لا يختلف إثنان في قيمة الزيارة لمقبرةٍ للتجلي في الذات والوقوف بخشوع لمعرفة الحقيقة المروعة التي قد تغيب عن الأذهان إذا لم تعاش بشكل ملموس وواقعية حيثيات وأبعاد مثل هذه الزيارة.
الزيارة بمثابة عودة تراثية للتراب ورؤية الشيء المستجد فيه، كل شيء يغيره التراب كما يغير التراب نفسه من خلال التغير مادام يعيش في أعيننا ويدخل مسامات جلودنا، تتنفسه رئاتنا منذ أول لحظة تخرج من حوض الماء المظلم والدافئ إلى الكرة المحاطة بنور الشمس وظلام غيابها النوري.
نقف ونتراجع أمام ما قاله شيخ المعرة الكريم راجياً مترجياً " خفف الوطئ ".. كم كان يحس بالمعاناة وهو يضع قدمية على الأرض؟ ولهذا بقى في التفرد والإنعزال لا يتحرك إلا مضطراً أو لحاجة يقضيه فرضاً.. كم كان يحس بالأفول اليومي ليقرب الفكرة إلى الوضوح المبْعد بالسيف والتهديد.
أليس التراب مخلوط ببعض أجسادٍ تفسخت من داخلها وفي خارجها بفعل عملية التفسخ في الطبيعة، تتفسخ كاي مواد أخرى فوق هذه الكرة البيضاوية الصغيرة التي كان الكثيرون يعتبرونها طويلة لا نهاية لها؟
ببساطة نزور ونرتمي في مواجهة اي قبرٍ وبدون تحديد بعد أن ننهي زيارة " الأقربون" نبكي على أنفسنا وليس عليهم، نلح بالبكاء ظاهرياً وباطنياً، بكاء ناشف كصحراء لا زرع فيها ولا ماء مثل الربع الخالي، جفاف يمزق رئتنا، وبكاء مرطب مبلل يمشط وجنتنا لكثرة أخاديده كما تمشط الأنهار الجبلية ضلوع الجبال والوديان والسهول..
قد ابدو مأساوياً في الحديث عن فسيفساء المقابر وربما تشائمياً لكن المهم أن أصور نقلة ليس بغائبة عن عقول الناس ولكن هناك ربما مَنْ تناساها، أصور من دون رتوش وبعيداً عن الكلمات المنمقة التي تحاول أن تصل للطهارة في موقع طاهر بالأساس، طاهر ليس فيه لغو أو حاجات رذائلية دنيوية وذاتية ومنفعية، طاهر ونقي في رغباته وتطلعاته ..
لكل مقبرة ميزة تتميز بها إلا التراب والدفن فيه.. ومميزات في الفسيفساء، اختلاف وتطابق في أصنافها وألوانها وأفكارها ومعتقداتها واشكال قبورها وأشجارها وأزهارها ومقامات اضمحلالها الدنيوية.. فالغني له قيمة ظاهرية تبدو للأعيان عن مكانته في الدنيا الفانية فصارت له قُبّة وفسحة زرعت فيها أشجار وورود وسياج وباب حديدي لا يمكن فتحه إلا بمفتاح هو الآخر حديدي أصيل، تولج من خلاله إلى الداخل لتجد مكاناً جميلاً للجلوس وحتى شرب الشاي أو القهوة إذا كانت العادة قد استحوذت على أصحابها، بينما تجد في زيارتك وتجوالك قبراً آخراً مبنياً بالرخام محاط بالسور فقط وقبالة راسه نخلة أو شجرة صغيرة، وعلى أمتار منه قبر آخر مبني بالآجر ولوحة تقول " أيها الزائر قبري قف على قبري شوية ــ واقرأ القرآن عندي رحمة تنزل عليّ ".. كما تجد قبراً آخراً أقل شئناً في البناء والترتيب كتب عليه " يا قارئ كتابي إبكي على شبابي ــ كنتُ بالأمس حياً واليوم تحت الترابِ " فَقَدَر التراب ملازم للعين المفتوحة الطماعة بدون استحاء ولا خجل حتى يغلقها إلى الأبد بذراته ويُشْبعها تماماً.. كما تجد قبوراً كثيرة مبنية بالطين الذي تشقق بفعل أمطار الشتاء وحرارة الصيف اللاهبة.. البعض منها خسف بسبب الإهمال أو الهجر وعدم الزيارة لإنقطاع النسب والقربى أو مشاغل الدنيا ابنة الحرام.
لهذه القبور الآخيرة مكاناً خاصاً في النفس ومعزة تكاد أن تكون رحمية، فهي تستحق وضع اليد عليها بحنو وعشق وقدسية، فتقف على رأسهم بإستحقاق قراءة الفاتحة أو سورة من القرآن الكريم (يس) إذا كان لديك وقت أو حتى تؤجر شخصاً يتجول وفي يديه مصحف شريف وتنقده أجرة قراءة السورة وأهدائها لجميع القبور وأولها قبور الطين والمخسوفة المهجورة بالذات، وهذه دلالة على تضامنك الطبقي الإنساني، ولا بأس أن تأخذ فسحة من الوقت لتبكي ناشفاً حتى وإن تمزقت رئتاك أو رَطِباً تبلل فيه وجنتيك وصدرك الهرم إذا كنت هرماً.. تبكي بكاء غريب لشقيق غريب آخر لا تعرفه.
لا نزعل من أن المصادفة هي التي تجعلنا نعرف مقدار هذا الفرق المنزلي الدنيوي ليكون ضروة من اجل التقصي عن أسباب هذه الفروقات.. وبمجرد إلقاء النظرة حتى تبدو الجهة الأخرى من الدنيوي واضحة بالمقارنة مع الآخرتي، القبور ذات الطبقات والفئات والقوميات ولكن بتوحيد الدين الواحد، فلكل دين من الأديان مقبرته، مع العلم الجميع يهبطون متساوين إلى العالم السفلي وَيَسْتخفُ بما نريد أن نثبت غير ذلك، آكلي الجثث في القاع الأبدي..
هذه سنن الحياة منذ أن وجدت الحياة.. إلا أن الأمر لم يبق على حالته الأولى، فقد تغيرت الأحوال بعد رحيل المتوحش الوحش الفاحش الذي شذّ عن القاعدة فلم تعجبه المقابر القديمة وطريقة ترتيبها وعددها وتفجرت فيه الإبداع لكي يتخلص من الكلاسكية في إنشاء المقابر، فلم يرض بمقبرةٍ ولا بمقبرتين أو ثلاث في المدينة الواحدة... فخرج للعراء يفتش ويبحث عن ضالته ومعه غلاة الأفاعي وجندرمة مجندة بقلوب كأنها بمضخات حديد لا تضخ إلا الحقد والكراهية للجنس البشري.. فانتشرت في الأرياف والقرى والوديان والسهول والصحراء وقرب الأنهار والبحيرات فسيفساء مقابر غير معروفة ( دارسة ) حسب الوصية الرحمة، ليس لها شكل الطبقات والقوميات والفئات والأديان والطوائف والمعتقدات وهذه الميزة فريدة من نوعها لأنها ساوت بين الجميع وجعلتها حالة عراقية خالصة بدون فروقات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية.. هذه المساواة ليس بمساواة العدالة الإجتماعية الحقيقية ولكن حسب إشتراكية البعث القومية، في زمن الرداءة والقباحة والنذالة وسيطرة المتوحش الوحش الفاحش في حقبة جعلت ظاهرية القبور السرية موحدة في موجدوداتها الخارجية ولكنها فسيفسائية في بواطنها لا تختلف عن أية فسيفساء أخرى فجمعت ما بين المسلم والمسيحي والصابئي والكاكي واليزيدي .. العربي والكردي والتركماني والآشوري والكلداني..
هل اصيبوا بالهستريا وهم يرون أن البعض يعرف ضالته فيبكي على نفسه وعليه وهم بقوا مقهورين لا يلون على شيء لكنهم لا يحسدون الذين وجدوا في التراب تراب عظام من يفتشون عنه منذ سنين طويلة ؟..
أي قهرٍ هذا؟ وأنا وأنت وهو ونحن وهم والجميع يرى أن العراق كله أصبح مقبرة تعج بالأجساد الغريبة عن بعضها القريبة في الموت وعمق الظلمة وفقدان الصلة وضياع الأثر.
العراق مقبرة في زمن قام على الخازوق الكهربائي والكيمياوي وادوات صنعت في الغرب لمواطنين آخرين حكم عليهم بدون أدلة حسب قانون الحضارات القانونية ، هل تنحصر هذه البينة في مكانها الآن ؟ وكيف يمكن أن لا تستشرس ولا تستأثر بحقبة جديدة قادمة ونحن نرى التوجه نحو القتل بحجج المزايدة في التدين الإرهابي لا التدين التنويري، الذي يحمل للفكر إرهاب لا مثيل له.. بحجة الزندقة والإلحاد والزنا وشرب الخمور والسينما والتلفزيون والحجاب المفروض بالقوة وبحجة الدين والطائفة والقومية والإشتراكية الصالحة والرشيدة لترشيد ألاخرين وغيرها من التهم التي كانت تطلق بسهولة من أجل القصاص وسوف يطلقها الفحش الفاحش المتوحش الجديد مجدداً بترتيب يسابق القديم من اجل مقابر ولكن ليس بفسيفساء مثيلة كما عهدناها ورأيناها لأنها ستكون غير موحدة لا في الشكل ولا في المضمون، هذه المشكلة بالخوف من نشوء مقابر علنية من أجل أن يبقى الكرسي الجديد للقادم الجديد فوق الجميع ليتخذ حججه بفعل القانون الذي سيرتب حسب السفاسف الخبيثة لكي يعلون الناس الرافضين مجبرين على تنفس نتف الرماد البركاني المتساقط من رعونة الفكر الظلامي.. المشكلة الأخرى في الطبالين الذين يدقون على "الزنجاري" نفسه ليل نهار، بصيغ جديدة، يريدونك مثلهم، نسخة منهم على طريقة ديمقراطيتهم التنويرية الجديدة، وإذا أبديت رأياً آخر أو رفضت الإقرار.. أو قلت لا " الله الستار " حكموا عليك بأنك لا تقبل الرأي الآخر وأنك لا ديمقراطي رجل الستينيات أو السبعينيات أو أي شيء لديهم مقبول وعليك محرم.. مادام يرضي ذاتهم اللادغة ويفرغ هواجسهم العدوانية بطريقة ديمقراطية تنويرية ، وقد يحاولون منع الحمام القادم إلى النوافذ مبشراً بالأمطار التي تغسل جروح الذين بقوا محبوسين في محاجر يقينهم لتبشرهم بأن العالم يتغير.. ويتغير.. ويتغير.. " بالغصب على من يرضى أو لا يرضى " حتى لو قال أكبرهم بالجمود فالعالم والناس فسيفساء مهما أرادوا تحويلهما إلى مقبرة متساوية دارسة مجهولة.. فغيرهم كان أشطر منهم وها نحن نرى الوحش المتوحش والفاحش كيف أصبح مسبة ومحط لعنة وسقط متاع، والمسبة وسقط متاع واللعنة عار في العالم الآخر قبل العالم الحاضرسوف تلاحق مسببين الفتنة والتفرقة اللتان تقودان إلى الخراب والدمار والتبعثر والضياع وبقاء الإحتلال أطول مما تتصورون، لا كما يدعون إلى البناء والتقدم والتنوير!