|
مدارات محاكمة : نورمبرغ العراقية
ابراهيم محمود
الحوار المتمدن-العدد: 1679 - 2006 / 9 / 20 - 05:28
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
استهلال: يدخل المشاهد لما هو جار ٍ، فيما يسمى بـ" محاكة صدام وأعوانه" في عهدة اللامألوف : عربياً بداية، ولا عربياً في إثره، ليس لأن الجاري ليس حقيقة يمكن متابعتها، أو التأكد منها، وإنما لأن حقيقة المألوف، تكون خلاف الجاري في المعرَّف به: عربياً وما يحيط به جوارياً. إذ ليس الذين تتم مشاهدتهم ممن كانوا طويلاً ومديداً، من جسَّدوا العنف المركَّب في شعبهم اللاشعب حضور اللاقانون في الاشتهاء القطيعي تماماً، والذين يعيشون على تخوم المسمى بلداً، أو مفارقةً: وطناً، هو العراق، إذ ليس المشهود هو القانون إنما ما يعود القانون إليه تفسيراً أو تأويلاً أو تدبيراً وحتى توضعاً، ومن يُحالون إلى القانون رجالَ قضاء،ٍ يناط بهم أمر تنفيذ قانون ما، ليس بصفتهم الحد الفاصل بين الحق ونقيضه، وإنما الحد الفاصل بين معيّنهم أهلَ قانون، وما تعنيه الأهلية من إدراك ٍلحرفية القانون المؤطَّر واستدراك لما يجب عليهم القيام به، من جهة الآمر الناهي، وموجّههم قضاة ٍمحامين لمعيّنهم ومن يدخلون في حساب الأهلية القصوى. المشاهَدون هم المعلومون أو الموسومون بالقانون ومن يجب عليه السير في ركابه، من هم قادرون على توجيه القانون، كما يملي عليهم الضمير الأخلاقي، ضمير الآمر الناهي في البلاد. حتى الذين يعتبرون أنفسهم أهل الحل والعقد، يكاد الحل يلجمهم، والعقد يلغمهم، وهم في حالة اللامألوف تاريخياً، إذ إنها المرة الأولى التي تجري فيها ( محاكمة) متلفزة، بوسع القاصي والداني متابعة الذي كان رأس البلاد والعباد( صدام حسين)، ولزمن طويل، وحوله كما هم حاشيته ذات الإرث المروّع في تهلكة البلاك والعباد، متذكراً محاكمات العصر ذات الصيت، أو مقارناً فيما بينها، وفي رأس القائمة ( نورمبرغ) الألمانية، إنما مع فارق كبير، وكما نشاهد في تنوع أسمائنا وانتماءاتنا الأثنية( نحن الذين تابعنا حتى الآن الكثير من حيثيات القضاء: القضاة، والشهود والجناة، أو من يعتبرون أنفسهم أبرياء، وثمة من يحاولون إدانتهم، كما هو العرف التاريخي، أو المألوف التاريخي) ، إذ ليست نورمبرغ سوى الحد الفاصل بين تاريخ مهين مذل، جسَّده من كانوا سبب قتل الملايين ودمار بلاد وبلاد، تحت يافطة النازية، وتاريخ صاعد، مثل حالة الـ: مابعد رجماً لما كان، واستعداداً للتحول إلى تاريخ مختلف، ليكون كل منتم ٍ إلى تاريخ سابق مطالَباً( وخصوصاً حين تكون له مرتبة، أو مسؤولية لافتة)، في خانة المطلوب عزله عن التاريخ، أو إخراجه مما هو يشري، رغبة في التطهير: الكثاريس، كما هو المأسوي اليوناني مفهوماً، ورغبة في ممارسة حياة مختلفة، وكأن شعباً، أو بلداً بكامله، يتنطع للمهمة هذه، له حضور كوني، كما كان معمّد الغستابومحوّلاً نفسه، باعتباره الصاعقة الكونية، الملهم الكوني، راغباً في تطويب الأرض ومن وما عليها باسمه، إبان الحرب الكونية الثانية. ربما كان، ولازال هناك من يتفهم جبروت الرايخ، أسطورية الهيرفي طوربيديته البؤرية، من يقدرها، من يقرُّ بفذاذتها، في اعتبارها اللمحمي الخاص، ولو المدمر في البنية، انطلاقاً من الاسم الذي تبدى رمزاً ورعباً انتشرا في الجهات الأربع: النازية، بصفتها الميتاديكتاتورية، أوالميتاطاغوتية، من جهة الهول المكثَّف فيها، وكما يمكن مشاهدة ذلك هنا وهناك، في الفسحة الألمانية، إنما من يجرؤ على التصريح عن نازيته، عن الافتخار بها، عن إشهارها، كما لو أنه يزكيها مجدداً، حتى لو بالاسم، استناداً إلى نشاط مسموح به؟ أما هنا، فيما سميته بـ( مهزلة نورمبرغ العراقية)، فيبدو ليس صدام ومن كانوا حلقة وصل في الدمار والقتل بينه وبين المحيطين به خارجاً، ولا الذين يحاولون الدفاع عنه، كما لو أنهم يدافعون عن تاريخ طويل مديد من البطولة والإباء العروبيين والاسلاميين المحمديين بامتياز، إنما الملايين الذين يبدون معاهديه حتى اللحظة، في محيطه العراقي الضيق، في تفجير أنفسهم، أو ممارسة القتل بالجملة للعشرات يومياً في مشهد دموي لم يعد غريباً، بقدر ما صاراليوم الخالي أو المستثنى من القتل والتفجير والترويع مجالاً للتساؤل، وماهو خارج المحيط العراقي، ليس على مستوى العامة: الكلمة المضللة بوطأة مفهومها، وبؤس معناها، إنما ما يمكن اعتبارها: النخبة السياسية والثقافية، وعلى أعلى مستوى : عربياً واسلامياً، كما لو أن الذين تتم محاكمتهم، وفي مقدمتهم: صدام، هم الذين ينبغي لهم أن يحاكموا محاكميهم: الأمريكان ومن يُعتبرون " أعواناً" لهم، وفي ( محاكمة الأنفال)، تتبدى المفارقة أكبر وأكثر وبالاً، حين تكون الضحية أكثر عرضة للمساءلة، والجلاد أكثر استثارة للشفقة والرأفة والتعظيم والتفخيم، في مشهد، أقل ما يمكن القول فيه، وهو أنه الميتالامعقول( أبعد من حدود اللامعقول)، وطالما أنه مرئي، فهو يستحضر جماع التاريخ الموسوم، ومفارقاته، وما يتردد فيه من قيم وحديث عن الله ونبيه والذين خلفوه، والذين أبوا أن يتنحوا عن كرسي السلطة، وهم خلفاء إلا بالقتل وحمام الدم، وهم الموسومون بالصحابة، والذين جاؤوا في عقبهم امراء مؤمنين بالجملة، والذين جعلوا الكرسي مرجع الحق، ولا زال الاقتداء بهم جارياً إلى اللحظة. ليس اللامعقول، إلا ما لا يُعتقد بحضوره، وتكون مضاعفة الجرم المصعَّد بها ، كما يقول مشهد المحاكمة المفارقاتي: كيفية النيل من الضحية، واعتبار الجلاد صاحب الحق وتجسيده، وليكون الكردي في المثال الأخير، وكما تقول حيثيات المحاكمة، كما هو صوته، لغته، زيه، موقعه الذي اتخذه لـه.. الخ، الجاني الكوني، وخصوصاً حين يتحدث الجناة ( الأصلاء)، وحين تتم متابعتهم، من خلال القاضي، والذين شكلوا لجنة دفاعن عنهم، وفي الخارج، كما لو أنهم في فتح فتوحهم، كشفاً لمؤامرة، ليس العراقي في بغض منه، مطلوب رأسه، وإنما ما يميّز بين العراقي باعتباره العروبي المسلم الفعلي: السني والشيعي، وفي خانته : التركماني محاصصة مغالبة الحق بين المعتبرين أهله، ومطالبة المبعدين خارجاً، وهم في الجوار، كما تقول سياسات العقد الجغرافي المصالحي، والكردي الذي بات أكثر من كونه الشر أس البلبلة فيما يذهب إليه. ثمة الكثير مما يمكن أن يثار باسم هذه الـ( منورمبرغ): المهزلة، في جملة مداراتها، وخصوصاً راهناً، كما تبدة لي في جملة من إحداثياتها : السياسية والفكرية والتاريخية...
بداية ، من أنا؟: كيف أحدد ما أكونه؟ أي صوت أكون هنا، إزاء ما يجري؟ ماالذي يلزمني بالكلام أصلاً هكذا؟ لا يكون كلام، إلا بتحديد الحافز عليه، بتعيين جنسه، وبالتالي، لا جنس للكلام هنا، إلا بتسمية حامله، وهو أنا هنا. ولكن السؤال يتكرر هنا مجدداً: من أنا، حيث يكون الكلام أوسع مدى من حدود العلاقة التي تربطني بمكاني الذي أُعرَف به، بالمعنى الجغرافي؟ هو صوت يتشعب في ثلاثة مسارات متداخلة، رغم إمكانية تتبع خطوطها: الصوت الذي يعيدني إلى خانة الانتماء الذي لا يمكنني تجاهله، طالما أنا مأخوذ به: كرديتي. الصوت الذي تلبَّس علي، طالما تلبَّس على غيري، كونه لا يشكل عندي سوى الصوت البديل، والذي لا مناص منه، جزءاً من سياسة المكان، وهو لا يخفي وطأته المركَّبة علي: عربياً. الصوت الذي يشير إلي، وإن حاولت تعزيز خصوصيتي، ذاتي رمزياً، من خلال الحدود التي تكتسب علامتها الفارقة السياسية: سوريتي، كما تقول بطاقتي التي " تقودني" ضمناً أحياناً. لا أخفي تنوع الصراع بين الحالات الثلاث، وهي لا تعنيني وحدي، أو تشملني فقط، إنما مجمل من يعيش وضعاً من هذا القبيل، في الحدود المسورة هذه، أو ما يشبهها. في هذا المنحى، بوسعني القول: إن تتبع حيثيات المحكمة، في تجليها العراقي، لهو طريف ولافت. طريف من خلال اللعبة السياسية والتاريخية. وعندما " لعبة" ، أعني بذلك : طريقة إدارة مشهد المحاكمة ومفارقات المشاركين فيها، ولافت في توزع الأدوارودلالاتها ظاهراً وباطناً. إنها المرة الأولى، التي يشاهَد فيها رئيس دولة( وأي دولة؟)، له تاريخ مشهود له بسفك الدماء، والاستئثار بالحكم، والنرجسية التي تبيح له التصرف بمن يسوسهم بوازع عدواني مقدر ذاتياً، أو نكروفيلياً، بحسب تعبير إريك فروم، هو والذين شكلوا أو حاولوا أن يشكلوا امتداداً رمزياً ليده الضاربة الناهبة المدمرة، ممن هم معروفون بأسمائهم، على الأقل، وقد أودعوا قفص الاتهام، وتبدوا ملامحهم، والبغددة النامية في وجوههم، كما لو أنهم خارج السجن، سواء من خلال طريقة التحدي لمن يقاضيهم ومقاطعة القاضي وسواه، أو مواجهتهم للشاشة: للمتفرج، تأكيداً، على النرجسية السالفة الذكر. يبدو صدام في الوسط، وحوله بطانته( في بضع منهم)، داخل محيط من أعين القضاة والمحامين والشهود المتتالين، وكذلك الذين يقومون بأعمال خدمية، والحراس، والمراقبون، وفي الخارج ثمة حراسة أشد، كما لو أن كل هؤلاء، هم لحمايته، وليس لمقاضاته، يشاركه شعوره( الرئاسي: الثوري، المشفوع بالرعاية الإلهية) من يؤكدون على أنه الرئيس، وليس الموكّل، على الأقل. إن نبرة اللغة، وطريقة الوقوف والجلوس، وكيفية مواجهة المحكمة بالذات، ومن هم شهود، وحتى من يتابعون سير عملية المحاكمة، تبرز البعد الكاريزمي المسيَّر الذي يجلوه للمشاهد. يتداخل فيه الثالوث التليد المعزز لثقته ذات الفذاذة المراهَن عليها: البعد العروبي- الاسلامي- الشرقي، وهو الثالوث الذي يُعطى حق الكلام، والبقية حق الإصغاء، حتى خارج الحدود العراقية، وكذلك العربية، في المسرى الاسلامي، اعتماداً على تجييش مركّز للعواطف والمشاعر، لملايين العرب والمسلمين، بوجود ( المحتلين)، وما يعنيه المحتل في ( دونيته) المعتبرة، وما يستثيره من وجدانات مقاومة، أو تحريضية، كما يعلم النكروفيلي. يختفي هنا تاريخ سفك الدماء، صراخ الضحايا في مئات ألوفهم، مَن تعرَّضوا للتعذيب بمئات الألوف بالمقابل على يديه، بتوجيه منه، من روّعوا من الداخل في ملايينهم، ويكون حق الكلام لمن يعتبره ملكية اعتبارية، كما كان أسلافه، وكما عُلم واستعلم وتعلم وعلَّم ولقَّن، فيكون من كانوا مخاصميه، في الجوار، متضامنين معه، لأنهم أقرب إلى حق الكلام، إلى الكرسي : رمز السلطة، منه إلى شكاوى الضحايا، لاغفرانهم للجلاد، طالما يتمرأون تاريخهم بصورة ما، وإلا فماالذي يبرر كل هذه المتابعة، والممانعة في التشديد على تلغيم ذاكرة الضحية، وتعزيز مكانة الجلاد المسنَد، ممن يتلمس فيه حضوره، وفق تداعيات السلطة الاعتبارية المألوفة تاريخياً؟ بقدر ما أعزّز في ذاتي عموميتي الانسانية، وفي الحالة هذه: تكون الجهات كلها مفتوحة أمامي، باعتباري المأخوذ بكل متحول أو متغير، والمعني به، وإلا كان علي أن أسقط عني هذا الانتماء الذي يجذّرني بعلامة فارقة كونياً، وهي أنني ملزم باعتبار كل ما يحدث، وفي أي مكان، ومن جهة أي كان، كما لو أنه أمام ناظري، وأنني أنا الممثّل والممثَّل فيه، وأنني الأَولى بالتعرض له تأثراً، ليس من جهة الاستئثار، إنما التجاوب. ويكون المؤثّر استنهاضاً لقواي، وتنبيهاً لأخلاقيتي الانسانية، وإلا فإنني أخون انسانيتي التي أسمى بها، أو تلك التي تضعني في قلب الكون، ليس بصفتي مركزه، وإنما باعتباري المعزَّز به، وأن هذا التعزيز في الوعي والشعور، يستوجب انهماماً بالقدر ذاته بما هو جار ٍ. وتكون تبعيتي لا نسانيتي هي من صلب تبعيتي لجبلَّتي، تبعيتي لنطفتي الانسانية التاريخية التليدة، وهذا لا يعني أنني أتقمص المفهوم الكانطي، حيث كل ما يصدر عني يعود إلى القانون الأخلاقي الذي مقرُّه ذاتي، وإنما إلى السمة المائزة التي تبقيني ملتقى المؤثرات الجهوية، وليس على أنني الاسم الفلاني، وابن أبوين أميين تقريبا أو خلافهما، وينتميان إلى المكان الفلاني كردياً وجغرافياً. بقدر ما أعزز انتمائي القومي بالمقابل، وأضفي على هذا الانتماء حقيقته الانسانية، وهي أن صلتي بأي حدث في العالم، نابعة من حقيقة انتمائي الانسانية لا سواها، مهما قيل ويقال في هذا الانتماء ما يزيغها عن موضعها باعتبارها أبعد من كونها انسانية، من خلال تجارب محددة . وبقدر ما تكون صفتي البحثية جاذبة إلي ، لا نحو الحيّز الأضيق اهتماماً بما يجري، وإنما نحو الحد الأقصى من رؤية ما يجري، إمعاناً في تتبع المستجد، ومكاشفة محرّك المؤثّر. ولهذا، أجدني كردياً، من خلال المكان الذي يعود إليه ارتباطي، مثلما أحددني جغرافياً، ومدى التمزيق فيه، بين ما هو طاغ ٍ عليه، إبعاداً لي عن حقيقتي الأولى، وما هو ملغى، بجعل المكان مجرداً من مفهومه الثقافي الذي به أُعرَف: كردياً، ليكون تمزق من نوع آخر، يخص الصفة التي تمارس فيَّ تلفيقاً وتخريقاً وتوثيقاً مجيَّراً، أي حقيقة اعتباري سورياً، وما تعنيه السورية من سطو القيمة الكبرى: العربية، على جملة القيم المكانية والانتمائية: إرغاماً أوإلزاماً: الكردية والسريانية وسواها، وهي الحالة الأكثر قبولاً من لدنّي، ولدن سواي، طالما الخاصية الجغرافية تتبدى ، ولو على الصعيد النفسي أحياناً أخف وطأة، ودافعاً للتنفس براحة نسبية أكثر. وصولاً إلى بداية ، أو توخياً لنهاية ما، يكون مشهد المحاكمة موزعاً بين الحالات الثلاث، ليس من جهتي، وإنما من جهة الذين يعرّفون الجاري عراقياً، ويكون الاهتماماً أبعد من كونه هكذا، وعربياً، ويكون المأتي على ذكره، تعميقاً مروّعاً لما هو عربي، من جهة العروبية التي كانت سبباً، ومازالت، في التصعيد بحميّا الذين يعرّفون العراق والذين يمثلونه : العراق العربي الاسلامي مذ كان، وأن الذي تجري محاكمته، يمثل جموع هؤلاء، ومن يجد ظله في ظل المعتبَر عنده رمز بقائه، لأن ثمة من لا يريد له حضوراً، باعتباره غريمه: التركماني مثلاً، حين يصعّد من نبرة حديثه، أو يكثّف جملة سلوكاته القيمية الموجهة، لا حباً في العربي، وإنما كرهاً في العربي، كما هو النظام الأتاتوركي في الشمال، أوالعمائمي الشيعي في الشرق. هنا، وعلى أصعدة ثلاثة، أحدد هويتي الاعتبارية، وبها أرسم مدرات مهزلة نورمبرغ العراقية: هويتي الانسانية، التي انغمست " قهراً"، بتاريخ حافل من سفك دماء مئات الألوف من العراقيين، ومن قوميات مختلفة، وبوجود نظام لم يكن يخفي انتماءه البعثي العروبي الاسلاموي البراغماتيكي، ليكون الانتماء المتعدد الأوجه، في الوجه الواحد والمستنسخ عنه، عنصر تحريص على تعرية أرضية القيم الملغومة التي تقوم عليها، بذاكرتها التاريخية،وأرشيفها المدمى. إنها هوية كانت تتبدى هكذا، ولو كان صدام منتمياً إلى خانة نسَبية أخرى، أو كان شخص آخر، يمارس الدور نفسه، فحيث يكون الطغيان، يكون خطراً جائحاً على الانسانية. وهويتي القومية، أي انتمائي القومي ضمناً: كردياً، لأن الذين كان لهم السهم الأكبر من القتل والتمير والتهجير، على يد من تتم محاكمته، ومن مثَّلوه، كانوا كرداً، وأنا أَولى بكرديتي من أي كان، خصوصاً حين ترتد إلي، حتى لو أنكرتها بمعنى، أي تكتمت عليها، أو تقاعست واجباً في تمثيلها، وانزوين هنا وهناك: خوفاً أو جبناً، أو تجنباً لمضايقات، وإيثاراً للسلامة، كما يحصل هنا وهناك، وكما يعلم بذلك من لا يريدون أن يعلموا في الجهات الأربع. وهويتي الثقافية تشكل بدورها، الفاعل الانساني والقيمي الأكثر نفاذاً، من خلال حمولة معرفية، ألتمس فيها دافعاً للبقاء في أن أقارب نقدياً ما يجري، على الصعيد الآخلاقي، وأن أمارس زحزحة لجملة المفاهيم والتصورات التي تبعدني عما هو ثقافي، إن المثقف ، وبصفته مثقفاً، هو أول من يجب عليه مواجهة العنف الحاصل باسم سلطة افتئاتية، وآخر من يجب عليه الهدوء إلى الصمت، حين تهدأ سورة العنف، أو تكون العوامل المسببة له قد توارت أو تلاشت بمعنىً ما.
مهزلة المحكمة: لم نألف، نحن الذين عانينا تاريخياً من وطأة نظام مركزي، يعيد كل الحقيقة، ويموطن كلية الحق في ذاته، منذ عصور طويلة، وفي منطقتنا هذه، مثل هذا المشهد، حيث يكون طاغية( وهو تعبير، لم أبتكره أنا، ولم ألقّب به صدام هنا، وإنما كان متداولاً سابقاً، لحظة تنامي الخلافات بين صدام العراق، والذين جاوره شرقاً وغرباً، في سبعينيات وثمانينيات القرن الآفل: الشرق الصفوي الشيعي العمائمي الفارسي المؤسلم، والغرب العربي البعثي على صعيد السلطة القائمة)، طاغية بكل حضوره الذي يُعرّف به مواجهاً من يحاولون النيل منه، كما لو أنه يستعرض جنوده الملايين، ويتكلم بثقة، وسط عيونه الحارسة له بمئات الألوف، فلا يبدو في المحيا أي شعور بالأسف تجاه ما جرى من قتل وتدمير للعراق وأهليه، حيث شعوره الأوحد: هو العراق لي، وكيف لي أن آسف على ما هو لي، وأنا حقيقته؟ أنا القول الفصل فيما جرى، وكل ما عداي لا يعدو أن يكون ما لايسمى، وإن سُمي فبوازع مني، حتى وهو يواجهه، كما يُري ذلك منطقه. التاريخ الدموي، واعتماداً على الكم الكبير من الوثائق بليغ بفظائعه الصدامية، فلا يعود الشهود، ووجود القضاة ورجال القانون، إلا شكلاً لإبراز المحتوى، أي استجابة لنداء الوثيقة التي تبرِز في الطاغية، وللذين سايروه ومدحوه وتلقوا مكرمات مغموسة بدم ( لاشعبه) منه، ما هو أهل له لينال ما يحيلة عبرة لافتة لمن لازال هنا وهناك يتمادى في غيّه. ورغم ذلك يبرز الشهود في محنة مضاعفة: حين يواجهون جلادهم الأكبر، وحين يتمادى المدافعون عنه، وحتى القاضي بطريقته التي تثير أكثر من إشارة استفهام حول حقيقة ما يجري، وحين يواجهون ماضيهم الذي يرتسم آلاماًمبرّحة، وأن عليهم، في الوقت ذاته، الحفاظ على توازنهم، من خلال أسئلة سبرية، كما لو أن مثات ألألوف العراقيين ممن قُتلوا وعذبوا، وممن شردوا، ومئات الألوف من الكرد ممن لاقوا مصيراً كارئياً، واستحالت آلاف القرى لهم أثراً بعد عين، وأن بوسع العين التقصي، حيث الجغرافيا لا تخفي رعب رمز العراق الأول، كما لو أنهم ملزَمون بتقديم امتحان، وإثبات مدى مصداقيتهم، كما لو أن الذي جرى كان وهماً، وأن ليس من وثيقة قادرة على إثباته. تقتضي محاكم من هذا النوع، وهي تتحرى كل ما يخص أعمال إبادة، وما يدخل في هولوكوست الشعوب، والجينوسايد: صرامة في التصرف، وأداء دوراً قانونياً، يعطي المجال للشاهد ذي الذاكرة المدماة في أن يقول، أن يسترسل، ليراه من يريد بعضاً مما جرى، حيث الجاري لا يمكن التعرف إليه في مدة معلومة، بسبب مأسويته الرهيبة، وليس أن ينبري محامو صدام وسواه، ومعهم، صدام وسواه، في مواجهة المحكمة والشهود والعراقيين والعالم.
الجلاد الذي يؤكد جلاديته: ما يظهر به صدام ومن معه، من قحة في السلوك، وتماد ٍ في مواجهة الحضور، يعيد إلى الأذهان مدى انمحاق الجانب الآخر، كيفية التمثيل به، لزمن طويل، إذ إن تمادي الجلاد في قول ما يريد قوله، ومعه أعوانه، هو من باب إبراز طاغوتية الشخصية، عتوّها، نفي البقية باعتبارهم المأخوذين بحقيقته، موجودين به، وأن أي أذىٍ ملحق به، يعني نهاية ما لهم. إن قدرة الجلاد في إثبات حقيقته حقاً، وتجاهل ما جرى، تنصب في خانة الذات التي تماهت مع الحقيقة التي رسمت لها، مع تاريخها المديد الذي تمتح منه زوادتها في النيل من الخصوم والمعتبرين أعداء داخلاً وخارجاً، مع ظله الذي يغطي به أوسع مدى جغرافي ممكن تطاله كلماته، حيث يمتد هو في الزمان القدسي( حفيد رسول الله)، وفي المكان العقائدي ( رمز الأمة العربية)، وفي المكان المدموغ به( هو العراق والعراق هو عربياً عروبياً عفلقياً)، إن هذا يعني إخراج كل ما لا ينتمي إلى خاصية التبعية هذه، لا بل واستئصاله، وهي القدرة التي ترسم نمط العدوانية الكاريزمية، إن جاز التعبير، أي المقتداة والممدوحة من الداخل والخارج.
نفي الدكتاتورية، الأخوة المتواطئة: من أبسط متطلبات المحاكمات، وجود مساحة تفصل ما بين القاضي والمحكوم، إشعار المحكوم أنه يتعرض لمحاكمة، وشعور القاضي أنه في موقع يخوّل له التصرف بقوة قانون، تلزم المحكوم في أن يلزم حدوداً : حركة وتلفظ أقوال. لا شيء من هذا يمكن التشديد عليه. أن يعلن القاضي وبالفم( المليان) لصدام بأنه ليس ديكتاتوراً، لا يشكل إهانة للمحكمة فقط، وإنما لكل ما يخص القضاء، وللانسانية المعذبة، تلك التي تقاضي جلاداً، وتنتظر الضحية، عبر وعد محسوب، قصاصاً ما، ليس من أجلها، وإنما من أجل من هم موعودون بالدنيا، حتى لا يتجدد صدام آخر، أو لا يظهر مثيله، ومن هم على شاكلته. قول القاضي، وفي موقعه، إعادة أحياء الضحية وقتلها بطريقة أكثر ترويعاً، في الحالة الأولى حيث قضي عليها، خارج نطاق المقدر عليها كما هو مقدر على سواها، في أن تموت ميتة طبيعية، وفي الحالة الثانية في أن تُستحضر ، وهي في وضعيتها المروّعة والمهولة، ليعاد قتلها رمزياً، كما لو أن ساعة الحساب قد قضت بمعاقبتها على اعتبارها ضحية أبدية حقيقةً، وفي الجانب الآخر تجديد اعتبارللطاغية، بعثاً له رمزياً في الواقع، كما هو اعتراف من نوع مختلف، من جهة الموقع المجيَّر. من أعطىـ منح، القاضي حقاً ما في أن يقول لـ( صدامـ:ه)، في أنه ليس دكتاتوراً؟ ليرد اللادكتاتور، متنفساً الصعداء، بكلمة شكراً، وهي كلمة، وفي حيّز منطوقها، لا تعني تأكيداً لمعروف شخصي، وإنما طعناً في تاريخ، كل الذي جري، من حرب وويلات، ظهرت المحكمة أو تشكلت للبت في حقيقته، ليس الحقيقة التي يمكن الشك فيها، وإنما رسمها وإعلانها للملأ، مثلما تكون كلمة ( شكراً) طعناً في القاضي، وفي ذوي الضحايا في الجهات الأربع. وبالمقابل، حين يبرز القاضي المأخوذ عل نزعة عروبية في الحالة هذه، وهو ينادي محامي الطاغية بـ( أخي)، كما لو أن شعوراً جميعياً بفداحة القضية، قد وحد وجدانيهما، فلا تعود المتبعة التلفزيونية، إلا شكلاً دون قيمة، لا بل تكون التلفزة توطيد التمثيل بالحقيقة وبالضحايا معاً.
الشاهد بكرديته: ليس سماع الشاهد وهو يتحدث بكردية، ثم يكون مترجم له وعنه، إلا تعبيراً عن مدى التخلخل في التاريخ العراقي، لا بل وفي تاريخ المنطقة القائم على أحادية الهوية في منحاها القوموي. إذ ليس من السهولة سماع الكردي وهو يُسمِع صوته الملايين في الجوار وفي أمكنة قصية، وفي منابرمختلفة، كانت تعد الكردية بما يبقيها نشازاً، وتعتبر الكردية خطأ تاريخياً يجب التخلص من إثمه، فيكون الكردي معبّراً عن وجود تاريخ غير محتسب، ويكون الجلاد إزاء إشكالية التواصل مع صوت مختلف، تعوَّد أن يبقيه في الظل، أن يغيّر في فونتيكيته، أن يبقي لغته اللغة التي لا لغة سواها، يكون الشاهد المتحدث بكردية، قابلة للترجمة محاولة لإظهار حقيقة أن ثمة لغة، وأن ثمة لساناً قادراً على تحويل الصوت إلى كلمات ذات معنى، وأن تاريخاً كاملاً يمكن تقديمه بلغة الضحية والشاهد الناطق باسمها. طويلاً، تعوَّد أو عوّد الكردي في أن يلوذ بصمت مخيف، أو ينزوي في وطن مهدّد له عبر سلطة وجدت فيه وفي عصور وعهود مختلفة، قرباناً لتخفيف عنفها أو معالجة أزمتها، بصيغ شتى. كان بوسع الكردي أن يتحدث بصوت منخفض ، مستجيباً مرغماً لسلطة القوة واللغة الأحادية الجانب: العربية العروبية، مثلما هي التركية والفارسية، ليتلمس في ذاته ما يجعله الهامش الأقصى للتاريخ/ الضحية المكرهة على التفاني، وهي العاجزة عن تسمية حقيقتها ضحية، أن تلوذ بلغتها المهدورة، مستعينة رغماً عنها بلغة هي رقيب عتيد عليها وعليها. يتحدث بها بصفتها دليل عبودية لا يجرؤ على تسميتها كذلك، لأنها المدخل الوحيد له لدخول التاريخ، ولو هامشياً، لأن المفردات المستخدمة، في مجملها تجرده من أبهاء لغة لطالما أنس بها، لغة ألفته في الرحم والمهد، لتكون اللغة هذه طريدة اللغة الأخرى، ويكون صاحبها محكوماً بها، طالما هو منقاد دون إرادته، حتى لحظة الدفن، عبر التلقين، حيث اللغة التي أمعنت في ترويضه على طريقته تعلمه ما يجب قوله لمنكره ونكيره، ما عليه قوله باعتباره جماع القول المنتقى. لتكون أحادية لغة الآخر، وبحسب تعبير جاك دريدا، نهياً له في التعبيرعن كينونته، لئلا يُتاح له مجال للتعبير تنفساً بلغته، ولو بالتأتأة، أوبكلمات محدودة، طالما هي تعنيه في الصميم. كان بوسع شاهد كردي ما أن يتحدث بالعربية، ولكنه أبى ذلك، تأكيداً على أن بوسع الضحية أحياناً أن ترفع صوتها، أن تؤكد أضحويتها، مُدينة الجلاد باللغة التي ضُحي بها طويلاً، على أن تاريخاً يُفتتح من جديد، حتى لو بدا المكان متوتراً، وتجلى القاضي معتبَراً خارجاً، ولكنه ملزم بسماع صوت الضحية، لأن ثمة عقداً ما، وعبر قوة ما، قد فرض هذه العلاقة الاعتبارية.
منطق الصرماية: يضعني مشهد المحكمة وتداعياتها، في مواجهة تاريخ، ربما لا زلت الكثير من كابوسيته: حقيقة كونه كابوساً معاشاً، وبصدد وضع الكردي، ليس لأنني أعبّر عن كرديتي في حيّز ضيق، إنما عن نفاذ تاريخ من القهر في كرديتي هذه، لا يمكن لذاكرتي أنا، تحمُّل عبئه الوخيم هكذا، مثلما هو نفاد قيمة سلطة تاريخياً، وجدت في استخدام أدوات، مثلماهي مفردات اللغة، المستنَد الأكثرطواعية للنيل من كوني كردياً أكثر من غيري، خارج دائرة الانتماء الأثنية، وفي سياقها الأمني المتداول، وأعني بذلك منطق ( الصرماية). ليست الصرماية لغةً: استئناساً بوضع ما، تآلفاً معه، إنما وسواساً فعلياً كان يجد ضالته في إبقاء الكردي، ولا زال يبقيه رهن الدونية المثلى: الصرماية. تحيل الصرماية ضحيتها الرمزية إلى ما يلي القدم، إلى ما يداس، إلى الممكن دعسه أو فعسه أو هرسه أو معسه أو سحقه، كما يقال، وفي المجمل، إلى ما يمكن التغيير كلياً في هوية المأخوذ بمنطق الصرماية: أن يكون موطوءاً، إنما تحت الضغط النافذ إيلاماً، إمعاناً في تجريد الموطوء من كل قيمة تخوّل له في أن يرى حقيقته خارج حيّزمنطق المسماة، وتعويم حقيقته هباباً هباء، هواماً قابلاً للنيل منه، حيث الصرماية لا تلغي في الموطوء هويته المرئية، إنما تبدد كل قيمة ممكنة له، وتخفي الحقيقة تلك عن الأنظار. لا يعرف منطق الصرماية، وباللغة المحكية سوى الذين تعوَّدوا استعمالها في أمكنة مغلقة أو أقبية مرسومة هندستها بدقة، تجاوباً مع سلطة الصرماية الواسعة النطاق، وسوى الذين يتم حصرهم وحشرهم في الظل المرعب لأثر المسماة، من جهة الدلالة المستأصلة للخاضع لها. يدرك الكردي أكثر من سواه، ما تعنيه الصرماية له سلباً: نهباً، ضرباً، رعباً، أكثر من غيره، حيث أولو أمره، تلمسوا تاريخهم باعتباره القادر على الاستمرار عبر صرماية تتجد، وإن اختلفت أحجامها أو ألوانها أو مقاساتها، والذين يتبعون غواية السحق فيها. ربما مشهد المحكمة يستحضر، ومن خلال الجاري فيها، حركة الصرماية التاريخية، وكيفية تجلي أورفيوس الكردي، أورفيوس الضحية، وهو يحاول لملمة شتاته خارج منطقها المروّع.
أسرلة وصهينة الكردي: على خلفية شفافة للمحكمة، يبدو الكردي في مأسويته، وكيف يتم تجريده من المكان، من التاريخ، من حقيقته كونه مواطن مكان، وليس القادم إليه، وذلك من خلال أسرلته وصهينته. وحدهم الذين يحاولون النيل منه: كتاباً مرتزقة، وسياسيين متخمين بلغة العقيدة القاهرة والسلطة الأحادية الجانب، ورموزاً للسلطة وحماتها، يعرفون ما تعنيه الأسرلة والصهينة، عندما يريدون الاقتصاص الأبدي( حيث الكردي مدان طالما هو موجود عند هؤلاء)، من الكردي، وخصوصاً راهناً، باعتباره اسرائلياً أو صهيونياً. ليست تهمة الاسرائيلية إلا زحزحة مكانية، اعتباره دخيلاً على المكان، حصيلة عنف تاريخ طارىء، كاوس الجغرافيا العروبية هنا، وباء كيان عروبي مرسوم بأبدية لا تهاون فيها معه، من الماء إلى الماء، ليكون الكردي القرصان الخطر، الواجب التخلص منه، إنه الاسرائيلي دون الاسرائيلي، لأن الاسرائيلي المعني مهاب، حتى وهو محارَب، أما الكردي المؤسرَل فهو سبَّة، تزةيد لمعتبًر مزوراً في دخيلة المعني بالتهويلات، زيف مكان ومقيم فيه. بالمقابل ليست الصهينة إلا إسقاطاً على عقيدة وبائية بدورها، عقيدة الكردي المعتبرة طاعوناً يهدد منطقة واسعة باسم كردستان وفي الجوار. صهينة الكردي استعارة إيديولوجية نفاثة في عقد مسكون برعب الآخر، تهويل لحقيقته، وهو دون التسمية، لأنه أبعد ما يكون عن المسمى، ولكنها عقدة العدواني الذي يبحث عن أي مبرر، مهما كان مروعاً للنيل ممن يعتبره هكذا. ماالذي يصهين الكردي، أو يجعله متصهيناً ، سوى ذاك الذي يسيل لعابه، والخوف المرافق له تاريخياً ومحلياً، حين يكون ذلك ذريعة لتفعيل عنفه المميت أو المقيت فيه. وحده الكردي الذي يعرف جلاده، وكما يحثه جلاده على التفكير هكذا ورغماً عنه، من يعرف ما تعنيه الأسرلة والصهينة، وخصوصاً راهناً، في الوقت الذي تكون الأسرلة والصهينة عند الكثيرين من أهل الحجى العروبيين والمتأسلمين قدوة في سياقات بقائهم.
كردي العلم، علم الكردي في الظل: في الجوار الذي لا يمكن تجاهله موقعاً وتقويم مكانة،لا ينفصل مشكل العلم العراقي وتداعياته، عن مقومات الذهنية التي تشرّع له، الذهنية التي آلت على نفسها أن تحدد مدارها ومسارها في نطاق التمركز على الذات، وهي الذات العروبوية الاسلاموية المبعثنة، حيث إن لجوء مسعود البرزاني إلى تخصيص علم 14 تموز 1958، علماً عراقياً، وهو يرفعه فوق مؤسسات أقليم كردستان، وليس علماً كردياً، لم يكن تصرفاً خارجاً عن المألوف العراقي إلا من زاوية واحدة، تلك التي يجد العراقي؟؟ يجد نفسه من خلالها دون مستوى عراقيته، كما تقول تداعيات المشكل. البرزاني لم يبتكر أو لم يبتدع علماً من عنده، ويفرضه على عموم العراقيين، بقدر ما كان علماً يجسد تاريخاً مضى واستُعيد راهناً، ومقومات العراقيين جميعاً وقتذاك( وهنا يكمن المأزق القوموي العروبي المتأسلم، ومن يتحرك في ركابه)، حيث يكون الاقتراح، وبناء على الدستور الجديد، بضرورة تصميم علم جديد، قد جاء من خارج المركز، إي أن المبادرة رغم أنها في حقيقتها ليست كردية محضة في محتواها، برزت من الطرف/ الهامش، وليس المركز، وهذا خرق لقاعدة المركز. ولو أن المركز قد قرر ذلك، لما كان خلاف، أو صارضجيج، ووفقاً لهذا التصور، يكون الموقف من الخطوة البارزانية، تصعيداً بالخطورة التي تتمثل في المعتبر طرفاً، الطرف الذي عوّد في أن يتلقى التعليمات وأن يلتزم بها، أن يتمثلها ليس إلا، وما في ذلك من تهديد من صلاحيات المركز. وإلا لماذا كل هذا الضجيج المثار حتى داخل المحكمة، ومن قبل طاغية العراق؟ المحكمة في الحالة هذه أوسع من كونها مسوَّرة، وصدام يراهن على ملايينه المجيشة ملايين المركز، حتى وهو في سجنه، في قفص الاتهام، وهو يصغى إليه، كما لو أن شيئاً لم يكن. إن تخلصاً من عهد موبوء، يكون ببذل كل ما من شأنه تجاوز الذاكرة المكانية المتشظية، والذين يستمرون تحت وطأة العلم الذي لم يدّخر صدامه جهداً في تصفية عراقييه، والكرد أكثر من غيرهم، لكأنما يتلمسون فيه مهابة مباركة صدامية، كما لو أنهم يتمنون حضوره رمزياً هنا.
المكرككون: وأعني هنا الذين اثتمروا في كركوك مؤخراً، وأعني بذلك جموع الذين استشعروا صداماً قدوتهم عرباً عروبيين وتركماناً لهم مآرب تلتقي في ظل أولئك. حين يطالبون بعودة صدام، وحين يهددون بجعل كركوك مقبرة للطامعين فيها، والمفصود بذلك: الكرد. ثمة دعوة لمقايضة، ويا لها من مقايضة مرعبة ومروّعة، يكون دم الكردي المراق والمطلوبة إراقته ،هو الثمن الذي كان ويكون. إنهم بصراحة القول، يؤكدون على أن ما يجري هم المسؤولون عنه، وإن بوسعهم توسيع دائرة القتل والترويع، إذا جرى تغيير ما. الحرب لم تنته، والأرض تشهد أكثر الصراعات عنفاً وإمكانية تفجر من الداخل، وفي الآن عينه، تعلِم مدى ضراوة التاريخ المرجع لكل ذلك، حيث ليس من غراقي إلا وجرى تلغيمه، كما تنص التربية العقائدية العروبوية المتأسلمة: شهيداً أو شديداً، لتكون المحكمة آخر ما يمكن التفكير فيه، طالما الجاري يؤثر في السلطة القائمة بقوة.
الأختام الدينية الناتئة: بوسع المعنيين بالدين، من المعتبرين أنفسهم المرجعية المثلى اسلامياً، أن يسيّروا ملايين المسلمين، أن يجيشوهم، بعد كلمة البابا مؤخراً حول الاسلام، وفي حيّز أخرج من إطاره التاريخي، ليكون ذلك حجة أقوم أدوم، في تفعيل العنف المشهود لـه على وسعه بأختامه الاسلامية، وليكون هناك ( تواطؤ الأضداد على صناعة الخراب)، بحسب التعبير البليغ لعلي حرب. بينما يفتي في الطرف الآخر، رجال عاهدوا في أنفسهم وحولهم خراباً مقدراً مدبراً، يَثابون عليه، في أن يمضوا في النظر إلى ما يجري بأقل من عين واحدة، كما هو ممثل الاسلام في حضرة ولي أمره، من أمثال القرضاوي الذي يسهب في الحديث عن الاسلام باعتباره محبة وإخاء وصدق وديمقراطية، في تبرير كل صنوف القتل في العراق، أو التغاضي عما يحصل، وكأن ذلك ليس من مهمة المعني بالدين، وليؤكد ما يجري حقيقة ما أشار إليه البابا الكاثوليكي.
البيّنة ناقصة: ليس لدى المثقف العربي، وخصوصاً المتنور ما يشغل به نفسه، إزاء الجاري، إلا باعتباره مؤامرة على أمة الاسلام، على أمة العرب ممثلة الاسلام. كنت أتمنى على المثقف العربي، وهو يتحدث عن العنف والاستبداد في البلاد العربية، أنى حل، أن يسمي موقعاً، كائناً. عند التسمية يموت الاسم. طاغية العراق شغل أعلبيتهم باعتباره البطل، رغم الوجه الدموي فيه. وهو الآن في المحكمة، يبرز مدى تخليهم عما ينادون به نظرياً، وكأن لا علاقة له بالعنف، كأن ما جرى لم يكن له يد فيها. البيّنة ناقصة باستمرار، كما قضى ابن الخطاب للمغيرة بن شعبة في حادثة الزنى، مبرئاً إياه، بشهادة مزيفة من ربع من أصل أربعة شهدوا بالعكس، طالما لم ( المرود في المكحلة)، إنما كان هناك ( الاستبطان)، ويا لها من بلاغة في تجميل الجريمة! هكذا يحاول الذين يتابعون ما يجري هنا وهناك، وفي المقدمة المثقف العربي الذي ينادي بالديمقراطية، بينما يُمثَّل فيها أمام سمعه وبصره، مرجعاً ذاته إلى حالة التماهي مع سلطانه. أشدد مستغرباً هنا ، على ما أثاره المتلفسف الدكتور فتحي المسكيني، في كتابه ( الفيلسوف والامبراطورية)، وهو يهديه فقط إلى ( عرايا سجن أبو غريب)، ليحاكم الحضارة الغربية جملة في مسيحيتها قاطبة، رابطاً إياها بلفظة مروعة هي ( الهائل La gigantesque)، بينما الحضارة الاسلامية، التي لا زالت تمتلك القدرة في استلام دفة التاريخ، ومن خلال الحدث النيويوركي وما بعد، فيربطها بمفردة جلية الوقار والاعتبار بـ( الجليل Le sublime)، انصافاً لمن ينصف في تاريخه، ومن يكون قدوته ، كما يظهر، ولتستمر مهزلة نورمبرغ إلى أجل غير مسمى، لكن في الحالة هذه أكثر من كونها مهزلة ومحلية، إنما تتجداوز حدودها المحلية.
#ابراهيم_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما هو أبعد من الترجمة كردياً : لالش قاسو ومترجمه المثالي
-
الفيلسوف الكردي
-
ما هو أبعد من العلم العراقي
-
المثقف الكردي المشعوذ
-
ثرثرة مفلس
-
الصراع الكردي - الكردي: رؤية أدبية، عبر ترجمة فصل من رواية :
...
-
مستقرات السرد في الرواية - رومانس المكان-: هيثم حسين في رواي
...
-
قلبي على لبنان
-
- Mijabad رواية أوديسا الشاعر الكردي- المقام الشعري في رواية
...
-
نقد العقل القدري الكردي
-
مكائد الأمكنة: حسين حبش وشعرية المكان
-
أعلام الكرد الخفاقة
-
موسم الهجرة الطويل إلى جنوب كردستان
-
الكردي مؤرّخاً
-
الدوغماتيكي رغم أنفه
-
-النقلة باعتبارها تمرداً في الأدب: سليم بركات في روايته الجد
...
-
أهي نهاية المرأة ؟
-
منغّصات الترجمة
-
الكردي الرشيد: رشيد كرد
-
مغزل الكردي
المزيد.....
-
بوليفيا تعرب عن دعمها لمذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت
-
مراسلة العالم: بريطانيا تلمح الى التزامها بتطبيق مذكرة اعتقا
...
-
إصابة 16 شخصا جراء حريق في مأوى للاجئين في ألمانيا
-
مظاهرة حاشدة مناهضة للحكومة في تل أبيب تطالب بحل قضية الأسرى
...
-
آلاف الإسرائيليين يتظاهرون ضد نتنياهو
-
مسؤول أميركي يعلق لـ-الحرة- على وقف إسرائيل الاعتقال الإداري
...
-
لماذا تعجز الأمم المتحدة عن حماية نفسها من إسرائيل؟
-
مرشح ترامب لوزارة أمنية ينتمي للواء متورط بجرائم حرب في العر
...
-
لندن.. اعتقال نتنياهو ودعم إسرائيل
-
اعتقالات واقتحامات بالضفة ومستوطنون يهاجمون بلدة تل الرميدة
...
المزيد.....
-
التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من
...
/ هيثم الفقى
-
محاضرات في الترجمة القانونية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة
...
/ سعيد زيوش
-
قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية
...
/ محمد أوبالاك
-
الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات
...
/ محمد أوبالاك
-
أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف
...
/ نجم الدين فارس
-
قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه
/ القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ اكرم زاده الكوردي
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ أكرم زاده الكوردي
-
حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما
...
/ اكرم زاده الكوردي
المزيد.....
|