أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فرحان قاسم - نظرية غرامشي في السياسة وعلاقتها بمنظومته الفكرية















المزيد.....



نظرية غرامشي في السياسة وعلاقتها بمنظومته الفكرية


فرحان قاسم

الحوار المتمدن-العدد: 7246 - 2022 / 5 / 12 - 19:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أولا : مقدمة
من اهم إنجازات ماركس الفلسفية هي انه ربط بين المادية وقوانين التطور الاجتماعي و انتج معرفة فلسفية جديدة تربط الفلسفة بالتاريخ ، وكذلك انتج منجزه الاقتصادي الكبير ( راس المال ) حين ربط الاقتصاد السياسي بقوانين التطور الاجتماعي ، و اصبحت العلاقة الجدلية بين النظرية والتطبيق هي جوهر الفلسفة الماركسية . لكن محاولات ماركس وانجلز في مجال ممارسة النظرية واجهت الكثير من المصاعب والعقبات منذ البداية لاسباب عديدة وعلى راسها عدم اكتمال أدوات التحليل النظرية للظاهرة الراسمالية قبل الشروع بكتاب راس المال ، ما جعل روح التفاؤل التي غلبت عليها الرغبوية تطغى قبل ثورة 1848 التي قادت نتائجها ماركس الى التفرغ لدراسة المجتمع الراسمالي بعمق وبهدوء ، وان قراره بحل عصبة الشيوعيين ليس بسبب الحملة الإرهابية الشديدة التي شنتها قوى الراسمال على الحركة العمالية بعد الثورة فحسب ، وانما لاعادة انتاج معرفة جديدة تقود الى كشف القوانين الاقتصادية التي تتحكم في التشكيلة الاقتصادية الراسمالية ، والتعمق اكثر في القوانين الموضوعية للثورة الاجتماعية ومفهوم الدولة والمجتمع المدني .
يمكن القول بان براكسس ماركس كانت مرنة ، وحدثت فيها انتقالات كبيرة بدات بتاسيس اول حزب شيوعي اممي التكوين متعدد التيارات سعى لتحشيد قوى الطبقة العاملة الصاعدة في اوربا للانقضاض المبكر على الراسمالية ، لكن نتائج ثورات 1848 قادت ماركس الى التعمق في دراسة قوانين التطور الراسمالي والعوامل الموضوعية والذاتية للثورة الاشتراكية ، وانتقل الى تأسيس الأممية الاولى التي اعتمدت تحشيد الطبقة العاملة وتعزيز عملها النقابي ، وربط نضالها من اجل مصالحها الطبقية بنضالها السياسي ، لكن تعدد التيارات داخل الأممية الأولى و توفر عوامل أخرى ، قاد الطبقة العاملة والفئات المهمشة في باريس الى اعلان الانتفاضة والسيطرة على كومونة باريس ، رغم تحذيرات ماركس الذي وصف ابطال الكومونة بمقتحمي السماء ، تعبيرا عن شجاعتهم الفائقة من جهة ومن جهة أخرى تعبير عن عدم توفر العوامل الموضوعية في تلك اللحظة للانقضاض على الراسمالية . وعلى العكس فقد ادت نتائجها بماركس وانجلز الى انتهاج سياسة جديدة تماما تبنتها الأممية الثانية ، وهي نضال البروليتاريا عبر الاليات البرلمانية وتاسيس أحزاب اشتراكية ديمقراطية لها نظمها الداخلية وسياساتها التي تقررها مؤتمراتها وفق ظروفها الخاصة ، واستطاعت الحركات الاشتراكية عبر هذا الشكل من النضال من إيصال اعداد جيدة ومؤثرة من ممثلي الطبقة العاملة الى برلمانات اغلب الدول الراسمالية الصناعية المتقدمة .
بعد وفاة ماركس وانجلز وتحول راسمالية المنافسة الحرة الى الامبريالية ، انطلق صراع فكري متعدد الأوجه والدوافع والمصالح ، دشنه برنشتاين عام 1893 بدعوته الى مراجعة الماركسية وتنقيحها ، وهي امتداد لطروحات الفابية البريطانية والبرودونية الفرنسية ، ورغم الدفوعات التي واجهتها البرنشاينية من قادة الفكر الاشتراكي آنذاك ، الا انها ظلت تعتمل لدى الكثيرين من قادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وانفجرت اثارها عشية الحرب العالمية حينما انقسمت الاشتراكية الديمقراطية بين مؤيد للحرب واعتماداتها المالية وبين من دعا الى وحدة الطبقة العاملة الاوربية ضد الحرب ، الا ان هذا الصراع اتسع افقيا وعموديا وظهرت الكثير من الفراغات والاسئلة التي تحتاج الى ملء واجابات منذ بداية القرن العشرين الى انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956 .
وفي غمرة احداث كبرى مثل ثورة 1905 في روسيا ، و اعلان الحرب العالمية الأولى وثورة أكتوبر وصعود الفاشية وإعلان الحرب العالمية الثانية ظهرت أسماء لامعة ومدارس فكرية انجبتها الحركة الاشتراكية ، وكانت جميعها تسترشد بالماركسية مرجعية لها ، لكن اغلبها تعرض الى التشويه والتهميش والقمع بفعل عاملين أساسيين : العامل الأول هو ماكنة العمل الأيديولوجي الراسمالية الضخمة ، والتي تعززت تدريجيا وتعاظمت أسلحتها بفعل الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية ، واستخدامها المؤسسات الدينية المختلفة والفكر الشوفيني كاذرع مجربة لعزل الجماهير عن الفكر الاشتراكي . والعامل الثاني هو الدور السيء الذي لعبته الستالينية في حجب وتشويه و تهميش العديد من المدارس والاسماء الفكرية اللامعة ، وحولت الماركسية الى مايشبه العقيدة الجامدة ذات النصوص المقدسة وافرغتها من محتواها النقدي المتغير واستخدمت اعتى الأساليب ضد كل من حاول الانعتاق من عباءتها .
ثانيا : الزمان والمكان
ما دفعني الى محاولة فهم غرامشي او الوصول الى طريقة افضل لقراءته ، هو حجم الاختلافات حوله بين الباحثين ، اذ لا تستطيع ان تخرج بتصور واضح عن نظريته ومواقفه منذ بداية دخوله المعترك السياسي والصحفي لحين وفاته . فقد اختلفوا حول مواقفه من لينين وستالين وتروتسكي وبوخارين ومواقفه تجاه قسم من قادة الحزب الاشاراكي الإيطالي او الحزب الشيوعي الإيطالي بعد تشكيله . و حول تحليلاته للظاهرة الإيطالية وخصوصا المسالة الجنوبية وموقفه من تحالف الطبقة العاملة والفلاحين وموقفه من مجالس العمال في منطقة تورين العمالية وموقفه من الانتفاضة العمالية والوحدة الإيطالية واختلفوا حول تحليلاته لثورة أكتوبر ومفهوم الثورة الدائمة ومواقفه من القادة اليمينيين الإصلاحيين في الحزب الاشتراكي الإيطالي وبعض قادة الحزب الشيوعي الإيطالي لاحقا . كما كثر الجدل بين الباحثين عن منظومة المفاهيم التي اعتمدها غرامشي لتحليل الظاهرة الإيطالية والعالمية ، فقد ذكر قسم منهم ان غالبية هذه المفاهيم التي اعتمدها غرامشي كانت لمجرد الهرب من الرقابة الفاشية وليست منظومة جديدة لتحليل الظواهر وهم يشيرون بطرف خفي ان غرامشي ليس منتج مفاهيم وصاحب نظرية جديدة ، في حين ارتاى اخرون انه مفكر من طراز خاص الى حد ان هوبز باوم اعتبره " المفكر الأكثر اصالة في الغرب منذ عام 1917 " لانه وضع نظرية البراكسس .كما تسود حالة من الارتباك وخصوصا لدى الشباب المهتمين بالفكر الاشتراكي ، حينما يضيعون بين تفاصيل وتناقضات الدارسين لمفاهيم غرامشي حول الثقافة والمثقف العضوي والتقليدي ومعارك الحركة ومعارك المواقع والهيمنة ودكتاتورية البروليتاريا ، والمجتمع المدني وعلاقته بالبناء الفوقي .
في هذه المساهمة لن ادخل في أي تفصيل يخص تلك الاختلافات بين الباحثين حول نظرية ومواقف غرامشي ، لانها مهمة تخرج عن الهدف من هذه المساهمة الذي يتلخص بعرض منظومة المفاهيم التي ساعدت غرامشي في تحليل الظاهرة الإيطالية والعالمية في مرحلة الامبريالية ، لتيسير استيعاب القراء لغرامشي والاستفادة من طروحاته في عصر العولمة .
ثانيا :
شخصية غرامشي
لعبت الموهبة والصراع والمراة دورا كبيرا في صناعة غرامشي المفكر ، فموهبته ظهرت مبكرة من خلال ذكائه الحاد وذاكرته النادرة التي لا يمتلكها الا اصحاب المواهب الكبيرة ، وجديته الصارمة التي طبعت حياته في جميع المجالات ، ونهم في القراءة انعكس إضافة الى تخصصه في الادب الإيطالي ، فانه تعمق في دراسة ماركس وقادة الفكر الاشتراكي ممن سبقوه او عاصروه ، وعكست دفاتر السجن إدراكا عميقا لنظرية المعرفة عند ماركس ، وخصوصا علاقة الخاص بالعام . ولخص غرامشي برنامجه اليومي في رسالة الى امه حينما كان سجينا " حياتي تتدفق دائما بنفس الطريقة اقرا ، اكل ، انام ، افكر ولا استطيع ان افعل أي شيء اخر " اذ كان يقرا وهو في السجن ست جرائد يوميا وثمانية كتب أسبوعيا إضافة الى مجلات مصورة ومجلات أدبي .
اما الصراع فقد اخذ اشكالا متعددة ؛ صراع مع الامراض التي رافقته منذ طفولته المبكرة حتى وفاته ، صراع مع الفقر التي عانت منه عائلته بعد اعتقال والده و لما يبلغ السادسة من عمره ، صراع من اجل تحقيق طموحه في التحصيل العلمي اجبره على مغادرة سردينيا الفلاحية الجنوبية الى تورينو العمالية الشمالية التي اكمل فيها تحصيله الجامعي . صراع من اجل تحديد خياراته الفكرية والسياسية تجاه ما يواجهه من متغيرات فمن نزعة قومية ضيقة فرضتها عليه عومل التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للجنوب الايطالي وقلة وعيه وتحصيله المعرفي ، الى نزعة اممية متجذرة زرعتها فيه الحركة العمالية الناشطة في تورينو ، صراع مع الاتجاهات الاصلاحية داخل الحركة النقابية الايطالية والحزب الاشتراكي الايطالي ، صراعات محتدمة حول ثورة اكتوبر وقيام الاشتراكية في بلد واحد لا تتوفر فيه العوامل الموضوعية للثورة الاشتراكية كما كان مرسوما في صياغات ماركس عن الثورة الااشتراكية ، صراعات خاضها غرامشي توجت لاحقا في تاسيس الحزب الشيوعي الايطالي ، صراع حول الجبهة المتحدة والموقف من ستالين ، صراع من اجل وضع خارطة طريق لتحويل الماركسية الى برنامج عمل تسترشد به حركة الطبقة العاملة الايطالية من خلال دراسة متانية تقارن بين ظروف روسيا و ايطاليا واروبا ، ليخرج في النهاية بنظرية البراكسس وتحالف العمال والفلاحين والهيمنة والكتلة التاريخية ودور المثقفين في العمليات الاجتماعية بعد فشل الانتفاضات العمالية في اوربا وايطاليا.
اما المراة فهناك ثلاث نساء لعبن دورا كبيرا في تكوين شخصية غرامشي ؛ امه التي كان يكن لها حبا واحتراما كبيرين ويشعر بفراغ كبير اذا تاخرت برسائلها في السجن اليه . وزوجته جوليا التي تعرف عليها في مشفى في موسكو، فرغم عموده الفقري المنهك والسل الرئوي الفاتك به وامراض اخرى ، فانها هامت به حبا وانجبت منه طفلين واصيبت بانهيار نفسي بعد اعتقاله وحاولوا اخفاء مرضها عنه ، و ناتاليا اخت زوجته التي ضحت بعشر سنين من شبابها في زيارات دورية لغرامشي في سجنه تجلب له ما يحتاج وهي التي نقلت دفاتر السجن الى الحزب الشيوعي الإيطالي .
ثالثا : التجربة الايطالية
عاش غرامشي حياة قصيرة ، امتدت ما بين 1891 الى 1937 . واجهته مجموعة اسئلة تتعلق بالمسالة الجنوبية ، والوحدة الايطالية ، وفشل الحركات العمالية في اوربا وفشل حركة تورينو ومجالسها العمالية في السيطرة على السلطة ، و لماذا انتصرت الفاشية ولاقت تاييدا جماهيريا ، رغم استخدامها ابشع الاساليب في اضعاف الحركة الاشتراكية ؟ . ادرك غرامشي ان البرحوازية الايطالية لجات الى اسلوب ميزها عن البرجوازيات الاوربية في تحقيقها لهيمنتها على المجتمع ، باعتمادها على اقامة تحالف بين البرجوازية الصناعية في شمال ايطاليا وبين ملاكي الارض في جنوبها ، وتهميش دور العمال في الشمال والفلاحين في الجنوب في تحقيق الوحدة الايطالية ، اي وحدة فوقية بين القوى المهيمنة و تكليف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية مهمة العمل الايديولوجي الداعم للبرحوازية وملاكي الارض في ايطاليا على عكس التجربة الفرنسية التي تحققت الوحدة فيها بفعل مساهمة فاعلة وتضحيات جسيمة من قبل الطبقات المحرومة و بفعل تحطيم القواعد الفكرية للكنيسة واضعاف دورها في الحياة السياسية والاقتصادية الفرنسية . لهذا طرح غرامشي فكرة تحالف العمال والفلاحين الذي يتوقف عليه مستقبل الثورة البروليتارية في إيطاليا ، ككتلة تتجاوز وتنفي التحالف المهيمن من خلال بلورته لستراتيجية جديدة للهيمنة عبر دراسة أسباب هزيمة الحركة العمالية في تورينو ، وعجز الاشتراكية الإيطالية على التغلغل في الريف ، واهمال المسالة الفلاحية ، مستوحيا تجربة تجربة مجالس السوفييتات بعد ثورة اكتوبر ، فدعم تجربة مجالس العمال في تورينو التي سيطرت على المعامل في انتفاضة عمالية عارمة ، جعلت ايطاليا تدخل عام 1919- 1920 ما سمي " بالفترة الحمراء " . لكن الاتجاه الاصلاحي في الحركة النقابية و لدى اغلب قادة الحزب الاشتراكي الايطالي منعت هذه الانتفاضة من الامتداد الى بقية اجزاء ايطاليا ، ما سهل عملية اقتحام المعامل وافشال الانتفاضة . وهذا المشهد هو الذي هيا الارضية المناسبة لظهور الفاشية كما ساتناولها في عرض مفهوم الفاشية .
ثالثا : منظومة مفاهيم غرامشي
البراكسس :
كان لثورة أكتوبر و نظرية لينين عن الامبريالية تاثير كبير على الحركة العمالية في اوربا ، سواء على المستوى النظري او الممارسة ، وخصوصا ما يتعلق بانبثاق الثورة الاشتراكية في بلد لم تكن فيه الظروف الموضوعية ناضجة ، وعلاقة هذه الثورة ببناء حزب ثوري من طراز خاص يتولى المبادرة بالثورة ويقود عملية البناء بعدها . كان المخاض عسيرا والصراع على اشده ليس بين الفكر الراسمالي والاشتراكي فحسب وانما داخل اجنحة الأممية الثانية قبل وبعد الحرب العالمية الأولى ، ما أدى في النهاية الى حلها وانشقاق الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والحركة النقابية العمالية .
واجهت غرامشي مجموعة أسئلة كبرى سواء ما يتعلق بنجاح ثورة أكتوبر في روسيا المتخلفة ، يقابلها اخفاق الثورات العمالية في اوربا المتقدمة صناعيا ، او تتعلق بخصوصيات الوضع في إيطاليا ، مثل المسالة الجنوبية ودور الفاتيكان والدين واثرهما على المجتمع الإيطالي ، و صعود الفاشية بسبب فشل البرجوازية والطبقة العاملة في إيجاد حلول ومخارج للازمة في إيطاليا . هذه الأسئلة وغيرها فرضت على غرامشي منظومة من المفاهيم تساعده على دراسة الظاهرة الإيطالية والاوربية في مرحلة الامبريالية التي فتحت عهدها بحرب عالمية اعادت تقسيم العالم من جديد لصالح الحيتان المنتصرة في الحرب .
في هذا المشهد المعقد سعى غرامشي الى ما سعى اليه ماركس من تحويل الماركسية الى قوة جبارة حينما تتبناها الطبقة العاملة ، أي كيفية تحويل ردود الأفعال الى إرادة جماعية واعية ومؤثرة.
في هذا المشهد المعقد سعى غرامشي الى ما سعى اليه ماركس من تحويل الماركسية الى قوة جبارة حينما تتبناها الطبقة العاملة . أي كيفية تحويل " ردود الافعال والتمردات السلبية الى إرادة جماعية واعية ومؤثرة . ان ابداع غرامشي في نظريته السياسية يكمن في انه ادرك ما هو خاص في روسيا وما هو خاص في إيطاليا واوربا . في روسيا القيصرية حيث الدولة تتحكم في كل شيء ومنظمات المجتمع المدني هشة وعائمة لا تاثير لها . لذلك اكد غرامشي ان حرب المناورة هي الأسلوب المناسب للحركة العمالية هناك ، وبسبب تمتع منظمات المجتمع المدني بعلاقة متوازنة في المجتمعات البرجوازية الاوربية ، طرح غرامشي حرب المواقع كاسلوب لكفاح الطبقة العاملة في إيطاليا . .
ان رؤية غرامشي استندت الى اعتبار البناء الفوقي العامل الحاسم في السياسة ، لانه يتكون من عنصرين اساسيين ؛ الاول هو الدولة البرجوازية التي اطلق عليها " المجتمع السياسي " والعنصر الثاني المؤسسات والمنظمات المختلفة التي اطلق عليها " المجتمع المدني " ، ويتجسد العنصر الاول بعمليات القمع من خلال اجهزة السلطة القمعية بينما يتجسد العنصر الثاني بالهيمنة من خلال وسائل الاقناع والتضليل عبر الموسسات القانونية والدينية والتعليمية والاعلامية والخدمية الاخرى ، وبذلك تتحول هذه المؤسسات الى ادوات لتابيد النظام الراسمالي عبر ترويض العقل البشري وتحويل الفرد الى انسان ذي بعد واحد يعجز عن تصور مجتمع افضل. وبذلك تتحول مفاهيم الديمقراطية والحرية في ظل الامبريالية ، الى وسائل طاحنة للوعي النقدي وادوات لتزييف الوعي ، بدلا من ادوات لتحرير الوعي وانطلاق الذات البشرية نحو عالم يحررها من قيود الاستغلال والاغتراب والعزلة . وعلى اساس هذا التحليل بلور غرامشي براكسس جديدة على " ضوء التجربة الاوربية والايطالية في مرحلة الامبريالية ، تهدف الى تخليص الجماهير من الجمود والاخيلة البدائية وتحويل الوعي الساذج الى وعي نقدي " ، من خلال هيمنة بديلة لهيمنة الراسمال ، هيمنة تبدا من تحت ، تمهد لانهيار النظام الراسمالي ، تتولاها الطبقة العاملة وحلفاؤها المتضررون من النظام الراسمالي ويشكلون كتلة بشرية هائلة تقودها وترسم ستراتيجيتها وتكتيكاتها احزاب ثورية اطلق عليه غرامشي " الامير الجديد " ، و يلعب المثقفون العضويون فيها الدور الفاعل ، لخلق وعي نقدي يستند الى المنهج الماركسي في تحليل الظواهر .
مفهوم الفاشية
اختلفت اراء الباحثين حول ظاهرة الفاشية فمنهم من اعتبرها أداة ضاربة موغلة في الوحشية لتحقيق هيمنة راس المال في ظل الامبريالية ، واخرون اعتبروها ظاهرة مرتبطة بالخصائص الإيطالية ومسالتها القومية ، و هناك من اعتبرها حركة رجعية مضادة للفكر الاشتراكي تستخدم الوسائل الأشد قمعية في التعامل مع الحركات الاشتراكية .
اعتبر غرامشي الفاشية ظاهرة انجبتها ظروف عجزت فيها الطبقتان البرجوازية والطبقة العاملة من ايجاد حل حاسم لازمة المجتمع في لحظة ما بعد الحرب العالمية الأولى . فهي ليست ظاهرة إيطالية محضة كما انها لم تكن اخر الحلول الضرورية للراسمالية المهددة من قبل الطبقة العاملة نتيجة الازمة العامة التي دخلتها الراسمالية ، تحولت الفاشية من ظاهرة هامشية الى ظاهرة جماهيرية و يمكن القول ان ظهور الفاشية جاء نتيجة لعجز العامل الذاتي في إيجاد حلول بعد دخول إيطاليا مرحلة الازمة ، فالطبقة البرجوازية عجزت بوسائلها التقليدية أي اليات الديمقراطية البرجوازية في الحسم ، كما عجزت الطبقة العاملة بمد انتفاضتها في تورينو الى انتقالها الى الأجزاء الأخرى من إيطاليا بسبب النزعة الإصلاحية للحركة النقابية وغلبة الاتجاه الإصلاحي على قيادة الحزب الاشتراكي الإيطالي .
المسالة الجنوبية
تميز الجنوب الإيطالي بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي على عكس الشمال الإيطالي الذي دخلته الراسمالية الصناعية مبكرا وتحول الى مدن صناعية مزدهرة ، والمجتمع الجنوبي الإيطالي يتكون من شريحة الفلاحين ومثقفي البرجوازية الريفية المتوسطة وكبار ملاكي الأرض التي كانت حليفا دائما للراسمالية في الشمال .
في ايطاليا حصل تحالف بين البرجوازية الصناعية في الشمال و كبار الملاك في الجنوب ، اذ استبعدت الطبقة العاملة والفلاحون عن هذا التحالف ، ولم يعتمد هذا التحالف على حركة شعبية ، و حافظ على بقاء الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في الحقل الايديولوجي . واعتبر غرامشي هذا التحالف دكتاتورية بدون هيمنة على نقيض الثورة الفرنسية التي اعتمدت على حركة شعبية واسعة .
كما درس غرامشي أسباب هزيمة الحركة العمالية في تورينو ، وعجز الاشتراكية الإيطالية على التغلغل في الريف وعدم الاكتراث للمسالة الجنوبية بشكل عام والمسالة الفلاحية بشكل خاص ، ووضع استراتيجية جديدة للهيمنة مستفيدا من تجربة ثورة أكتوبر ومن خصائص التجربة الإيطالية ، فركز على تحالف الحركة العمالية في الشمال مع حركة الفلاحين في الجنوب واعتبرها ضرورة تفرضها الظروف الموضوعية و يتوقف عليها مستقبل الثورة البروليتارية في إيطاليا
اعتمدت التجربة الإيطالية على خطة ثلاثية الابعاد : البعد الأول هو تعزيز التحالف الستراتيجي بين البرجوازية الصناعية وملاكي الأرض والبعد الثاني هو تشتيت التحالف المقابل ما بين الطبقة العاملة في الشمال والفلاحين في الجنوب وتهميش أي دور لهما في الصراع الاجتماعي والبعد الثالث تكريس دور الكنيسة الأيديولوجي لصالح تحالفهما . ورغم التصميم المحنك لابعاد هذا التحالف الا انه فشل في النهاية في إيجاد حل للمعضلة الإيطالية في ظل الازمة الشاملة التي عصفت بالمجتمع الإيطالي بعد الحرب العالمية الأولى ، وكذلك فشل الحركة النقابات العمالية الإيطالية والحزب الاشتراكي - رغم توفر الوضع الثوري - في المضي بالثورة العمالية الى نهايتها بسبب تعمق الاتجاه اليميني الإصلاحي فيهما ، ما مهد الطريق امام الفاشية لحسم الأمور لصالحها عبر العنف والتنكيل بدعم السلطة وراس المال الصناعي الكبير .
الفلسفة والثقافة والمثقفين
الفلسفة و الثقافة
انطلق غرامشي في تحليله لمفهومي الفلسفة والثقافة من ان الانسان كائن يمتلك وعيا ، لذلك اتفق مع الراي القائل بان الفلسفة ظهرت مع اول دهشة بدت على وجه الانسان منذ فجر البشرية . وتاثر بفكرة " كروتشة " التي اعتبرت الدين " رؤية للعالم " ، وان اغلب الناس فلاسفة اذ انهم ومن خلال نشاطهم العملي في كفاحهم من اجل بقائهم يكونون موقفا فلسفيا للعالم من حولهم . واعتبر جميع المعارك الفكرية أيا كان مستواها ، معارك فلسفية تعبر عن الصراع بين " مفاهيم مختلفة عن العالم " وان كل شخص " فيلسوف على طريقته الخاصة . واعتبر " كل منتج فكري لاي انسان ثقافة وفلسفة خاصة به ارتباطا بمستوى وعيه " . واكد ان " وظيفة الفيلسوف في حقل الفكر تعادل وظيفة الفلاح في الحقل ، لان الاثنين يعكسان موقفا تجاه الظواهر المحيطة بهما . ودعا غرامشي الى رفع مستوى الوعي لدى الجماهير ومغادرة " نخبوية الفكر " باتجاه تحقيق ثقافة عامة مجتمعية تجعل الجماهير منتجة للثقافة ، و تحويل التمتع بالمعرفة والجمال والشعر والموسيقي الى جزء مكمل للتركيبة البنيوية للمجتمع الإنساني المنشود .
قسم غرامشي الوعي الى مستووين : المستوى الأول هو ان كل انسان فيلسوف بطريقته الخاصة لارتباطه العضوي بالنشاط اليومي للإنسان في عملية انتاج الخيرات المادية ، وينتج رؤيته الخاصة للعالم . وهذا النوع من الوعي يشكل " العناصر المشتركة في السلوك والتفكير للمجتمع " ، فتتشكل الثقافة الجمعية التي تحول الانسان الى جزء من كل تندمج رؤيته برؤية المجموع ، فيصبح الانسان نسخة متكررة تفتقد الموقف النقدي الفردي للظواهر . اما المستوى الثاني فهو الوعي النقدي الذي يجعل الفرد قادرا على صياغة ارائه ورؤيته الخاصة عن العالم صياغة " واعية نقدية من خلال اختياره لنشاطه ، و ويكون هو نفسه المرشد والموجه " وليس العوامل الخارجية التي تصوغ شخصيته المتكررة في كل الافراد المحيطين به . ويكون قادرا على نقد " الرواسب المتراكمة في الفلسفة الشعبية " و يكون نفيا للعناصر المتقادمة ، والمتآكلة التي خلفها المستوى الاول من الوعي . وفي النهاية يساعد المستوى الثاني من الوعي على تكوين رؤية " رؤية متسقة عن العالم " تفتح الطريق للتحليل المنطقي وظهور المدارس الفلسفية المختلفة .
المثقف
ان غرامشي ينطلق من مفهوم جديد للمثقف . فقد نظر اليه من زوايا مختلفة ؛ فهو نتاج ثقافة مجتمع ومنتج ثقافة بنفس الوقت ، وهو مرتبط بعنصري البناء الفوقي المجتمع المدني والمجتمع السياسي . ان ظهورالمثقف العضوي يرتبط تاريخيا بظهور نمط الإنتاج الراسمالي ، وهو يؤدي وظيفة تعكس دوره وموقعه في الصراع الرئيسي في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الراسمالية ، فهو اما مثقف عضوي خدم البرجوازية وساهم مساهمة فعالة في تكوينها حينما كانت طبقة صاعدة تسعى لتحطيم العلاقات الاقطاعية ، وبعد تحقيق هيمنتها سواء على مستوى اوربا او العالم ، تحول الى مثقف تقليدي يحاول تعويق عجلة التقدم وتزييف وعي الجماهير ، او مثقف عضوي ساهم بالارتقاء بوعي الطبقة العاملة من طبقة بذاتها الى طبقة لذاتها ووضع الأسس الأولى لتنظيمها السياسي " الأمير الجديد " الحزب الثوري الذي تقع على عاتقه تحرير الطيقة العاملة من اغلالها ، عبر الانقضاض على الراسمالية بطرائق متعددة تحددها الظروف الموضوعية لتحقيق هيمنة بديلة . اما المثقف التقليدي فقد ارتبط بالانماط التي سبقت نمط الانتاج الراسمالي ، واستمر يمارس وظيفته رغم انهيار تلك الانماط وهيمنة النمط الراسمالي . وهو جزء من الجهاز الايديولوجي ، بحقليه السياسي والمدني لسلطة راس المال والطبقات المهيمنة التي تسير خلفه ، وهو يطمح ايضا في المشاركة في الصراع من اجل المكاسب الوظيفية والمنافع الاخرى ، ويحرص على المحافظة على افكار المجتمع القديم ويقف على الدوام معارضا للفكر التنويري الذي تتزعمه الطبقات والشرائح الاجتماعية المضطهدة والصاعدة بنفس الوقت
الحزب الثوري " الأمير الجديد "
اعتبر غرامشي الحزب الثوري كيانا عضويا ومثقفا جمعيا " قادرا على توحيد الجماهير وتوجيه اندفاعها العفوي ، وصولا الى الحاق الهزيمة بسلطة الدولة الراسمالية ، واعتبر تحقيق الهيمنة وظيفته الرئيسية ، و بدونه يصبح الحديث عن ماركسية الجماهير والثقافة الجمعية ضربا من " اللغو والثرثرة او شكلا من الحلم لا مجال لتحققه " . وحذر غرامشي الحزب الثوري " من سياسة انتظار التفاف الجماهير حوله " ، ودعاه الى الإمساك بزمام المبادرة لقيادة تلك الجماهير " بمزج النضال الأيديولوجي بالنضال الاقتصادي والسياسي " ، لتحقيق وحدة ثقافية اجتماعية توحد الفئات المبعثرة لخلق إرادة جمعية شعبية تمتلك رؤية مشتركة عن العالم .
ان غرامشي دعا الى بناء حزب ثوري من نمط جديد ، يستند على " العلاقة الجدلية بين الطبقة العاملة والمثقفين العضويين ، من اجل خلق حركة شعبية تكون أساسا للكتلة التاريخية التي من خلالها تتحقق الهيمنة العابرة لنمط الإنتاج الراسمالي .
الهيمنة
منذ سيطرة الطغمة المالية واندماج راس المال الصناعي براس المال المالي وتحكم الاحتكارات بمختلف أنواعها ، تمكن المركز الراسمالي من التحكم بالسياسات الكونية وكرس تبعية بلدان الأطراف ، إضافة الى قدرته بمحاصرة ثورة أكتوبر الوليدة ، و قمع التوجهات اليسارية في الحركات العمالية في اوربا ، واحتواء تياراتها اليمينية الإصلاحية ، مسخرا البناء الفوقي بشقيه السياسي وادواته القمعية المتطورة ، والمجتمع المدني بادواته الأيديولوجية الضخمة لترسيخ هيمنة الدولة البرجوازية . ولم تعد الدولة جهازا للحكم فقط كما اكد غرامشي وانما أصبحت جهازا للهيمنة ، عبر توظيف المجتمع المدني لمصالح الطبقة المهيمنة بحيث تحقق " هيمنة طبقية اجتماعية على سائر الطبقات والشرائح الاجتماعية وكانها تمثل الجميع " . لذلك تبنى غرامشي منذ البداية شعار تحالف العمال و الفلاحين ، وكان يناصر الجبهة الموحدة الجبهة الموحدة التي طرحها لينين في المؤتمرين الثالث والرابع للاممية في أوائل العشرينات ، ثم ذهب لاحقا ابعد من ذلك حينما طرح ستراتيجية متكاملة لهيمنة بديلة ، تشكل في النهاية تجاوزا لهيمنة الراسمالية والانتقال الى الاشتراكية .
ان براكسس غرامشي او خارطة الطريق او ستراتيجته الجديدة في الهيمنة البديلة ، فرضتها لوحة الاستغلال الراسمالي المتسعة ، فلم تعد الطبقة العاملة الضحية الوحيدة لهذا الاستغلال الذي تجاوز الدولة القومية ، وتجاوز القارة الاوربية الى اخضاع جميع القارات له ، وبذلك دخلت الى حلبة الصراع شعوب وقوى اجتماعية جديدة تشترك موضوعيا مع الطبقة العاملة في كفاحها ضد الراسمالية ، كما ان دخول العلم والتكنولوجيا عنصرا أساسيا من قوى الإنتاج بدأ يحل محل اليد العاملة تدريجيا منذ عشرينات القرن الماضي ، اعطى لمفهوم الطبقة العاملة دلالات جديدة ، وطرح أسئلة حول علاقة العمل البشري المباشر بفائض القيمة . ان دخول ملايين الناس جبهة الداعين الى تجاوز نمط الإنتاج الراسمالي ، طرح معضلة حقيقية امام الثوريين وهي كيفية تنظيم هذا الاتساع العمودي والافقي ضد الراسمالية الموحدة عالميا . في هذه اللحظة التاريخية الموضوعية طرح غرامشي اربع اليات حاسمة في استراتيجيته لخلق هيمنة بديلة ؛ الأولى هي الكتلة التاريخية والثانية هي دور الثقافة والمثقفين العضويين تحديدا في رفع مستوى وعي هذه الكتلة والثالثة هي دور الحزب الثوري كمثقف جمعي في قيادة الكتلة للانقضاض على النظام الراسمالي ، والرابعة هي ماركسية الجماهير كاداة لخلق ثقافة شعبية توحد هذا الامتداد البشري الواسع ضد عدو واحد .
المجتمع السياسي والمجتمع المدني
في دراسته لتاريخ الدولة في اوربا لاحظ غرامشي " ان الهيمنة ظهرت مع نشاة الطبقة البرجوازية بعد الثورة الفرنسية 1789 ، لان الطبقات التي سبقتها " لم تسع الى توسيع دائرتها الطبقية فنيا وايديولوجيا " ، بينما سعت البرجوازية الى استيعاب المجتمع باجمعه وادماجه في مستواها الثقافي والاقتصادي " فانتقل المجتمع من مرحلة الدولة – الكنيسة الى مرحلة الدولة المربية المستندة الى تعزيز دور البنى الفوقية . ان هذا الاستنتاج الذكي واللماح من قبل غرامشي ، شكل الأساس النظري لاستراتيجيته وتكتيكه لاحقا .
نشات الدولة – المجتمع السياسي – " حينما حصل تقسيم العمل الفكري والعمل اليدوي " ، وسعت الدولة الاستغلالية بتشكيلاتها الثلاث العبودية والاقطاعية والراسمالية ، الى ترسيخ وتعميق الهوة بين العمل الفكري كعمل نخبوي يخص مجاميع من المتخصصين يوظفون جهدهم الذهني لخدمة الطبقة المهيمنة ، رغم استقلالهم النسبي عنها في الظاهر ، وعادة يتمتعون بمستوى عيش وموقع اجتماعي افضل من الجماهير الشعبية الكبيرة التي تمتهن العمل اليدوي ، وتستخدم الدولة منظومتها التربوية والقانونية والدينية ووسائل التواصل لتعزيز هذا الانقسام
وتحقق الطبقة البرجوازية السائدة هيمنتها عبر محورين أساسيين ؛ المحور الأول هو المجتمع المدني باعتباره ماكنة أيديولوجية متعددة الأوجه - وان اضطرت - تحقق تلك الهيمنة عبر المحور الثاني وهو المجتمع السياسي ووسائله القمعية متعددة الأوجه أيضا . امام هذا المشهد المحكم ، طرح غرامشي ثلاثيته المعروفة ؛ الكتلة التاريخية والمثقف العضوي والحزب الثوري كادوات لصناعة هيمنة بديلة تحرر الطبقات المسحوقة وتحفزها على تجاوز الراسمالية .
حرب المواقع وحرب الحركة
يشكل هذان المفهومان ركنين أساسيين في منظومة المفاهيم لغرامشي ، لانهما يرتبطان بمفهومي الحرب والثورة ، ويمكن الاستعانة بهما في تحليل الكثير من الاحداث المهمة التي مرت على البشرية ، واستخدم غرامشي هذين المفهومين لفك وازالة الكثير من الغموض حول الكثير من المنعطفات التي مرت بها حركة الطبقة العاملة .
ان مفهوم حرب المواقع يرتبط " بالكفاح الفكري والثقافي الطويل الذي تخوضه الطبقة العاملة ضد الاستغلال الراسمالي ، وهيمنته الفكرية على المجتمعات ، ويشكل " مقدمة لتحقيق تغيير عميق ومستدام " . بينما مفهوم " حرب المناورة " يعني النضال المباشر من اجل الاستيلاء على السلطة السياسية . ان " الانتقال من حرب المواجهة الى حرب الموقع في المجال السياسي هو اهم مسالة نظرية سياسية تم طرحها بعد الحرب العالمية الأولى وتعد من اصعب القضايا حلا .
الحس السليم والحس المشترك
مفهوم الحس السليم عند غرامشي يعني الوعي النقدي ومعرفة الضرورة بينما الحس المشترك يعني العفوية و" غلبة الدوافع الغريزية " والأفكار الجامدة ، لذلك دعا غرامشي الى" المزج بين العفوية والقيادة الواعية كتعبير عن العلاقة الديالكتيكية بين الطبقة العاملة وحزبها الثوري لتحويل الوعي الطبقي الى وعي يستند الى رؤية علمية .
ان العلاقة بين الحس السليم والحس المشترك ترتبط بعمليات الصراع الاجتماعي المحتدمة على الدوام ، ففي الوقت الذي تسعى الحركات الاشتراكية الى تعزيز الحس السليم من خلال تسليح الطبقة العاملة وحلفائها بوعي طبقي يمثل أهدافها ومصالحها ، فان ماكنة الفكر الراسمالي وقواها الاجتماعية بالتقابل تسعى بكل الوسائل لتكريس الحس المشترك الذي يمثل الانشداد الى الماضي و يغلب الفرعيات على المصالح الطبقية الحقيقية .
ان غرامشي سعى الى ان يلعب المثقف العضوي دورا مركزيا ، في عملية الارتقاء بوعي الجماهير المشتتة القلقة ، وتحويلها الى كتلة تعي دورها التاريخي في مقارعة عولمة راس المال . كما دعا الى خلق فلسفة الجماهير الجديدة " ماركسية الجماهير " التي تنتج منظومة قيمية تمكن هذه الجماهير من الهيمنة على المجتمع فكريا واخلاقيا قبل انهيار العلاقات الراسمالية ، وهذا يعني تحويلا جذريا من تبني " الحس المشترك والعام " والفطرة والعفوية الى تبني الفلسفة والوعي نقدي ، اي الى الحس السليم . حيث يلتحم المثقف العضوي بالشعب ويمتزج المنطق بالتاريخ والممارسة بالتنظير .
الخاتمة
منذ صدور البيان الشيوعي قبل مئة وسبعين عاما ، بذل ماركس وكبار المفكرين الاشتراكيين في مختلف البلدان جهودا مضنية من اجل استنباط النظريات السياسية التي تساعد الطبقة العاملة وحلفاءها التاريخيين في كفاحهم من اجل الانتقال من مملكة الضرورة الى مملكة الحرية ، وما احوجنا في عالمنا المعاصر حيث احكمت الراسمالية العالمية باطواقها على رقاب البشرية في كل حدب وصوب ، الى ان نكمل طريق غرامشي ومن سبقوه في البحث عن نظريات سياسية تفتح سبل الخلاص من عولمة الفاقة والاتباع والهيمنة .
المصادر :
كرامشي دفاتر السجن ترجمة فاضل جتكر
النظرية والممارسة كريسي بامبر
المثقف والتغيير د. الشفيع خضر سعيد
تطور مفهوم المجتمع المدني غازي الصوراني
رسائل السجن ج1 ترجمة سعيد بوكرامي
درس غرامشي الطاهر لبيبي
كراسات السجن القسم الثالث قلسفة الممارسة
كراسات السجن القسم الثاني
كراسات السجن كريس هارمان ترجمة اشرف عمر
المجتمع المدني توفيق المديني
دفاتر السجن القسم الأول
شجرة القنفذ ترجمة امارجي
كيفية تغيير العالم هوبسباوم
روسيا بعد ستالين ترجمة مصطفى الفقير
كراسات السجن في الفلسفة
كراسات السجن في فلسفة الممارسة



#فرحان_قاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شبح ماركس
- الاصلاح والثورة في تاريخ الفكر الاشتراكي
- لينين والماركسية .. في الستراتيجية والتكتيك
- اليسار .... المفهوم ..... رؤية في نظرية سياسية موحدة لليسار ...
- دورالفاشية في قطع المنعطفات الثورية
- الماركسية بين تعدد المفاهيم والجذور النظرية
- التحولات التي شهدها العالم في ظل التشكيلة الاقتصادية الاجتما ...
- الثمن الباهظ للاختلاف.. إعادة قراءة تروتسكي
- ملاحظات على مشروع النظام الداخلي الذي سيقدم إلى المؤتمر الحا ...
- رؤية في النظرية والتطبيق على هامش الاحتفال بالذكرى المئوية ل ...
- التحليل الخاطئ والنتائج المعكوسة


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فرحان قاسم - نظرية غرامشي في السياسة وعلاقتها بمنظومته الفكرية