أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - غسيل الأموال















المزيد.....

غسيل الأموال


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7275 - 2022 / 6 / 10 - 11:22
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



منذ سنة 1978 انخرطتُ في حوزة النجف ثم اضطررتُ للهجرة إلى حوزة قم، منذ ذلك الحين مازلتُ لم أنقطع بشكل تام عن الحوزة.كانت هذه السنواتُ الطويلة هي الأخصبُ والأعمقُ بتكويني في علوم الدين وسياحتي العقلية في آفاق التراث. أتاحت لي هذه السنواتُ تنوعا خصبا في التعليم الديني يحيلُ إلى تيارات مختلفة.كلُّ تيار يمتلك تراكمًا تكامليًا لمناهج وأدوات نظرٍ تمتدّ قرونًا عديدةً في فهمِ الدين وتفسيرِ نصوصه. لا تتوقف هذه التياراتُ عند توازي المواقف فقط، بل تتجاوزه لتبلغ حالةَ التعارض والقطيعة أحيانًا. في الحوزة فقهاءٌ مكرّسون لتدريس الفقه وأصوله باحتراف ومهارة عالية في شرح المتون التراثية، وأساتذةُ فلسفة وعرفان قلّما نعثر على أمثالهم في الحواضر العلمية التقليدية كالأزهر أو الجامعات الحديثة، ونادرًا ما نجد مَنْ يمتلك براعتَهم وصبرَهم الطويل في شرح المتون العرفانية الشديدة الاختزال والكثافة والدقة، مثل كتاب: "فصوص الحكم" للشيخ محيي الدين بن عربي، وهو كتابٌ على الرغم من صغر حجمه، لكن تدريسَه لا يكتمل قبل خمس سنوات لدى أكثر الأساتذة استيعاباً وتمثّلاً لهذا النصّ الرؤيوي الذي هو سياحةٌ عميقةٌ في آفاق المعنى، بوصفه الأبرعَ والأغنى مضمونًا في الميراث الروحي للإسلام، والذي تجاوزت شروحُه والتعليقاتُ والحواشي عليه أكثرَ من 120.
في الفضاء الحوزوي تلتقي ببعضَ التلامذة الذين يخصّصون كلَّ وقتهم للدراسة والمباحثة والمطالعة، ويحذرون الظهورَ والغرقَ في العلاقات العامة، وتضييعَ العمرِ في ثرثرات مجالسَ ليست ذاتَ جدوى. هؤلاء التلامذةُ حياتُهم صامتة، تهرب من كلِّ صخب وضجيج وهذر، وربما لفرطِ صمتِهم وعدمِ اكتراثهم بإشهار جهودِهم وتسويقِ منجزهم، لا يعرف مثابرتَهم ومواهبَهم إلا القليلُ من الأساتذة الذين يحضرون دروسَهم، والتلامذةُ من زملائهم في هذه الدروس.
ينتمي أغلبُ التلامذة العراقيين في الحوزة إلى عوائل فقيرة، فهم إمّا أبناءُ فلاحين كما أنا، أو عمّالٌ، أو موظفون صغار في المجتمع العراقي، اضطرت سلطةُ صدام حسين الفاشية هؤلاء الشبابَ لخوض مغامرة الهجرة وهم في مقتبل العمر، إذ لم يتجاوز بعضُهم 14 عامًا من عمره حين أُكره على الفرار من وطنه، فتحمّلَ كلَّ مرارت الغربة وأيامها القاسية ولياليها المضجرة ليكفل حياتَه وحده، من دون أب أو أم أو عائلة تحتضنه وتنفق عليه.
كنتُ على علاقة حميمية ببعضم، أقتطع لهم ساعاتٍ طويلة من أيامي، مع انهماكي بالدراسة والتدريس والكتابة. أحرصُ على تكريمهم في بيتي، وأمنحهم دعمًا نفسيًا حيثما ألتقيتهم، وأُشعرهم عاطفيًا بالحماية، كي لا يتعمّق اغترابُهم. خصصتُ عدةَ ساعات من عصر الجمعة كلَّ أسبوع للقائهم في بيتي، فتحتُ لهم قلبي، ووضعت تحت تصرّفهم مكتبتي. كان اللقاءُ منتدىً نقاشيًا اسبوعيا حرًا، لا يتقيد بمحاضرة أو درس، ليس فيه متحدثٌ واحدٌ يصغي الكلُّ إليه، الكلُّ يتحدث الكلُّ يعرض أفكاره بلا خوف.كنتُ أغضّ النظرَ عن مشاكسات بعضهم، وأتحمل على مضضٍ تهورَ ونزقَ بعضهم الآخر. أمتدحهم أمام آخرين كانوا يسخرون منهم، وأشيد بجدّيتهم ومواهبهم، وأدعمهم بكلِّ ما أستطيع. أعترف أنهم كانوا أشجعَ مني، وأكثرَ جرأةٍ في إثارة الأسئلة المكبوتة.
أتعبتني كثيرًا، وأمتعتني أكثر صلتي بهذا الجيل وصداقاتي مع مختلف الشخصيات فيه. أدركتُ أن الجيلَ الجديد لا يكرّرُ الأحلامَ الرومانسية لجيلي والأجيال السابقة، ولا ينشغل بهمومه وشعاراته العاصفة. أسئلتُهم صعبةٌ تشبه عالمَهم، أما أسئلتُنا فكانت مبسّطةً تشبه عالمَنا، قناعاتُهم لا تولد بسهولة كما كانت قناعاتُنا، وقلّما يصدّقون الأوهامَ مثلما كنا نصدّق كلَّ ما يُكتب ويُقال لنا، لا يتشبّثون بالأحلام كما كنا نتشبّث بقشة، ولا يصلون إلى اليقين بسهولة، خلافاً لما كنا عليه من فهمٍ ساذجٍ يسوقنا لتصديق كثيرٍ من الوعود الزائفة والأخبار الكاذبة، وما تنسجه المخيلةُ من أحلام رومانسية. الانتماءُ لمعتقَد أو أيديولوجيا أو فكرة لا يتطلّب منا غيرَ حديث يتكلّمه محامٍ بارعٌ في صناعة الكلام. لفرط رومانسيتِنا ضعنا وضيّعنا الأوطان، ولفرط واقعيتِهم ما زالوا يفتّشون بعناد عن دروبٍ للخلاص لا تكرّر متاهاتِنا.
طالما تحدثتُ عنهم وأشدتُ بجهودهم في المناسبات التي أصادف فيها أبناءَ البيوت الدينية في الحوزة، فأنبههم على الدوام إلى الضغط الموجِع الذي يتعرض له هؤلاء الشباب، إثرَ الظروف الاقتصادية والاجتماعية والعاطفية القاسية التي يعيشها هؤلاء التلامذة المتميزون، وأستحثّ ضميرَهم ووظيفتَهم الأخلاقية حيال أولئك الشباب، بوصف هذه البيوت تمتلك رصيدًا من الرأسمال المادي والرمزي والروحي والمشروعية في الحوزة، ونحن الفقراء جئنا بلا ميراثٍ سابق، ربما يمتلك الموهوبُ المثابر المتفوق علميًا شيئًا من ذلك الرأسمال لو كان صبورًا يمكث سنوات في الحوزة.
يطلب أحيانًا لامعو الذكاء من تلامذتي لقاءً خاصًا، يعرضون فيه مراراتِ العيش، وعدمَ الاعتراف بجهودهم ومنجزهم، والإهمالَ الذي يعانون منه، ويشدّدون على أنهم لم يعودوا يطيقون كلَّ ذلك، وليس أمامهم من خيار سوى أن يهاجروا إلى عالَم آخر، يؤمّنون فيه وسيلةً كريمة لعيشهم. في كلِّ مرة كنتُ أشدّد على ضرورة مكوثهم في الحوزة، وأُذّكرهم بقسوة الأيام التي عاشها العلامةُ السيد محمد حسين الطباطبائي، وكيف اضطرّ للعمل في الفلاحة أكثر من عشر سنوات في قريته، بعد أن أكمل تعليمَه في حوزة النجف وعاد الى موطنه تبريز، على الرغم من أنه كان أعمقَ مفسّرٍ للقرآن الكريم في الحوزة، وأبرزَ فيلسوف مسلم ظهر بعد صدر الدين الشيرازي في مدرسة "الحكمة المتعالية".
تركَ الحوزةَ جماعةٌ من خيرة زملائي وتلامذتي اللامعي الذكاء، ممن لو واصلوا مشوارَهم لأصبحوا من المختصين الحاذقين في علوم الدين، بعد أن نزفت أرواحُهم ونضبت طاقتُهم. أغلبهم غادر بغتةً، حرصًا على إخفاء مساراته في الطرق المتعرجة التي يسلكها، بحثًا عن موطن يلجأ إليه ويعيش فيه.
الأخُ ماجد ديوان أحدُ أولئك الذين أصروا على المرابطة في الحوزة ولم يغادرها، لبثَ سنوات طويلة مثابرًا في دراسته، حضر بعضَ دروسي قبل أكثر من ربع قرن، وقلّما التقينا خارجَ حلقة الدرس، لانشغاله وانشغالي. بعد عودتي من المنفى إلى وطني وإقامتي ببغداد، في السنوات الأخيرة لم أعد أعرفُ جديدَه، حتى بادر مشكورًا وبعث لي رسالتَه الماجستير، التي عالج فيها موضوعًا شديدَ الأهمية، يكشفُ فيه عن موقف الشريعة والقانون من "غسيل الأموال". غسيلُ الأموال هو أقسى امتحان سقطَ فيه معظمُ الإسلاميين في السلطة وغيرُهم في العراق من الشيعة والسنة والأكراد. أسعدني اهتمامُ ماجد وكتابتُه في هذا الموضوع العملي المرتبط بأوجاع العراق وأحزانه اليوم. آثارُ الفساد الإداري والمالي فتاكة، تعمل على تدميرِ بنية الحياة الروحية والأخلاقية وتمزيقِ المجتمع، وإفشالِ كل خطط التنمية، إفشالِ محاولات بناء الدولة الحديثة.
الأخ ماجد اكتوى بلوعة خراب الوطن، وبوصفه من تلامذة علوم الدين المتميزين، أدرك أن وطنَه يستغيث بكلّ غيور لإنقاذه، كلٌّ حسب موقعه وتخصصه، فبادرَ هو لهذه المعالجة المهمة لواحدةٍ من أمراض سلطتنا المزمنة منذ الاحتلال الأمريكي 2003 لوطننا العراق حتى اليوم. لعل خارطةَ الطريق التي رسمها بدراية الخبير في الشريعة والقانون تضئ طريقَ الشفاء من هذا المرض الشنيع الذي أمسى مزمنًا، عسى أن تصل رؤيتُه هذه لمن كان لديه بقيةُ ضميرٍ وطني وأخلاقي وديني في العراق. مازال ماجد يكمل مشوارَه في الدكتوراه، وهو يوشك اليوم أن يفرغَ من كتابة أطروحته الدكتوراه بإشرافي في فلسفة الفقه.

#عبدالجبار_الرفاعي
#ماجد_ديوان
#غسيل_الأموال



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يولد السلامُ بين الأديانِ في فضاءِ الإيمان
- مقارنة الأديانِ تكشف مكانة كل دين
- يتنوّع التديّن بتنوّع الإنسان والواقع
- نقد تصوّف الاستعباد
- تراثُ المتصوّفة مرآةُ عصره
- الفهمُ ضربٌ من تحقّق الموجود
- التربية تغذّيها العواطف قبل العقل
- الصراع الحضاري في فكر مالك بن نبي
- مالك بن نبي والقابلية للاستعمار
- هاجس مالك بن نبي تحرير وطنه من الاستعمار
- موت الحرب عند جودت سعيد
- داعية سلام في زمن العنف رحيل الشيخ جودت سعيد
- علم الكلام الجديد
- خير القرون: كيفَ نفهمُ الخيرَ في التاريخ؟
- حكاية النبي موسى والراعي في المثنوي
- نمط الحياة الامتلاكي ونمط الحياة الوجودي
- اعادة تعريف الإنسان
- بؤس الذائقة الاستهلاكية وتشوهها
- مصطلح الإنسانيَّة
- مفهوم التجديد وأركانه


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - غسيل الأموال