|
مجتمع الأنفال...من الماسآة ألى التوتر النفسي
خالد سليمان
الحوار المتمدن-العدد: 1673 - 2006 / 9 / 14 - 01:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قبل الحديث عن مجتمع الأنفال والآثار النفسية الكارثية التي تركها له نظام صدام حسين، أود الإشارة إلى أن التوتر العصبي في البلدان التي تحكمها الدكتاتوريات والثقافات الطاغية يتخذ شكلاً جماعياً. يعني أن الجملة العصبية للأفراد تتعرض لنوع واحد من الضغط أو لضغوط مشابهة، وتنعدم الحصانة البسيكولوجية بالتالي في ظل وجود سلطة قاهرة أو مآسٍ متكررة أو الخوف من السجون والملاحقات والتعذيب. والموضوع الذي أنا بصدده الآن، أي مجتمع الأنفال، هو عصب توتر جماعي عالٍ لا تسنده أي حصانة نفسية. ذلك أن مقومات بنيته الداخلية تعرضت لصدمات متكررة أفقدته القدرة على التمسك بالأمل والتفاؤل. وأعتمد هنا في بناء تصوراتي حول التوتر في مجتمع الأنفال على زيارات شخصية ومقابلات صحافية مع بقايا المؤنفلين الذين زجت بهم الحكومة العراقية آنئذٍ في مجمعات قسرية من جانب، وعلى تجربتي الشخصية كأحد أعضاء المجتمع ذاته ممن أُنفل نصف عائلته وأقربائه. ورغم أنني لست متخصصاً في التحليل النفسي، لكن المشاهدات اليومية ومعايشة الأنفال منذ عام 1988 والحالات النفسية التي تركتها تلك المأساة في مجالات العلاقات الاجتماعية إذ تسيطر عليها ظاهرة الأرامل واللغة المتقطعة، المقتضبة، وسرد الحكايات والشلل والافتقاد إلى مرتكزات إعادة بناء الذات، تسمح لنا كل هذه العناصر بالاقتراب من نوع جديد من الكتابة وهو الاقتراب من تخوم الصحافة العلمية. كان والدي هو أول من أثار انتباهي حول موضوع التوتر العصبي بعد الأنفال إذ سيطر عليه "وعي الكارثة"، بعدما كان رجلاً هادئاً ومتماسكاً في أصعب الأوقات. ذلك أنه رأى إثنين بين أخوته مع زوجتيهما وأطفالهما يؤنفلان نحو المجهول، وهو لا يستطيع فعل أي شيء سوى استبطان القهر. لقد غيرت الأنفال هدوءه المعتاد وأدخلت توتراً دائماً إلى حياته اليومية وقد توفي بجلطة دماغية بعد مرور الكارثة بأربع سنوات. هناك صدمات تحدث في حياة الإنسان قد تقتصر على الزمن كي تعود الجملة العصبية لوظائفها وتعيد للمرء الراحة السايكولوجية. ويركز علماء الصحة النفسية في مثل هذه الحال على طبيعة الحدث الذي يشكل الصدمة وهي في الغالب تقتصر على حوادث السير وما شابهها في الحياة اليومية. أما الحوادث التي تشكل الصدمة النفسية الأقوى فهي تلك التي تتعلق بالحروب والقتل الجماعي والزلازل والأحداث المأسوية كالـ"هولوكوست" ومجازر الأرمن وتسونامي والأنفال وهيروشيما وحلبجة وتشريد الفلسطينيين إلخ... من الأحداث. بجانب هذه الثانية هناك حالة ثالثة تخلق التوتر وهي الأمراض المستعصية كالسرطان، لكنها ليست خارج السيطرة الداخلية للشخص المصاب، أي أنها تخضع نسبياً لإرادة المريض والبيئة السايكولوجية التي تحيط به أو التي يؤسسها لنفسه. البروفيسور "أوكلاي راي" في جامعة فاندربيلت في تينسي بالولايات المتحدة الأميركية يسأل في سياق بحث عن آثار الأمراض على الجسد "لماذا ينتصر البعض على السرطان بينما يصبح الآخرون ضحيته؟". ويتابع في حوار أجراه معه المحرر العلمي في صحيفة "لودوفوار" الكندية حول التوتر: "إن أفكارنا، أحاسيسنا، إيماننا وأمالنا ليست سوى نشاط كيميائي وكهربائي في الخلايا العصبية لدماغنا. بذلك ومع تغيير أفكارنا نغير الدماغ وبالتالي طبيعتنا البيولوجية ورؤية أجسادنا". والمسألة برأيه هي السلطة الداخلية للمرء وإخضاع الجسد لها، ذلك أن الدماغ هو خط الدفاع الأول عن الجسد. في الحالة الثانية يبقى للصدمة وقع نفسي مؤثر لكنها تؤسس لنفسها وضعاً تاريخياً لإعادة إنتاج التوتر على مستوى فردي واجتماعي إذ يسيطر الحزن والكآبة غالباً على الضحايا أو على الذين وقعوا تحت تأثير الصدمة مباشرة. ولا يمكننا هنا اعتماد نظريات العلم الحديثة التي ترى في النشاط الفيزيكي عاملاً في إعادة الاستقرار النفسي في حياة الإنسان المتوتر، لأن هناك أسباباً كافية وكامنة في حياة أي مصدوم للبقاء في دائرة الكآبة. ولا يتورع البعض منهم عن اتخاذ قرارات صعبة وأكثر مأسوية عما تعرض له في السابق كالانتحار أو الاختفاء أو العودة إلى ذات القرية التي أُنفل فيها ذويه. في هذا السياق أتذكر رجلاً مسناً نجا من الأنفال مع أولاده وزُجّ بهم في مجمع قسري اسمه "الصمود" في منطقة كرميان الواقعة الى الجنوب من مدينة السليمانية. بعد مرور أكثر من عام من الانتظار وفي بيت خالٍ من مستلزمات الحياة اليومية انتحر الرجل المسنّ وترك صغاره في واقع مكبل بالذاكرة المرّة. لقد غدا التوتر في "المجتمع المفقود" ظاهرة تاريخية تعيد إنتاج ذاتها وفق آليات بارانويا مستمرة تمخضت عن صدمة "الأنفال وأبعادها الكارثية التي اقتحمت القوى الداخلية للإنسان بالدرجة الأُولى". والواقع أن انخراط المجتمع المذكور وأفراده في حزن مُحايث لصدمة الماضي التراجيدية ومعطيات تجريده من الحق بالحياة، هو سمة بارزة لمرحلة ما بعد الأنفال إذ تتأصل فيها احتمالات اللاسيطرة على الكآبة. ولو قمنا باستطلاع ميداني بين أفراد هذا المجتمع عن آمالهم المستقبلية نستنج بأن جميع الذين رأوا حيثيات العملية يخشون تكرارها، وهناك بالتالي خوف راهن من شبح الأنفال رغم مرور 17 سنة عليها. التقيت خلال إنجاز كتاب لي عن التراجيديا ذاتها وحكاياتها التي أُستعيدت من زمن مستقطع بعوائل وشهود كثيرة عاشت المأساة بتفاصيلها، وكان السؤال الأبرز في كل تلك اللقاءات هو: هل انتهت الأنفال؟ لقد واجهتُ أثناء لقاءاتي مع الناجين مشكلة الاضطراب الحكائي لديهم، فمنهم من لم يستطع الاستمرار في سرد حكايته مجهشاً بالبكاء ومنهم من اختار الصمت ولا يريد الحديث عما جرى له. "شمس محمد" عاشت أيام المأسآة ورأت سجون "نقرة سلمان" في الجنوب العراقي وهي إمرأة مسنة في عقدها السبعيني لا تحب الحديث عما رأته وهي تعيش في صمت مطلق رغم أنها فقدت اثنين من أبنائها مع عائلتيهما وأربعاً من بناتها. أما "نعمة محمود" التي فقدت زوجها ومات اثنان من أولادها الصغار في "نقرة سلمان"، فتجهش بالبكاء لمجرد تذكيرها بولديها اللذين ماتا في الصحارى وهي لا تتحكم بخيوط أي حكاية عن سيرة الذل. ذلك أن الصدمة التي واجهتها لحظة موت صغيريها دمّرت جهازي اللغة والكلام عندها ولم يتبقَ لديها سوى الدموع والصمت كما في حالة السيدة شمس. إذا اعتمدنا رأي باحثة أميركية هي "إيستر ستيرنبرغ" تعمل في المعهد الوطني للصحة العقلية حول التوتر، فذلك سيساعدنا على فهم آلية الحزن لدى أفراد مجتمع الأنفال. ذلك أن البكاء والدموع أو الصمت أو دفن الأحزان في الأعماق يشير إلى كيفية عمل الجملة العصبية لحظة تذكر الحادثة الأليمة أو المأساة. وتقول ستيرنبرغ في هذا المجال: "عندما يكون الشخص متوتراً تنشط مناطق مختلفة في دماغه وتحرر بالتالي الهرمونات والوسائط الكيميائية التي تؤثر على جهاز المناعة وتقلل من دفاعه ضد الخلايا المهاجمة". وفق هذا الوصف العلمي للعلاقة بين الدماغ والتوتر تخضع هذه النماذج التي ذكرتها هنا لتوتر عالٍ حيث تنشط الخلايا العصبية لديها، ليس وفق التذكر فحسب، بل وفق إنخراط الذاكرة في عملية حفر واسعة في أعماق الألم. السيدة سلمى عزيز بابان تعرضت لعملية تخشّب جسدي في سجن "نقرة سلمان" ذلك أن ابنها "ريبوار" مات بسبب الإسهال الشديد ودفنت جثته على بعد أمتار معدودة من سور السجن. ورأت فيما بعد أرجل ولدها وذراعيه بين أنياب الكلاب. هنا، تتوقف بابان عن الكلام ثم تقول "عندها فقدت عقلي". لم تمت بابان وعادت الى مخيمات الموت بموجب قرار عفوٍ عام أصدرته حكومة البعث حينئذٍ للتعتيم على حجم جريمة الأنفال وعدد الضحايا. ترى هل يمكن أن تهدأ الخلايا العصبية لهذه المرأة وأن تنسى ولو لزمن قصيرة مشاهد إخراجها من القرية وإخفاء زوجها وأولادها أمام عينيها ومن ثم موت صغيرها بين يديها وإعطاء جثته للكلاب؟ قد يتأقلم جسدها مع توترها النفسي العالي والبيئة غير الصحية التي تعيش فيها، لكنها ستظل تعيش حالة فزع مستمرة خلقتها صدمة موت الولد الذي أخرجته الكلاب من قبره بعد فترة قصيرة من دفنه. هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام والتوقف وهي أن النساء والرجال الذين لديهم ثقافة دينية يتمتعون بقدرة أكبر في سرد المهانات التي تعرضوا لها ولا يبدو عليهم الحزن بالشكل الذي نراه عند كل من شمس ونعمة وبابان. كان الدين حصانة نفسية لهؤلاء الناس أثناء الصدمة. شقيق السيدة "نعمة" الذي فقد أخويه ورأى موت أولاد شقيقته، حصّنه إيمانه الكامل بالعقاب الذي سيواجهه المجرمون في الآخرة وساعده على الحفاظ على الجهاز الكلامي، وبالتالي على جمع تلك الحكايات التي يحملها معه. وفي السياق ذاته يمكننا القول بأن المعارف الدينية والثقافية والفلسفية والتاريخية تساعد "المعذبين" وتشكل لهم حصانة مهمة ضد مواجهة الصدمات والسجون والمكابدات الروحية التي يعانونها إثر تعرضهم للإهانة الجسدية والروحية. وعلى هذا المنوال يمكن أن نرى جوانب كثيرة للكآبة وآثار الفزع في حياة هؤلاء الناجين إذ لا يمكنهم الخروج عن دوائر ذاكرتهم المُرتعبة بسبب ما عانوه من الصدمات المتكررة. ولكننا نكتفي ببعض الحالات الحياتية اليومية الأُخرى التي تحدث في المجمعات أو في القرى المُسستَرَدة. ففي صيف عام 2005 وخلال تحقيقاتي عن الموضوع ذاته اكتشفت بأن بقايا المؤنفلين يتعرضون إلى جرعات إضافية من الحزن والكآبة وبشكل خاص بعد سقوط نظام البعث حيث أعلن السقوط ذاته عن عدد كبير من المقابر الجماعية في البلاد وفنّد بالتالي صحة فكرة الانتظار التي طالما ابتغاها المجتمع المذكور كرابط بينه وبين الغائبين. لقد صارت الصدمة المستمرة لدى الناس لعبة الدومينوالتي تجرّ معها صدمات أُخرى متسببة بالشلل والصمت والعزلة والانتحار. في العام ذاته توقف جسد شخص إسمه عدنان صالح عن الحركة وأصابه الشلل بعدما سمع بأن إبنه صدم طفلاً بسيارته وقتله. بعد أيام قليلة توقف جسد شخص آخر عن القيام بوظائفه وذلك في القرية نفسها التي يسكن فيها عدنان وإسمه إبراهيم محمود، وهناك بالطبع حالات كثيرة من هذا النوع حدثت وتحدث في هذا المجتمع المعزول عن بيئته التاريخية من دون وجود أي مؤسسة صحية مختصة بظروف هؤلاء العزل. حاولت أن أدرك خلفيات إصابات الشلل أو العوامل الأُخرى التي أثرت على كل من عدنان وإبراهيم غير حادث السيارة التي قد تكون عاملاً واحداً وحسب، واختصرت أجوبة الأهالي على تلك الآلام العميقة التي تركتها الأنفال رغم مرور ما يقارب عقدين من الزمن على حدوثها. وكان حرص الأهالي في الوقت ذاته هو أن لا يعرف عدنان بما حصل لإبن عمه إبراهيم ذلك أنه قد يؤدي إلى شل الجزء الآخر من جسده وينهي حياته وسينعكس بالتالي على الآخرين. هذا الإدراك العفوي لمخاطرالإصابة بالشلل قد يتحول إلى لعبة دومينو تجرّ معها حالات أُخرى مشابهة من دون أي نصائح طبية ونفسية لهؤلاء العزّل.
#خالد_سليمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عهد الضحية الدائم ...كشف الماضي يقتضي تحرير الذات من المراقب
...
-
غانيات كأس العالم
-
كتاب صدام حسين الأسود - بورتريه واحد للدولة والرئيس والعائلة
...
-
كندا الفرنسية بين أيدي جيلها الجديد
-
هارولد بنتر ...من الغضب إلى الإرتجال الكتابي
-
الديجيتال كمواطن مخلّص لأمن العالم
-
عن الحشرات والصمت ...وجثة مجهولة
-
في وصف العنصرية على الشاشة الصغيرة
-
الموت في سيارات طويلة بلا نوافذ
-
عن المفكر الراحل هادي العلوي - بورتريه تختلف لرجل استعاد لذا
...
-
القومية ...تقاسيم على ذاكرة مشتعلة
-
ثقافتنا وجثث العراق
-
تعليق كُردي على نقاش عربي - الفيدرالية توقظ العروبة من سباته
...
-
لكن لماذا لا يكون - عراق جديد- في كُردستان
-
الأخطاء ، عندما ترتكب باسم القومية
-
صَهيَنَةُ الكُرد ...لماذا؟
-
لماذا لا يصدّق المثقفون العرب ماساة الجارالكردي؟
-
ليلة دفنوا الأكراد...إعترافات حفّار
-
مقبرة الفوانيس لشيركو بيكه س : عندما تشترط المأساة على اللغة
...
-
بورتريه خلفي لمدينة مونتريال...العالم الثالث الكندي الذي لاي
...
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|