الأربعاء 21 مايو 2003 14:22
• التعليم و الإعلام وخطبة الجمعة وفتاوى التكفير مشتلة لتفريخ التعصب والإرهاب.
• ضرورة تجفيف ينابيع ثقافة الاستشهاد أي النحر والانتحار بتطهير التعليم من مادتي الجهاد والاستشهاد وتدريس الفلسفة وحقوق الإنسان وتاريخ الأديان المقارن والسسيولوجيا الدينية وعلم النفس في التعليم الديني.
في 1996 نشرت في "الحياة" مقالاً بعنوان "تجفيف ينابيع الإرهاب" الإسلامي شرحت فيه ضرورة إعادة هيكلة التعليم كمدخل لا غني عنه للتنمية المستديمة التي تتطلب إصلاحاً دينياً حقيقياً وحداثة فكرية وقيمية وثقافية وتشريعية واجتماعية واقتصادية وسياسية. منذ ذاك التاريخ وإلي أن منعني صاحب "الحياة" من الكتابة فيها في نهاية 2002 لم أتوقف عن توعية نخب العالم العربي المفتقدة للشجاعة الفكرية والسياسية والدينية بأهمية تبني التجربة التونسية التشريعية والتربوية. الأولى حررت المرأة من رق فقه القرون الوسطي والثانية حررت رؤوس الأجيال الصاعدة من عوائقه الدينية التي أعاقت عقول المسلمين قروناً عن التفكير العقلاني والعلمي، والسياسي، والاقتصادي... كيف جفف التعليم التونسي ينابيع التعصب أي رُهاب الاختلاف الذي هو الجذر التربيعي لعداء المرأة وغير المسلم والعقل والحداثة؟ بإدخال الفلسفة (البرنامج الفرنسي ) منذ بداية التسعينات للسنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي وإلي جميع الاختصاصات بما فيها الطب والدراسات الدينية لتدريب طلبتها علي اكتساب الفكر النقدي الذي يقدم كل إدعاء ديني أو دنيوي أمام محكمة العقل لمساءلته عن شرعيته العقلانية ويحصن عقولهم ضد الأحكام المسبقة والجمود الذهني والنرجسية الجمعية ووهم الحقيقة المطلقة وتعليمهم أن الحقيقة المطلقة الوحيدة هي أن لا شيء بمطلق لأن كل حقيقة هي دائماً جزء من حقيقة أشمل برسم الاكتشاف، وبإدخال تدريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق اللاحقة التي عمقته الكفيلة بتحرير وعي الشباب المسلم من سطوة قيمتي الحلال والحرام الشرعيتين وتخصيبه بالقيم الإنسانية والكونية وتحصينه ضد انتهاكها والسكوت عن انتهاكها، وبإدخال علوم الحداثة إلي دراسة الظاهرة الدينية لجعلها في متناول العقل لاكتشاف أسرارها ودلالاتها التاريخية، الاجتماعية والنفسية سواء من خلال تاريخ الأديان المقارن الذي يلقي أضواء علي المسارات التاريخية لتكون الأديان وتطورها وتلاقحها. فلا سبيل لفهم تاريخي للديانات التوحيدية الحية، اليهودية، المسيحية، الإسلام، من دون مقارنتها بالديانات الوثنية الميتة، البابلية والمصرية خاصة، التي تطورت عنها، أو من خلال السسيولوجيا الدينية الضرورية لفهم وظائف الدين في رهانات الفاعلين الاجتماعيين الذين كثيراً ما يستخدمونه لأهداف دنيوية، أو دراسة الظاهرة الدينية بعلم النفس للكشف عن الحاجتين الأساسيتين اللتين يلبيهما الدين: حاجة الكائن الإنساني الهش نفسياً أو اجتماعياً للحماية الأبوية وحاجة النرجسية البشرية إلي حياة أخري بعد الموت إذن إلي الخلود.
حتى الآن لم تستلهم أية نخبة عربية، بسبب الجبن السياسي والفكري الديني، هذه التجربة التربوية الرائدة والفعالة في تجفيف ينابيع ثقافة التكفير والجهاد والاستشهاد لأن عجز هذه النخب المزدوج عن حل أزماتها المتلاحقة وعن إدارتها بنجاح في انتظار توفير شروط حلها يردعها عن مواجهة التحديات في الوقت المناسب. لكن بما أن كل تحد داخلي لا يرفع في الإبان يتحول إلي تحد خارجي، فقد تبنت الدبلوماسية الدولية والإعلام العالمي والمجتمع المدني العالمي ترشيد وتحديث التعليم والتشريع في الدول العربية والإسلامية. فولا تدخل الاتحاد الأوربي لما " علقت " إيران قانون الرجم الغابي.
التعليم الديني هو المرآة التي تعكس صورة الأيديولوجيا الرسمية علي حقيقتها، إذن كل إصلاح حقيقي لابد أن ينطلق حكماً منه. ما يسود التعليم الديني بدرجات متفاوتة من بلد إلي آخر هو عداء غير المسلم والمرأة والترويج المكثف لثقافة الجهاد والاستشهاد التي تغسل عقول الناشئة بتحريضهم علي أن يكونوا قتلة وقتلي وجمهوراً للقتلة. قطعاً الناحر _ المنتحر يائس، مكتئب عجز عن إعطاء حياته معني في الحياة فغطي لا شعورياً عجزه بإعطائها معني بعد الموت يتدارك به ما فاته من ملذات الحياة، وهو أيضاً فريسة لشعوره الساحق بالذنب الموروث عن طفولة جريحة.. لكن الحرمان الجنسي وتمجيد الاستشهاد وتعداد مزاياه سواء في التعليم أو الإعلام أو خطبة الجمعة أو فتاوى التكفير والتحريض علي قتل غير المسلمين لعبت بلا شك دوراً محورياً في تغليب غريزة الموت علي غرائز الحياة في الناحر_ المنتحر: الاستشهادي في فلسطين والرياض والدار البيضاء وفي نيويورك وواشنطن...
البؤس الجنسي باعث أساسي من بواعث الاستشهاد. وقادة الإستشهاديين يعون ذلك ويستخدمونه بدهاء: أبو نضال قبل ستة شهور من قيام إرهابييه بعملياتهم يعزلهم عن بعضهم بعضاً ويمنعهم من كل احتكاك بالنساء، حسن الترابي يزف بنفسه الشهداء الذين سقطوا في قتال إحيائي ومسيحيي الجنوب إلي حوريات الجنة يوم موتهم. صدر كتاب لمستشرق ألماني يؤكد فيه أن انتحاريي حماس يحمون أعضاءهم التناسلية قبل تفجير أنفسهم حتى تبقي صالحة للجماع ليلة الزفاف علي حور العين!
في 1996 استنجدت أم جزائرية بأستاذ جامعي عسى أن يقنع ابنها الذي سقط في امتحان الباكالوريا (الثانوية العامة) بعدم الالتحاق بمقاتلي الجماعة الإسلامية المسلحة فدار هذا الحوار:
الأستاذ - أتعلم يا مصطفى أنك لن تعيش أكثر من تسعة شهور من تاريخ التحاقك بالجماعة الإسلامية المسلحة؟
- لا يا عم أملي في الحياة معهم لا يتجاوز السبعة شهور. إذا شاء الله وانتصرنا فعلاً هذه المرة على "القوم الكافرين" فسنبني الجنة علي أرض الجزائر، وإذا حان أجلي وقتلت في سبيل الله فسيكون لي أجر الشهيد: لا أذوق أهوال عذاب القبر ولا أنتظر قيام الساعة لدخول الجنة بل أدخلها فوراً ولا أذوق آلام الموت وتلى عليه: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءً عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" ( 169 - 170 آل عمران).
لنطبق باختصار شديد علوم الحداثة لتفكيك أسطورة الاستشهاد أي تجاوز الفهم الحرفي إلى الفهم الرمزي. السسيولوجيا الدينية تعلمنا أن الدين ليس معطي محايداً بل رهان لخدمة استراتيجيات معلنة حيناً ومضمرة أحياناً. هدف هاتين الآيتين اللتين نزلتا إثر هزيمة أحد كما يقول المفسرون في سبب نزولهما -وأسباب النزول مصدر لا غني عنه للتفسير السوسيولوجي للإسلام - هو رفع معنويات المسلمين التي انهارت بعد هزيمتهم في معركة أحد فخشي النبي عن صواب أن يتقاعسوا عن الجهاد معه فكان لابد من رفع معنوياتهم وتعويضهم عن الخسارة التي تكبدوها في متاع الدنيا أو ما خلفوه وراءهم منه بعد هزيمة أحد بمكاسب ثمينة بما لا يقاس من متاع الجنة تزهدهم في كل ما خسروه من متاع الدنيا خاصة وقد رأي في التحضير لغزوتي بدر وأحد أن الحماس بين الأنصار وبعض المهاجرين كعثمان بن عفان لم يكن كبيراً. نفور المسلمين من الجهاد والاستشهاد سيتكرر مراراً بعد ذلك حتى بعد فتح مكة الذي أمن النصر النهائي للإسلام: في غزوة تبوك ضد الروم البيزنطيين تقاعس المسلمون عن الجهاد كما يقول الطبري في تفسيره فقد: "اخترفت النخيل [= آن أوان جنيها] وطابت الثمار، واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج فقالوا: منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل فأنزل الله": "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله إثاقلتم إلي الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل" (38 التوبة).
استراتيجيا الترغيب في الجهاد بمتاع الآخرة الأكثر بكثير من متاع الدنيا استراتيجيا ثابتة منذ آيتي الاستشهاد غداة هزيمة أحد. يروي الطبري عن ابن عباس أن النبي قال: " لما أصيب أخوالكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلي قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فانزل علي رسوله هذه الآيات". الخوف من "الزهد في الجهاد والنكول [التراجع] عن الحرب" هاجس استحوذ علي النبي منذ هجرته إلي المدينة وتغيير استراتيجيته من إقناع أهل مكة وحلفائهم من القبائل بالدخول في دينه إلي إرغامهم علي الدخول فيه بحد السيف. سلاحه للتصدي ل "الزهد في الجهاد" كان الترغيب بمقارنة متاع الدنيا الزهيد بمتاع الجنة الوفير. رواية ابن مسعود تزيد من مباهج الشهداء في الجنة في رواية ابن عباس: "... فيتطلع الله إليهم فيقول: ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: لا فوق ما أعطيتنا الجنة، نأكل حيث شئنا، إلا أن نختار أن ترد لنا أرواحنا في أجسادنا ثم نرد إلي الدنيا فنقاتل فيك مرة أخرى فقال: قضيت أن لا ترجعوا " إلي الدنيا. وهو قرار مؤسف إذ لو رجعوا إليها وأخبروا إخوانهم في الإسلام بكل ما ذاقوه من ملذات الجنة لانتفت الحاجة إلي الجهاد ولأقبل الناس أفواجاً للدخول في الإسلام بفضل هذه المعجزة التي ما كانت لتترك مجالاً للشك في وجود الله ووجود الجنة والنار إلخ.
واضح من سياق الآية (170 التوبة) أن المسلمين كان يحزنهم أن يتركوا بعد موتهم وسائل العيش التي كانوا يتمتعون بها فهدأ القرآن من هذه المخاوف: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنزن" يقول الطبري: "ولا هم يحزنزن علي ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها للخفض [= الثراء الواسع ] الذي صاروا إليه والدعة والزلفة" لكن لم يكن كل المسلمين سريعي التصديق لهذه الحوافز الدينية ليتركوا "ظلال نخيلهم طمعاً بالمقيل في قناديل من الذهب في ظل العرش" بعد الاستشهاد. مع هؤلاء الشكاك لجأ القرآن إلي الوعيد في الحياة قبل الممات: "إلا تنفروا [للجهاد] يعذبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم" (39 التوبة ). قسوة ألفاظ هذا الوعيد تدل علي أن كمية الشكاك لم تكن هينة وتقاعسهم عن الجهاد والاستشهاد وتراجعهم عن الحرب كان جدياً. استخدام القرآن لسلاحي الترغيب والترهيب، ترغيب المسلمين الخائفين من الجهاد والاستشهاد في ثمار الجنة الشهية وظلالها الوارفة وقناديلها الذهبية وترهيبهم بالعذاب الأليم في الآخرة والاستغناء عنهم في الحياة باستبدالهم بغيرهم، كان فعالاً بدليل انتصار الإسلام علي العرب بفضل هذين السلاحين.
بعد مساءلة السسيولوجيا الدينية عن دلالة آيتي الاستشهاد لنسأل الآن تاريخ الأديان المقارن عنهما لتبديد الهالة الأسطورية لكل ما تغلفه الأسرار فيقف العقل حياله حائراً فتنطلق الرغبات والتخييلات من عقالها لتملأ الفراغ الذي لم يملؤه التفسير العقلاني المقنع. كل منطقة ممتنعة عن المعقول يسودها المنقول أي اللامعقول وفي هذه الحالة الفهم الحرفي للنص.
هذه الجنة [= الحديقة] الغناء وجدت في كثير من الديانات والأساطير بما فيها الوثنية السابقة عن الإسلام. لكن مكانها في الأرض كما في "جنة عدن" التوراتية أو في جنة قدماء الصين المليئة هي أيضاً، كجنة المسلمين، بـ"الطيور الخضر" رمز الملائكة أو جنة الأساطير الفارسية الشهوانية التي يعتقد فولتير أنها النموذج الذي استعاره الإسلام لجنته. الجحيم هو أيضاً تخييل قديم عرفه قدماء المصريين والرومان والإغريق الذين أطلقوا عليه "مملكة الموتى" التي تعج بالوحوش والشياطين الذين أوكل إليهم إله الجحيم "هاديس" تعذيب الأموات شر عذاب.
هنا نسأل أيضاً علم النفس عن المنشأ النفسي لتخييل الجنة والجحيم؟ سيقول لنا الجنة ترمز لرحم الأم حيث كان الجنين يأتيه رزقه رغداً متى شاء إلى الشهور الثمانية أو العشرة قبل الفطام حيث واصل الثدي نفس وظيفة الرحم... أما نار الجحيم فهي نار الفطام بعد الشهر الثامن أو العاشر. الفطام هو الصدمة الأشد وقعاً علي الرضيع من جميع الصدمات الأخرى والتي قد تزرع فيه كراهية الآخر الشرير رمز الأم الفاطمة: "الأم المفترسة" والهوس بالجهاد والاستشهاد في سبيل الله... في سبيل الانتقام من جريمة الفطام التي مارستها أم جاهلة ومن دون مساعدة الطبيب المختص لتلطيف صدمتها المروعة. وقديماً قيل: معظم النار من مستصغر الشرر!
هل يشرب هؤلاء المتباكون علي تفجيرات الرياض والدار البيضاء حليب السباع فيدخلوا علوم الحداثة إلي التعليم الديني لتخريج مسلمين عقلانيين أو علي الأقل عقلاء؟ هذا، ورب الكعبة، أنجح السبل للإنتهاء من اللعبة العبثية التي لم تعد تطاق: غسل أدمغة الصغار والمراهقين والشباب بثقافة الجهاد والاستشهاد طوال سنوات تعليمهم العقيم ثم تجنيد الشرطة والحرس والجيش لملاحقتهم بعد إقتراف جرائمهم الجهادية والإستشهادية!.
عندما كنا نصدر الإرهاب إلى "دار الحرب" كان ترشيد وتحديث التعليم وأخواته يبدو لـ"المعتدلين" ترفاً وللمتطرفين بدعة. أما الآن فها هي بضاعتنا رُدت إلينا، فالمسألة باتت منذ الآن: أن نكون غير منتجين للإرهاب أو لا نكون.
إيلاف خاص