أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - من العقلية الشفاهية إلى الكتابية















المزيد.....


من العقلية الشفاهية إلى الكتابية


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 7268 - 2022 / 6 / 3 - 23:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


نقصد بالعقلية الشفاهية:
تلك التي تشكلت عبر توظيف حاسة السمع. لاستقبال المعلومات والأقوال المأثورة. وتختزنها لتعيد ترديدها في المناسبات، مزيدة أو منقوصة. وغالباً منحرفة عن الأصل بدرجة أو بأخري. دونما إمكانية تُذكر لوضع ما تم اختزانه، أو ما يعاد ترديده، موضع الفحص الجدي والمراجعة.
فطبيعة الكلمات التي يتم إرسالها شفاهياً، وتتبدد في الهواء، لا تسمح إلا بهامش بالغ الضيق، للتمعن والتأمل والفحص المنطقي. علاوة على تأثير عناصر العاطفة والحماسة ولغة الجسد، التي يتضمنها عادة الخطاب السماعي. وكذلك صياغة العبارات الشفاهية، التي غالباً ما تكون ذات جرس موسيقي. ما يساهم في قبول أو رفض الرسالة الشفاهية، بغض النظر عن المحتوى الفكري الموضوعي.
أما العقلية الكتابية، فهي تلك التي صارت عن طريق ما تتيحه الكتابة من إمكانيات، مؤهلة لأن تمارس عملية النقد والتحليل والتدبر للرسالة المكتوبة. عبر التدريب على تأمل النصوص المدونة. بالقراءة تقدماً للأمام في النص. ثم إمكانية العودة تراجعاً للخلف. لمقارنة المعاني وتحليل أفكارها وتقييمها منطقياً واقعياً.
نلاحظ أن ليست كل رسالة مدونة تعد رسالة كتابية. فالعبرة في تحديد نوعية الرسالة هو منهج إنتاجها، شفاهياً كان أم كتابياً. وليس مجرد وسيلة إرسالها، إن كان عن طريق النطق أو التدوين. إذ تبقى الرسائل ذات الملامح والأصل الشفاهي محتفظة بتوصيفها الشفاهي بعد التدوين. تماماً كما أن الرسالة الكتابية تظل محتفظة بتوصيفها الكتابي، حتى لو تم إرسالها شفاهياً.
ما قلناه على طريقة استقبال الرسالة، والفرق بين الطريقة الشفاهية والكتابية في الاستقبال، يقال أيضاً على طريقة إنتاج الرسالة.
فالمُنتِج الكتابي يُتاح له تأمل وتدبر أفكاره. والرجوع إلى ماسبق وسطره. ليعيد تنقيحه أو حذفه واستبداله. وهو إذ يفعل هذا، ربما يبدأ عملية إنتاج فكر جديد خلاق، لم يخطر على باله حال الشروع في الكتابة.
كل هذا يفتقده مُنتِج الرسالة الشفاهية. إذ تتدفق رسالته في عفوية وبساطة إلى مستمعيه. وهو يفعل نفس الشيء، حتى إذ ما كان يدون رسالته على الورق.
رواية "البوساء" مثلاً لفيكتور هوجو، مدونة بمنهج شفاهي، ونجد فيها ذات ملامح الخطاب الشفاهي. ويقال أنه كان أثناء كتابة الرواية يدون أفكاره على ورق، وكلما امتلأت ورقة يلقي بها خلف ظهره ليبدأ في غيرها. ليعود بعد ذلك يجمع الأوراق المتناثرة. بلا مراجعة ولا تدقيق. لنجد التكرار الممل والأفكار النمطية هي السائدة في عموم الرواية الشهيرة.
فيما رواية "عوليس" لجيمس جويس، عمل كتابي من الدرجة الأولى. فيه عمق الأفكار والمشاعر وتعقدها وتشابكها.
المتلقي السماعي كذلك يقرأ المدونة بنفس الطريقة الشفاهية. فلا يتمهل لتدبر معاني الكلمات. ولا يعود في السطور إلى الخلف، ليحلل ويقارن ويربط الأفكار ببعضها.
إذا كانت هناك العديد من العناصر، التي يمكن بقياسها تحديد درجة تحضر وتطور الشعوب، فلعل أهمها هو تطور الثقافة والعقلية، من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة الكتابية. وتقاس بنسبة الأعداد المتحولة للكتابية في كل أمة. وبالنسبة للفرد تقيم ثقافة وعقلية الفرد الكتابية، بنسبة مكونات المنهج والثقافة الكتابية لديه إلى الثقافة الشفاهية.
فرغم أن الطفل الآن يدخل المدرسة ليتقن ويوظف تكنولوجيا الكتابة منذ سن السادسة، إلا أن الوسط الذي ينشأ فيه، من حيث طبيعة ثقافته، يؤثر في درجة تكون عقلية وثقافة كتابية لديه.
ويلاحظ أن نسبة الكتابية في ثقافة وعقلية أي أمة أو فرد، لا تصل أبداً إلى درجة الإطلاق. إذ غالباً ما تظل هناك نسبة شفاهية في ثقافة أكثر الناس تحضراً وتشبعاً بالثقافة الكتابية.
هنا لابأس بأن نغامر بالقول، أن اللغة العربية الفصحى، التي يتعلم الكتابة بها الطفل في المنطقة العربية، تشكل عائقاً كبيراً لعملية التطور من الثقافة الشفاهية للكتابية.
فاللغة العربية الفصحى لا تعد "لسان أم"، لأي شعب من شعوب المنطقة. فكل شعب أو مدينة، أو حتى قرية وعشيرة وقبيلة، يكون لها لغتها الخاصة. التي قد نطلق عليها من قبيل التبسيط المخل "لهجة". رغم أنها تكون في أحيان كثيرة، أقرب إلى لغة خاصة. مثل ما نعرفة بـ"العامية المصرية". إذ هي لغة تستخدم مفردات في أغلبها عربية، لكنها تقوم في قواعد تركيب الجملة على قواعد "اللغة المصرية القديمة".
لهذا نجد أن الإنسان الأمي المصري، يعجز عن فهم جملة بالعربية الفصحى، رغم معرفته لمعاني مفرداتها كل على حده.
ما يحدث هو نشأة الطفل حتى سن الصبى، وفق تلك اللهجة الشفاهية، وحين يبدأ في تعلم وممارسة الكتابة، فإن ذلك يكون عبر لغة مختلفة بدرجة أو بأخرى، عن "لسان الأم" الذي تربى عليه، وطبع ثقافته وفكره.
فاللغة ليست كما يتصور البعض، أداة طيعة نستخدمها في توصيل أفكارنا. لكنها عبر مفرداتها كدالة ودلالة، أشبه بأوعية لمجموعة من الأفكار النمطية المتوارثة. نستحضرها وفق حاجتنا. لنشكل منها الرسالة المراد إرسالها. هنا تكون إشكالية الطفل الذي يبدأ في تعلم الكتابة في سن السادسة. وبالأكثر معضلة تعليم الكبار محواً لأميتهم. أنهم يذهبون إلى تعلم لغة جديدة عليهم هي "العربية الفصحى". لكن الأخطر من ذلك مشكلة الفكر المختزن في مفردات اللغة. إذ يكون مطلوباً ممن يتعلم الكتابة باللغة الفصحى، أن يستوعب مفاهيم وأنماط فكرية تختلف هامشياً أو جذرياً، عن تلك المفاهيم السائدة في مجتمعه الشفاهي. والتي نشأ هو ليرى الحياة من منظورها. وإذا كان من طبيعة الأمور أن تسري المياه في المسار الأسهل، فغالباً ما ينحو الإنسان الذي تعلم الكتابة بتلك "اللغة الجديدة"، إلى الإبقاء على ذات مفاهيمه في "لسان الأم". خاصة وأن كان غالبية المجتمع على حالتهم الأولى الأمية الشفاهية. هنا قد نجد أحد أسرار ما نرصده من لاجدوى التعليم. وما نرى من حالات الارتداد للأمية. إذا يبقى ما تلقنه التلميذ في المدرسة حبيس كراساته وكتبه، التى تنمحي من ذاكرته مع الوقت طال أو قصر. ويستمر في حياته بذات المفاهيم التي درج ونشأ عليها.
يساعد على رسوخ وتفاقم "الحالة الشفاهية" أيضاً، أن نظم التعليم ومقرراته في المنطقة العربية، يغلب عليها الطابع الشفاهي والاستظهار، لمقررات مدونة من أصل شفاهي. لتكون النتيجة أن تفقد "تكنولوجيا الكتابة" أخطر مميزاتها، وهي تشكيل العقلية النقدية التحليلية.
العقلية الشفاهية أيضاً تتعامل مع الكلمات كما لو كانت حقائق مادية واقعية. هي تحارب بالكلمات. تطرب لكلمات طيبة. وتجزع أشد الجزع من كلمات قاسية وناقدة. هي تتخوف من ذكر أسماء الأمراض، لأنها تتصور في الكلمات قوة المرض ذاته.
تستند العقلية الشفاهية أيضاً في حججها على كلمات مسموعة أو مدونة في نصوص. وليس على وقائع مادية ثابتة.
أيضاً نجد التعاويذ والطقوس الدينية والتمائم استخدام للكلمات بتوهم توظيف القوة المختزنة فيها. وصناعة الأحجبة هي تطبيق كتابي لفكرة شفاهية، تستحضر قوة الكلمات عبر تدوينها بأبجدية أو برموز خاصة.
معرفة القراءة والكتابة وحدها، أو حتى الحصول على شهادات دراسية عالية، لا يكفي لمحو ما يمكن تسميته "الأمية الفكرية". أي الانتقال من "العقلية الشفاهية البسيطة" إلى "العقلية الكتابية التحليلية". فالأمر يحتاج للتدريب والتعليم الجيد، ليتعلم الفرد ويستوعب ما أوجدته "الكتابة" من إمكانيات، أحدثت ثورة في مجال الفكر. بما أتاحته من إمكانيات للتركيب والتعقيد في الأفكار.
العقلية الشفاهية تفتقد القدرة على التحليل، وعلى استيعاب الأفكار المركبة. فهي تعتمد في قراءة الأحداث وتفهم الأفكار، على الموروث الشفاهي من القوالب الفكرية، التي تحفظها في شكل أمثلة شعبية أو مقولات مأثورة. أو مفاهيم ذات تركيب بسيط، يقوم على ثنائية التضاد. فهذا أبيض أو أسود. خير أو شر. مع أو ضد. وعندما ترد عليها فكرة مركبة، لا تستوعبها في ذاتها. وإنما تلجأ لتوفيقها مع أقرب قالب فكري تحتفظ به. فتفقد الفكرة المركبة بذلك محتواها. أي يفشل المرسل إليه في استيعابها كاملة.
وهنا الصعوبة التي يواجهها صاحب "الفكر الكتابي" مركب التكوين، في إيصال فكره في مجتمع تسودة "الثقافة الشفاهية".
ربما نظرة عابرة على التعليقات التي ترد على عبارات مكتوبة بواسطة "عقلية كتابية"، على صفحات الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مثلاً. تعطينا مثالاً لما نقول. حيث يندر أن نجد تعليقاً، نستطيع أن نحكم عليه أنه قد استوعب ما ورد كاملاً، وبنى تعليقه على هذا الأساس. فالأغلب أن نجد صاحب الرد قد اقتطع من العبارة الجزء الذي تصادف أن وجد له قالباً فكرياً مختزناً لديه. ليحشر بعضاً من العبارة فيه. تاركاً باقي الأفكار بالعبارة وكأنه لم يرها.
مسيرة الحرية والحداثة لشعوب المنطقة، ليست فقط في التخلص من نظم استبدادية. ولا بتوفير مستوى أعلى للمعيشة. فما سيحقق كل هذا وأكثر، هو تطور عقلية إنسان المنطقة. ومبارحة العقلية البدائية البسيطة. إلى نضج عقلية إنسان الحضارة المعاصرة.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية- في البدء كانت الكلمة 3/3
- إشكالية- في البدء كانت الكلمة 2/3
- إشكالية- في البدء كانت الكلمة 1/3
- مقولة -لا طلاق إلا لعلة الزنى-
- الصعود في الممنوع- قصة قصيرة
- بداية ذئب- قصة قصيرة
- قراءة النصوص المقدسة
- اختلاف الرؤى الإنسانية
- المادية اللاماركسية
- آلهة وشياطين
- نحن ولغتنا الفصحى
- الإنسان وصناعة الآلهة
- 84 عاماً على حرب أكتوبر
- نحن والديموقراطية
- الإصرار على كليب حياً
- العماء والاستعماء
- العالم الغربي والإخوان المسلمون
- الميتافيزيقا - ماوراء الطبيعة
- المسألة الفلسطينية
- أنا واليهود


المزيد.....




- قائد الثورة الاسلامية: اثارة الشبهات من نشاطات الاعداء الاسا ...
- قائد الثورة الاسلامية يلتقي منشدي المنبر الحسيني وشعراء اهل ...
- هجوم ماغدبورغ: دوافع غامضة بين معاداة الإسلام والاستياء من س ...
- بابا الفاتيكان: الغارات الإسرائيلية على غزة وحشية
- رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا يعلق على فتوى تعدد الزوجات ...
- مـامـا جابت بيبي.. حـدث تردد قناة طيور الجنة 2025 نايل وعرب ...
- بابا الفاتيكان يصر على إدانة الهجوم الاسرائيلي الوحشي على غز ...
- وفد -إسرائيلي- يصل القاهرة تزامناً مع وجود قادة حماس والجها ...
- وزيرة داخلية ألمانيا: منفذ هجوم ماغديبورغ له مواقف معادية لل ...
- استبعاد الدوافع الإسلامية للسعودي مرتكب عملية الدهس في ألمان ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال غبريال - من العقلية الشفاهية إلى الكتابية