا رأى الاثنان أن هذه مصلحة، وحينئذ فقط توجد العلاقة، أما قبل ذلك فلا. وعلى ذلك فإن وحدة الأفكار بين الناس لا بد منها حتى توجد العلاقة بينهم. غير أن وحدة الأفكار وحدها لا تكفي لأن توجد العلاقات بل لا بد أن تكون معها وحدة المشاعر، أي أن هذه المصلحة لا بد أن يسر الشخصان بها حتى توجد العلاقة. فإذا كان أحدهما يسر بها والآخر يسخط منها لا توجد العلاقة بينهما، بل لا بد أن تتحد مشاعرهما في النظرة إلى المصلحة من سرور وغضب وحزن وألم إلى غير ذلك من المشاعر إلى جانب اتحاد الأفكار. أي أن وحدة المشاعر ووحدة الأفكار معاً لا بد منها حتى توجد العلاقات بين الناس. إلا أن وحدة الأفكار والمشاعر معاً بين الناس لا تكفي وحدها لأن توجد العلاقات بل لا بد أن تكون معها وحدة النظام الذي يعالجون به هذه المصالح. فإذا كان أحدهما يرى أن هذه المصلحة يجب أن تعالج بكذا ولكن الآخر يرى أن تعالج هذه المصلحة بغير ما قال به الأول لا تنشأ بينهما علاقة ولا يتأتى أن تنشأ إلا إذا اتفقا على كيفية معالجتها، أي إلا إذا اتفقا على النظام الذي يعالجانها به، وحينئذ تنشأ العلاقة.
ومن هذا يتبين أن المجتمع هو مجموعة من الناس بينهم علاقات دائمية. وأن هذه العلاقات إنما أوجدها بينهم توحيد الأفكار والمشاعر والأنظمة فيما بينهم. فيكون المجتمع هو الناس وما يوحد بينهم من أفكار ومشاعر وأنظمة. ولهذا فإن المجتمع مكون من أناس، وأفكار، ومشاعر وأنظمة. وأنه وإن كان المجتمع في واقعه مجموعة من الناس بينهم علاقات دائمية ولكنه في أساس تكوينه أناس وأفكار ومشاعر وأنظمة ولهذا تختلف المجتمعات باختلاف أفكارها ومشاعرها وأنظمتها، وإن كانت كلها أناساً بينهم علاقات دائمية. ومن هنا يعرّف المجتمع بأنه ناس، وأفكار، ومشاعر، وأنظمة، إذ أن ذلك هو أساس تكوينه، وبحسبه تتميز المجتمعات. ولا يعرّف بأنه مجموعة من الناس بينهم علاقات دائمية، لأن ذلك وإن كان هو واقعه الظاهري ولكنه ليس واقعه الحقيقي لأن العلاقات نتيجة توحيد الأفكار والمشاعر والأنظمة، فتكون الأفكار والمشاعر والأنظمة هي الواقع الحقيقي للمجتمع وليس العلاقات التي هي نتيجة لتلك الأفكار والمشاعر والأنظمة. هذا هو واقع المجتمع كما يشاهد من مجرد النظرة إليه، وكما يشاهد بعد التدقيق فيه، وكما يشاهد عند تحليله إلى أجزائه التي يتكون منها. وعلى ذلك يكون تعريف الشيوعيين بأن المجتمع مؤلف من الوسط الجغرافي ونمو السكان وأسلوب الإنتاج مخالف لواقع المجتمع فهو خطأ محض.
هذا من ناحية مخالفة التعريف لواقع المجتمع. أما من ناحية خطأ ما تضمنه التعريف من أفكار فإنهم بدل أن يقولوا أن هذا تعريف المجتمع قالوا أن هذه هي شروط الحياة المادية للمجتمع. وعددوها فقالوا إنها تشمل قبل كل شيء الطبيعة التي تحيط بالمجتمع، أو الوسط الجغرافي الذي يؤلف أحد الشروط الضرورية للمجتمع. وأن نمو السكان وكثافتهم يدخلان في مفهوم شروط الحياة المادية للمجتمع. وأن أسلوب الإنتاج هو في مجموعة شروط الحياة المادية للمجتمع. وهذا القول كله خطأ.
أما بالنسبة للطبيعة التي تحيط بالمجتمع، ونمو السكان وكثافتهم، فيكفي خطأ اعتبارهما من مكونات المجتمع ومقوماته، أو على حد تعبيرهم خطأ اعتبارهما من شروط الحياة المادية للمجتمع أنهم يقولون أنهما لا يحددان هيئة المجتمع، أي لا يؤثران في نوعية المجتمع وهذا يعني انهما ليسا جزءاً منه ولا من مقوماته. فإن جزء الشيء يؤثر فيه، وما هو من مقومات الشيء يؤثر فقدانه على الشيء. وما داما لا يحددان هيئة المجتمع ولا يؤثران في هذا التحديد فهما ليسا من شروط حياته المادية على حد تعبيرهم. فيكون اعتبارهما من الشروط خطأ. ثم أن ما يسمونه بالطبيعة أو الوسط الجغرافي موجود طبيعياً في الكرة الأرضية كلها، فهو في روسيا موجود لروسيا، وفي أميركا موجد لأميركا، وفي القطب الشمالي حيث لا سكان موجود، سواء وجد مجتمع أم لم يوجد، وسواء وجد مجتمع رأسمالي أو مجتمع اشتراكي، وهو في روسيا نفسها موجود أيام القيصرية، وموجود أيام الاشتراكية الماركسية ولم يتغير في أي الحالتين مع أن المجتمع تغير كلياً وجذرياً، وهذا يثبت أنه ليس جزءاً من تكوين المجتمع أو من مقوماته أو على حد تعبيرهم ليس من شروط الحياة المادية للمجتمع. صحيح أن المجتمع البشري لا بد له من مكان جغرافي يقوم عليه، وبدون مكان معين لا يتصور وجود مجتمع معين. إلا أن المكان لا دخل له في تحديد نوع المجتمع الذي يقوم عليه، بدليل أنه في المكان الواحد يتغير المجتمع ولا يتغير المكان، فالمكان المعين لا شك أنه لا بد منه ولكنه لا يدخل في العناصر التي تحدد نوع المجتمع، فهو علاوة على كونه أمراً طبيعياً فإنه لا دخل له في مقومات المجتمع. وإنما نمو السكان وكثافتهم فلا علاقة له بمكونات المجتمع ومقوماته، بل الذي له علاقة بالمجتمع وهو جزء منه إنما هو الناس أنفسهم باعتبارهم ناساً وليس نموهم وكثافتهم. إذ النمو أو الكثافة لا دخل لهما في ذلك مطلقاً. فقرية سكانها مئتا نسمة تشكل مجتمعاً واحداً إذا اتحدت فيها الأفكار والمشاعر والأنظمة وبلاد سكانها مئتا مليون نسمة تشكل مجتمعاً واحداً إذا اتحدت فيها الأفكار والمشاعر والأنظمة، والقاهرة حين كان سكانها مليون نسمة كانت تشكل مجتمعاً واحداً، وحين اصبح سكانها أربعة مليون ظلت تشكل مجتمعاً واحداً. فمسألة النمو والكثافة في السكان ليست جزءاً من المجتمع بالمشاهدة، بل الذي هو جزء من المجتمع إنما هم الناس بوصفهم أناساً بغض النظر عن نموهم وعن كثافتهم.
هذا بالنسبة للوسط الجغرافي ونمو السكان. أما بالنسبة لأسلوب الإنتاج فإنهم يقولون أن أسلوب الإنتاج هو من شروط الحياة المادية للمجتمع، ويعرّفونه بأنه هو الناس، وأدوات الإنتاج، ومعرفة استخدامها، وهذه الثلاث تشكل أحد جانبي أسلوب الإنتاج، أما الجانب الآخر فتشكله علاقات الإنتاج. وهذا القول خطأ. أما بالنسبة للناس فلا شك أنهم جزء من المجتمع ولا كلام، فإنه بدون حد أدنى من الناس لا يمكن أن يكون هناك مجتمع، فالناس هم أساس وجود المجتمع، وهم العامل الأساسي في وجود المجتمع، ولكنه لا يقال أنهم جزء في أسلوب الإنتاج، فالناس هم الذين يوجدون الأدوات، وهم الذين يوجدون لأنفسهم معرفة استخدامها أي الخبرة الفنية، وهم الذين يحدثون العلاقات فيما بينهم، ولكن هذه الأشياء ليست جزءاً من الناس، ولا الناس جزء منها، ولا هي تشكل مع الناس كلاً مادياً يتألف من هذه الأجزاء، فالجزئية غير موجودة، لذلك لا يكون الناس جزءاً من أسلوب الإنتاج، بل الناس أنفسهم أساس وجود المجتمع، إذ واقع المجتمع هو جماعة من الناس بينهم علاقات دائمية نشأت عن وحدة الأفكار والمشاعر والأنظمة لديهم.
وأما أدوات الإنتاج فإنه لا دخل لها في وجود المجتمع، ولا في نوعيته. فقد توجد قرية ليس فيها أدوات إنتاج بأن كان أهلها يعيشون على واردات تأتيهم من الخارج، مثل معسكرات اللاجئين، ومع ذلك يشكلون مجتمعاً. ثم إن أدوات الإنتاج في روسيا هي نفس أدوات الإنتاج في أميركا من حيث المصانع والمعامل ومع ذلك فالمجتمع في روسيا غير المجتمع في أميركا، وهذا دليل محسوس أن أدوات الإنتاج ليست من مكونات المجتمع ولا من مقوماته أو على حد تعبيرهم ليست من شروط الحياة المادية للمجتمع، فالحياة المادية للمجتمع توجد بدونها. ووجودها في المجتمع لا يكسب المجتمع أي ميزة يتميز بها عن غيره من المجتمعات، فيكون اعتبارها من مكونات المجتمع أو على حد تعبيرهم من شروط الحياة المادية للمجتمع خطأ.
صحيح أن مجتمعات البشر منذ أقدم الأزمان في حاجة إلى أدوات الإنتاج في الصيد والزراعة والصناعة وغير ذلك، ولا يستغني عنها أي مجتمع ولكنها لا تعطيه وصفاً خاصاً. فكل إنسان مثلاً يستنشق الهواء ويشرب الماء ويأكل الطعام فهذه أشياء طبيعياً لا بد من وجودها، ولكن ليست هذه الأشياء هي تحدد شخصيته أو تجعله بتقاسيمه وملامحه وشكله فرداً متميزاً عن غيره، وكذلك الأدوات للمجتمع، فهي أشياء مشتركة ودائمية بالنسبة لجميع المجتمعات حسب حاجاتها ولذلك لا تكون موضع بحث في تعريف المجتمع وبيان مقوماته، وإنما البحث ينصب على العناصر التي تجعل مجتمعاً معيناً يتميز عن سواه من المجتمعات، وهذه ليست الأدوات وإنما هي الأفكار المشاعر والأنظمة. فأدوات الإنتاج لا دخل لها في بحث المجتمع من حيث كونه مجتمعاً متميزاً عن غيره من مجتمعات أخرى. لأنها وإن كانت من ضرورات الحياة ووجودها أمر طبيعي حسب حاجة الإنسان، ولكنها كالماء والهواء فكما أن الماء والهواء لا تكون إنساناً، ولا تجعله متميزاً عن غيره، فكذلك الأدوات لا تشكل مجتمعاً ولا تجعله متميزاً عن غيره، ولذلك ليست جزءاً من المجتمع.
وأما معارف الإنتاج أو معارف استخدام الأدوات فإن نظرة واحدة للعلوم الطبيعية والتكنولوجية، تبين خطأ اعتبارها من مكونات المجتمع. فإن انعدامها لدى الناس لا يحول بينهم وبين أن يكونوا مجتمعاً، ثم أن هذه المعارف في روسيا هي عينها في أميركا، ومع ذلك فالمجتمع في روسيا غيره في أميركا. وفوق هذا فإن علوم الإنتاج وسائر العلوم هي معارف عالمية لا تختلف في أي مجتمع عنها في آخر، ولا تختلف عند أناس عنها عند آخرين، ولذلك لا علاقة لها بتكوين المجتمع ولا بنوعيته. فلا تعتبر من مكونات المجتمع ومقوماته. ولذلك يقول خروشوف رئيس وزراء الاتحاد السوفياتي في تصريح له: "لا بد من الاستعانة بالأساليب الرأسمالية في تنمية الإنتاج" بل قال فيه أكثر من ذلك إذ قال: "لا بد من الاستفادة من النظم الرأسمالية في تنمية الإنتاج" مما يدل على أن الواقع صار يملي على الشيوعيين أن يعترفوا أن المعرفة ليست من مكونات المجتمع.
وأما علاقات الإنتاج فإن الذي هو من مكونات المجتمع ومقوماته هو العلاقات الدائمية مطلقاً وليس علاقات الإنتاج وحدها. فالعلاقة كما تكون بين الناس أثناء الإنتاج تكون بينهم أثناء مبادلات البيع والشراء والإجارة والوكالة والكفالة والهبة والشفعة والشراكة وغير ذلك، فالناس يقيمون بينهم علاقات حين تنشأ مصالح بينهم سواء أكانت مصالح تتعلق بالإنتاج أم مصالح تتعلق بالتوزيع أم مصالح تتعلق بالزوجية والبنوّة والجوار والعطف وغير ذلك. فالعلاقات أعم من علاقات الإنتاج، ولهذا كان من الخطأ أن تعتبر علاقات الإنتاج وحدها من مكونات المجتمع بل يجب أن تدخل العلاقات الدائمية كلها في هذا الاعتبار. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن اعتبار العلاقات جزءاً من المجتمع إنما هو باعتبار واقعه الظاهري ولكن واقعه الحقيقي أن العلاقات هي نتيجة النظرة إلى المصالح، فالذي هو جزء في الحقيقة ما أوجد العلاقات وليس العلاقات نفسها. وبذلك يظهر خطأ ما ذهبت إليه المادية التاريخية من جعل علاقات الإنتاج وحدها جزءاً من مكونات المجتمع أو على حد تعبيرهم من شروط الحياة المادية للمجتمع.
هذا من ناحية تعريف المجتمع أو على حد تعبيرهم من ناحية شروط الحياة المادية للمجتمع، أما من ناحية ما يسمونه بخواص الإنتاج فإنها كلها خطأ، وهي مبنية على فروض نظرية. فهذه الخواص الثلاثة تعتبر أن الإنتاج دائماً في حالة تغير ونمو وأن تغير أسلوب الإنتاج يؤدي بصورة حتمية إلى تغير النظام الاجتماعي بأسره، وتغير الأفكار الاجتماعية والآراء والمؤسسات السياسية. ثم أن الكيفية التي يجري فيها هذا التطور والتغير هي أن تطور الإنتاج وتغيراته تبدأ دائماً بتغير القوى المنتجة وتطورها، وبتغيير وتطور أدوات الإنتاج قبل غيرها، ثم تلحقها علاقات الإنتاج. إذ في باديء الأمر تتعدل القوى المنتجة في المجتمع وتتطور وبعدئذ تبعاً لهذه التعديلات وطبقاً لها تتعدل علاقات الإنتاج بين الناس أي تتعدل علاقاتهم الاقتصادية. وبهذه الكيفية يحصل الانتقال إلى النظام الجديد. غير أنه في هذه العملية لا يحصل نشوء القوى المنتجة الجديدة ونشوء علاقات الإنتاج التي تطابقها بعدها خارج المجتمع القديم وبعد زواله، بل تنشأ في قلب النظام القديم، ولكنها تظهر بشكل عفوي في أول الأمر وتظل بشكل عفوي إلى أن تبلغ القوى المنتجة حد النضج وحينئذ يصبح لا بد من النشاط الواعي العنيف ولا بد من الثورة. هذه خلاصة خواص الإنتاج عندهم وهي لا شك خطأ ومجرد فروض. ولكي يدرك الخطأ فيها إدراكاً دقيقاً لا بد من التعرض لها خاصة بشكل تفصيلي لكل واحدة منها على حدة:
16
يقول الشيوعيون أن الخاصة الأولى للإنتاج هي أنه لا يقف مدة طويلة في نقطة معينة، فهو دائماً في حالة تغير ونمو. وتغيره هذا يعني تغير أسلوب الإنتاج، فنشأ عن ذلك انتقال المجتمع من نظام إلى نظام. فإن تغير أسلوب الإنتاج يؤدي بصورة حتمية إلى تغير النظام الاجتماعي بأسره، وإلى تغير الأفكار الاجتماعية، وإلى تغير الآراء والمؤسسات السياسية. إذ أن تغير أسلوب الإنتاج يؤدي إلى صهر النظام الاجتماعي والسياسي كله صهراً جديداً. فالناس في مختلف درجات التطور يستخدمون أدوات إنتاج مختلفة، فيحيون حياة مختلفة. ففي المشاعية الابتدائية أسلوب إنتاج، وفي الرق أسلوب آخر، وفي الإقطاعية أسلوب ثالث وهكذا. وكل أسلوب فيها يختلف عن الآخر تمام الاختلاف، ولذلك يختلف نظام الناس الاجتماعي، وحياتهم العقلية، وآراؤهم ومؤسساتهم السياسية في عهد المشاعية عنها في عهد الرق، وهي في عهد الرق تختلف عنها في عهد الإقطاع، وهكذا يختلف نظام الناس الاجتماعي وتختلف حياتهم العقلية، وتختلف آراؤهم ومؤسساتهم السياسية حسب أساليب الإنتاج هذه ، والمجتمع ذاته، وأفكاره ونظرياته، وآراؤه ومؤسساته السياسية تتعلق من حيث الأساس بأسلوب الإنتاج في المجتمع. فكل نمط من المعيشة بطابقه نمط من التفكير. ومعنى هذا أن تاريخ تطور المجتمع هو قبل كل شيء تاريخ تطور الإنتاج، تاريخ أساليب الإنتاج التي تتعاقب خلال العصور، تاريخ تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج بين الناس. وعليه يجب أن لا يبحث عن المفتاح الذي يسمح لنا بالكشف عن قوانين المجتمع في أدمغة الناس، أو في آراء المجتمع وأفكاره، بل يجب أن نبحث عنه في أسلوب الإنتاج الذي يمارسه المجتمع خلال كل دور من أدوار التاريخ، أي في الحياة الاقتصادية للمجتمع، وبالتالي فإن مهمة العلم التاريخي الرئيسية هي دراسة وكشف قوانين الإنتاج، وقوانين تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وقوانين التطور الاقتصادي للمجتمع. فيجب أن يستوحى من قوانين تطور الإنتاج وقوانين التطور الاقتصادي للمجتمع كل شيء. وعليه يكون المصدر الأساسي للأفكار من حيث هي، وللآراء السياسية، وللنظام الاجتماعي، وللمؤسسات السياسية هو قوانين تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، أي قوانين التطور الاقتصادي.
هذا هو موجز الخاصة الأولى عندهم. وأهم ما فيها ثلاث نقاط: إحداها أن الإنتاج يتغير من حال إلى حال بشكل حتمي فهو دائماً في حالة تغير ونمو، وهم يريدون بالإنتاج ما يسمونه بأسلوب الإنتاج. النقطة الثانية أن تغير القوى المنتجة، أي الأدوات والمعارف التي تستعمل للإنتاج إلى جانب تغير علاقات الإنتاج يؤدي حتماً إلى تغير النظام في المجتمع وتغير الأفكار في هذا المجتمع وتغير الآراء والمؤسسات السياسية فيه. النقطة الثالثة أن معرفة النظام الذي يطبق في المجتمع لا يبحث عنها في كتب التشريع، ولا في آراء المفكرين والمشرعين، وإنما يبحث عنها في أدوات الإنتاج وفي المعارف التي تستعمل للإنتاج أي الخبرة الفنية، وفي العلاقات القائمة بين الناس أثناء سير الإنتاج. هذه أهم النقاط التي في هذه الخاصة. وبالتدقيق يظهر أنها كلها خطأ.
أما بالنسبة للنقطة الأولى فإن تغير ما يسمى بأسلوب الإنتاج ليس أمراً حتمياً فقد يتغير وقد لا يتغير. وابسط دليل على ذلك أن العالم الإسلامي ظل طوال مدة الخلفاء العثمانيين، وهي أربعمائة سنة تقريباً، لم يحصل فيه أي تغيير، لا في أدوات الإنتاج، ولا في المعارف التي تستعمل للإنتاج أي الخبرات الفنية، ولا في العلاقات القائمة بين الناس. فلو كان ما يسمى بأسلوب الإنتاج في حالة تغير دائم بشكل حتمي لانتقل العالم الإسلامي خلال الأربعمائة سنة من حال إلى حال مع أن ذلك لم يحصل. وأيضاً فإن روسيا نفسها خلال عهد القياصرة ظلت عدة قرون وهي هي لم تتغير تغيراً يذكر، لا في أدوات الإنتاج، ولا في معارف الإنتاج، أي الخبرات الفنية، ولا في العلاقات بين الناس. وأوروبا نفسها التي حصلت فيها الثورة الصناعية وتغيرت فيها أدوات الإنتاج والمعارف التي تستعمل للإنتاج أي الخبرات الفنية لم يحصل فيها التغير في هذين الأمرين بشكل حتمي، حتى ولا بشكل طبيعي، فقد ظلت عدة قرون وهي في أحط الدرجات وعلى حال واحدة، ولم يحصل فيها تغير، ولكن لما حصلت النهضة العلمية ووجدت الاختراعات حدثت الثورة الصناعية وصار التغير، وهذا كله برهان قاطع على أن تغير ما يسمى بأسلوب الإنتاج ليس حتمياً وليس هو في حال تغير دائم ونمو.
أما النقطة الثانية من هذه الخاصة فإن وجه الخطأ فيها هو أنهم يجعلون الأدوات، والمعارف أي الخبرة الفنية، وعلاقات الإنتاج مصدر النظام ومصدر الأفكار ومصدر الآراء والمؤسسات السياسية. فقالوا أن تغير أسلوب الإنتاج أي الأدوات والخبرات الفنية والعلاقات يؤدي بصورة حتمية إلى تغير هذه الأمور. ومن هنا جاء الخطأ. فإن الأدوات في الحقيقة إنما أوجدتها الأفكار والمعلومات وليست هي التي أوجدت الأفكار، فهي لم توح بالأفكار بل المعارف هي التي مكنت من صنعها واختراعها، وأوروبا لم تحدث فيها النهضة من الأدوات وإنما اختراع الأدوات وصنعها هو الذي أوجد النهضة وأوجد الأدوات. وأما الخبرة الفنية التي تستعمل للإنتاج فليست هي نتيجة تجارب للآلة وعادات في العمل وإنما هي معارف قد تبين خطأ التجارب والعادات، وتأتي بكيفية تناقض التجارب والعادات، فهي إذن معارف مستقلة ولم تؤخذ من الآلة ولا من استعمالها فقط، بل قد توجد قبل استعمال الآلة وربما قبل وجودها. وهذه المعارف مختصة بنوع معين من المعرفة ولا علاقة لها بالنظام والآراء السياسية. وأكبر دليل على ذلك أن علماء الذرة في روسيا وأميركا وغيرهما وعلماء الطبيعيات في أي بلد لا علاقة لهم بالنظام في البلد الذي يعيشون فيه من حيث وضعه وإيجاده، ولا بالأفكار في المجتمع، ولا بالآراء والمؤسسات السياسية فيه، ولا يحدثون في النظام والأفكار والآراء والمؤسسات السياسية أي أثر، لا هم ولا معارفهم، وهذا يكذب كون المعارف التي تستعمل للإنتاج أي الخبرات الفنية مصدراً للنظام والأفكار في المجتمع وللآراء والمؤسسات السياسية فيه. وأما العلاقات فإنها إنما تسير حسب نظام وليست هي مصدر النظام. أي هي موضع تطبيق النظام وليست مصدراً للنظام. فالعلاقات في روسيا كانت تسير حسب نظام معين فلما تسلم الشيوعيون الحكم وأخذوا يحاولون تطبيق الاشتراكية سيَّروا العلاقات في روسيا حسب نظامهم، ونظامهم أخذوه من ماركس أي من مفكر لا من أدوات الإنتاج في روسيا ولا من علاقات الإنتاج في روسيا، وبلاد الشام مثلاً قبل الفتح الإسلامي كانت تسير العلاقات فها حسب نظام معين، فلما فتحها المسلمون وطبقوا نظام الإسلام عليها سيروا العلاقات فيها بنظام الإسلام، وهو إنما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة والمدينة، ولم يؤخذ من أدوات الإنتاج في بلاد الشام ولا من العلاقات القائمة بين الناس في بلاد الشام. فتكون العلاقات موضع تطبيق النظام وليست مصدر النظام. وعليه فإن الأدوات ليست مصدراً لنظام المجتمع ولا للأفكار فيه، وكذلك الخبرات الفنية أو معارف الإنتاج ليست مصدراً للنظام ولا للأفكار. وأما العلاقات فهي موضع تطبيق النظام والأفكار وليست مصدراً للنظام والأفكار. وبذلك يتبين أن ما يسمى بأسلوب الإنتاج ليس مصدراً لنظام المجتمع، ولا للأفكار في المجتمع، ولا للآراء والمؤسسات السياسية فيه، وما دام ليس مصدراً لهذه الأمور فإن تغيره لا يؤدي بصورة حتمية إلى تغير نظام المجتمع ولا إلى تغير الأفكار فيه، ولا إلى تغير الآراء والمؤسسات السياسية فيه.
وأيضاً فإن ما يسمونه بأسلوب الإنتاج مكون عندهم من قسمين: أحدهما قوى المجتمع المنتجة أي الناس وأدوات الإنتاج ومعارف استخدام الأدوات، والثاني علاقات الإنتاج، وعلاقات الإنتاج هذه هي النظام الذي يسير عليه الناس. لأن العلاقات حتماً إنما تسير على نظام معين. فيكون معنى قولهم: إن تغير أسلوب الإنتاج يؤدي بصورة حتمية إلى تغير النظام هو أن تغير القوى المنتجة وتغير النظام الذي تسير عليه العلاقات يؤدي بصورة حتمية إلى تغير النظام. فالقول بأن تغير أسلوب الإنتاج يؤدي إلى تغير النظام في المجتمع يعني أن تغير أسلوب الإنتاج يؤدي إلى تغير علاقات الإنتاج. ولما كانت علاقات الإنتاج هي جزء من أسلوب الإنتاج، كما يقولون، كان تغير علاقات الإنتاج مؤدياً إلى تغير علاقات الإنتاج، يعني كان تغير الشيء مؤدياً إلى تغير الشيء نفسه، وهذا تلبك واضطراب في التعبير، ولو قالوا أن تغير القوى المنتجة يؤدي إلى تغير النظام الذي تسير عليه العلاقات فيتغير نظام المجتمع كله كما جاء في الخاصة الثانية لكان منسجماً وإن كان خطأ. إذ لا يتأتى أن يقال أن تغير نظام العلاقات مع تغير القوى المنتجة يؤدي إلى تغير النظام. وأما إذا قيل أن المراد أن الفأس والطاحونة وعلاقات الإقطاع تذهب ويأتي بدلها التراكتور، والمصنع، وعلاقات الرأسمالية فيكون التغير إلى نظام جديد وإلى علاقات جديدة، فإن الجواب عليه هو أن تغير هذه العلاقات هو تغير النظام، وبقاءها كما هي هو عدم تغير النظام، فالمصانع حين كانت تنتج فردياً بوصفها آلات صغيرة كان منسجماً معها أن تكون العلاقات فردية، فتغيرت المصانع وصارت مصانع ضخمة تنتج جماعياً؛ فإذا ظلت العلاقات فردية كما هي الحال في أميركا كان النظام رأسمالياً وهو ما عليه العلاقات، وإذا تغيرت إلى علاقات جماعية كما هي الحال في روسيا كان النظام اشتراكياً وهو ما صارت إليه العلاقات فكيف يقال أن تغير أسلوب الإنتاج، أي تغير القوى المنتجة وتغير العلاقات يؤدي إلى تغير النظام أي إلى تغير العلاقات؟! فالقوى المنتجة تغيرت في روسيا وأميركا معاً فتغيرت في كل منهما أدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج أي الخبرات الفنية، ولكن العلاقات في روسيا فقط تغيرت من علاقات فردية إلى علاقات جماعية، وأما في أميركا فظلت العلاقات فردية، فيكون قولهم أن تغير أسلوب الإنتاج يؤدي بصورة حتمية إلى تغير النظام خطأ، لأنه لا يتغير هو بتغير العلاقات، وإنما تتغير العلاقات حسب النظام الذي يطبق عليها، علاوة على أنه قول متلبك مضطرب. وبذلك كله تبطل النقطة الثانية من الخاصة الأولى، فلا يؤدي تغير ما يسمى بأسلوب الإنتاج إلى تغير النظام وإنما تتغير العلاقات بحسب النظام، وأما الأدوات والخبرات الفنية فلا علاقة لها بتغير النظام.
وأما النقطة الثالثة فإنهم إن قصدوا علم الآثار، أي أنه يمكن من الأدوات الخزفية والفخارية وغيرها التي نجدها في الآثار أن نعرف شيئاً عن ثقافة الذين كانوا يستعملونها. وشيئاً عن نظام معيشتهم وشيئاً عن أفكارهم فهذا صحيح جزئياً لا كلياً، أي لا نستطيع أن نعرف الأنظمة كاملة ولا الثقافة كلها، وإنما يمكن أن نعرف شيئاً منها بمقدار ما تعطيه تلك الأداة، ولا يمكن أن نعرفها كلها إلا من كتب الفقه والتشريع ومن الروايات الصحيحة المتسلسلة للأفكار والقوانين والأنظمة. أي لا يمكن معرفتها كاملة إلا من أدمغة الناس ومن آراء المجتمع وأفكاره، أي من نفس الأفكار ومن المفكرين. ولكن هذا المعنى على أي حال لا دخل له في وضع النظام وإنما هو طريق لمعرفة التاريخ، ولا يظن أنه المقصود لهم، بل المقصود لهم هو أن الناس أخذوا نظامهم من أسلوب الإنتاج الذي يمارسونه، وحين تغير هذا الأسلوب تغير نظامهم، وأن هذا يدل على أن الحياة الاقتصادية للمجتمع هي التي تؤخذ منها الأنظمة، لأنها هي التي دلت على الأنظمة التي كان يستعملها الناس، وهنا يأتي الخطأ الفاحش. وهذا الخطأ آت من ناحيتين إحداهما أن كون الإنسان استعمل مثلاً صحن فخار أبيض أو أحمر، محروق بالنار أو غير محروق لا يدل على أن نظام معيشته وأفكاره قد أخذ من هذه الأدوات، وإنما تدل على مفاهيمه هي التي أملت عليه هذه الأدوات، فهي إن دلت فإنما تدل على نوع الأفكار والنظام ولا تدل على أن النظام والأفكار قد أخذت منها. فإن الإنسان أي إنسان في القديم والحديث إنما يفكر فيصنع الآلة ويستعمل الأداة، وليس الآلة هي التي تملي عليه صناعتها ولا الأداة هي التي تملي عليه كيفية استعمالها، فالأعرابي الذي لا توجد لديه معلومات عن استعمال الأدوات لا يفرق بين الصحن الذي يستعمل لتناول الطعام منه وبين الآنية التي تستعمل ليقضي الصغار حاجتهم فيها. فإنه إذا أعطيت له هاتان الأداتان أستعملهما معاً للأكل ولحلب الشاة، ولا يخطر بباله استعمال إحداهما على خلاف استعمال الأخرى إلا إذا أعطيت له معلومات. فالأداة لم تعط الشخص طريقة استعمالها وإن كانت تدل على شيء من ثقافته وشيء من أسلوب عيشه، والآلة لم تعط الشخص طريقة حياته وإن كانت تدل على شيء من الأسلوب الذي كان يعيش عليه. وهناك فرق بين دلالة الآلة على شيء من ثقافته وشيء من أسلوب عيشه وبين كونها هي المصدر لنظامه وأفكاره. وبذلك يظهر الخطأ في جعل الحياة الاقتصادية للمجتمع مصدر النظام الذي يعيش عليه المجتمع.
أما أن الناحية الثانية التي جاء منها الخطأ فهي أن الأدوات والآلات مهما كثرت وتنوعت لا يمكن أن تعطي صورة كاملة للثقافة التي كان عليها الناس وللنظام الذي كانوا يعيشون عليه، وإنما تعطي شيئاً من هذه الثقافة، وشيئاً من هذه الأفكار، وشيئاً من ذلك النظام. وهذا الشيء مهما كثر وتنوع لا يكفي لإعطاء الصورة الكاملة، وبذلك يتبين أن هذه الآثار لا تدل على الحياة الاقتصادية كاملة وبالتالي لا تدل على جميع الأفكار التي كانت سائدة، ولا على جميع الثقافة التي كانت موجودة، ولا على جميع النظام الذي كان مطبقاً في ذلك الوقت. وعلى هذا فإن النظام الذي يعيش عليه المجتمع ليس مصدره أدوات الإنتاج وإن كانت تدل على شيء منه تاريخياً، وهي لا تدل عليه كاملاً، وإنما تدل على بعض الأفكار وبعض الأحكام، وعلى أي حال ليست هي مصدراً له، ولا هو يؤخذ منها، وإنما يؤخذ من كتب الفقه والتشريع ومن الروايات الصحيحة المتسلسلة للأفكار التشريعية، وهذا هو الواقع. فإنه لم يوجد أحد قد استنبط من الآثار التاريخية أو من الأدوات الحاضرة والآلات المستعملة نظامه وتشريعه ولا أخذ منها أفكاره، وآراءه، ومؤسساته السياسية، وإنما أخذ ذلك كله من الأفكار نفسها ومن المفكرين.
والاتحاد السوفياتي نفسه حين أخذ الأفكار الاشتراكية والنظام الاشتراكي لم يذهب إلى الآثار يستوحي منها الأنظمة حتى وصل إلى الأدوات التي تستعمل فأخذ منها الأفكار والنظام، وإنما أخذ الأفكار من الكتب والمناقشات، أي من المفكرين، وبواسطة مفكرين. وبهذا تبطل النقطة الثالثة وبالتالي يبطل كون الحياة الاقتصادية هي مصدر النظام الذي يعيش عليه الناس، حتى ولا تدل على النظام الذي كان يعيش عليه الناس دلالة كاملة. وبإبطال هذه النقاط الثلاث تبطل الخاصة الأولى.
17
وأما الخاصة الثانية للإنتاج حسب رأي الشيوعيين فهي أن تطور الإنتاج وتغيراته تبدأ دائماً بتغير القوى المنتجة وتطورها، وبتغير وتطور أدوات الإنتاج قبل غيرها. فالقوى المنتجة هي إذن أكبر عناصر الإنتاج حركة وثورة. فالشروط التي تحدد هيئة المجتمع هي: الناس، وأدوات الإنتاج، ومعارف الإنتاج أي الخبرة الفنية، والعلاقات بين الناس أثناء الإنتاج. فالناس وأدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج هي القوى المنتجة، فهي التي يبدأ فيها التغير، وعلى التحديد يبدأ بأدوات الإنتاج. وفي باديء الأمر تتعدل القوى المنتجة في المجتمع وتتطور، وبعدئذ تبعاً لهذه التعديلات وطبقاً لها تتعدل علاقات الإنتاج بين الناس، أي علاقاتهم الاقتصادية.
إلا أنه ينبغي أن يعلم أن كون التغير يبدأ بأدوات الإنتاج لا يعني أن علاقات الإنتاج لا تؤثر في تطور القوى المنتجة، أو أن هذه لا تتعلق بتلك، فإن الواقع أن علاقات الإنتاج وإن كان تطورها يتعلق بتطور القوى المنتجة إلا أنها أي علاقات الإنتاج تؤثر بدورها في تطور القوى المنتجة، فتعجله أو تبطئه، ولكن البدء بالتغير إنما يكون بالقوى المنتجة، وعلى التحديد بأدوات الإنتاج ثم تلحقها علاقات الإنتاج بالتغير.
وعلاوة على ذلك فإن علاقات الإنتاج لا يمكن أن تتأخر أمداً طويلاً عن نمو القوى المنتجة وأن تبقى في تناقض مع هذا النمو. لأن القوى المنتجة وهي الناس وأدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج لا تستطيع أن تتطور تطوراً تاماً إلا عندما تكون علاقات الإنتاج مطابقة لطابع القوى المنتجة وحالتها، وتفسح لها مجال التطور بحرية. ولذلك فإنه مهما تأخرت علاقات الإنتاج عن تطور القوى المنتجة فلا بد من أن ينتهي بها الأمر ـ وهو فعلاً ينتهي ـ بالمطابقة بينها وبين مستوى تطور القوى المنتجة، وأن تتخذ طابعاً يلائم طابع هذه القوى المنتجة، وإلا تعرضت الوحدة التي تجمع في نظام الإنتاج بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج إلى خطر التفكك. فيؤدي ذلك إلى حدوث انقطاع في مجموع الإنتاج وإلى تحطيم القوى المنتجة.
والمثالان البارزان على المطابقة بين علاقات الإنتاج وبين مستوى تطور القوى المنتجة وعلى عدم المطابقة بينهما هما اتحاد الجمهوريات السوفياتية والأقطار الرأسمالية. فالاقتصاد الاشتراكي في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ـ حيث الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج هي في توافق تام مع طابع الاجتماع لعملية الإنتاج وحيث لا تجد بالتالي لا أزمات اقتصادية ولا تحطيماً للقوى المنتجة ـ هو مثال للاتفاق التام بين علاقات الإنتاج وطابع القوى المنتجة. وفي الأقطار الرأسمالية ـ حيث الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج تناقض بصورة بينة طابع الاجتماع لعملية الإنتاج، أي طابع القوى المنتجة ـ تكون الأزمات الاقتصادية مثالاً للتنافر والخلاف بين علاقات الإنتاج وطابع القوى المنتجة، ومثالاً للنزاع الناشب بينها. فإن الأزمات الاقتصادية التي تؤدي إلى تحطيم القوى المنتجة هي نتيجة هذا الخلاف. وعلاوة على ذلك فإن هذا الخلاف نفسه هو الأساس الاقتصادي للثورة الاجتماعية المدعوة إلى هدم علاقات الإنتاج الحالية، وخلق علاقات جديدة مطابقة لطابع القوى المنتجة. وبذلك تكون القوى المنتجة، وهي الناس وأدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج، ليست أكثر عناصر الإنتاج حركة وثورة فقط، بل هي أيضاً العنصر الحاسم في تطور الإنتاج. لأن تطور القوى المنتجة يحتم أن يتبعه تطور علاقات الإنتاج، إذ كما تكون القوى المنتجة كذلك يجب أن تكون علاقات الإنتاج، وهذه الحتمية في وجوب لحاق علاقات الإنتاج بالقوى المنتجة في التطور هي التي جعلت الخلاف بينهما، أي بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، يحدث الثورة التي تهدم علاقات الإنتاج الحالية التي تخالف القوى المنتجة وخلق علاقات جديدة مطابقة لطابع القوى المنتجة. ومن هنا يظهر كيف أن تطور القوى المنتجة هو الذي جر إليه تطور العلاقات فوجدت الثورة التي تغير النظام إلى نظام آخر. فطبقاً للتطور والتغيرات في قوى المجتمع المنتجة يجب أن تتغير وتتطور علاقات الإنتاج بين الناس، أي علاقاتهم الاقتصادية، فإذا لم يحصل هذا التغير ووجد التناقض بينها حصلت الثورة فأدت إلى وجود التطور في العلاقات إلى أن ينتهي بالمطابقة بينها وبين مستوى تطور القوى المنتجة.
وقد سجل التاريخ خمسة أنواع أساسية لعلاقات الإنتاج هي: المشاعية الابتدائية، والرق، والنظام الإقطاعي، والنظام الرأسمالي، والنظام الاشتراكي.
ففي نظام المشاعية الابتدائية تؤلف الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج أساس علاقات الإنتاج، وذلك يطابق من حيث الأساس طابع القوى المنتجة في هذا العصر. فالأدوات الحجرية وكذلك القوس والسهام التي ظهرت فيما بعد لم تكن تسمح للناس بأن يناضلوا منفردين ضد قوى الطبيعة والحيوانات المفترسة، فكانوا مجبرين على العمل معاً بصورة مشتركة إذا ما أرادوا قطف الثمار في الغابات أو صيد السمك وإلا ماتوا جوعاً أو وقعوا فريسة للحيوانات الضارية. والعمل المشترك يؤدي إلى الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج وللمنتجات أيضاً. لذلك لم يكن هناك مفهوم للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ما عدا بعض أدوات الإنتاج التي تؤلف أسلحة دفاع ضد الحيوانات المفترسة، ولهذا لم يكن هناك استثمار ولا طبقات.
وفي نظام الرق تؤلف ملكية سيد العبيد لوسائل الإنتاج وللشغيلة أساس علاقات الإنتاج، وعلاقة الإنتاج هذه تطابق من حيث الأساس حالة القوى المنتجة في هذا الدور. فقد أصبحت عند الناس الأدوات المعدنية، وظهرت تربية المواشي والزراعة وحرف شتى، وقسم العمل بين هذه الفروع المختلفة للإنتاج، وظهر كذلك تبادل المنتجات بين الأفراد والجماعات وإمكان تراكم الثروة بين أيدي عدد ضئيل من الناس، وتكدس وسائل الإنتاج بصورة فعلية في أيدي أقلية، وإمكان جعل الأكثرية خاضعة للأقلية. فهنا لم يبق عمل مشترك حر يقوم به جميع أعضاء المجتمع خلال سير الإنتاج، فلم تبق ملكية مشتركة لوسائل الإنتاج ولا للمنتجات إذ قد حلت محلها الملكية الخاصة، وصار الناس أغنياء وفقراء، مستثمرين ومستثمرين، أناس لهم كل الحقوق وأناس ليس لهم أي حق، نضال طبقي حاد بين هؤلاء وأولئك.
وفي النظام الإقطاعي تؤلف ملكية النبيل الإقطاعي لوسائل الإنتاج، وكونه في إمكانيته بيع الشغيل وشراؤه أساس علاقات الإنتاج، وإلى جانب الملكية الإقطاعية ملكية الفلاح والحرفي الفردية المشتملة على أدوات الإنتاج وعلى اقتصادهما الخاص المؤسس على العمل الشخصي. وعلاقات الإنتاج هذه تطابق من حيث الأساس حالة القوى المنتجة في هذا الدور. فقد وجد تحسين الحديد الصب، وإتقان معالجة الحديد، وتعمم استعمال المحراث وأنوال النسيج، وتطورت الزراعة والبستنة وصناعة الخمور وصناعة الزيت تطوراً مستمراً، وظهرت المانيفاكتورات (أي جمع الحرفيين تحت سقف واحد ليصنعوا له ما يقدمه لهم من أدوات) وورشات الحرفيين، وتطلبت هذه القوى المنتجة الجديدة من الشغيل أن يبدي شيئاً من المبادهة والابتكار في الإنتاج وذوقاً فيما يضع واهتماماً بالعمل، وإلا تخلى عنه النبيل الإقطاعي وأخذ غيره ممن يملك اقتصاده الخاص وأدوات إنتاجه ولديه اهتمام بالعمل. فهنا تتابع الملكية الخاصة تطورها، ولكن يبقى الاستثمار على مثل قسوته في الرق تقريباً، لا يكاد يلين إلا قليلاً فيحصل النضال بين الشغيل والإقطاعي، ويعتبر النضال الطبقي بين المستثمرين والمستثمرين الميزة الأساسية للنظام الإقطاعي.
وفي النظام الرأسمالي تؤلف الملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج أساس علاقات الإنتاج، والعمال المأجورون لا يستطيع الرأسمالي بيعهم ولا شراءهم وهم محررون من كل تبعية شخصية، غير أنهم محرومون من وسائل الإنتاج. وهم من أجل الحصول إلى قوتهم مضطرون أن يبيعوا قوة عملهم للرأسمالي وأن يعانوا نير الاستثمار. غير أنه إلى جانب الملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج توجد ملكية الفلاح والحرفي الخاصة لأدوات الإنتاج. وعلاقات الإنتاج هذه تطابق من حيث الأساس حالة القوى المنتجة في هذا الدور. فقد حلت المصانع والمعامل العظيمة المجهزة بالآلات محل ورشات الحرفيين والمانيفاكتورات، كما أن الاستثمارات الرأسمالية الكبيرة التي تدار على أساس العلم الزراعي والمجهزة بالآلات الزراعية حلت محل أملاك النبلاء التي كانت تزرع بواسطة أدوات الفلاحين الابتدائية. وهذه القوى المنتجة الجديدة تتطلب من الشغيلة أن يكونوا أكثر ثقافة وذكاء، وأن تكون لديهم الكفاية اللازمة لفهم الآلة وأن يجيدوا استعمالها كما ينبغي وإلا تخلى عنهم الرأسماليون وأخذوا غيرهم ممن يحوزون على ثقافة كافية تساعدهم على استعمال الآلات استعمالاً لائقاً. إلا أن الرأسماليين بإنتاجهم كميات متزايدة من البضائع، وبانقاصهم أسعار هذه البضائع يزيدون المزاحة تفاقماً واشتداداً، ويجعلون جماهير الملاكين الصغار والمتوسطين في خراب ودمار، وتجعلهم في حال العمال، وتخفض مقدرتهم الشرائية، وتكون النتيجة أن تصريف البضائع المصنوعة يضحي مستحيلاً. ثم أن الرأسماليين بتوسيعهم مشروعاتهم الإنتاجية، وبجمعهم ملايين العمال في مصانع ومعامل عظيمة يطبعون عملية الإنتاج بطابع اجتماعي، وتكون ملكية وسائل الإنتاج فردية، وبذلك أبطل الرأسماليون قاعدتهم بأنفسهم. لأن الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج يتطلب ملكية جماعية لوسائل الإنتاج، في حين أن ملكية وسائل الإنتاج باقية ملكية خاصة رأسمالية، فهي غير متلائمة مع الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج فيحصل التناقض وتحصل الثورة. لأن علاقات الإنتاج وهي الملكية الفردية لم تعد مطابقة لحالة القوى المنتجة وهو الإنتاج الجماعي، بل دخلت معها في تناقض لا يحل، وبذلك يبرز أن الرأسمالية تحمل في صلبها ثورة مدعوة إلى إحلال الملكية الاشتراكية محل الملكية الرأسمالية الحالية لوسائل الإنتاج، ومعنى هذا أن نضالاً طبقياً حاداً من أشد ما عرف بين المستثمرين والمستثمرين هو الميزة الأساسية للنظام الرأسمالي. وهكذا يسير تطور علاقات الإنتاج تبعاً لتطور القوى المنتجة في المجتمع، وتبعاً لتطور أدوات الإنتاج قبل كل شيء، وهذه التبعية هي التي تجعل التغير والتطور في القوى المنتجة يؤديان عاجلاً أو آجلاً إلى تغير وتطور مطابقين في علاقات الإنتاج. يقول كارل ماركس: "أن العلاقات الاجتماعية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقوى المنتجة، وعندما يحصل الناس على قوى منتجة جديدة يغيرون أسلوبهم في الإنتاج، وبتغييرهم أسلوب الإنتاج، أي بتغييرهم طرق اكتساب معيشتهم يغيرون كل علاقاتهم الاجتماعية. فطاحونة الهواء تعطيك مجتمع الحاكم الإقطاعي. والطاحونة البخارية تعطيك مجتمع الرأسمالي الصناعي" ويقول: "أن هناك حركة نمو مستمرة في القوى المنتجة، وحركة تهديم مستمرة في العلاقات الاجتماعية وحركة تكون مستمرة في الأفكار، وليس من شيء ثابت سوى تجريد الحركة".
هذه هي خلاصة أقوالهم في الخاصة الثانية للإنتاج وهي كلها مجرد فروض نظرية يكذبها التاريخ ويكذبها الواقع، وهي خطأ محض ليس فيها شيء من الصحة مطلقاً. فقولهم أن تطور الإنتاج وتغيراته تبدأ دائماً بتغير القوى المنتجة وتطورها قول خاطيء، فإن الإسلام حين جاء غير النظام الذي عليه الناس أي غيّر العلاقات، وبعد أن قويت الدولة وصارت الفتوحات بدأ الرقي المادي فبدأت أدوات الإنتاج تتغير وبدأت الخبرة الفنية أو ما يسمى معارف الإنتاج تتغير. وروسيا حين استولى الحزب الشيوعي على الحكم بدأت الدولة تغير علاقات الناس وبعد ذلك صارت الدولة تحسن أدوات الإنتاج وتغيرها، ويروى عن لينين أنه طلب منه شراء تراكتورات للحراثة من الغرب لتحسين الزراعة وتسييرها حسب العصر الحديث فرفض ذلك وقال: "يجب أن نصنع نحن التراكتورات ثم نستعمل من صناعتنا ما يحسن زراعتنا". فهذان مثالان بارز فيهما أن التغير بدأ في العلاقات وجاء تغيير القوى المنتجة بعد تغيير العلاقات. وكذلك قولهم أن علاقات الإنتاج تؤثر بدورها في تطور القوى المنتجة فتعجله أو تبطئه، قول خاطيء، فإن ما يسمونه بالقوى المنتجة لا يؤثر في تحسينها أو رفع مستواها ما عليه العلاقات في المجتمع وإنما تحسنها وترفع مستواها العلوم والمعارف، فبالنسبة للإنسان إنما يغير حاله من حسن إلى سيء ومن سيء إلى حسن مستواه العقلي. أي ما لديه من فكر ومعارف. وبالنسبة للأدوات فإن الذي يوجد الصناعة والاختراع إنما هو العلم وليس النظام الذي يطبق. وأما بالنسبة لما يسمى بمعارف الإنتاج أي الخبرة الفنية فظاهر أن علاقات الإنتاج لا علاقة لها في تحسينها، بل زيادة المعرفة ومواصلة البحث العلمي هو الذي يحسنها. صحيح أن النظام الذي يعالج العلاقات قد يعرقل التقدم العلمي، وقد يفسح له المجال فيتقدم، ولكنه أي النظام أو العلاقات لا دخل له في تحسين الصناعة والاختراع ولا في رفع مستوى معارف الإنتاج أي الخبرات الفنية. فمثلاً الديانة النصرانية حين كانت تسيطر على المجتمع في أوروبا في القرون الوسطى أي حين كانت تسيطر على العلاقات قد عرقلت تقدم العلم والاختراع فعرقلت تقدم أدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج، ولكنها هزمت أخيراً وانتصر العلم فتقدمت العلوم والمخترعات وكانت الثورة الصناعية. والإسلام حين طبق على الشعوب المتقدمة كفارس والروم فسح المجال للعلم والاختراع فتقدمت المعارف وتحسنت أدوات الإنتاج، ولكنه هو كنظام للعلاقات لم يؤثر في العلم فلم يعجّله ولم يبطئه. والمسلمون حين حصلت الثورة الصناعية في أوروبا في وقت كانت عوامل التغشية قد غطت على عقولهم فأساءوا فهم الإسلام، وقفوا حيارى أمام التقدم العلمي وأمام الثورة الصناعة فتعرقل تقدم أدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج ولكن ذلك لم يكن من العلاقات أي لم يكن من النظام ولا من أفكار النظام وإنما كان من الانحطاط الفكري. أي أن الأفكار التي تعالج العلاقات مباينة ومغايرة للأفكار التي تتضمنها العلوم والاختراعات فلا تؤثر على القوى المنتجة أي لا تؤثر على أدوات الإنتاج ولا على معارف الإنتاج، وأبسط دليل على ذلك أن تقدم العلوم والمخترعات اليوم في روسيا وفي أميركا لم يؤثر عليها النظام الذي يطبق فيهما لا بتحسينها ولا بتأخيرها بل حسنها لدى كل منهما تقدم العلوم ليس غير. وأما القول بأن تطور أدوات الإنتاج لا بد أن يلحقه تغير علاقات الإنتاج فهو قول واضح ولكنه مخالف للواقع وغير صحيح. وهم أنفسهم ينقضونه في تحليلهم. أما نقضهم له في تحليلهم فيظهر من تحليلهم للخاصة الثانية، فهم يقولون: أن القوى المنتجة لا تستطيع أن تتطور تطوراً تاماً إلا عندما تكون علاقات الإنتاج مطابقة لطابع القوى المنتجة وحالتها، وإذا لم تحصل المطابقة بين علاقات الإنتاج وبين مستوى تطور القوى المنتجة تتعرض الوحدة التي تجمع في نظام الإنتاج بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج إلى خطر التفكك فيؤدي ذلك إلى وقوع أزمة في الإنتاج. وهذا الكلام يعني أنه ليس حتمياً أن تغير العلاقات يتبع تغير القوى المنتجة. إذ قد يحصل عدم التطابق فتفكك الوحدة. فالحتمية منقوضة حسب قولهم. إذ معنى قولهم هو أنه إما أن تلحق العلاقات القوى المنتجة وإما أن تحصل أزمة، وهذا ينقض الحتمية. وعليه فإن كون علاقات الإنتاج تتبع القوى المنتجة في التغير والتطور بشكل حتمي غير صحيح حسب تحليلهم. ولا يقال أن حصول الأزمات المتلاحقة نتيجة التناقض يؤدي في النهاية إلى الانتقال إلى العلاقات الجديدة، فتحليلهم لا ينقض دعواهم، إذ يقولون بحدوث أزمات ويعتقدون أن الأزمات بدورها تؤدي إلى تغيير حتمي في العلاقات، لا يقال ذلك لأنهم في الأساس يقولون بأن تطور الإنتاج لا بد أن يلحقه تغير علاقات الإنتاج، فالحتمية آتية من أن التطور يؤدي حتماً إلى تغير العلاقات هذا هو أصل قولهم، ومعناه أنه لا يتخلف، وفي تحليلهم يقولون أنه إذا لم تحصل المطابقة بين علاقات الإنتاج وبين مستوى تطور القوى المنتجة تحصل الأزمة في الإنتاج، وهنا يفرضون أن هذه الأزمات تتلاحق وأن تلاحقها يؤدي إلى تغير العلاقات، فتكون النتيجة المنطقية أن تطور الإنتاج يؤدي حتماً إلى تغير العلاقات فالفرض بتلاحق الأزمات فرض نظري فقد يزال التناقض فلا يحصل تلاحق الأزمات بل قد لا تحصل الأزمة. وإذن يبطل القول أن تطور القوى المنتجة يؤدي إلى تغير العلاقات لأنه بني على حتمية حصول الأزمات المتلاحقة وهذا ليس بحتمي فيكون ما ترتب عليه ليس بحتمي، وعليه فإن تحليلهم أن القوى المنتجة لا تستطيع أن تتطور إلا عند حصول المطابقة بين علاقات الإنتاج وبين مستوى القوى المنتجة معناه أن تطور الإنتاج ليس حتمياً أن يلحقه تغير علاقات الإنتاج، إذ تحصل أزمة ولا يحصل تطور، وكذلك تحليلهم أن تلاحق الأزمات يؤدي إلى تغير حتمي في العلاقات، معناه أنه إذا لم يحصل تلاحق الأزمات لا يحصل تغير في العلاقات، وتلاحق الأزمات ليس بحتمي بل قد يوفق بينها. وعليه ليس حتمياً أن يؤدي تطور الإنتاج إلى تغير العلاقات. فإذن هو حسب تحليلهم غير صحيح. وأما كونه غير صحيح لمخالفته للواقع فإن المسلمين استمروا في التقدم المادي إلى جانب الارتفاع الفكري ستة قرون تقريباً وتغيرت أدوات الإنتاج التي كانوا يستعملونها، ولكن نظامهم الاجتماعي وأفكارهم الاجتماعية وآراءهم ومؤسساتهم السياسية لم تتغير، بل بقيت هي هي مما يدل على أن تغير أدوات الإنتاج لا يؤثر على النظام. وأيضاً فإن علاقاتهم حين كانوا في جزيرة العرب وكانت أدواتهم محض بدائية هي عينها علاقاتهم حين فتحوا فارس والروم واستعملوا أدواتهم التي كانت في دور مدني أرقى من الأدوات البدائية. ثم استمر التحسين في الأدوات قروناً ولكن ظلت العلاقات على حالها. فتغير أدوات الإنتاج وتطورها لم يتبعه تغير العلاقات ولم تحصل أزمات. ثم أن أميركا منذ القرن التاسع عشر بدأت فيها أدوات الإنتاج تتغير وتنمو ولكن ذلك لم يغير نظام أميركا الاجتماعي ولا أفكارها الاجتماعية ولا آراءها ومؤسساتها السياسية بل ظل نظاماً رأسمالياً وأفكاراً رأسمالية وآراء ومؤسسات ديمقراطية. وأيضاً فإن تغير أدوات الإنتاج الذي سار بخطوات واسعة في أميركا لم يتبعه تغير في علاقات الإنتاج بل ظلت العلاقات كما هي ولا تزال علاقات رأسمالية.
وأما الفروض التي يقولونها من أن التاريخ سجل خمسة أنواع أساسية لعلاقات الإنتاج تطورت فيها أدوات الإنتاج وتبعتها علاقات الإنتاج فأدى ذلك إلى الانتقال إلى نظام جديد، وأن الناس انتقلوا من المشاعية الابتدائية إلى الرق، ومن الرق إلى النظام الإقطاعي، ومن النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، ومن النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي، هذه الفروض النظرية يكذبها الواقع كما يكذبها التاريخ. فالواقع أن دول أوروبا الشرقية لا تختلف عن دول أوروبا الغربية من حيث أدوات الإنتاج، ولكن علاقات الإنتاج في دول أوروبا الشرقية غيرها في دول أوروبا الغربية، والنظام في دول أوروبا الشرقية غيره في دول أوروبا الغربية، فما الذي جعله يتغير، هل تطورت دول أوروبا الشرقية من الرأسمالية إلى الاشتراكية أو على حد تعبيرهم بشكل أدق إلى الديمقراطية الشعبية بتطور أدوات الإنتاج، أم باستيلاء روسيا الشيوعية عليها؟ والواقع أن أدوات الإنتاج في روسيا هي عينها التي في إنجلترا، ومع ذلك فإن علاقات الإنتاج في روسيا غيرها في إنجلترا، ونظام المجتمع في روسيا غيره في أميركا، فلماذا لم تتطور العلاقات في إنجلترا تبعاً لتطور أدوات الإنتاج؟ وهل تطورت أدوات الإنتاج في روسيا أولاً ثم تطورت العلاقات، أم أن الحزب الشيوعي استلم الحكم فغير العلاقات، ثم صار هو يحسن أدوات الإنتاج، فغير العلاقات قبل أن تتغير أدوات الإنتاج. هذا الواقع يكفي لأن ينقض الخاصة الثانية، بل يكفي لأن ينقض الخواص الثلاث. فإن العلاقات بين الناس لا شأن لها مطلقاً بأدوات الإنتاج وبالتالي لا شأن لها بما يسمى بالقوى المنتجة. فهي تتحسن من حال إلى حال تبعاً لتقدم العلوم والمعارف. وأما العلاقات فتتغير من حال إلى حال تبعاً للأفكار أي تبعاً لوجهة النظر في الحياة والمدقق في حال العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن يجد أن التقدم العلمي والمخترعات الحديثة قد خطت إلى الأمام خطوات واسعة تفوق جميع الخطوات التي مرت في آلاف السنين وقفزت في هذه الفترة البسيطة التي لا تزيد على ثماني عشرة سنة قفزات هائلة، فلو كانت علاقات الإنتاج تتغير وتتطور طبقاً للتغيرات والتطورات في قوى المجتمع المنتجة لكان التاريخ سجل عشرات الأنواع لعلاقات الإنتاج قياسياً على أنه سجل خمسة أنواع أساسية لعلاقات الإنتاج خلال الفترة السابقة لقيام الحكم الشيوعي لروسيا. لأن التغير والتقدم الذي حصل خلال هذه المدة لا يقاس به أي تقدم سابق، ولكن الواقع أن علاقات الإنتاج أو بعبارة أخرى الأنظمة التي تسير عليها العلاقات لم يتغير شيء منها على الإطلاق. فالنظام الاشتراكي ظل في روسيا كما هو، مع أن روسيا انتقلت من دولة لا تملك حتى القنبلة الذرية إلى مركز الدولة الأولى في عالم الفضاء. والنظام الرأسمالي ظل في أميركا كما هو مع أن أميركا في الحرب العالمية الثانية وإن كانت تملك القنبلة الذرية ولكنها كانت في هذا الشأن وفي عالم الفضاء لا تزال في حالة بدائية، ولكنها انتقلت إلى أن صارت ترسل الرجال يدورون حول الكرة الأرضية وصارت ترسل المركبات للمريخ والزهرة وتحاول اللحاق بروسيا وسبقها. وهذا التقدم العلمي في كلتا الدولتين لم يلحقه أي تغير أو تطور في علاقات الإنتاج، فهذا واقعياً يكذب القول بأنه طبقاً للتغيرات والتطورات في قوى المجتمع المنتجة خلال التاريخ تغيرت وتطورت علاقات الإنتاج بين الناس. فإنه إذا كان المشاهد أنه لم يحصل أي تغير أو تطور في علاقات الإنتاج خلال ثماني عشرة سنة بالرغم من حصول تغير وتقدم في أدوات الإنتاج وفي معارف الإنتاج أي بما يسمى بقوى المجتمع المنتجة يفوق ما حصل خلال آلاف السنين، فمعناه أن ذلك لم يحصل في التاريخ. ومن هنا كان الواقع يكذب القول أن التاريخ سجل خمسة أنواع أساسية لعلاقات الإنتاج ويكذب كذلك الخاصة الثانية كلها.
وأما تكذيب التاريخ لقولهم أن العالم انتقل من المشاعية الابتدائية إلى الرق ومن الرق إلى النظام الإقطاعي، ومن النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، ومن النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي فإنه ظاهر في انتقال روسيا التي كانت أقرب إلى الإقطاعية منها إلى الرأسمالية الاشتراكية، وعدم انتقال أوروبا الرأسمالية الصناعية من الرأسمالية حتى الآن. وكذلك انتقال الصين الإقطاعية إلى الاشتراكية، وعدم انتقال أميركا الصناعية حتى الآن. وانتقال ألمانيا الشرقية إلى الاشتراكية بمجرد استيلاء الروس عليها، وعدم انتقال ألمانيا الغربية من الرأسمالية مع أنهما بلد واحد، وهي أي ألمانيا كلها بدل رأسمالي صناعي. وهذا دليل تاريخي كاف لنقض الخاصة الثانية. فإن أدوات الإنتاج في أوروبا كانت في تحسن مطرد بينما كانت في روسيا لم تتحسن بعد، وأدوات الإنتاج في أميركا كانت في تقدم ملحوظ بينما كانت في الصين في تأخر واضح، ومع ذلك تغيرت علاقات الإنتاج في روسيا ولم تتغير في أوروبا، وتغيرت في الصين ولم تتغير في أميركا، وأدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج كانت في ألمانيا كلها في حالة تقدم لا فرق بين ما يسمى اليوم بألمانيا الشرقية وبين ما يسمى بألمانيا الغربية ومع ذلك تغيرت علاقات الإنتاج في ألمانيا الشرقية ولم تتغير في ألمانيا الغربية مما يؤكد أنه لا علاقة بين تغير أدوات الإنتاج وتحسينها وتغير معارف الإنتاج وتقدمها وبين علاقات الإنتاج، ومما يؤكد أن الانتقال من نظام إلى نظام لم يحصل حسب ما يقولون من دور إلى دور حسب تطور أدوات الإنتاج، ولهذا كان ما يقولونه من أن التاريخ سجل حوادث خمسة قول مبني على مجرد فروض نظرية بل على تخيلات. وبذلك تبطل الخاصة الثانية للإنتاج.
18
وأما الخاصة الثالثة للإنتاج حسب رأي الشيوعيين فهي أن القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج التي تطابقها لا تنشأ خارج المجتمع القديم بعد زواله، بل تنشأ في قلب النظام القديم نفسه، فهي ليست نتيجة عمل واع مقصود يقوم به الناس، بل تبرز عفواً بصورة مستقلة عن وعي الناس وإرادتهم. ويعود ذلك إلى سببين: أولاً: لأن الناس ليسوا أحراراً في اختيار أسلوب الإنتاج، فكل جيل جديد يجد عند دخوله إلى الحياة قوى منتجة، وعلاقات إنتاج جاهزة، خلقها عمل الأجيال السابقة. فكل جيل جديد مضطر أن يقبل في البداية كل ما يجده جاهزاً في ميدان الإنتاج وأن يألفه ليستطيع إنتاج الحاجات المادية.
ثانياً: لأن الناس عندما يحسنون هذه أو تلك من أدوات الإنتاج، وهذا أو ذاك من عناصر القوى المنتجة، لا يدركون النتائج الاجتماعية التي يجب أن تؤدي إليها هذه التحسينات، بل هم لا يفهمونها، ولا تخطر لهم في بال. فهم لا يفكرون إلا في مصالحهم اليومية، وفي تسهيل عملهم، وفي الحصول على فائدة مباشرة وملموسة.
فمثلاً لما راح الرأسماليون الروس بالاتفاق مع الرأسماليين الأجانب يؤسسون في روسيا بهمة ونشاط الصناعة الكبرى الحديثة المجهزة بالآلات دون أن يمسوا القيصرية، مع ترك الفلاحين طعاماً سائغاً لكبار ملاكي الأرض، كانوا دون ريب يجهلون النتائج الاجتماعية التي سيؤدي إليها هذا النمو العظيم في القوى المنتجة، كانوا لا يفكرون في ذلك. وكانوا لا يدركون ولا يفهمون أن هذه القفزة الخطيرة للقوى المنتجة في المجتمع ستؤدي إلى تجمع جديد للقوى الاجتماعية، وأن هذا التجمع سيسمح للبروليتاريا بأن تتحد مع الفلاحين وتحقق انتصار الثورة الاشتراكية. فكل ما كانوا يريدون هو توسيع الإنتاج الصناعي إلى أقصى حد، وتأمين سيادتهم في سوق داخلية عظيمة واسعة واحتكار الإنتاج، وابتزاز أكبر ربح ممكن من الاقتصاد الوطني. فما كان نشاطهم الواعي ليتجاوز حدود مصالحهم اليومية العملية المحضة. يقول كارل ماركس: "أن الناس أثناء الإنتاج الاجتماعي لمعيشتهم يقيمون فيما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم، وتطابق علاقات الإنتاج هذه درجة معينة من تطور قواهم المنتجة المادية»". ولكن ذلك لا يعني أن تغير علاقات الإنتاج والانتقال من علاقات الإنتاج القديمة إلى الجديدة يجريان على خط مستقيم دون نزاعات ودون هزات، بل على العكس يجري هذا الانتقال عادة بقلب علاقات الإنتاج قلباً ثورياً وبإقامة العلاقات الجديدة في مكانها. فإن تطور القوى المنتجة والتغيرات في ميدان علاقات الإنتاج تجري خلال مرحلة معينة بصورة عفوية مستقلة عن إرادة الناس، ولكن ذلك لا يدوم إلا إلى حين، أي إلى أن تصبح القوى المنتجة التي برزت أخذت تتطور في درجة كافية من النضج. وعندما تبلغ القوى المنتجة الجديدة حد النضج تتحول علاقات الإنتاج الموجودة والطبقات التي تمثلها إلى حاجز كؤود لا يمكن إزاحته من الطريق إلا بالنشاط الواعي للطبقات الجديدة، وبعملها العنيف، أي بالثورة. ويظهر إذ ذاك بشكل رائع الدور الذي تلعبه الأفكار الاجتماعية الجديدة، والمؤسسات السياسية الجديدة، والسلطة السياسية الجديدة المدعوة إلى إلغاء علاقات الإنتاج القديمة ومحوها بالقوة. فعلى أساس النزاع بين القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة، وعلى أساس حاجات المجتمع الاقتصادية الجديدة تتولد أفكار اجتماعية جديدة، وهذه الأفكار الجديدة تنظم الجماهير وتعبئها، فتتحد الجماهير في جيش سياسي جديد، وتخلق سلطة ثورية جديدة، تستخدمها لإلغاء النظام القديم في ميدان علاقات الإنتاج ومحوه بالقوة، وتشييد نظام جديد فيه.
وهكذا يحل نشاط الناس الواعي محل سير التطور العفوي، ويحل الانقلاب العنيف محل التطور السلمي، وتحل الثورة محل التطور التدريجي. يقول كارل ماركس: "أن الناس أثناء الإنتاج الاجتماعي لمعيشتهم يقيمون فيما بينهم علاقات معينة ضرورية مستقلة عن إرادتهم، وتطابق علاقات الإنتاج هذه درجة معينة من تطور قواهم المنتجة المادية، ومجموع علاقات الإنتاج هذه يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، أي الأساس الواقعي الذي يقوم عليه بناء فوقي حقوقي سياسي، تطابقه أشكال معينة من الوعي الاجتماعي. إن أسلوب إنتاج الحياة المادية يكيف تفاعل الحياة الاجتماعي والسياسي والفكري، بصورة عامة. فليس إدراك الناس هو الذي يعين معيشتهم، بل، على العكس من ذلك، معيشتهم الاجتماعية هي التي تعين إدراكهم، وعندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة المادية درجة معينة في تطورها تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة، أو مع علاقات الملكية ـ وليست هذه سوى التعبير الحقوقي لتلك ـ التي كانت إلى ذلك الحين متحركة ضمنها. فبعد ما كانت هذه العلاقات أشكالاً لتطور القوى المنتجة، تصبح قيوداً لهذه القوى. وعندئذ ينفتح عهد ثورات اجتماعية فإن تغير الأساس الاقتصادي يزعزع كل البناء الفوقي الهائل على صور مختلفة من السرعة والبطء".
هذه خلاصة ما قاله الشيوعيون في الخاصة الثالثة وبإمعان النظر فيه يتبين أنه خطأ مخالف للواقع وينقضه ما حصل في روسيا نفسها. أما وجه الخطأ فيه فإنه ثبت أنه لا علاقة بين أدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج وبين القوى المنتجة أي لا علاقة بين ما يسمونه بقوى المجتمع المنتجة وبين النظام الذي يعالج علاقات الناس. فأحدهما غير مرتبط بالآخر وغير متوقف عليه ولا يستتبع تغير أحدهما تغير الآخر. فقد تتغير العلاقات وتتحسن من غير أن يكون هناك أي تغير أو تحسن في القوى المنتجة للمجتمع، أي قد يتغير نظام الحياة الذي يعالج العلاقات إلى نظام أحسن في حالة لا يوجد فيها أي تغير أو تحسن بأدوات الإنتاج ولا بمعارف الإنتاج كما حصل في الإسلام، فإنه قلب حياة العرب رأساً على عقب وغيّر علاقاتهم تغييراً جذرياً وكلياً في تقدم هائل إلى الأمام ولم يكن قد حصل أي تغير لديهم لا في أدوات الإنتاج ولا في معارف الإنتاج. ولا توجد بينهما مطابقة أو عدم مطابقة، ولهذا لا يقال أن القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج لا تنشأ خارج المجتمع القديم بعد زواله، بل تنشأ في قلب النظام القديم نفسه، لا يقال ذلك لأنه خلاف الواقع. فإن المجتمع الجاهلي القديم لم تنشأ فيه علاقات الإسلام الجديدة، بل نشأت خارجه وجاءت ومحته من الوجود، ولم تكن مسألة مطابقة هذه العلاقات لأدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج موجودة ولم تكن ملاحظة، بل كانت غير واردة على الإطلاق. ثم أن الناس أحرار في اختيار أدوات الإنتاج التي يريدونها، وأحرار في اختيار معارف الإنتاج، فهم ليسوا مضطرين لقبول ما وجدوا عليه آباءهم، وليسوا مجبورين على قبول ما يجدونه أمامهم من أدوات إنتاج ومن معارف إنتاج ومن أنظمة بل لهم حرية الاختيار، ولذلك يحصل التقدم المادي في أدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج، لأنهم لو كانوا مجبرين على قبول ما وجدوه أمامهم لم حصل التقدم والتحسين، ولهذا فهم مختارون وليس مجبرين، ثم أن تحسينهم أدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج إنما يحسنونها عن وعي وإدراك فهم يرونها غير صالحة ويعملون لتحسينها. أما إدراكهم لأثر ذلك على العلاقات أو عدم إدراكهم فلأنه لا مكان للعلاقات في هذا الموضوع وليس لأنهم غافلين عنه أو لأنهم لا يفهمونه، أي أن ما يقوله الشيوعيون من أن الناس لا يدركون النتائج الاجتماعية التي يجب أن تؤدي إليها تحسينات أدوات الإنتاج غير صحيح، فإن تحسين الناس لأدوات الإنتاج ليس ناتجاً عن غفلتهم أو عن عدم فهمهم كما يقول الشيوعيون، بل لأنها غير واردة في هذا المجال، أي أن تغير الأنظمة قضية ليست ذات موضوع في تحسين أدوات الإنتاج ومعارف الإنتاج لأنه لا علاقة لأحدهما في الآخر، فتحسين الإنتاج ومعارف الإنتاج شيء، والأنظمة أو علاقات الإنتاج شيء آخر، وتحسين الإنتاج ومعارف الإنتاج متعلق بالعلم والاختراعات، والأنظمة أو على حد تعبيرهم العلاقات متعلق بالأفكار وبوجهة النظر في الحياة. ولهذا فإن الناس عندما يحسنون هذه أو تلك من أدوات الإنتاج، وهذا أو ذاك من عناصر القوى المنتجة أي من معارف الإنتاج والخبرات الفنية لا يخطر ببالهم أن لهذه علاقة بالنظام الذي يعيشون عليه أو على حد تعبيرهم بالعلاقات لأن الواقع أنه لا علاقة لها به ولا صلة بين تقدم أحدهما وتأخر الآخر، فمن الطبيعي جداً أن لا يخطر لهم ببال. وأما قولهم أي الشيوعيين أن إدخال الأدوات المعدنية يعني ثورة في الإنتاج وسيؤدي في النهاية من المشاعية الابتدائية إلى نظام الرق، وأن أعضاء المشاعية حين كانوا يحسنون أدواتهم ويتلمسون الانتقال من الأدوات الحجرية إلى الأدوات المعدنية لم يكونوا يدركون ذلك ولم يكونوا يفهمونه ولا يخطر لهم ببال. فإن هذا القول مجرد فرض نظري بحت، بل مجرد تخيل بأن هناك نظام رق نشأ عن تحسين الأدوات الحجرية ونقلها إلى أدوات معدنية. فالأدوات المعدنية موجودة منذ آلاف السنين ونظام الرق كان سائداً العالم حتى قبيل عشرات السنين ولم يلغ نظام الرق من العالم من جراء تغير الأدوات الحجرية إلى أدوات معدنية، فإنه حين ألغي من العالم كان العالم ينعم بالثورة الصناعية والصناعات الكبرى، وإنما الغي بناء على أفكار جديدة قالت بإلغائه، والذي ألغاه عالمياً وعمل على إلغائه إنما هي الدول الاستعمارية، وقد ألغته لا لعتق الأرقاء، بل لتحويل الاستعباد والاسترقاق من استعباد واسترقاق أفراد إلى استرقاق واستعباد الشعوب. فالقول بأن الناس لم يفهموا بالمشاعية البدائية أن تحسين أدواتهم من الأدوات الحجرية إلى الأدوات الحديدية سيترتب عليها نتيجة اجتماعية هي نظام الرق قول مخالف للواقع وهو مجرد فرض وتخيل. وكذلك قولهم أن الرأسماليين الروس حين كانوا يؤسسون الصناعات الكبرى في روسيا كانوا يجهلون النتائج الاجتماعية التي ستؤدي إليها هذه الصناعات الكبرى من تجميع قوى العمال والفلاحين والقيام بالثورة الاشتراكية التي تطبق الاشتراكية، هو قول مخالف للواقع ومجرد فرض. فتأسيس الصناعات الكبرى لا ينتج عنه تجميع قوى العمال والفلاحين معاً والقيام بثورة اشتراكية، بدليل أن هذه الصناعات الكبرى قد قامت في أوروبا وأميركا قبل روسيا ومع ذلك لم ينتج عنها تجميع العمال والفلاحين وبالتالي لم ينتج عنها ثورة اشتراكية، ولا نتج تحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية. وأما ما حصل في روسيا من ثورة فليس ناتجاً عن الصناعات الكبرى، ولا علاقة للصناعات الكبرى بتلك الثورة ولا بإيجاد الاشتراكية في روسيا. وبهذا كله يظهر أن قولهم أن تحول القوى المنتجة وتحول أدوات الإنتاج يحصل في النظام القديم ويبرز بصورة مستقلة عن وعي الناس ولكن تحسينهم للقوى المنتجة يؤدي إليه، هذا القول خطأ مخالف للواقع وتكذبه الوقائع الجارية والحوادث التاريخية. وأيضاً فإنه ينقضه ما حصل في روسيا. فإن الذي حصل فيها هو أن الحكام الشيوعيين صاروا يحاولون تغيير علاقات الإنتاج لا بتغيير أدوات الإنتاج، بل بعمليات القضاء على النظام القديم بالقوة، وأدوات الإنتاج التي كانت سائدة في روسيا في سني ما قبل الثورة الشيوعية حين كان النظام إقطاعياً ظلت هي نفس أدوات الإنتاج في السنوات التي أعقبت الثورة، تلك السنوات التي تم في خلالها تغيير العلاقات القديمة إلى علاقات جديدة. فكان الذي حصل في روسيا حقيقة هو ثورة أطاحت بالحكام القدامى وجاءت بحكام جدد لديهم أفكار معينة قاموا يطبقونها بقوة الحديد والنار. ومن هنا يبرز أن تغيير العلاقات كان قبل تغيير أدوات الإنتاج، وأنه حصل بالقوة، وأنه حصل بعد البدء بتطبيق النظام الجديد لا أثناء وجود النظام القديم مما يثبت خطأ فروضهم.
وأما قولهم أن تغير علاقات الإنتاج والانتقال من علاقات الإنتاج القديمة إلى الجديدة يحصل عفوياً في أول الأمر ثم يحصل العنف والثورة فمنقوض بالثورة الشيوعية. فإن الأفكار الشيوعية بدأت بالانتشار منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكانت الدعوة إلى العنف تواكبها منذ البداية، فقامت ثورة سنة 1905 وأخفقت، ثم قامت ثورة شباط سنة 1917 وأخفقت، ثم قامت ثورة تشرين الأول سنة 1917 ونجحت. ولم يحصل قبل نجاح الثورة الشيوعية في تشرين الأول سنة 1917 أي تغيير عفوي في علاقات الإنتاج، بل الذي حصل هو انتشار أفكار ثورية دفعت إلى قيام ثورات أخفقت، فلم تحدث أي تغيير في علاقات الإنتاج. إلا أنه بعد أن نجحت ثورة تشرين الأول سنة 1917 واستولى الشيوعيون على مقاليد الحكم حصل تغيير في علاقات الإنتاج لا بالعفوية بل بسلطان الدولة وبالحديد والنار.
وأيضاً فإن اليابان أسست الصناعات الكبرى قبل الحرب العالمية الثانية وحصل فيها نمو عظيم في أدوات الإنتاج ومع ذلك لم يحصل فيها من جراء ذلك أي تحول في علاقات الإنتاج لا عفوي ولا بالعنف، بل ظلت علاقات الإنتاج فيها كما هي مما ينقض الادعاء بأن نشوء الصناعات الكبرى الحديثة في روسيا أدى إلى تجمع جديد للقوى المنتجة بشكل عفوي ثم ما لبثت هذه العفوية أن انتقلت إلى عنف. إذ لو حصل ذلك في روسيا بناء على تغير علاقات الإنتاج لحصل ذلك في غير روسيا كاليابان مثلاً، ولكنه لم يحصل مطلقاً فدل على أنه لم يحصل في روسيا بناء على نشوء الصناعات الكبرى، بل حصل بناء على أفكار تبناها حزب اجتمعت لديه قوى فاستولى على الحكم، هذا هو الواقع. وبذلك يظهر خطأ هذه الفروض.
فهذا كله يبين أن تغير وتحسين أدوات الإنتاج لا يؤدي إلى تغير العلاقات لا بصورة حتمية ولا غير حتمية، فليس أحدهما مرتبطاً بالآخر. والدليل على ذلك تاريخياً تغير أدوات الإنتاج عند المسلمين عدة قرون مع بقاء العلاقات كما هي، والدليل على ذلك واقعياً تغير أدوات الإنتاج في أميركا واليابان ودول أوروبا دون أن يتبع ذلك تغير في العلاقات، وإذا انتفت هذه النقطة وانتفاؤها واضح بشكل قطعي فقد انهارت المادية التاريخية كلها وانهارت خواص الإنتاج. فإنها كلها مبنية عليها. إذ يبدأ التغير عندهم في أدوات الإنتاج وهذه تستتبع تغير علاقات الإنتاج لتطابقها، وعدم مطابقتها يوجد التناقضات وهذه تؤدي إلى نضال المتضادات فيحصل حينئذ التحول ليجري التطابق بين العلاقات وأدوات الإنتاج. هذا هو خط السير عندهم. فإذا ثبت أن أدوات الإنتاج لا علاقة لها بعلاقات الإنتاج فإن ما بني على هذا من التطابق والتناقضات ونضال المتضادات يصبح تخيلاً ووهماً إذ لا وجود له فتسقط النظرية كلها. أما وقد ثبت بشكل قطعي أن أدوات الإنتاج لا تؤثر ولا تتأثر بعلاقات الإنتاج من حيث النظام فإن المادية التاريخية نظرية خاطئة وهي مجرد فروض، بل مجرد أوهام وتخيلات.

هذا ما كتبه الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير ونظرا لمنع تداول كتبه انزل الكتاب باسم غانم عبده





#حاتم_الشامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقض الاشتراكية الماركسية1
- القنبلة السياسية الاوروبية هل يتم تعطيلها أم تطويرها
- امريكا واعادة تاهيل العالم الاسلامي
- ولفوفيتز والبنك الدولي
- جون بولتون والامم المتحدة


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - حاتم الشامي - نقض الاشتراكية الماركسية 2