|
إشكاليّة مفهوم ((الأمة)) في الفقه السياسي الأصولي (قراءة نقدية لمفهوم ((الأمة)) عند الشيخ عصام البشير المراكشي) (1)
فارس إيغو
الحوار المتمدن-العدد: 7286 - 2022 / 6 / 21 - 14:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن الأزمات التي يخلقها بقاء الفقه الإسلامي المعاصر، وبالخصوص في المجال السياسي، في حالة من العطالة الكبيرة عن القيام بمراجعات عميقة في الكثير من الآراء الفقهية التي أدلى بها فقهاء العصور الوسطى، هي أزمات تجعل المجتمعات العربية والإسلامية في حالة دوران دائمة حول نفس المشاكل التي تثار بين فترة إلى أخرى دون أن تجد لها حلول جذرية تجعلها تسير بشكل خطي (سهمي) نحو التطوير والتحديث، وبالخصوص ما يتعلق منها في مسائل النظام السياسي وترسيخ الدولة ـ الأمة والدساتير والقوانين الوضعية الحديثة، وبالأخص قوانين الأحوال الشخصية. ومن بين هذه المسائل المهمة والعويصة هو مصطلح ((الأمة)) بالمفهوم الديني والذي يُستعمل بكثرة من قبل رجال الدين الإسلامي وبالخصوص المؤيدون للإسلام السياسي، والذي رأى تجسيداً سياسياً له في نظام الخلافة خلال ثلاثة عشر قرنا، ويحاول البعض التمسك به، لا بل إعطاؤه نوع من الشرعنة والتجسيد السياسي في محاولة مستحيلة لخلق نوع من ((الحكومة الإسلامية))، ما يؤدي إلى خلق فوضى مفهومية كبيرة في أذهان الوعي الإسلامي المعاصر يمنعه عن تبني أسس الحداثة السياسية مع اعتبار خصوصية كل جماعة سياسية وثقافية ـ حضارية. تتعلق فكرة المقالة بإثبات أن فكرة ((الأمة)) الإسلامية لا يمكنها أن تتجسد بأي شكل من الأشكال السياسية من دون نظام الخلافة (2)، وفكرة دار الإسلام الملازمة لها، وبما أن الخلافة قد جرى التخلي عنها من قبل تقريبا معظم المفكرين الإسلاميين بسبب لا واقعيتها واستحالة تحققها في التاريخ المعاصر مع وجود مليار ونصف مسلم يعيشون في 57 دولة ((إسلامية))، فإن مفهوم ((الأمة)) الإسلامية بقي مفهوما أساسيا يتمسك به الفكر السياسي الإسلامي الأصولي. سوف نناقش أحد أبرز المطالبين بفكرة ((الأمة)) الإسلامية والمرجعية الإسلامية وهو الشيخ عصام البشير المراكشي من المغرب، ويعتبرهما مفهومان مركزيان في التصور السياسي الإسلامي على اعتبار أن ((الأمة)) هي الامتداد الأفقي، والمرجعية الإسلامية هي الامتداد العامودي (بلغة أخرى ما أنزل الله من شرع). سوف ننقل نصا طويلا من كلام الشيخ المركشي، منتقدا فيه الباحثين الذين يقومون بعمليات الموائمة بين الإسلام والحداثة، والمقصود هنا مواطنه المفكر المغربي محمد جبرون صاحب مفهوم الحاكمية القيمية (3)، ويحدّد في هذا النص المفاهيم الأساسية في التصور السياسي الإسلامي والتي يجب تواجدها لكي نقول بإسلامية النظام السياسي أو لا إسلاميته. وبعد ذلك سنقوم بعملية النقد المحايث للنص من داخله، وأيضاً من خارجه لنكشف استحالة التحقق لإسلامية النظام السياسي بحسب هذا التصور المعروض القائم على أصلين كبيرين هما ((الأمة)) والمرجعية الإلهية. يقول الشيخ المراكشي في إحدى محاضراته على شبكة الإنترنيت: ((أين يكمن الخلل في هذه الموائمة والتأليف بين الإسلام والحداثة؟ من أمرين، أولهما، النظرة ببراءة إلى مفهوم الدولة الحديثة، نظرة وردية ومثالية، على أنها مجرد إجراءات وآليات وقوالب يمكن التعامل معها كما نشاء، ويمكن أن تكون الدولة الحديثة إسلامية أو غير إسلامية، لا إشكال؛ الخلل الثاني، هو من النظرة التجزيئية التطويعية، وأكاد أقول التحريفية، للإسلام. أشرح ذلك، تعني التجزيئية أن نأخذ من الإسلام ما يلائم الدولة الحديثة ومخرجاتها الفكرية، بينما تعني التطويعية أن نطوع أصول الإسلام الصلبة (الثوابت) لمخرجات الدولة الحديثة، وأما التحريفية قد يكون حكم قيمة قاسي لنتركه الآن لنتكلم عن التطويعية. إن التصور السياسي الإسلامي، إذا دخلنا في صلب الموضوع، يحتوي أصول سياسية، أو قيم كبرى سياسية، وهناك علم من علوم الفقه يسمى السياسة الشرعية، دخله ما دخله عبر التاريخ، من التحريف والخروج عن أصول القيم السياسية الكبرى، وأصبحت الأحكام السلطانية في كثير منها نوع من التسويغ لواقع ظالم. لكن، مع ذلك كله، هناك مفهومان مركزيان في هذا التصور السياسي الإسلامي، هما اللذان لا يمكن التفريط بهما، ولا الفصل بينهما، وبالتالي، هما اللذان يشكلان الإشكال الأكبر في تعامل الإسلام مع الدولة الحديثة: مفهوم الأمة ومفهوم المرجعية. مفهوم الأمة أولا، هو الامتداد الأفقي، ومفهوم المرجعية هو الامتداد العمودي (كأننا أمام مخطط هندسي). مفهوم الأمة أولا، هو الامتداد الأفقي، الأمة هي الأفراد، منتسبون إلى تجمع ليس جغرافيا، ولا عرقيا. مفهوم الأمة هو مفهوم الدين الواحد، هو الملة الواحدة. وهو مفهوم مركزي بالنسبة للإسلاميين، ومن الصعب جدا التخلص منه، القرآن كله والسنة والإجماع وكلام الفقهاء يدوروا حول مفهوم الأمة، هو مفهوم جمع /ومنع، أي أفراد يجمعون داخل الأمة، ويشكل فيما بينهم رابطٌ ديني يجمع بينهم، والمنع يعني أن من هم خارج الأمة لهم أحكام خاصة (أهل الذمة إن كانوا يعيشون داخل الأمة)، وإن كانوا خارجها لهم أيضا أحكام خاصة بهم (مثل دار الإسلام ودار الكفر مثلا). المفهوم مهم وأساسي، وأدلته أكثر من أن تحصى، وهو دائر على الروابط بين المسلمين من جهة، وعلى العلاقة بين المسلمين وغيرهم من جهة أخرى. التعبير الواقعي والتاريخي عن المفهوم، كان خلال التاريخ كله من خلال مفهوم الخلافة. ومفهوم الخلافة ليس تصور مركزي في التصور السياسي الإسلامي، مثل مركزية مفهوم الأمة، وإنما هو تعبير عن مفهوم الأمة، وطريقة لإيجاد الأمة، والخلافة كمفهوم وجد منذ وفاة النبي، واستمر إلى عصر قريب جدا (1924)، فالخلافة في التشكل الواقعي عبّر عنها في وحدة الأمة، ولذلك استنكر المسلمون عندما سقطت الخلافة العثمانية، مع أنه في كثير من الأحيان لم يكن سوى رمزي، لكن كان رمزا، رمزا للأمة، فسقوط الخلافة يعني سقوط مفهوم الأمة واقعيا، ثم سيأتي سقوطه فكريا، من ناحية التأصيل. الخلافة كانت رمزا، ومطمحا يُسعى إليه. وعبر التاريخ، هناك كثير من الانحراف عن هذه الأصول، عن التصور السياسي الإسلامي، ولذلك في كثير من الأحيان كانت الخلافة رمزا فقط، بقيت الخلافة رمزا، وبقيت بالنسبة للمسلمين مطمحا يسع إليه. الذي وقع، أنه بعد سقوط الخلافة تبنى المسلمون مفهم الدولة الحديثة، وذلك عبر الاستعمار، وحين دخلت مفاهيم الدولة الحديثة وجد المسلمون تناقضا كبيرا جدا بين ما يدرسونه في الفقه، وما تشكل عليهم وعيهم الديني، وبين مفهوم الأمة الحديثة، التي تَجمع وتَمنع، ولكن بطريقة أخرى غير الطريقة الشرعية)) (4). ماذا يمكن أن نستخلص من هذا المقطع الطويل للشيخ المغربي عصام البشير المراكشي: أولاً، لا مكان في الفكر السياسي الإسلامي الأصولي لشيء اسمه الدولة الوطنية أو الدولة الحديثة، وبالتالي، لا يمكن لأي مجتمع فيه أكثرية من المسلمون أن يؤلفوا مع غيرهم من الجماعات الدينية، جماعة وطنية واحدة، بلغة أخرى أمة قومية إذا أرادوا أن يبقوا مخلصين لإسلامية النظام السياسي حسب التصور الأصولي للفكر السياسي الإسلامي. ثانياً، نفي مفهوم الوطنية لصالح مفهومي (الملة) و(أهل الذمة)، وذلك بحسب أطروحة الـ (الجمع والمنع) الطاردة لأي فرد من الملل غير الإسلامية في وضعية (أهل الذمة) الدونية، والتي لا يمكن لأحد من هؤلاء قبولها بالرضى، بل بنوع من الخضوع القسري المُذل. ماذا يعني ذلك، غياب أي إمكانية ببناء أنظمة سياسية تتخطى الاستبداد والفساد، فمن دون المواطنة الكاملة والمتساوية هناك استحالة كاملة في بناء أنظمة ديموقراطية بحسب الفكر السياسي الإسلامي الأصولي في مجتمعات يقال عنها أنها مسلمة. ثالثا، مفهوم (الجمع/والمنع) سيجعل المسلمين في حالة حرب حضارية دائمة مع الآخر الحضاري (الغرب، الصين، روسيا، الهند إلخ)، وسيقام جدارا (بيننا) و(بينهم) تحت مسمى (دار الإسلام ودار الكفر)، أو (دار الإسلام ودار المعصية والانحراف). رابعاً، لم يعطينا الشيخ في محاضرته الطويلة أي فكرة عن هنذا الكيان السياسي الهلامي القادر على الجمع بين ((الأمة)) بالمفهوم الديني ومفهوم ((المرجعية))، أو بلغة أخرى الجمع بين الامتداد الأفقي الواسع للأمة الإسلامية والامتداد العامودي للشريعة المنّزّلّة، وبخاصة بعد نفي الشكل التاريخي الذي جمع بينهما، أي الخلافة. خامساً، يعيدنا هذا التصوّر حكماً إلى معارك استعادة الخلافة في العشرينيات من القرن المنصرم، على الرغم من التقليل من أهميّتها من قبل الشيخ المراكشي لصالح مفهوم ((الأمة)). بحسب هذا التصور الأصولي سوف يعود الفكر السياسي الإسلامي إلى معركة الخلافة وكتاب علي عبد الرازق ((الإسلام وأصول الحكم)) عام 1924، وسوف تستعيد الأصوات التي كانت تنادي باستعادة الخلافة قوتها وزخمها، بالرغم من لا واقعيتها، لا بل كونها نوعا من الاستيهامات التي تجعل المسلم يعيش حائرا بين واقعه الدنيوي حيث الفساد والاستبداد ووعيه الديني المُعبئ والمشحون بخطابات الفكر السياسي الأصولي المسيطر على المؤسسات الدينية الرسمية وحركات الإسلام السياسية. وسادساً، بالرغم من أن مفهوم ((الأمة)) هو المفهوم المركزي، والأصل حسب الشيخ المغربي المراكشي مع مفهوم المرجعية، والخلافة هي الشكل الذي يمكن التغاضي عنه (تنازل من الشيخ يقدّر عليه)، إلا أننا لا نرى كيف يمكن إعادة ((الأمة)) إلى مسرح التاريخ من دون الخلافة التي اعتبرها شيخنا (شكلية وغير ضرورية شرعيا). هكذا تعود الخلافة لتصبح هي الأصل، لأنه من دونها لا معنى ولا وجود لـ ((لأمة)) إلا متجزأة إلى قطع متناثرة في كيانات قطرية فرضها الاستعمار (5). صحيح أن الشيخ المراكشي يستبطن معرفيا وتاريخيا استحالة عودة الخلافة، كما سبقه إلى ذلك الفقيه القانوني المصري عبد الرزاق السنهوري منذ حوالي قرن تقريباً، ويقول باستحالة الدولة الإسلامية بحسب التصور الذي أتى به الدكتور وائل حلاق في كتابه ((الدولة المستحيلة)) (6)، لكنه يستمر بالقول بمفهوم ((الأمة))، ويعتبره شرطاً أساسيا لإسلامية النظام السياسي مما يشكل شرطا تعجيزياً على المفكرين الذين يجتهدون لإصلاح الفكر السياسي الإسلامي، مضيفا بذلك استحالة أخرى أمام هذا الفكر التجديدي تجعل في نظري الدولة الحديثة هي الخلاص الوحيد لأزمة المجتمعات العربية والإسلامية، وأزمة الفقه السياسي الإسلامي. وفي ختام حديث الشيخ المراكشي تنكشف كثير من الأفكار التي حاول الشيخ تغطيّتها، وهي النضالية ضد الأنظمة العربية الحديثة، لا لتحسين أدائها الديموقراطي، بل للانقلاب عليها نحو شيء لا نعرف حدوده وأبجدياته الرئيسة، سوى مفاهيم غامضة حاول الشيخ في محاضرته توضيحها بصعوبة كبيرة، يقول: ((في الختام، لا مناص من تكوين أجيال إسلامية جديدة باستطاعتها تغيير موازين القوى، لأن موازين القوى ليست في صالح المسلمين، وما دمنا هكذا فسيفرض علينا النموذج الحداثي الجاهز، وهو مفروض علينا أصلا، وحينئذ سيلجأ كثير من الناس لتسويغه. نحتاج للعمل على استعادة قوة نموذج الإسلام لكي نفرض نموذجنا، نحن منهزمين الآن، عسكريا وسياسيا، لكن على الأقل، أريد أن أبقي فكري سالما من الهزيمة الفكرية، التي لا يخلو منها مغلوب في تعامله مع الغالب، أريد أن أبقي المشعل الذي أخذته ممن سبقني من المسلمين متوهجا لمن يأتي بعدي، تغيّر الموازين قد يحدث بعد ردحا من الزمن، وربما بعد قرن، وربما بعد قرنين، المهم أن أحافظ على الأفكار الموروثة، ولا يكتب علي أنني ساهمت في تحريف الإسلام لكي يوافق هذه الدولة الحديثة، وهذه الثقافة الغربية. من لاحظ تاريخ البشرية يرى أنه محجموعة طفرات بشرية، مجموعة من الانقلابات على نموذج مستقر، الأديان، لو أن الأنبياء والرسل وحاشاهم، داهنوا وقدموا التنازلات وقبلوا بمتطلبات عصرهم لما قامت الأديان. هذه الحضارة الغربية القائمة والغالبة اليوم لو أنها قبلت بالوجود لأنه مفروض لما استطاعت أن تغيّر شيء في الموجود قبلها... وفي النهاية، علينا أن نفهم بأن الحضارة الغربية ليست نهاية التاريخ، وأن مخرجها الأعظم الذي هو الدولة الحديثة ليس نهاية النماذج السياسية التي يمكن اتباعها)). لكن، من هم المسلمين الذين يدعوهم الشيخ المراكشي لبناء نموذج الدولة الإسلامية المنشودة من قبله؟ هل هم مجموع المسلمين في العالم أم مؤيدو الإسلام السياسي الذي يدعو له الشيخ تحت عنوان كبير يؤكد وجود نظام سياسي إسلامي شرعي لا نعرف من أين تمّ استخلاصه، هل من النصوص التي لا تقول الشيء الكثير عن تفاصيل هذا النظام أم من تجارب التاريخ الإسلامي التي لا تقول أكثر من التشريع الإسلامي للأنظمة القائمة على سلبياتها، وخوفا من الفتنة التي هي أشد فتكا من القتل. هذه الخاتمة تكشف التناقضات اللاواعية في هذه المنظومة الفقهية السياسية الأصولية، فالشيخ المراكشي يعترف بأن قوانين التاريخ هي سلسلة من الانقلابات والطفرات، ويعطي مثال الأديان التوحيدية الثلاث عليها، ولكنه يرفض أن تستمر هذه الطفرات والانقلابات بعد عصر الإسلام، يريد إيقافها عند حد تاريخي، هو نزول البعثة في بداية القرن السابع للميلاد، بالرغم من اعترافه بأنها سنة الكون التاريخي. والمشكلة مع أهل هذه المنظومة الفقهية الأصولية أنهم لا يريدون أن يعيشوا نمط تديّنهم التقليداني داخل المساجد فقط، عندها سوف نقدّم لهم كامل احترامنا وإجلالنا لهم، ولكن، الخروج من المساجد لفرضها في النظام السياسي، هنا الإشكال مع هذا النوع من التفكير والتدّين المُسيّس، ولا شيء آخر مما يعتقده شيخنا الجليل. وفي هذا النوع من المقاربات، يُستعمل التاريخ بانتقائية ضد الدولة الحديثة، وهو أمر بالأصل مقرور تاريخيا من قبل الحداثي (أي الاعتراف بالصيرورة التاريخية)، ولكن نفس القانون التاريخي لا يمكنه أن يمس شعرة من المنظومة الفقهية الأصولية على الرغم من أنها تأويل من تأويلات النصوص التأسيسية، وقراءة من ضمن القراءات للتاريخ الإسلامي الوسيط. المشكلة الكبرى في الفكر السياسي الإسلامي الأصولي أنه يدخلنا في تيهان نظري ومفهومي كبير من دون أن يقدم أيّ أفكار فعالة تفضي إلى تطبيقات وحلول عملية في استعصاءات الفقه السياسي وتؤدي لفض مأزق الاستبداد والفساد والتأخر التاريخي المهيمن على المجتمعات في العالم العربي والإسلامي، وبالتالي، الخروج بصيغ توافقية بين الحداثة والقيم السياسية الإسلامية الكبرى. هكذا، تتم إغلاق كل الأبواب ويتكرّس الجمود الذي يجعل السلطات السياسية القائمة بأمر الواقع والتغلب على أن تكون الحكم وصمام الأمان لمجتمعاتها. وهكذا تتعثر كل ورشات الإصلاح الضرورية للخروج من المأزق الوجودي والمعيشي اليومي في انتظار حلول الانفجار الكبير الثاني الذي رأينا ماذا أنتج في دوره الأول عام 2011، دمار شامل في ثلاث بلدان عربية هي اليمن وليبيا وسورية، وأوضاع كارثية تنتظر السودان والعراق ولبنان. والخلاصة، مع استحالة هذا الطرح التراجعي الرجعي، وفي غياب الإصلاح الديني الإسلامي العميق، يستمر المسلمون كأفراد في العالم العربي والإسلامي في العيش ممزقين بين واقع صلب ودنيوي، وفاسد وفاجر ومنخور حتى العظم سياسيا بسبب آفة الاستبداد والتوحش المرافق له، ووعي ديني شقي يعيش على استيهامات أصبحت مرضية لفرط تكرارها والعجز لا بل استحالة تحققها، ويغذي (هذا الوعي الشقي) ما يسميه عالم النفس الفرنسي من أصول تونسية فتحي بنسلامة بتناذر((المسلم الأعلى))،وهو الخطوة التي تسبق عملية الانفصالية عن المجتمع وبداية الاندماج بالخطاب التكفيري للجماعات السلفية الجهادية (7). أي أن معركة داعش والتي وقف المسلمون ضدها بعد فترة قصيرة من الإعجاب الهيستيري عند البعض، لم تثمر لدى أهل الفكر السياسي الأصولي عن أي وعي مسؤول على ضرورة القيام بالإصلاح الديني العميق، بل على مصيرية هذا الإصلاح العميق خوفا على ضياع هذه ((الأمة)) التي يبحثون بشتى الوسائل للحفاظ عليها بتثبيتها على ظهر السياسة، السياسة التي لم ترى بعد النور في فضاءات هذا العالم الهيولي المترامي الأطراف الذي ندعوه بالعالم الإسلامي. الهوامش (1) ورد مصطلح الأمة في القرآن في عدة آيات، وبمعاني مختلفة، منها المعنى الأخلاقي الضيق ويشير إلى النبي إبراهيم في الآية: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (سورة النحل، 120)، إلى المعنى الأوسع، والذي يشير إلى كل أمة المؤمنين في الأديان التوحيدية الثلاثة من النبي إبراهيم إلى النبي محمد. في هذه المقالة الطويلة نأخذ بالمعنى السياسي ـ العقدي الذي يشير إلى ((أمة)) المؤمنين المسلمين أينما تواجدوا، والتي جسدتها الخلافة خلال الثلاثة عشر قرنا الهجرية من التاريخ الإسلامي للخلافة. (2) ظهرت فكرة فكرة الكومنولث الإسلامي كتعويض عن الخلافة من قبل المشرع والباحث القانوني المصري عبد الرزاق السنهوري، وقد تم تجسيدها بالفعل عام 1969 عن طريق المؤتمر الإسلامي، لكن هذا الأخير عبارة عن نوع من الفلكلور السياسي الذي لا يلزم أحد بأي شيء، سوى الخطب الرنانة في قضية القدس. يعتبر السنهوري القانوني الإسلامي من أشهر الذين قاموا بالتوفيق بين التشريع الإسلامي والقوانين الوضعية الجديدة، وهو الذي كتب الدستور المصري والعراقي. لقد فكر السنهوري بطريقة مختلفة عن التقليد، أن الخلافة على النموذج العثماني أصبحت شبه مستحيلة، لذلك اعتبر السنهوري بأن تعويض الخلافة كنظام سياسي سابق بالرابطة الإسلامية العقديّة وذلك على شكل نظام فيدرالي إسلامي، نوع من الكومنولث الإسلامي. وجاء المفكر الإسلامي المصري توفيق محمد إبراهيم الشاوي (1918 ـ 2009)، وطبق فكرة السنهوري في كتابه ((فقه الخلافة الإسلامية وتطورها لتصبح عصبة أمم للعلامة السنهوري)) ليقول بأن الخلافة في العصر الحديث ق تحققت مع منظمة التعاون الإسلامي التي تأسست عام 1969، على أثر حرق الجامع الأقصى في القدس من قبل أحد الصهاينة، وتضم 57 دولة، ومركزها مدينة الرباط. وتوفيق الشاوي يقول بأن منظمة المؤتمر الإسلامي التي أصبحت منظمة التعاون الإسلامي هي تطبيق لفكرة السنهوري في ما يتعلق بالخلافة. بمعنى أن فكرة الخلافة ممكنة لكن ليس بالمعنى الذي تصوره رشيد رضا وغيره. توفيق محمد إبراهيم الشاوي ((فقه الخلافة الإسلامية وتطورها لتصبح عصبة أمم للعلامة السنهوري))، الناشر دار الرسالة، لبنان، د.ت. الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراة كتبت باللغة الفرنسية للفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري، ثم تمت ترجمتها من قبل المؤلف إلى اللغة العربية، وقام توفيق محمد إبراهيم الشاوي بتحقيقها ونشرها، وإضافة مقالات أخرى من تأليفه. وقد ساعدت المحقق في عمله نادية السنهوري ابنة المؤلف عبد الرزاق السنهوري. والكتاب فيه كثير من المقالات من تأليف المحقق، وقد استغل الكتاب لتمرير أفكاره عن الخلافة وفكرة المؤتمر الإسلامي التي بزغت كفكرة أوليّة مع السنهوري. (3) يدعو المفكر المغربي محمد جبرون إلى تخطي مفاهيم حاكمية الشريعة عند المودودي وسيد قطب، وكذلك مفهوم ((مدنية)) الدولة في الإسلام، لكونهما أديا إلى استعصاءات وانسدادات عديدة في الفكر السياسي الإسلامي، وإلى فتح آفاق أوسع لهذا الفكر عن طريق طرح مفهوم ((الحاكمية القيمية)) الذي يسمح بتخطي العديد من العقبات عن طريق اعتبار إسلامية الدولة قائمة حتما عندما تلتزم بالقيم الأساسية السياسية المستخلصة من النصوص الكبرى التأسيسية والتاريخ الباكر للإسلام. وقد حددها جبرون بثلاثة قيم كبرى هي: البيعة (الديموقراطية)، العدل (العدالة والمساواة)، وأخيرا المعروف (المصلحة العمومية الدينية والدنيوية). 4ـ محاضرة الإسلام والدولة الحديثة جدل الإمكان والاستحالة مداخلة الشيخ عصام البشير المراكشي (المغرب) https://youtu.be/nG12imk-e9E صالون التجديد للفكر والثقافة تاريخ 2022. (5) إن الدول القطرية العربية التي نتجت عن الاستعمار، لم يكن بالإمكان أن تتطور إلى دول وطنية بسبب بؤس الأفكار التي تطرح، ومنها أفكار شيخنا الجليل. (6) يقول وائل حلاق في كتابه ((الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي)): ((أطروحة هذا الكتاب بالغة البساطة: إنّ مفهوم ((الدولة الإسلاميّة)) مستحيل التحقّق، وينطوي على تناقض داخليّ، وذلك بحسب أيّ تعريف سائد لما تمثّله الدولة الحديثة))، ص: 19. يقصد المؤلف التناقض بين الدولة الحديثة ومبدأ ((الإسلامية)) الذي يفترض تطبيق الأخلاق الإسلامية التي يعتقد حلاق أنها سادت في العصور الوسطى، وأنها استطاعت تحقيق توازن جيد في السياسات الاجتماعية بين الفرد والجماعة، بين المواطن والمجتمع بلغة عصرنا، الأمر الذي فشلت فيه الدولة الحديثة التي تعلي من شأن الفرد والفردية إلى مرتبة تعادل القداسة إن لم نقل التأليه. أي فهم لكتاب حلاق غير ممكن من دون الوعي بالخلفية الفلسفية الما بعد حداثية للمؤلف، والتي تظهر من خلال نقد راديكالي ذو خلفية أخلاقوية للدولة الحديثة على الخصوص، وللحداثة كمشروع شامل على العموم. صدر الكتاب باللغة العربية عام 2014، ترجمة عمرو عثمان ومراجعة ثائر ديب، من منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وفي نسخته الأصلية باللغة الإنكليزية عام 2012. (7) تعريف تناذر ((المسلم الأعلى)) أو كيف يكون المسلم أكثر وأكثر إسلاما. ظهر هذا المصطلح في كتاب عالم النفس الفرنسي من أصل تونسي فتحي بنسلامة تحت عنوان ((رغبة عارمة في التضحية: المسلم الأعلى))، والكتاب مترجم إلى العربية. يذكر هذا المصطلح بمصطلح فرويدي شهير هو ((الأنا العليا))، أو الأنا الأخلاقية الزاجرة لنزوات النفس الشهوانية. يقصد الكاتب بـ ((المسلم الأعلى)) ذلك الميل لدى بعض المسلمين إلى شكل من أشكال المزايدة الدينيّة، حيث يتم إبراز فائض من التدين كي يصبح المسلم أكثر إسلاماً لجهة الالتزام المفرط بتطبيق الطقوس الدينية، وإلا سيعيش في نكد. المسلم الأعلى تشخيص للحياة النفسية للمسلمين مخصب بالتأسلم ومسكون بحالة الشعور بالذنب والتضحية. يريد المسلم الأعلى التلفظ دائماً باسم الله في العالم، ويدين الذين يخرجون عن دائرته الإيمانية المفرطة في التديّن عبر الوعد والوعيد. يُسمّي بن سلامة هؤلاء ((المكبرين)) (الله أكبر) طالما أنهم لا يكفون عن التلفظ بـ ((الله أكبر)). وإذ يشير إلى الانكسار التاريخي المترتّب على تفكك الخلافة الإسلامية وانعكاسه على المسلمين، يلفت إلى أن ظهور جماعة ((الإخوان المسلمين)) في مصر ترجمة للمثال الإسلامي الجريح الذي يريد الانتقام واستعادة أنموذج سياسي ضائع. منقول عن مقالة لريتا فرج، كيف يكون المسلم الأعلى أكثر إسلاما، جريدة السفير اللبنانية.
#فارس_إيغو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرب الروسية على أوكرانيا والنزعة السلافيّة المتطرفة في روس
...
-
صراع الديموس والكراتوس في الديموقراطية على ضوء نتائج الدور ا
...
-
الحملة الروسية على أوكرانيا وبداية تداعي الإمبراطورية الروسي
...
-
هل يستطيع الرئيس الروسي أن يربح هذه الحرب؟
-
الإصلاح الديني والإسلام السياسي في عصر النهضة بين القطيعة وا
...
-
معضلة الإصلاح الديني ومقولة ((الإسلام الصحيح)) والحل التأويل
...
-
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان: ما هي العواقب الاستراتيجية
-
تفكيك دعوى غياب الكهنوت في الإسلام؟ (الشيخ محمد عبده مثالاً)
-
المعارضة السورية الجديدة، هل فعلاً من جديد؟
-
الفلسفة في علاقتها مع العلم
-
انقلاب دستوري في تونس
-
محنة المثقف في العالم العربي والإسلامي (نصر حامد أبو زيد نمو
...
-
قصة المجلس الوطني لإعلان دمشق (القسم الثاني)
-
قصة المجلس الوطني لإعلان دمشق عام 2007 (إصلاح المعارضة السور
...
-
هل كنا ساذجين؟ المعارضة السورية 1970 2020 (الجزء الأول)
-
الغرب بين الإندماج والإدماج التماثلي
-
تطور مفهوم الأيديولوجيا عند المفكرين الماركسيين
-
المشكلة في تعريف السياسة!
-
نثرات مناهضة للعولمة ((السوقيّة))
-
الأيديولوجيا واليوتوبيا
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|