|
المنظومة التربوية وإشكالية الجودة
إدريس الخلوفي
أستاذ باحث
(Lakhloufi Driss)
الحوار المتمدن-العدد: 7279 - 2022 / 6 / 14 - 00:27
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
د.إدريس الخلوفي، أستاذ مادة الفلسفة بتازة، أكاديمية فاس مكناس.
تمهيد: لقد كان سيمون يرى أنه غالبا ما نعرف الإدارة بأنها فن فعل فعل الأشياء، «l’art de faire faire les choses». فكل نشاط عملي يسلك مرحلة من القرار ومرحلة من الفعل. والنظرية العامة للإدارة يجب أن تستدخل مبادئ التنظيم التي تضمن قرارات جيدة بنفس القدر الذي يحتم عليها أن تتبنى مبادئ تضمن فعلا ناجحا . ومن البديهي أن الأعمال الميدانية التي تحقق أهداف التنظيم تتوقف على عمل الأفراد المتموقعين في أسفل التراتبية الإدارية، فالسيارة لا تصنع بيد المهندس أو المدير، بل على يد الميكانيكي الذي يشتغل بسلسلة التركيب، والحريق لا يطفأ من طرف ضابط الإطفاء بل من طرف الإطفائي الذي يحمل خرطوم المياه ويواجه النار مباشرة (والأمر نفسه بالتعليم، فالأعمال المباشرة تنجز بالقسم من طرف الأستاذ وليس من طرف الوزير أو مدير الأكاديمية). ومن الواضح أيضا أن الأشخاص الذين يتموقعون في أعلى السلم التراتبي ليسوا هناك بشكل عبثي أو أنهم لا فائدة منهم؛ بل لهم أيضا دور أساسي يقومون به لإنجاز أهداف التنظيم، فإذا كان من يمسك بالبندقية الرشاشة ويضغط على الزناد له هدف محدد هو حماية موقعه ومواجهة من يدخل ضمن محيط محدد، فإن مهمة الضابط هي أوسع من مهمة أي جندي يحمل البندقية: إنها مهمة تدبير المعركة بشكل كلي. إذن فتركيبة تنظيم إداري فعال، ليست شيئا آخر غير مشكل فهم النفسي والاجتماعي داخل التنظيم. يجب توفير هيئة تنفيذية تضم فرقة من الأطر القادرة على التأثير على الأفراد المنفذين، من أجل أن يعملوا بطريقة فعالة ومنظمة، ونغلب هنا مفهوم التأثير على مفهوم التوجيه في مجال السلطة الإدارية. وكنتيجة يمكن القول، إن وظيفة التنظيم الإداري لا تختزل في مساهمة بسيطة وظيفية أو سلطوية . إن تحقيق الجودة في التنظيم تتطلب إذن الانتباه لكل الحلقات المرتبطة بالإنتاج، بدأ من الإدارة حتى آخر فاعل تنفيذي، وهو الأمر نفسه في التنظيمات التربوية. فالجودة هي أحد أبرز المفاهيم التي يتم تداولها في مجال التربية والتكوين، ومع مطلع القرن الحالي، بدأنا نسمع استعمال مفهوم الجودة بشكل مكثف في مجال التعليم، من قبيل جودة التعلمات، وجودة المكتسبات، الحكامة الجيدة في التسيير، وتجويد الحياة المدرسية، وغيرها كثير من المفاهيم ذات الصلة بالجودة، والتي بات الحقل التعليمي بالمغرب يتداولها. لكن ما سر هذا التداول؟ وما هي الأسباب وراء اقتحام هذا المفهوم للحقل التربوي فجأة؟ هل الأمر مجرد موضة عابرة، أم أنه يتعدى ذلك إلى سياسة واعية، وإرادة حقيقية من أجل النهوض بأوضاع المنظومة التربوية ببلادنا؟ إن التطورات الاقتصادية، والصناعية، والمعلوماتية، التي عرفها العالم الجديد جاءت مرفوقة بميلاد عهد جديد من الانفتاح، والذي أصبحت معه الحدود شبه مفتوحة، تحت إطار ما أطلق عليه العولمة، فمع هذه الأخيرة أصبحنا نتحدث عن السوق الحرة، والتبادل الحر، وغيرها من المفاهيم التي تحيل على المنافسة الاقتصادية الشرسة، والتي أصبحت معها الجودة مطلبا لا غنى عنه، لضمان إمكانية الاستمرار. وسط هذا التحول الاقتصادي، نجد أن مجال التربية والتعليم لم ينج هو الآخر من مخلفات العولمة، حيث أصبح التعليم الجيد هو بوابة الولوج إلى عالم الجودة في كل القطاعات الأخرى، فالتعليم الجيد هو الذي ينتج رجل الاقتصاد الجيد، والطبيب الجيد، والمعلم الجيد. باختصار شديد، التعليم الجيد هو أساس المجتمع الجيد بكل مكوناته. لهذا السبب فإن مفهوم الجودة الذي هو في الأصل مفهوم اقتصادي، سيهاجر، أو يستعار من مجال الاقتصاد إلى مجال التربية. ويكفي الرجوع إلى الميثاق الوطني للتربية والتكوين، لاكتشاف الأهمية البالغة التي أولاها هذا الأخير للجودة. فوثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين تنص على ضرورة الرفع من جودة التربية والتكوين، على اعتبار أنهما يشكلان أساس كل نظام تعليمي يسعى إلى كسب رهان التحدي، ويهدف إلى الانخراط الإيجابي والفعال في العالم الجديد الذي يتسم بالمنافسة الشرسة والصراع الدولي، فالاستمرار والنجاح لا يتأتى إلا للأجود والأصلح على مستوى المعرفة والعلم والإنتاج. "ولما كانت المنظومة التربوية تشكل وحدة متكاملة تتفاعل مختلف مكوناتها وتتبادل التأثير والتأثر، فإن وثيقة الإصلاح لم تغفل أي عنصر من عناصر المنظومة دون أن تشير إلى ما ينبغي أن يطاله من تحديث وتجديد وتغير، بقصد تكامل وتفاعل هذه العناصر المشكلة للمنظومة، لتحقيق غاية الإصلاح المنشود، فالوثيقة تنص بصريح العبارة على ضرورة مراجعة المكونات البيداغوجية لسيرورات التربية والتكوين، وذلك في أفق تحقيق غايتين: - الأولى: تهم الإرساء التدريجي للنظام التربوي الجديد لأسلاك التربية والتكوين، وفق ما جاء في الدعامة الرابعة من الميثاق. - الثانية: تتعلق بإدخال تحسينات جوهرية ترفع جودة التعليم في جميع مستوياته. وتشمل هذه المراجعة، بصفة خاصة، البرامج والمناهج، والكتب والمراجع المدرسية، والجداول الزمنية، والإيقاعات الدراسية، وتقويم أنواع التعلم وتوجيه المتعلمين، وتهم هذه المراجعة مجموع المؤسسات العمومية والخاصة" نفس الأمر نجده عند قراءتنا للتقرير التحليلي الذي أصدره المجلس الأعلى للتعليم، والمعنون ب "تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013، المكتسبات والمعيقات والتحديات"ـ فقد خصص هذا التقرير، الجزء الثاني منه للحديث عن الحكامة والإصلاح البيداغوجي، واعتبرهما مدخلا أساسيا للرفع من جودة المنتوج التعليمي. إلا أنه من الواضح أن تحقيق الجودة، سواء تعلق الأمر بقطاع التربية والتكوين، الذي يهمنا هنا، أو بباقي القطاعات، يشترط جملة من الشروط الضرورية، ولعل أبرزها، وهو ما يهمنا في بحثنا، هو القرار. ونقصد هنا القرار الجيد والمناسب، فلا يمكن تحقيق منتوج جيد بناء على قرار خاطئ أو سيئ. إن عملية اتخاذ القرار وسيرورته، عملية حساسة ومهمة في مجال التعليم، لأن قطاع التعليم عكس باقي القطاعات الأخرى، يشتغل في مجال حساس ومصيري، فالخطأ في المقاولة الصناعية يمكن أن ينتج منتوجا خاطئا، يسهل إصلاحه، أو تدميره، أو سحبه من السوق، لكن الخطأ في المدرسة ينتج إنسانا يسير على الأرض ويتفاعل مع الناس، ويمكن أن يساهم في نشر الخطأ وتعميمه. من هنا تكمن خطورة الخطأ في الحقل التربوي. كما أن الجودة في الاقتصاد أمر يمكن التحكم فيه، لأن الفاعل يكون أمام الآلة والمنتوج المادي، والمتحكم في الجودة بمجال الاقتصاد هو قانون العرض والطلب، والمنافسة، باختصار الربح المادي هو الهاجس، في حين أن التحكم في الجودة بالتعليم الذي ينتج العقول، وبعبارة أخرى ينتج الإنسان، أمر من الصعوبة بمكان. فإذا كانت الآلة تستجيب للأوامر دون مقاومة، فإن قرار رفع جودة المنتوج التعليمي رهين باستجابة باقي الفاعلين في الحقل التربوي، من تربويين، إداريين، ومتعلمين، ومحيط خارجي ... من هنا إذن تنبثق صعوبة تحقيق الجودة في مجال التربية، إنها باختصار خاضعة لمنطق التغيير الاجتماعي وما يواجهه من مقاومة. إذا كانت الجودة مفهوما اقتصاديا ظهر مع مطلع القرن العشرين بالولايات المتحدة، مع ديمينغ، وطبق أول الأمر باليابان، ليعرف بعد ذلك محطات ومراحل تطورية، أفضت به في الأخير إلى ابتكار مفهوم "إدارة الجودة الشاملة"- "TKM"، كما رأينا في المحور السابق. فإن مفهوم الجودة في التربية والتعليم - وخصوصا بالمغرب - هو مفهوم مرتبط بالألفية الثالثة. هذا الأمر لا يعني أن الاهتمام بمشاكل التعليم لم يكن إلا مع هذا التاريخ، فمنذ السبعينيات من القرن الماضي انبرى ثلة من المفكرين المغاربة للحديث عن مشاكل التعليم، إلا أنه حديث مختلف عما يدور اليوم. لقد كانت الانشغالات آنذاك حديثة العهد بخروج الاستعمار، لذلك كان الاهتمام منصبا على قضايا كالتعريب مثلا، الذي احتل حيزا مهما وكان ضمن انشغالات الراحلين علال الفاسي، ومحمد عابد الجابري، وغيرهما... إلا أن الحديث عن الجودة في مجال التربية والتعليم، وإن كان على العموم هو جزء لا يتجزأ من الحديث عن الجودة بشكل عام، وعن إدارة الجودة الشاملة، فهو مع ذلك يحتفظ بخصوصيته المميزة، فالجودة في الحقل التربوي هي مفهوم زئبقي، ما إن تحاول الإمساك به، حتى ينفلت منك، فيغدو الأمر كما لو أنك تطارد كائنا غير مرئي، أو تحاول التعرف على شخص ذو وجوه متعددة، يلاقيك كل يوم بوجه. سنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على مفهوم الجودة في التربية والتعليم من خلال التركيز على عنصرين أساسيين هما: - الجودة كمطلب إداري. - الجودة كمطلب تربوي. خلال العنصر الأول، سنتناول مفهوم الجودة كمطلب إداري داخل الإدارة التربوية، حيث بات من المؤكد أن أي إصلاح تربوي تعليمي، لا يمكن أن يتم إلا إذا قام على أساس تأطير وتحفيز أطر الإدارة التربوية، من أجل ترسيخ آليات الحكامة الجيدة، وتجويد العملية التربوية التكوينية. فما هي إذن الوسائل الكفيلة بجعل الإدارة التربوية قاطرة أساسية لإنجاح أوراش إصلاح منظومة التربية والتكوين، التي انخرط فيها المغرب منذ أزيد من عقد من الزمن؟ وكيف يمكن تفعيل الدور التربوي للإدارة التربوية، حتى يتمكن من القيام بواجبه على أحسن وجه؟ وهل من طرق جديدة لتطوير أساليب تدبير الموارد البشرية العاملة والفاعلة في مجال التربية والتكوين؟ وهل هناك ارتباط بين الجودة كطموح إداري، والقرار كآلية إدارية؟ أما العنصر الثاني: الجودة كمطلب تربوي، فهو جزء أساسي مرتبط بالجزء الأول: الجودة في الإدارة، حيث أن الإدارة التربوية، هي أداة في خدمة الشق التربوي في المنظومة التربوية، فمن أجل المتعلم وجدت الإدارة، لذلك سنبحث في عناصر وشروط الجودة في المنتوج التربوي، وعلاقته بالإدارة كمركز لصنع القرار. فهل الجودة في المنتوج التعليمي مستقلة عن الإدارة، أم أنها عنصر تابع؟ وما هي شروط الجودة في المنظومة التربوية؟ هل هي رهينة بالبنيات التحتية والعدة اللوجيستيكية؟ أم أنها مرتبطة بالبرامج والمناهج؟ أم بالموارد البشرية والمكونين؟ أم أن الجودة في المنظومة التربوية تشترط كل هذه العناصر مندمجة؟ وهل من اليسير توفر كل هذه الشروط؟ أو بمعنى آخر: هل الإدارة التربوية قادرة على تحقيق هذه الشروط؟ أم أن الأمر يتجاوزها؟ وما علاقة محيط المدرسة بكل هذا الأمر؟ هل له دخل هو الآخر، أم أنه بعيد عن هذا النقاش؟ 1 – الجودة كمطلب إداري: أ – الدلالة المفاهيمية: - مفهوم الجودة: من المفاهيم التي عرفت تعاريف عديدة، شأنه في ذلك شأن باقي المفاهيم الأخرى، حيث أن التعريف يختلف من باحث لآخر، ومن مدرسة فكرية لأخرى، إلا أن هذا لا يمنع من محاولة ذلك، وسنسترشد في تعريفه بمجموعة من التعاريف التي صاغها متخصصون في الميدان. ولعل أبرز هذه التعاريف، ذلك الذي "ورد في معجم الجودة (ISO 8402) الذي يعرف الجودة على أساس أنها: المجموع الكلي لخصائص، وسمات الإنتاج أو الخدمة التي تقدمها المؤسسة، والتي لها علاقة بمدى تلبية حاجات المستفيدين وتوقعاتهم. ويشير هذا المعجم إلى ما يجب أن يتوافر في الإنتاج أو الخدمة، والذي ينبغي أن يظهر بوضوح في مخرجات المشاريع" . ويمكن عموما، أن نحدد جملة من التعاريف التي رصدها الباحث المغربي أحمد أوزي والتي صنفها كالتالي: "- الجودة هي مدى قدرة المؤسسة على إنتاج أو تقديم خدمة استثنائية، مميزة عن المؤسسات الأخرى. - الجودة هي مدى قدرة المؤسسة على إنتاج وتقديم خدمة تقترب من الكمال. - الجودة هي مدى قدرة المؤسسة على العمل بما يتناسب مع الأهداف المنشودة. - الجودة هي مدى قدرة المؤسسة على تحقيق أرباح مالية أكثر. - الجودة هي مدى قدرة المؤسسة على إجراء التغيير في خدماتها، أو إنتاجها وبما يتناسب مع حالة العرض والطلب في السوق" . من خلال قراءتنا لهذه التعاريف، يبدو أنها تركز على عنصرين أساسيين: أحدهما يخص التنظيم / المقاولة في حد ذاته، إذ أن تحقيق الجودة، يضمن ربحا أكثر، وتنافسية أفضل، وبالتالي الاستمرارية والبقاء في السوق إلى جانب المنافسين، كما أن تحقيق الجودة يتوخى السهر على راحة الفاعلين في التنظيم، من مستخدمين وموارد بشرية، حتى يشعر بالرضى والطمأنينة داخل التنظيم. أما الثاني، فهو خاص بالمرتفقين أو المستفيدين من خدمات التنظيم، بحيث يحفزهم على الإقبال على المنتوج الذي تقدمه المؤسسة / التنظيم، ويعبرون عن ثقتهم فيه، مما قد يجعلهم أداة إعلامية أو إشهارية للتنظيم، عبر ترويجهم لصورته المتألقة ولمنتوجه الجيد. - مفهوم الإدارة: "نقدم الإدارة غالبا باعتبارها فن فعل فعل الأشياء (l’art de faire faire les choses) " ولفظ الإدارة Administration مشتق من الأصل اللاتيني Administratio وهي عبارة تحيل على فعل تدبير الشؤون العامة أو الخاصة، لتصير أفضل، والإدارة هي خدمة عمومية تسعى إلى إشباع حاجات الناس . إن الإدارة عموما تعرف "بكونها عملية لتسيير وقيادة وتوجيه مجموعة من الأنشطة التي يقوم بها مجموعة من الأشخاص داخل مؤسسة ما" . لكن مفهوم الإدارة ليس بذلك المفهوم الذي يمكن الاستكانة فيه إلى تعريف واحد جامع، فهذا المفهوم غالبا ما يتغير معناه بحسب ما يضاف إليه، فالإدارة هي ممارسة تدبيرية تحضر في مجالات عدة، سواء كانت غير رسمية، كإدارة البيت والأسرة مثلا، أو كانت رسمية كإدارة تنظيم ما، إنها عموما نشاط يحضر في مختلف المجالات الإنسانية. فهناك الإدارة الاقتصادية التي تعمل على تدبير العمليات الإنتاجية، التجارة، الصناعة، الأبناك. وهناك الإدارة السياسية (مركز القرار السياسي)، وهناك الإدارة الثقافية، وهناك أخيرا – وهذا ما يهمنا – الإدارة التربوية التي تقوم بتنظيم العمليات التربوية داخل منظومة تعليمية ما. لهذا يمكن القول، إن الإدارة تحدد من خلال وظائفها ونوع نشاطها الذي تقوم بتنظيمه، سواء كان نشاطا متعلقا بالموارد البشرية، أو مخططا يسعى إلى تحقيق أهداف معينة . ونورد هنا تعريفا للإدارة التربوية، صاغه الباحث المغربي عبد الكريم غريب يقول: "الإدارة المدرسية هي عملية أو مجموع العمليات التي يتم بمقتضاها تعبئة القوى الإنسانية، والمادية، وتوجيهها توجيها كافيا لتحقيق أهداف الجهاز الذي توجد فيه. وفي هذه العملية لا تكون السلطة احتكارا لفرد أو مجموعة من الأفراد، وإنما توزع مع ما يوازيها من مسؤوليات، على مجموع الأفراد في الجهاز الإداري بطريقة ديمقراطية" . يتضح إذن من التعاريف السالفة، أن الإدارة هي سيرورة من العمليات التدبيرية، تقوم بها مؤسسة / جهاز، له صلاحيات قانونية لتسيير ومراقبة مجال ما، قصد جعله يعمل بشكل أفضل من أجل تحقيق الغايات والأهداف التي وجد التنظيم من أجلها، بأفضل الطرق وأجود النتائج. أما الإدارة التربوية، فهي جزء لا يتجزأ من الإدارة بمفهومها العام، وهي الحلقة الأهم في العملية التربوية، إلى جانب باقي العناصر التربوية الأخرى. والإدارة التربوية تتخذ أبعادا مختلفة، وتناط بها مسؤوليات متعددة حسب مسؤوليتها، وحسب حجم التنظيم الذي تديره. ويمكن أن نصنف هنا مستويات أربعة للإدارة التربوية هي: - الإدارة المركزية: متمثلة في الوزارة الوصية وهي وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني*، يرأسها الوزير باعتباره المسؤول الأول عن السياسات التعليمية، وعن البرامج والمقررات، وعن التوظيف والترقية، وعن تدبير الحياة المدرسية والزمن المدرسي، وساعات العمل، وأيام العطل، والامتحانات الإشهادية.... - الإدارة الجهوية: تمثلها الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، ويرأسها مدير الأكاديمية، وهو موظف سامي يتم تعيينه بظهير شريف. تعمل الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين على تطبيق المذكرات الوزارية، مع إمكانية التصرف وفق خصوصيات الجهة، وقد جاءت الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين في إطار تفعيل سياسة اللامركزية؛ التي انتهجها المغرب من أجل تقريب الإدارة من المواطنين. - الإدارة الإقليمية: تتمثل في المديرية الإقليمية التي كانت تسمى سابقا بالنيابة الإقليمية لوزارة التربية الوطنية. يقوم على رأس المديرية الإقليمية مدير إقليمي، يتم تعيينه بعد استيفاء مجموعة من الشروط النظامية تتوج بمباراة. تعتبر المديرية الإقليمية هي المسؤولة عن شؤون التعليم بالإقليم، حيث تعمل على توزيع الموارد البشرية حسب الحاجة، كما تعتبر المسؤول الأول عن تحديد بنيات المؤسسات التعليمية، وتدبير الموارد البشرية، في كل ما يتعلق بالرخص والامتحانات المهنية ولوائح الترقيات، وتنقيط الموظفين... - الإدارة المدرسية: وهي آخر حلقة ضمن الإدارة التربوية، إنها المسؤول المباشر الذي يحتك مباشرة مع المرتفق / التلميذ. يترأسها مدير المؤسسة التعليمية، ويعمل على تسييرها بالتشارك مع مجموعة من المجالس التي يرأسها شخصيا، هي مجلس التدبير، والمجلس التربوي، والمجالس التعليمية. يساعده في إنجاز مهامه طاقم إداري يتكون من الحراس العامين بالنسبة الثانوي الإعدادي والتأهيلي، مع إمكانية وجود ناظر الدروس بالثانوي التأهيلي. أما بالنسبة للتعليم الابتدائي، فيساعده في ذلك نائب المدير، الذي يتم تكليفه من طرف الأكاديمية باقتراح من المدير والمدير الإقليمي. ب- الحكامة الجيدة في الإدارة التربوية: - مفهوم الحكامة: عرف ابن منظور الحكامة في معجمه لسان العرب كالتالي: "الاتقان والمنع من الفساد، رجل حكم: عدل وحكيم، وأحكم الأمر: أتقنه، والحكيم: المتقن للأمور، وحكم الشيء وأحكمه: منعه من الفساد" . "بهذا يتبين أن الحكامة إنما تعني القيادة من منطلق الإتقان التدبيري الناجع والمعقلن، أي المدعم بالرؤية التي تهيئ أسباب التشبع بقيم المسؤولية والاستقامة والشفافية، والاعتراف بالآخر كقوة مشاركة في اتخاذ القرار، بناء على الإيمان الراسخ بالديمقراطية وبثقافة التداول والحوار" . إن الحكامة باختصار هي: "التدبير والمراقبة والمحاسبة المتعددة الأطراف، حيث يتجاوز اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية، الفرد الواحد، ليضطلع به ممثلو مختلف الجهات المبنية على أسباب الاشتراك والتشاور بأساليب ديمقراطية تأخذ بعين الاعتبار مصالح كل طرف" . - الحكامة في الإدارة التربوية: بين الطموح والواقع. لكن ما يمكن تسجيله بخصوص هذه القضية - الحكامة - باعتبارها رافدا أساسيا من روافد الجودة، هو صعوبة استنساخ الحكامة كمشروع اقتصادي محض، من مجال الاقتصاد، وتطبيقه بنفس الشروط، ونفس المبادئ والقواعد، على مجال تدبير الموارد البشرية، ويزيد الأمر تعقيدا أكثر، عندما نكون أمام تدبير قطاع كالتعليم، ففي المقاولة، بالرغم من كون الحكامة الإدارية تتوجه مباشرة صوب الموارد البشرية، فإن هذه الأخيرة تشتغل أمام الآلات أو المكاتب، وتنتج خيرات مادية / جامدة، لهذا فإن قرار رفع الإنتاج أو زيادة الجودة في المنتوج... هي أمور يمكن التحكم فيها و/ أو ضبطها، في حين أن قطاع التربية والتكوين تدور رحاه كلها حول الإنسان ومع الإنسان وبالإنسان، وهذا ما يعقد الأمر كثيرا. فالمساطر القانونية والمذكرات الوزارية أو الجهوية أو الإقليمية، يمكنها ضبط الموارد البشرية - دائما مع إمكانية المناورة، من خلال خلق وابتكار مناطق لا يقين غير خاضعة لرقابة القانون على حد تعبير كروزيي - لكن لا يمك مع هذا الحديث عن حكامة جيدة، لأن انضباط الموظف وحضوره في الوقت ... لا يعني قيامه بعمل جيد، أما الأمر الآخر الذي يزيد صعوبة تطبيق مبدأ الحكامة، والقول بإمكانية تحقيق الجودة، هو الحلقة الأخيرة، وهي في نفس الوقت الحلقة الأهم في المنظومة التربوية، التي وجدت أصلا من أجله، إن الأمر يتعلق بالمتعلم/ التلميذ، فمن أجله وجدت المنظومة بأكملها، وعلى ما يبدو يتم استبعاده، أو تقليل أهميته في عملية الإصلاح، إن الإشكال يتجلى في كيفية جعل المتعلم مقبلا على المنتوج التعليمي، متبنيا لثقافة التنظيم، الذي يقدم له المنتوج، ومحترما للضوابط والقوانين المنظمة... فبدون هذا لن نحصل على جودة، إذ أن الجودة في منظومة التربية والتكوين، يجب أن تقاس في هذه النقطة بالضبط. فإذا كانت المقاولة تنتج خيرات مادية، فإن المدرسة "كمقاولة"، تنتج خيرات رمزية، أي خيرات بشرية، تفكر، تحس، تنفعل، تفعل، وترد الفعل أيضا، إنه منتوج له استراتيجياته الخاصة، وأهدافه التي قد تكون مجانبة لأهداف التنظيم. فإذا كانت القطعة التي يمكن أن ينتجها الصانع، لا تجادله إن كان يجب أن يقوم بهذا الفعل أو ذاك، لا تحب الصانع أو تكرهه... لكن في مجال التعليم، "فالبضاعة"/ المنتوج، هو الإنسان، وهو يتخذ موقفا، ويصدر حكما، ويقاوم، يناور، يحب، يكره، ويتعاون.... من هنا يبدو أن أي محاولة للحكامة / الجودة لا تأخذ بعين الاعتبار المتعلم كحلقة أساسية، يبدو أنها ستبقى عند حدود الشكليات، والتباهي بالأرقام، والإنجازات الوهمية، دون أن تحقق الهدف المنشود. لهذه الأسباب، فإن النظر إلى المدرسة من منظور اقتصادي صرف لن يفي بالغرض؛ بل لا بد من الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات قطاع التعليم وعدم الاكتفاء بالمقاربة الاقتصادية، بل استدماج مقاربات أخرى ذات أبعاد تربوية وإنسانية وتأخذ بالاعتبار الجوانب السيكولوجية والاجتماعية لكل من المعلمين والمتعلمين على حد سواء. ويمكننا توضيح الأمر بالخطاطة التالية:
خطاطة من تصميم الباحث للمقارنة بين الحكامة في مجال الاقتصاد والحكامة في التعليم
- لا مركزية الإدارة التربوية، وخدعة التحرر من المركز. إن الغاية الأساسية التي أحدثت من أجلها الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، والبالغ عددها اثني عشرة أكاديمية حسب التقسيم الجهوي، الذي عرفه المغرب في انتخابات 2015، بعد أن كان عددها ستة عشر فيما قبل هذا التاريخ، هي "إقرار سياسة اللاتمركز باعتبارها خيارا استراتيجيا، ومسؤولية عاجلة، تستدعيها الرغبة الملحة في ملاءمة التربية والتكوين، للحاجيات والظروف المحلية" . وقد أكدت المادة 146 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين على "إعادة الهيكلة الأكاديمية لتصير سلطة جهوية للتربية والتكوين، لا متمركزة ومزودة بالموارد البشرية الفعالة" . ولتحقيق هذا الأمر، دعا الميثاق الوطني للتربية والتكوين في نفس المادة (146) إلى "تشجيع الأكاديميات الجهوية باستقلالية التدبير الإداري والمالي". وهكذا فقد تم إحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين في الظهير بتنفيذ رقم 1.000.203 الصادر في 19 ماي 2000، والقاضي بتنفيذ القانون رقم 07.00 القاضي بإحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين . ولعل الغاية من هذا الإحداث كما أشرنا هي تحقيق اللامركزية، لكن بتأملنا لقانون إحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، يحق لنا أن نتساءل هل هذا الأمر ممكن فعلا؟ وهل يمكن ترجمته إلى واقع، أم أنه سيظل مجرد حلم؟ فالقانون 07.00 ينص من بين ما ينص عليه في المادة الأولى المتعلقة بالمهام والاختصاصات، على ما يلي: " تخضع الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين المعرفة أدناه باسم الأكاديمية، لوصاية الدولة، ويكون الغرض من هذه الوصاية، ضمان تقيد أجهزتها المختصة بأحكام هذا القانون خصوصا ما يتعلق بالمهام المسندة إليها، والحرص بوجه عام على تطبيق النصوص التشريعية، والتنظيمية المتعلقة بالمؤسسات العمومية. وتهدف هذه الوصاية كذلك، إلى السهر على احترام الأكاديميات لتطبيق النصوص المتعلقة بمؤسسات التربية والتكوين، والنظام المدرسي، وكذا شروط التعيين في مهام الإدارة التربوية. وتمارس هذه الوصاية من لدن السلطة الحكومية المختصة، طبقا للظهير الشريف المتعلق بتعيين أعضاء الحكومة والنصوص المتخذة لتطبيقه. كما تخضع الأكاديميات للمراقبة المالية للدولة المطبقة على المؤسسات العمومية وفقا للنصوص التشريعية الجاري بها العمل" *. إن السؤال الأساسي الذي يطرح حول الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، هو: هل فعلا استطاعت أن تحقق الغاية التي أحدثت من أجلها، ألا وهي: اللامركزية واللاتمركز؟ إن واقع هذه المؤسسات، يبرز بشكل جلي فشلها في هذا الأمر، فلا زالت تلعب دور الوسيط فقط بين الوزارة الوصية، والمؤسسات التابعة لها، ولا زالت وزارة التربية الوطنية تستقبل في مصالحها يوميا، موظفين من مختلف الجهات، يحجون إلى الرباط لمعالجة قضايا إدارية بسيطة كان أولى معالجتها بالأكاديميات. المأزق الذي توجد به الوضعية الإدارية التربوية إذن، يتجلى في رغبة الوزارة في تخفيف عبء التسيير، وذلك بإلقاء جزء من ثقله على عاتق الأكاديميات، لكن في نفس الوقت الحرص على عدم التفريط في السلطة المدبرة لهذا القطاع، وبالتالي تجد الأكاديمية نفسها ليست تماما أمام استقلالية، تمكنها من اتخاذ قرارات مستقلة، بقدر ما تجد أنها إدارة لتصريف إملاءات الوزارة حرفيا حسب المذكرات الوزارية. إنها تشارك في خدعة اسمها اللامركزية. 2 – الجودة كمطلب تربوي: إذا كان تحديد مدلول الجودة في الإدارة التربوية أمر صعب، فإن تحديد الجودة كمطلب تربوي أمر أكثر استعصاء، وإذا كان دور المصالح الإدارية يتجلى في التدبير والتسيير، عبر اتخاذ القرارات الملائمة، واختيار البدائل المناسبة، فإن أثر هذه القرارات والاختيارات والبدائل، يظهر في المدرسة باعتبارها النواة التي يدور حولها الفلك التربوي كاملا، وعندما نقول المدرسة، فنحن نقصد المتعلم. هذه الأخيرة (المدرسة) هي صلة الوصل بين منظومة التربية والمحيط، لذلك فإن مفهوم الجودة هنا قد يتخذ أبعادا شتى، فهناك الجودة كما تراها المصالح الراعية للقطاع، وهناك الجودة كما ينتظرها التلميذ والمحيط الذي ينتمي إليه، وهناك منظور ثالث، يمكن أن نسميه المنظور السوسيولوجي للجودة في التربية والتعليم، وهو منظور يحاول أن ينظر بعين نقدية للوضع، محاولا استدماج كل العناصر السابقة. - فكيف تتصور الوزارة والمجلس الأعلى للتعليم الجودة؟ - وما هي انتظارات المحيط من قطاع التربية والتعليم؟ - وما هو النقد السوسيولوجي الذي يمكن أن نوجهه للتصورين؟ أ – الجودة من منظور المجتمع: إذا كانت الجودة في التربية، تقاس من طرف المشرفين على الحقل بمعايير تقنية / كمية، تتجلى في محاربة الهدر المدرسي والتقليص من نسبه، وبعدد المتمدرسين، وبنسب المرور من مستوى إلى آخر، فإن الجودة من منظور المجتمع لها أبعاد ومعايير أخرى. فما هي معايير الجودة من منظور عامة أفراد المجتمع من أسر وآباء وأولياء للتلاميذ؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد أن نستحضر جزءا من تاريخ التعليم في المغرب، وتطور مساهماته في الحياة العامة. إن تاريخ المدرسة بمفهومها المعاصر، يعد حديث العهد بالمغرب، فقد كان مغرب ما قبل الاستعمار مقتصرا على التعليم الديني بالكتاتيب، أو في مستوى أعلى بالقرويين، وقد كان هذا متماشيا مع متطلبات "الدولة" التقليدية بالمغرب، لكن دخول المستعمر إلى المغرب، وما حمله ذلك من تغيير في نمط العيش، ومن بين ذلك تغيير في نمط التعليم الذي انتقل من تعليم تقليدي إلى تعليم نظامي معاصر، وظهور الحاجة إلى المؤسسات والإدارات، خلق الحاجة إلى تكوين من يقوم بهذه الأعمال الإدارية والوظائف. ومباشرة بعد خروج المستعمر، وحصول المغرب على الاستقلال، وجد المغرب نفسه في حاجة ماسة إلى الأطر المتعلمة التي ستعوض الموظف الأجنبي، فكانت المدرسة هي المشتل الذي يكون هذه الموارد البشرية. وتخرج من المدارس والجامعات المغربية جيل من الطاقات؛ التي شغلت مناصب بالإدارة العمومية بالمغرب، وهو وضع كان مصحوبا بصورة اجتماعية، بدأت ترسم بالمخيال الشعبي، إنها صورة الموظف كشخصية متميزة وذات حظوة بالمجتمع. كانت الإدارات العمومية تستقطب كل من تخرج من المدارس العمومية، لكن بعد الثمانينات من القرن الماضي، ونتيجة لسياسة التقويم الهيكلي التي طبقت على المغرب، والتي كانت في جوهرها مبنية على الترشيد الاقتصادي من خلال خفض الدولة اهتماماتها بالقطاعات الاجتماعية، بدأت المدارس والجامعات المغربية تنتج العاطلين عن العمل، من ذوي الشهادات العليا، من هنا بدأ المجتمع يتحدث عن فشل المدرسة في القيام بدورها، لأن في مخياله أو ضميره الجمعي، دور المدرسة هو تخريج أفراد سينخرطون مباشرة بعد الدراسة، في سلك الوظيفة العمومية، وأي حياد عن هذا الدور، يعني بالضرورة فشل المدرسة، وغياب الجودة من منتوجها، لذلك تجد أن الآباء يتحدثون بتذمر* كبير عن واقع المدرسة، يعللون هذا التذمر بعدم حصول أبنائهم على وظيفة مع الدولة، وبالتالي فإن التعليم الجيد في نظرهم، هو الذي يؤدي في النهاية إلى ولوج عالم الوظيفة العمومية، ونتيجة لهذا الأمر، تراجعت صورة المدرسة في المخيال الشعبي، لأن قيمة المدرسة كانت مشروطة بالقيمة الاجتماعية التي ينالها المتخرجون بعد حصولهم على الوظيفة، وبقدر ما بدأت المدرسة تتخلى عن هذا الدور، بقدر ما بدأت صورتها تندحر في المجتمع. ب – الجودة من منظور تربوي: إن أي حديث عن الجودة من منظور تربوي يستلزمنا معه، الوقوف على ما جاء في الوثائق الرسمية التي اعتمدتها الوزارة لبلورة أي إصلاح في منظومة التربية والتكوين، ولعل أبرز الوثائق التي يمكننا الرجوع إليها هي: الكتاب الأبيض، والميثاق الوطني للتربية والتكوين، وتقرير المجلس الأعلى للتعليم. ونستحضر هنا قراءة، حاولت تلخيص مضامين هذه الوثائق، وهي للباحث المغربي، حسن اللحية ، الذي أكد أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين أكد في جزئه الأول المتعلق بالتصور والإعداد على: أولا: متطلبات مراجعة المناهج التربوية وبرامج تكوين الأطر، ولذلك فقد أكد الميثاق على ضرورة توفر: - مدرسة متكاملة تكون المتعلمين وتربيهم على القيم والمواطنة الصادقة، وممارسة الديموقراطية. - مدرسة جديدة متميزة بنجاعة أدائها وجودة عطائها، تحرر الطاقات وتزرع الأمـل وتفتح الآفاق، تستجيب لحاجيات المغرب الآنية، والمستقبلية بتنميتها وتأهيلها للموارد البشرية الكفؤة القادرة على دعم دولة الحق، والقانون، والحداثة والتقـدم. - مدرسة عصرية يسهم فيها الجميع من أجل مغرب الجميع. ويمكن اعتماد تصور تطوري للمنهاج يقوم على المقاربات الآتية: - مقاربة المنهاج المندمج في التعليم الابتدائي، والتعليم الثانوي الإعدادي لضمان التربية على القيم المرجعية وإكساب الكفايات المستعرضة، عبر عدة مواد كاللغات على سبيل المثال. - مقاربة المنهاج القائم على المضامين في التعليم الثانوي التأهيلي أساسا نظرا لمستلزمات التخصص في الشعب ولضرورة تهيئ التلميذ للتعليم العالي المبني أساسا على هذه المقاربة. واعتماد هذه المقاربة لا يمنع من اعتماد مقاربة المنهاج المندمج في هذا السلك عبر بعض المفاهيم، خصوصا في التربية على حقوق الإنسان، والتربية البيئية والتربية الصحية والاقتياتية.... - مقاربة المنهاج الذي يوفق بين الوضعيات الديداكتيكية الأساسية الثلاث والمتمثلة في التلقين والتفاعل والتحويل، وذلك بنسب أهمية متفاوتة حسب الأسلاك. ومن الناحية النظرية يمكن اعتماد مستجدات علم النفس التربوي، وخاصة منها ما يرتبط بالبنيات الفكرية للمتعلمين، والمدخل البيداغوجي الذي حددته لجنة الاختيارات والتوجهات التربوية. هكذا أحدثت نظرية الذكاءات المتعددة، التي ظهرت في أواسط التسعينات زوبعة فكرية، في العديد من الأنظمة التربوية حول ما ينبغي أن تكون عليه مدرسة المستقبل. وتعتبر هذه النظرية: - أن الذكاء لا يمكن حصره في بعدين، لغوي ومنطقي رياضياتي، كما كان الشأن مند بداية القرن العشرين عندما ظهر قياس الذكاء اعتمادا على هذين الجانبين فقط. - أن للذكاء جوانب أخرى لا تقل أهمية هي الذكاء المجالي، والذكاء العلائقي، والذكاء الاستبطاني، والذكاء الموسيقي، والذكاء الحسي الحركي. - أن كل مجال من مجالات الذكاء السبعة، يتفرع إلى عشرات الفروع يصعب حصرها، وبالتالي التحكم في قياسها. - أن على مدرسة المستقبل أن تولي نفس الأهمية لمختلف جوانب الذكاء في تخطيط المناهج وفي الممارسة البيداغوجية داخل الفصل باعتماد بيداغوجيا تحترم الفرديات وتبتعد عن النمطية. تركز الوثيقة الإطار للاختيارات والتوجهات التربوية على مدخل بيداغوجي يتمثل في تربية المتعلم على القيم، وتنمية كفاياته، وتربيته على الاختيار وعلى اتخاذ القرار. - التربية على قيـم العقيدة الإسلامية، وقيـم الهوية الحضارية، ومبادئها الأخلاقية والثقافية، وقيـم المواطنـة، وقيـم حقوق الإنسان ومبادئها الكونيـة؛ - تنمية الكفايات التواصلية، والكفايات الاستراتيجية (كفايات تنمية الذات)، والكفايات الثقافية (الرمزية والموسوعية)، والكفايات المنهجية، والكفايات التكنولوجية. - التربية على الاختيار، واتخاذ القرار من خلال إدراج مشروع شخصي في مسار الدراسة في الإعدادي، وإدراج مجزوءات اختيارية في مناهج السلك التأهيلي، وترك المرونة اللازمة لانتقال المتعلم عبر الجسور من قطب لآخر، أو من شعبة إلى أخرى داخل القطب. إن اعتماد المدخل البيداغوجي المبني على تربية المتعلم على القيم، وتنمية كفاياته، وتربيته على الاختيار واتخاذ القرار، كاختيار وتوجه تربويين في الوثيقة الإطار من طرف لجنة الاختيارات والتوجهات التربوية هو دليل على: - تزكية لنظرية الذكاءات المتعددة وتصورها لمدرسة المستقبل وقطيعة مع النظرة السابقة التي كانت تحصر الذكاء في جانبيه اللغوي والمنطقي الرياضياتي. - اختيار صريح لنظرية التعلم البنائية، وبالأخص التوجه الاجتماعي منها، وبداية التخلي على نظرية التعلم السلوكية السائدة حاليا. - يفرض إعادة النظر في الكيفية التي كان يتم بها التوفيق بين التلقين والتفاعل والتحويل، كوضعيات ديداكتيكية كبرى في مختلف الأسلاك والمواد الدراسية، على مستوى تخطيط التربية (إعداد المناهج التربوية وتنظيم الممارسة البيداغوجية) وعلى مستوى تقييم التعلمات. إذن يمكن القول إن معايير جودة التعليم، ومن منظوري الكتاب الأبيض والميثاق الوطني للتربية والتكوين يمكن تلخيصها كالتالي: - جودة المناهج والمقررات الدراسية. - جودة البنية التحتية. - كفاءة الأطر التربوية والإدارية. - جودة التكوين الأساسي والمستمر. - التدبير الأمثل للموارد البشرية والمالية. - الانطباع الإيجابي للمستفيدين من خدمات المدرسة. - التحسين المستمر. - نتائج التحصيل الدراسي. - الجودة حسب المجلس الأعلى للتعليم. أما المجلس الأعلى للتعليم، باعتباره هيئة استشارية عينها الملك لدراسة أوضاع التعليم بالمغرب ومحاولة تشخيص الخلل، ثم الخروج بتوصيات من شأنها المساعدة في تجاوز الأزمة، فقد صاغ تقريرا ضمنه رؤية استراتيجية لمرحلة 2015-2030 للتعليم، حيث تضمن هذا التقرير، مشروعا وأهدافا إصلاحية طموحة، يمكن عرضها في النقاط التالية: أولا: مشروع المدرسة للجميع: تم التأكيد على ضرورة إجبارية التعليم ما قبل المدرسي في عموم المملكة، بما فيها العالم القروي، وذلك ضمانا لتكافؤ الفرص. ثانيا: جودة تعليمية أفضل: ثاني أهداف الرؤية الاستراتيجية الخاصة بالتعليم لسنة 2015-2030 هو ضمان تعليم بجودة أفضل، وذلك بإعادة النظر في شروط ولوج وظيفة التعليم، وإعادة النظر في النموذج التربوي المستعمل الآن. هذه الجودة التعليمية ترتبط أيضا، حسب المجلس الأعلى للتعليم، باللغات التي يتم تدريسها في مقاعد المدرسة، وبهذا الخصوص تحدث عن ضرورة التمكن من اللغة العربية واللغتين الأجنبيتين (الفرنسية والانجليزية) في نهاية المرحلة الثانوية. ضمان الجودة التعليمية يمر أيضا - حسب المجلس - عن طريق تطوير البحث العلمي، والتكنولوجي، والإبداعي، ولتحقيق هذا الأمر اقترح المجلس بناء نظام وطني للبحث والإبداع، والذي يشمل مؤسسات خاصة بالبحث. ثالثا: التعليم كقاعدة للإدماج: يرى المجلس أنه من المهم بناء مجتمع مبني على أسس المواطنة والديمقراطية والتنمية. ولأجل هذا يجب أن تتحول المدارس إلى محاور تضمن إنشاء نوادي- مراصد مخصصة لهذا الغرض، كما يرى ضرورة تغيير دور الأستاذ الذي يجب أن يتحول إلى فاعل تربوي. وأخيرا ركز المجلس في تقريره على أهمية دور الآباء وعائلات التلاميذ في إنجاح هذا المشروع، وذلك بوضع استراتيجيات تطور من قدرة الآباء على مراقبة نتائج أبنائهم . ولعل هذا العنصر الأخير هو ما حدا بوزارة التربية الوطنية لإقرار برنامج مسار المعلوماتي، الذي يخول للآباء الدخول إلى موقع الوزارة وتتبع نتائج أبنائهم. يبدو إذن بشكل جلي أن الجودة في مجال التعليم هي أمر يعز مطلبه، وذلك لتعدد الفاعلين، واختلاف الإرادات، وقلة الموارد أو نقصها. ولهذا فإن "مواصفات الجودة لا ينبغي أن تقتصر على بنية دون أخرى من بنيات المنظومة التعليمية، وإنما ينبغي لخصائص وصفات الجودة أن تتوافر في كل هذه البنيات المتكاملة، والمتفاعلة فيما بينها" . ويضيف الباحث المغربي أحمد أوزي، أن مواصفات الجودة يجب أن تتجلى في: جودة المدرس، جودة الطالب، وجودة المناهج، وجودة الإدارة المدرسية، وجودة المباني المدرسية. - معايير جودة الطالب: هناك مؤشرات تدل على جودة الطالب يلخصها أحمد أوزي في: * القدرة على الخلق والإبداع والابتكار. * التفوق وامتلاك العقل الناقد. * القدرة على المشاركة في النقاش النقدي الذاتي. * استقلال المتعلم بذاته وبتكامله. * القدرة على إدراك ما وراء حدود العقل المعرفي. * البناء المتكامل لشخصية المتعلم، التي تمكنه من حسن اختيار مجال الدراسة. * سلامة الجسم من العاهات، والعيوب، وسلامة العقل، والاتزان الانفعالي. - معايير جودة المدرس: حددها نفس الباحث فيما يلي: * المستوى العلمي الجيد. * القدرة على التنمية الذاتية. * الأداء المهني الجيد. * امتلاك المهارات التدريسية الأدائية. * معرفة تقنيات التدريس الحديثة والقدرة على استخدامها. * مستوى التدريب البيداغوجي والإعداد الجيد. * المساهمة في تنمية المجتمع المحلي. - معايير جودة المناهج الدراسية: يلخصها أحمد أوزي دائما في: * المرونة والتجدد لمسايرة المستجدات المصاحبة للتطور المعرفي. * قدرة المناهج على ربط المتعلم بواقعه. * ملاءمة المناهج لحاجات السوق وطلب المجتمع. * القدرة على جذب اهتمام المتعلمين وتعزيز دافعيتهم إلى التعلم. * تكامل الأهداف والمحتوى والأساليب والتقويم في العملية التعليمية بشكل منسجم. - معايير جودة إدارة المؤسسة التعليمية: يرى أحمد أوزي أن الإدارة التربوية تحتاج إلى تغيير أسلوبها في التسيير، بحيث تنتقل من أسلوب الاكراه والصرامة إلى أسلوب التعاون وإشراك الفاعلين التربويين في القرار، فهي تحتاج إلى قائد يشيع مناخ التعاون والثقة والحماس، ويبتعد عن التذمر لتتسم خدمة إدارته بالجودة المطلوبة. لتحقيق ذلك ينبغي لإدارة تحسين الجودة أن تتوفر على الشروط التالية: * أن تتصف الإدارة بالتجديد والابتكار والحركية. * إدارة مبادرة تتوقع المشكلات وتواجهها قبل حدوثها. * إدارة تتوق إلى الوصول في خدمتها إلى الأمثل والأحسن، وتحقق الحد الأقصى من الإنجاز. * إدارة تستخدم منطق القياس، والعد وتعتمده في تقويمها. * إدارة تستنير بعلم الإدارة، وبتحديث أسلوبها في التسيير. - معايير جودة المباني المدرسة: يضيف دائما أحمد أوزي موضحا، أنه مما لا شك فيه أن المباني المدرسية تلعب دورا هاما في جودة الإنتاج وإدارته، مما يستوجب أن تكون هذه المباني متوفرة على المرافق الصحية، وأن تكون واسعة بالشكل الذي يسمح للطلاب بالشعور بالراحة في فضاء ملائم لأنشطتهم العلمية، والمعرفية، والترويحية. كما ينبغي أن يكون هناك نظام للصيانة، حتى تحتفظ المباني بشكلها ورونقها الذي يبعث على النشاط، والعمل في جو خال من الضوضاء . ج – حدود الجودة: في الحاجة إلى قراءة جديدة للمدرسة. "الحقيقة البارزة أن حياتنا الاجتماعية قد عانت تغيرا قويا وأساسيا، فإذا أريد لتربيتنا أن تحتوي على معنى للحياة أيا كان، فعليها أن تجتاز تبدلا مساويا تقريبا للتبدل السابق" . يقصد هنا جون ديوي أن المجتمع عرف تغيرا كبيرا لم تواكبه المدرسة، لهذا فأي نجاح للمدرسة يستلزم الالتحاق بتطور ركب المجتمع. لهذا، فإن أي مقاربة لقضية التعليم، يجب أن تكون مقاربة شمولية، أي أن تتناول التعليم في ارتباطه بكامل البنيات المكونة للنسق الاجتماعي، فإذا كان المجتمع نسق يتحول بغض النظر عن سرعة تحوله، فإن المدرسة هي الأخرى، ينبغي أن تواكب هذا التحول. لذلك فإن أي إصلاح للتعليم، لا يأخذ بالاعتبار تداخل بنية التعليم بباقي البنيات الأخرى (الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، السياسية)، سيظل إصلاحا على الورق فقط، ولن يعطي نتائج مرجوة. - فإلى أي حد تأخذ الإصلاحات التربوية بالاعتبار هذا التداخل؟ - هل تطور البنية التعليمية يسير بشكل مواز مع التحولات الاجتماعية؟ - وإلى أي حد تساهم المنظومة التربوية في إعادة الإنتاج، بدل أن تكون قاطرة تقود التنمية والتطوير والتجديد؟ - هل نحن في حاجة إلى جودة المدرسة من أجل مجتمع جيد، أم مجتمع جيد من أجل مدرسة جيدة؟ إن سؤالا من هذا النوع، هو أشبه بسؤال من الأسبق، الدجاجة أم البيضة؟ سؤالنا هنا حول دور المدرسة في المجتمع، وأهمية المجتمع من أجل المدرسة، فكيف يمكن لمدرسة أن تكون جيدة إذا نبتت في مجتمع غير جيد؟ وكيف لمجتمع غير جيد أن ينتج مدرسة جيدة؟ - في البدء لم يكن المجتمع: إن جل النظريات التي اهتمت بالمجتمع - خصوصا منها نظريات العقد الاجتماعي - تنطلق من فرضية حالة الطبيعة التي لم يكن بها أي مجتمع، وقد أكد هذا الأمر كل من جون جاك روسو، وتوماس هوبز، وجون لوك، وبالتالي فإن المجتمع قد جاء نتيجة للإجابة عن مجموعة من الحاجات لعل أهمها، تغلب الإنسان على قوى الطبيعة وصعوبة العيش ومواجهة الحيوانات المتوحشة، ليكلل هذا الأمر بميثاق أو عقد اجتماعي يؤسس المجتمع، وبالتالي يمكن القول إن المجتمع سابق عن المدرسة، التي جاءت بعد سنوات طويلة، بعد ظهور حاجات رمزية جديدة للإنسان، ولعل أول مدرسة تأسست بشكل يجيب عن حاجات المتعلم، هي المدرسة التي أنشأها الفيلسوف اليوناني أفلاطون وأطلق عليها اسم "الأكاديمية"، لكن لماذا ظهرت المدرسة بالمجتمع اليوناني في تلك الحقبة (القرن الرابع قبل الميلاد)؟ الجواب هو ظهور شروط اجتماعية هيأت لتأسيسها، وبالتالي فهناك صلة وثيقة بين ظهور المدرسة، والشروط الاجتماعية التي أفرزتها، ومن هنا يبدأ التفاعل بين هذين العنصرين (المدرسة/ المجتمع)، وأي ابتعاد لهذين الطرفين عن بعضهما البعض، ينتج شرخا بينهما، "فلا يمكن للمجتمع أن يكون صادقا مع نفسه بأية صورة من الصور، إلا إذا كان صادقا في تيسيره النمو التام لجميع الأفراد الذين يؤلفون ذلك المجتمع. وليس في هذا التوجيه الذاتي الذي قدمناه شيء يعتبر مهما كالمدرسة" . - مدرسة "حديثة " بعقلية قديمة: وإذا كانت الصلة بين المجتمع والمدرسة، هي صلة وثيقة، أو يجب أن تكون وثيقة، فإن تطور كل منهما مرتبط بتطور الآخر، لكن ما نلاحظه، هو أن المدرسة تسير بسرعة بطيئة لا تساير سرعة المجتمع، خصوصا في زمننا الراهن الذي أصبح فيه الاعتماد على الوسائل الإلكترونية أكثر من الاعتماد على الأوراق والكتب، وموجة هذا التطور والتحول لا يمكننا مقاومتها، إنها أمر واقع، وإذا لم تساير المدرسة هذا الأمر، فإنها ستتخلف عن الركب، وهذا الأمر عبر عنه جون ديوي في الربع الأخير من القرن العشرين عندما قال: "يصبح الوضع محزنا، لأن تربيتنا الراهنة ضيقة وذات جانب واحد وطابع اختصاصي إلى درجة عالية، فهي تربية يسيطر عليها - بكاملها تقريبا- مفهوم القرون الوسطى في التعلم. والظاهر أن هذا يعجب في الغالب، الجانب العقلي في طبائعنا ورغبتنا في التعلم وتكديس المعلومات وإحراز السيطرة على رموز التعلم، لا على دوافعنا وميولنا في الصنع والخلق والإنتاج" . وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت قبل ذلك بكثير، عندما دعا إلى ضرورة التركيز على علم عملي إلى جانب العلم النظري، يقول ديكارت: "يمكننا أن نجد، بدلا من هذه الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس، فلسفة عملية، نعرف بواسطتها ما للنار، والهواء، والكواكب، والسماوات، وسائر الأجسام الأخرى التي تحيط بنا من قوة وأفعال، معرفة متميزة كما نعرف آلات صناعنا، استطعنا أن نستعملها بالطريقة نفسها في جميع ما تصلح له من الأعمال، وأن نجعل أنفسنا بذلك سادة الطبيعة ومالكيها ." - الإنصات المتبادل أساس للجودة: إن أي مجهود تدبيري يتوخى النهوض بجودة التعليم، لن يحقق أهدافه ما لم يأخذ بالاعتبار ربط جسور التواصل بين المدرسة والمجتمع، فينبغي "للتعبيرات التي تحدث في طريقة التربية ومناهجها (أن تكون) نتاجا للحالة الاجتماعية المتغيرة، وهي - لذلك - جهد يسد حاجات المجتمع الجديد الآخذ بالتكون" . وإذا كانت المدرسة اليوم، وفي جل البلدان التي عرف فيها التعليم طفرة نوعية، تقوم في تدريسها على استدماج الوسائل والأدوات والوسائط التقنية، فذلك وعيا منها بأهمية هذه الأخيرة في الرقي بجودة التعلمات. إن العلاقة بين التطور المجتمعي، والتطور العلمي والتكنولوجي، هي علاقة وثيقة، بل هي تؤثر أيضا على الدولة وتطورها، ولعل هذا ما قصده الإبستيمولوجي الفرنسي المعاصر "إدغار موران" عندما وصف هذه العلاقة بقوله: "نعيش عصرا تاريخيا تعرف فيه التطورات العلمية والتقنية والاجتماعية تداخلات وثيقة و تفاعلات قوية فيما بينها وعلى مستويات عدة (...) وهكذا لا تصبح إمكانية التحكم في العلم خارج العلم ذاته، بل يكون من سيرورة العلم - تقنية (...) لقد أصبح العلم مؤسسة قوية وضخمة في قلب المجتمع الذي يموله ويراقبه بواسطة سلطه الاقتصادية والسياسية، فالتقنيات التي ينتجها العلم تحول المجتمع، ولكن المجتمع التكنولوجي يحول العلم نفسه وتلعب المصالح الاقتصادية الرأسمالية ومصالح الدولة دورها الفعال في هذه السيرورة ." ويمكن أن نعبر عن هذه العلاقة بالخطاطة التالية التي صاغها "موران": العلم التقنية المجتمع الدولة
لذلك وجب على المسؤولين عن قطاع التربية والتكوين، أن يأخذوا بعين الاعتبار في قراراتهم المتعلقة بالقطاع، القيم التي من شأنها أن تنمي وتطور المجتمع، لأن مدرسة جيدة تعطينا مجتمعا جيدا، ومجتمع جيد سينمي جودة المدرسة، وهكذا في تفاعل تطوري نحو الأفضل، "فالمجتمع عدد من الناس المرتبطين ببعضهم لأنهم يعملون ضمن خطوط عامة وبروح عامة، ويلتقون بأهداف عامة كذلك. والحاجات والأهداف العامة تتطلب تبادلا ناميا في الأفكار ووحدة نامية في الشعور الودي. وإن السبب الأساسي الذي لا تستطيع به المدارس في الوقت الحاضر أن تنظم نفسها لتصبح وحدة اجتماعية طبيعية هو فقدان هذا العنصر لا غير، وهو الفعالية والإنتاجية العامة" . إن دور المدرسة هو تأكيد القيم الاجتماعية "الصحيحة "، ومحاربة القيم الاجتماعية "الرديئة"، أو على الأقل تصحيحها، لا أن تقوم بتكريس قيم غير ملائمة، أو المصادقة عليها، "فقد أصبح الجو السائد، أن مساعدة الطفل لطفل آخر في مهمته يعد جناية مدرسية" . إن تحقيق الجودة في المنظومة التربوية أصبح أمرا ملحا في زمننا الراهن أكثر من أي وقت مضى، و"لتنفيذ هذا يلزم أن نجعل في كل مدرسة من مدارسنا حياة اجتماعية مصغرة، أو حياة اجتماعية في بدايتها فعالة بأنواع مهنها التي تعكس حياة مجتمع أكبر، وتتقدم بروح الفن والتاريخ والعلم، فعندما تقدم المدرسة كل طفل إلى عضوية المجتمع وتدربه داخل مجتمع صغير من هذا النوع، فتجعله يتشرب روح الخدمة، وتجهزه بأدوات التوجيه الذاتي الفعال، يكون لنا حينذاك أعمق وأحسن ضمان لمجتمع أكبر ذي قيمة وحسن انسجام" . - العنف الرمزي وإعادة الإنتاج: "إن أي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي، وذلك بوصفه فرضا من قبل جهة متعسفة لتعسف ثقافي معين" . كلام بورديو هنا يوحي بأن أي مؤسسة تربوية، سواء كانت مدرسة أو أسرة أو المجتمع بشكل عام، تعمل على إعادة إنتاج القيم السائدة، ووظيفة المدرسة - باعتبارها جزءا من المجتمع- تتجلى في ترسيخ ثقافة فئات الطبقة المهيمنة، بشكل يجسد التعسف القانوني ويضمن إعادة إنتاجه، ولا يتوقف بورديو عند هذا الحد، حيث يرى أن: " نجاح كل تربية مدرسية، وعلى نحو أعم، كل عمل بيداغوجي ثانوي، يتوقف بشكل أساسي على التربية الأولى التي سلفتها، حتى إذا تأبى المدرسة تلك الأولوية في أيديولوجيتها وفي ممارستها حين تجعل التاريخ المدرسي تاريخا لا تاريخ له ." فالنظام المدرسي لا يمكنه النجاح إلا إذا كان هناك تعسف ثقافي في الأسرة كذلك، أي في الجماعة الأولية للفرد، حيث إنه كلما وجد توافق بين العمل البيداغوجي داخل الفصل، والعمل البيداغوجي داخل الأسرة، كلما كانت عملية إعادة إنتاج نفس النسق سهلة. "يدين كل نسق تعليم ممأسس بالسمات المميزة لبنيته واشتغاله إلى أمر أن عليه أن ينتج ويعيد الإنتاج، بوسائل المؤسسة الخاصة، الشروط المؤسسية التي يعتبر وجودها واستمرارها (إعادة إنتاج ذاتي للمؤسسة) ضروريين سواء لممارسة وظيفته التلقينية الخاصة به، أم لإنجاز وظيفة إعادة إنتاج اعتباط ثقافي ليس نسق التعليم له منتجا (إعادة الإنتاج الثقافي)، وتسهم إعادة إنتاجه في إعادة إنتاج العلاقات بين الزمر أو الطبقات (إعادة الإنتاج الاجتماعي)" . إن قوة التعسف الذي تمارسه الطبقات السائدة تضطر الطبقات المسحوقة إلى الاستسلام لما فرض عليها، ونوعا من الاعتراف، عن اقتناع أو بدونه، بشرعية الثقافة السائدة وبالتالي شرعية التعسف الثقافي، بما أن المدرسة تعمل على إعادة إنتاج الثقافة المهيمنة، وكنتيجة لذلك يتم إلغاء الثقافة المهيمن عليها واعتبارها غير شرعية، والتمسك بما هو أرقى ألا وهو الثقافة السائدة. ولعل عبد الرحمان بن خلدون هو الآخر قد عبر عن هذا الأمر بكيفية مختلفة، حيث قال: " إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك: أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب ." وقد وقف المجلس الأعلى للتعليم على مجموعة من التجليات لإعادة الإنتاج في المقررات التربوية لعدد من المستويات، خصوصا منها بالمستوى الابتدائي، والتي كانت ترسخ وتصادق على مجموعة من القيم الاجتماعية السلبية السائدة في المجتمع، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، بعض الجمل التي تشير إلى أن الفتاة تبقى في البيت لتساعد أمها في المطبخ، بينما الذكر يخرج ليساعد والده في الحقل، وفي هذا الأمر ترسيخ للثقافة المضادة لخروج المرأة لسوق الشغل ومشاركة الرجل في ذلك. هذا مع الإشارة إلى الجدل القائم حاليا (2016/2017)، حول مقررات التربية الاسلامية التي تحرض في بعض دروسها ضد استعمال العقل والفلسفة، في نسخة كاريكاتورية لما كانت عليه أوربا في القرون الوسطى عندما كانت تعتبر أن التفكير جريمة قد تؤدي إلى إعدام صاحبها. استنتـــــــاج: ركزنا خلال هذا المقال على الجودة في التربية والتعليم من خلال التطرق لشقين مرتبطين بهذا الموضوع هما: الجودة كمطلب إداري، وذلك من خلال إبراز خصوصيات الإدارة التربوية، والشروط الموضوعية التي يجب أن تتوفر فيها لتحقيق الجودة. أما في الجزء الثاني من هذا المحور، فقد تناولنا الجودة كمطلب تربوي، على اعتبار أن المجهود الذي يتم بذله في الإدارة، له هدف واحد، هو تحقيق الجودة في المدرسة، كما ركزنا في تحليلنا لهذا العنصر على مجموعة من العناصر ذات الصلة، كالمجتمع باعتباره نسقا كليا يشمل المدرسة كبنية، يؤثر فيها ويتأثر بها، هذا طبعا دون أن نغفل مسألة أساسية مرتبطة بالجودة في التعليم، بل تعتبر عائقا أمامها، إنها مسألة إعادة الإنتاج كعنف تتم ممارسته بشكل ممأسس وممنهج، خدمة لمصالح معينة، أو أحيانا قد يتم ذلك بطريقة لا واعية، باعتبار أن الثقافة السائدة يتم استبطانها واستدخالها من طرف المجتمع لتكون ما يطلق عليه إميل دوركايم " الضمير الجمعي"، والذي يعمل على إعادة إنتاج القيم السائدة، ويحول دون إمكانية التجديد. إن الجودة في قطاع التربية والتكوين - وكما أكدنا- هي أمر يعز مطلبه لما يتميز به القطاع من خصوصيات وما يواجهه من صعوبات سواء كانت مادية أو بشرية / اجتماعية، من هنا، تستلزم أي مقاربة للجودة بهذا القطاع، الأخذ بالاعتبار كل البنيات المتداخلة مع، والمتدخلة في قطاع التربية والتكوين، لأن اختياراتنا في مجال التربية هي انعكاس لاختياراتنا السياسية، أي هي جواب عن السؤال: ما نوع البشر الذين نريد تكوينهم للمستقبل؟ والجواب عن هذا السؤال يستلزم فتح نقاش عريض تشارك فيه كل أطياف المجتمع ومكوناته، كما يستلزم حضور حسن النية وقبول الرأي الآخر من أجل الوصول إلى تركيب يستدمج كل التصورات والرؤى الاجتماعية والفكرية والسياسية، لأن الجودة كما يراها السياسي ليست هي الجودة كما يراها المعلم أو المتعلم أو ولي أمره.
#إدريس_الخلوفي (هاشتاغ)
Lakhloufi__Driss#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدرسة العلاقات الإنسانية: من الإنسان الآلة إلى إنسان العواطف
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|