|
خيرُ أمّةٍ وأشرارُها
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1679 - 2006 / 9 / 20 - 09:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الكاتب الأرجنتيني بورخيس ، ساحرُ القصة ، يضعنا في إحدى حكاياته ، الغرائبية ، أمام حالةٍ شبيهةٍ رمزياً بما نعايشه اليوم ، كمسلمين ، من توتر وغضب وسخط ، إثرَ تصريح بابا الفاتيكان ، المعروف . ففي تلك القصة ، يتواجه ملكان عظيمان ، من زمن ما ، على ما يبدو أنها معضلة فكرية . كان أحدهما ، بحسب الحكاية ، قد دعا ندّه لزيارته في مملكته ، ليفاجئه من ثمّ بحديقة متشعبة الممرات ويتوجّب على المرء معرفة مخرجها الوحيد . يضيع المضيفُ في مغامض هذه المتاهة ، محاولاً عبثا الإهتداء لمخرج منها . بعد زمن ، ليس بالطويل أو القصير ، نجد ذلك المليك المضيف نفسه ، وقد أضحى ضيفاً لدى الملك الآخر . هذا الأخير ، يبدو أنه إستشعرَ العارَ لفشله ، الموصوف آنفاً في حلّ لغز تلك المتاهة ، فيدبّر لضيفه مكيدة شريرة . يأخذه إلى أعماق الصحراء ويدعه هناك وحيداً ليجابه مصيره ، مشيراً له نحو الأفق اللا نهائي : هيَ ذي متاهتي ، الموعودة ! .. هكذا إذاً ينتقم مليكنا ، البدوي ، من ندّه ذاكَ ، الملك المتحضّر . هكذا مقارنة ، ربما لم تخطر لكاتبنا الأرجنتيني ؛ إلا أنّ تأويلنا لقصته منطلقٌ أساساً من عبرتها : عقليتنا الرافضة لتحكيم العقل وإعماله ، سواءً بسواء أكان الأمر متعلقاً بمعضلة فكرية مع الآخر ، أو بإجتهادٍ فقهيّ مع أهل الدين الواحد . فلا بأسَ علينا ولا تثريبَ بعدئذٍ ، للإحتكام إلى السبيل الوحيد ، الذي نجيده ونعملُ به : الإحتجاج والمكابرة ، وصولاً إلى العنف والعدوانية .
وبما أننا ما فتئنا في حديث الملوك وأندادهم ، فلنقلْ والحالة هذه ، أنّ أولي الأمر منا ؛ من حكامنا المسلمين ، همُ المسؤولون ، قبل غيرهم ، عما يحدث لأمتنا من " هزات أرضية " بين الفينة وأختها ؛ مبعثها دائماً وأبداً إختلافاتُ العقائد السماوية ـ ولا نقولُ ، خلافاتها . إختلافاتٌ ، لم يجر في مآزقها وإشكالاتها ، من جهتنا تحديداً ، أيّ تحكيم للفكر أو إحتكام للعقل ، إلا ما ندر . كأنما هيَ ليلة القدْر ، بالنسبة لحاكمنا ؛ هذه المشكلات ، المفتعلة ، التي تعصف كلّ دورة زمنية بعالم الإسلام ؛ من " آيات شيطانية " ، إلى محاضرات باباوية ، مروراً برسوماتٍ كاريكاتورية : فرصة تلو الاخرى ، لحاكمنا الحكيم ، الماليء الأرض عدلاً ، كيما يُظهر لرعيته ، المرفهة ، غيرته على دينها الحنيف منافحاً عنه برسائل الإحتجاج وخطب السخط وسحب السفراء ووو . كأنما هيَ مسابقة أوليمبية ، بالنسبة لحاكمنا نفسه ؛ هذه المزاودة الإيمانية على أحزاب المعارضة ، المُدلسة ، أو تنظيمات المجاهدة ، المنافقة ، فيما يخصّ تلك المشكلات ، الموسومة . ليتماهى هكذا خطابُ الحاكم ، المعتدل ، بخطاب أولئك الأشرار المتطرفين ؛ فلا تجدُ الأمة ، بينهما ، من فرق كبير ، فتنقادُ بسهولة إلى شباك مصيدات بعض القنوات الإعلامية ، المعروفة بأساليبها في تأجيج الفتن الدينية والمذهبية والعرقية ، واللعب بنارها .
تعويلنا على الحاكم هنا ، لا يعفي مثقفنا من مسؤوليته . هذا المثقف ، المتواري عن الأنظار في كلّ خطبٍ ، خطير ، مرتبطٍ بالمسائل الدينية ؛ أو المتقدّم في خضمّها صفوفَ الرعاع والجهلة والمتزمتين ، ليكون صوتهم الفصيح في هذه الصحيفة أو تلك الفضائية ، محرضاً مكفراً مخوناً . كلا النموذجان ، الموصوفان ، لمثقفنا المغوار ، بسلبيته أو دوغمائيته على السواء ، هما للحقّ آفة أمتنا ومبتلاها . إن عدم إعتراف مثقفنا هذا ، بالآخر المختلِف ضمن مجتمعه دينياً ومذهبياً وأثنياً ، يُحيل إلى بديهية خطابه المأزوم ، الموجّه إلى خارج مجتمعه ، وخصوصاً الغرب ؛ الخطابُ المشحون بدلالات تاريخية ، عشوائية ، مبتدهة بالحروب الصليبية والكولونيالية ومنتهية بالتدخلات الإمبريالية . فكل أزمة داخلية ، في وجهة نظر مثقفنا ، إن هيَ إلا إحدى واردات الخارج ، المشغول دوماً بحبك مؤامراته ضدنا . فشرور الإستبداد ؛ الإرهاب ؛ التطرف ؛ المجازر الجماعية ؛ المقابر الجماعية ؛ السلاح الكيماوي ؛ التطهير العرقي ؛ الأنفال والجنجاويد .. الخ : تلكَ جميعاً ، بالنسبة للمثقف العربي ، مجرد عناوين فرعية للعنوان العريض ؛ " المؤامرة على أمتنا العربية والإسلامية " ! .. هكذا يصير الخارج ، ممثلاً بالمجتمع الدولي ، كما لو أنه الرأس المدبر للمؤامرة ، فيما المكونات المجتمعية ، المستضعَفة ، للأمة المجيدة ، هيَ أدواتها : فكل طاغية غاشم ، في هذه الحالة ، هوَ القائدُ الحارسُ لمصالح أمتنا ، والمؤهلُ لردّ تلك المؤامرة ، الموهومة ، وبالتالي لإبادة أدواتها ، المفترضين .
لم نخرج عن موضوعنا ، إذاً . لأنّ رهانَ المثقف العربي على " نظرية المؤامرة " ، في حله وترحاله ، سيجعله دوماً في خسران مبين أمام قناعاته وضميره ؛ ومن ثمّ السقوط المريع فكرياً وأخلاقياً . وليسمح لي القاريء هنا ، إيرادَ مثل واحدٍ في هذا الإتجاه : لقد دبّ فينا الأمل ، نحن الذين نقيم في خارج الوطن ، حينما تناهى إلينا خبرَ تأسيس فضائية جديدة ، ناطقة بالعربية ، مدعومة من " الإتحاد الأوروبي " . بيْدَ أنّ أملنا هذا ، سرعان ما خيّبته برامج فضائيتنا وأساليب معديها وأفكارهم . فإذا بضيوف الحوارات على شاكلة أئمة التطرف والإرهاب ومنظري القومية الفاشية وأضرابهم ؛ وكأنما عالم الإغتراب قد خلى إلا منهم ، رجالاً ونساء . ووفقاً لنظرية المؤامرة ، الموصوفة ، ما وجدت تلك الفضائية حرجاً ، في أول جلسة من محاكمة الأنفال ، لا أن تتجاهلها وحسب ، بل وأيضاً أن تعرض لمشاهديها برنامجاً خاصاً عن مجزرة دير ياسين ؛ وكأنما تقول لهم : هي ذي المقتلة ، الحقة ، بحقنا نحن العرب والمسلمين ، وكل ما عداها إن هوَ إلا زورٌ وكذبٌ وإفتراءٌ لا يخدمُ ، " في هذا الوقت ، بالذات " ، سوى أعداء الأمة ! .. فلا غروَ إذاً ، ان تطالعنا فضائيتنا الأوروبية هذه ، بخصوص تصريح الحبر الفاتيكاني الأعظم ، بتحليلاتٍ وتنظيرات ما أنزل بمثلها إلا من " تورا بورا " ، مجترة من مثيلاتها في ذات الفضائيات العربيات ؛ وهي الفضائية المتنورة ـ كذا ، التي أسستها أموال الغربيين من أجل أن تكون بديلاً مفترضاً ، معتدلاً وعقلانياً .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعتذار بابا الفاتيكان ، عربياً
-
وليم إيغلتن ؛ مؤرخ الجمهورية الكردية الأولى
-
الثالوث غيرَ المقدّس
-
الحادي عشر من سبتمبر : خمسة أعوام من المعاناة
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 3 / 3
-
الأعلام العراقية والإعلام العربي
-
علم الكرديّ وحلمه
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 2 / 3
-
محفوظ ؛ مؤرخ مصر وضميرها
-
الجريمة والعقاب : طريق نجيب محفوظ في بحث مقارن 1 / 3
-
كردستان ، موطن الأنفال
-
ثقافة المقاومة أم ثقافة الطائفة ؟
-
المقاومة والمعارضة 2 / 2
-
المقاومة والمعارضة
-
الكوميديا السورية
-
إنتصار الظلامية والإستبداد ؟
-
ثقافة المقاومة ، ثقافة الموت
-
لبنان في فم الأسد ، مجدداً ؟
-
صلاح الدين عصرنا
-
قصف إعلامي ، عشوائي
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|