في أعقاب ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني في العراق، لجأت بريطانيا الى التخفي وراء واجهة <<وطنية>>، لأن الحكم الاستعماري المباشر يستفز المواطنين ويؤلبهم ضد الغزاة، في حين تكون المتاريس <<الوطنية>> قادرة في بعض الأحيان، على امتصاص النقمة وتأجيل الانفجارات المحتملة.
ولجأت بريطانيا أيضاً الى إعادة النظر بمواقع رجالها، وبالمهمات المنوطة بهم، وبالبؤر التي ساهمت في الثورة وكانت لها فيها ادوار مهمة، لتجتث العناصر الخطرة ولتمنع تكرار المناخات التي تؤدي الى الثورة مرة أخرى.
من جملة المناطق التي اولتها بريطانيا عناية خاصة: البادية الغربية الممتدة على ضفاف الفرات، لكي تؤمن الملاحة لسفنها، وبالتالي السيطرة على المنطقة الوسطى صعوداً حتى الحدود التركية في الجزيرة. وباعتبار ان قبيلة <<زوبع>> الكبيرة تسكن هذه المنطقة، ولأن زعيم هذه القبيلة وعدداً غير قليل من افرادها شاركوا في الثورات والتمردات، فقد جاء الآن الوقت للانتقام وتصفية حساب الماضي من ناحية، ولعدم تكرار مثل هذه المشاركة في المستقبل من ناحية ثانية.
كان من ضمن الوسائل التي اعتمدتها بريطانيا في معاقبة المنطقة وزعمائها ان شددت عليها الحصار، واتهمت الكثير من أفراد زوبع بقطع الطرق، وجعل الملاحة في الفرات صعبة أو مستحيلة، اللهم إلا إذا كانت على شكل قوافل وبحراسة عسكرية مشددة. كما لجأت بريطانيا الى التضييق على الزعماء وعلى الذين شاركوا في الثورة، من خلال زيادة الضرائب أو المطالبة بضرائب سابقة، وفي حال التأخر أو الامتناع عن ادائها ضمن المهل المحددة، كانت بريطانيا تقطع المياه عن أجزاء كثيرة من المنطقة، لإتلاف المحاصيل الزراعية، ولإلحاق أكبر الأذى والخسائر بالسكان وبالثروة الحيوانية، الأمر الذي كان يضطر العديدين الى الرحيل نحو المراعي والمياه، والى العودة من جديد، لحياة البداوة الكاملة.
وإذا كان هناك مواقف لا تحصى لمقاومة السكان للاحتلال البريطاني، والمتاعب التي خلقوها لهذا الاحتلال، فإن الصراع الذي دار بين الشيخ ضاري المحمود، زعيم قبيلة زوبع، والكولونيل لجمان، المسؤول البريطاني السياسي للبادية الغربية، يعتبر مظهراً للإصرار المتبادل بين الطرفين على أن ينهي كل منهما الآخر، ليس من خلال تسجيل النقاط، وانما بالضربة القاضية إذا أمكن!
فالشيخ ضاري الذي شارك في ثورة العشرين، وكان همزة الوصل بين الثورة في الفرات الأوسط والجنوب، وبين المنطقة الوسطى والشمال، كان يمون الثورة بالرجال والسلاح والمؤونة من أجل استمرارها وتحقيق النصر على الغزاة. والإنكليز الذين عانوا الكثير ودفعوا ثمناً غالياً لأن العراق ثار من شماله الى جنوبه، لم ينسوا مواقف اعدائهم، وكانوا يتحينون الفرص لكي ينتقموا منهم، وكان الشيخ ضاري ضمن هؤلاء، خاصة انه مثل التحالف العضوي الوثيق بين السنّة في علاقتهم مع الشيعة في مواجهة الغزاة، وامتزجت الدماء ببعضها لتؤلف صيغة نموذجية للمقاومة الوطنية العامة والشاملة.
أما الكولونيل لجمان، الطرف الثاني في هذا الصراع، فيعتبر واحداً من الرهط المتقدم للجواسيس البريطانيين الذين أموا المنطقة العربية ولعبوا دوراً مميزاً، خاصة في العراق، ولد لجمان في مدينة بتر سفيلد الانكليزية عام 1880، ودرس العلوم العسكرية في كلية ساند هرست، وتخرج منها متفوقاً ليبدأ مغامراته في شتى المستعمرات البريطانية، بدءاً من جنوب افريقيا الى الهند. وبعد ان جال في أماكن عديدة، استهوته البلاد العربية بشكل خاص، فتوقف طويلاً في موانئ الخليج العربي، ولم يترك بلدة عربية في المشرق إلا وزارها. فمن القدس الى حلب الى بيروت فدمشق الى القاهرة، ثم المدن الأصغر مثل دير الزور وطرابلس وصيدا وغيرها الكثير. وفي إحدى زياراته بدأ بتعلم العربية، وكان له مدرسون في معظم المدن التي زارها أو مر بها، وكان لهؤلاء المعلمين أكثر من دور، يتضح ذلك من خلال الخدمات التي كانوا يقدمونها للجمان أو المهمات التي كانوا يقومون بها. ورغم أنه كان موضع شك من قبل السلطات التركية، وخضع لمراقبة <<الخفية>> أي البوليس السري التركي، فقد استطاع أن يموه تحركاته ويواصل مهماته، سواء من حيث تغيير الزي الذي كان يرتديه، أو من خلال المهن التي كان يمارسها.
في عام 1910، وبعد ان غادر كربلاء توغل في الصحراء مسافة 750 ميلاً ثم رجع الى بغداد ليبدأ رحلة الى كردستان والأناضول قاطعاً 1300 ميل، ليعود مجدداً الى فلسطين، و<<ظل هناك وقتاً طويلاً يكتب التقارير عما رآه في جولاته الى قيادة الجيش الهندي ومكتب الاستخبارات، ويحرر المقالات لمجلة الجمعية الجغرافية الملكية>>.
وبعد تطواف واسع وأعمال متعددة أخذ يخدم في دائرة الاستخبارات البريطانية في البصرة متعاوناً مع السير برسي كوكس وولسن وفيلبي <<وكان بين مساعديه عالم الآشوريات المعروف ايس>>.
اشترك لجمان في جميع المعارك التي دارت بين الإنكليز والجيش التركي في العراق، بدءاً من البصرة حتى الموصل. أما بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، فقد تنقل في وظائف وأماكن الى أن أصبح المسؤول السياسي عن البادية الغربية، وفي هذه البادية بدأ النزال بينه وبين الشيخ ضاري.
اذا تركنا كما غير قليل من التفاصيل المتعلقة بنظرة لجمان وموقفه من ضاري المحمود وزوبع خلال الفترات السابقة، فإن الاجتماع الذي عقده لجمان في الرمادي لوجهاء وشيوخ المنطقة، وكان بينهم ضاري، حدد المواقف والاحتمالات بصورة نهائية. ففي الوقت الذي كان لجمان يعزف على الوتر الطائفي ويحاول ان يزرع الانقسام والفرقة، كان الشيخ ضاري ضد هذا الطرح، وقال رأيه بصراحة، كما اشتبك مع لجمان في مناقشة حامية وهو يشجب الروح الطائفية، ويطلب من المجتمعين نبذها، والتشبث بالروح الوطنية الجامعة لأنها وحدها وسيلة النجاح والشرف والارتباط بالوطن.
ترك لجمان شهرا يمر بعد هذا الاجتماع وبعث يطلب من ضاري ان يوافيه الى <<خان النقطة>> وهو مقر عمله، ويقع بين الفلوجة وابو غريب. وضاري الذي اعتذر اكثر من مرة عن تلبية الطلب بحجة المرض ما لبث ان اضطر الى لقائه، وقد حصل هذا اللقاء يوم 12 آب 1920.
وصل ضاري الى خان النقطة قبل وصول لجمان اليه، فقد قضى لجمان ليلته السابقة في بغداد وتناول طعام العشاء مع المس بيل، ومع قادة آخرين، وقد تداولوا في الخطة التي يجب اتباعها مع ضاري.
ما كاد لجمان يصل الى المخفر حتى ادعى انه اضطر الى سلوك طريق غير عادي، نظرا لأن زوبع تقطع الطرق. كان وهو يتحدث مع ضاري يشتم ويتهم بهدف الاستفزاز والتحدي، وكان ضاري يحاول ما استطاع ان يتحمل ويصبر ويوضح، لكن الطرف الآخر يزداد حدة ورفضا. وفي هذه الاثناء وصلت جماعة وهي تصيح وتستنجد معلنة ان البدو قطعوا الطريق وسلبوا المسافرين، فطلب لجمان من القوات الموجودة في المخفر ان تصطحب عددا من رجال ضاري وتتعقب الجناة، ودخل مجددا غرفته ومعه ضاري، واستمر في الإهانة والتأنيب، ووصل الأمر حدود التهديد بالتصفية اذ لم يغير ضاري في سلوكه ومواقفه، وأشار الى ما لحق عددا من الزعماء الوطنيين نتيجة عدم الامتثال لأوامر بريطانيا من نفي وسجن وتشريد. وضاري الذي كان يستمع وينفي اية مسؤولية عما وقع من حوادث، وان زوبع لم تشارك فيها، حاول ان يتجنب الصدام، لكن حين بلغت الإهانات حدا جارحا اقرب الى السباب والشتائم خرج من الغرفة للحظة وأبلغ من بقي من جماعته، وبكلمات قليلة، ان لجمان تجاوز كل الحدود في التعامل معه، وهنا هب اقرباء ضاري وأفراد من جماعته لنجدته.
اطلق ثلاثة من رجال ضاري، ابنه ومعه اثنان، النار على لجمان وأصابوه إصابات بالغة، وحين كان يتخبط بدمائه ولم يمت بعد أجهز عليه ضاري نفسه بالسيف، وهكذا انتهى واحد من اشرس ضباط بريطانيا وأكثرهم دموية وقسوة، وكانت خسارته بنظر قادته ورؤسائه كبيرة لا تعوض.
يقول بعض مؤرخي حياته <<أنه كان جريئا ونشيطا وذا مزاج شاذ يقوده في أغلب الاحوال الى التهور>>، وهو بنظر الانكليز انه ضرب <<بقسط وافر في سياسة بريطانيا على الصعيد العربي أكثر من اي شخص آخر>> ووصفته وزارة الحربية الانكليزية بعد مصرعه <<بأنه رجل أقوى من الصعاب، وانه يستطيع السفر والعيش دونما شوق الى وسائل الراحة التي وفرتها للإنسان حضارة الغرب، وانه كان معتدا بثقافته الاوروبية>>. وتضيف الوزارة المذكورة أنه <<كان قادرا على مشاركة وجدانية في تقاليدها الثابتة، وعلى العيش عيشة عربية بالرغم من تشبثه بتفكيره الخاص>>.
بعد مقتل لجمان بدا واضحا ان المنطقة بأسرها، وزوبع على التحديد، ستتعرض للانتقام، الامر الذي دفع الجميع للاستعداد والى المبادرة لإشغال الانكليز ومن ثم الى إرهاقهم، فتم الاتصال مع القبائل الاخرى والتنسيق معها، والى إحياء الاحلاف القائمة بينها، كما لجأ ثوار زوبع الى قطع الملاحة في نهر الفرات، والى تكبيد السفن التي تمر فيه خسائر فادحة، إذ أغرقوا بعض السفن، والى قتل عدد كبير من أفراد الحاميات الانكليزية، والى نسف أجزاء من السكة الحديدية لمنع وصول الامدادات والنجدات، كما اشتكبت هذه القوات مع القوات الانكليزية في أكثر من موقع. ولعل أبلغ الخسائر وأكثرها تأثيرا سيطرة الثوار على النهر وشل الحركة فيه، مما أعاق حركة الانكليز وجعلهم يحشدون قوات كبيرة لمعاقبة القرى وسكان ضفاف النهر. وبعد جهد وتضحيات كبيرة قدر لبريطانيا ان تحرر سفنها المأسورة وان تنقذ أعدادا من الجنود والبحارة الذين كانوا على متونها، وبدا واضحا ان الكفة أخذت تميل لصالح الانكليز، مما دفع ضاري وعددا كبيرا من المقاتلين الى الاتجاه نحو الشمال، خاصة بعد ان توسع استعمال الطيران وملاحقته للثوار، ووقوع عدة معارك كانت الغلبة في أكثرها للجانب البريطاني، نتيجة التفوق بالاسلحة الحديثة والأعداد الكبيرة من الجنود التي تم حشدها.
في 23 أيلول أمر الفريق هولدن بتوجيه قوة عسكرية كبيرة للقضاء على مقاومة ضاري، فدكت هذه القوة قلعته وقطعت الماء عن مزارعه وأدت الى انكسار الثوار. وفي اليوم التالي احتفل بالفلوجة بالنصر على زوبع وضاري. وبدأ التفكير بالانتقال الى مكان أكثر أمنا، وباعتبار ان زوبع تنتشر على ضفاف الفرات فقد اتجهت الانظار الى جبل سنجار والجزيرة وصولا الى ماردين، وهكذا ارتحل القوم الى هناك.
ورغم ان عفواً عاماً صدر بعد ثورة العشرين، الا انه استثنى ضاري وأولاده وعدداً من زوبع، مما اضطر هؤلاء الى البقاء في الاماكن التي وصلوا اليها، فأقام ضاري في قرية من قرى الجزيرة السورية حتى عام 1927.
تقدم ضاري كثيرا في العمر وتعرض لأمراض عدة، مما أدى الى انهاكه وثقل حركته واضطراره الى مراجعة الأطباء بين فترة وأخرى، وفي احدى هذه المراجعات، وكان يفترض ان يتوجه الى حلب للمعالجة، فقد حمله سائق سيارة الأجرة، الذي كان متواطئا مع الانكليز وعينا على ضاري، حمله بالاتجاه المعاكس وسلمه الى مخفر سنجار، وكان ضاري وحيدا وأعزل ومريضا. فأوقف بضعة أيام في المخفر المذكور ثم نقل بعدها الى بغداد.
في بغداد لم تتح السلطات البريطانية لضاري امكانية المعالجة فأخذت صحته تسوء وتتدهور يوما بعد آخر، ورغم ذلك قدم للمحاكمة، وزعم الطبيب الانكليزي الذي فحصه ان المتهم في وضع صحي يحتمل المحاكمة. وقد جرت المحاكمة فعلا، وقدمت السلطات عددا من الشهود الذين شهدوا ضده، في الوقت الذي امتنعت او اخرت سماع عدد من شهود المتهم، وبعد محاكمة سريعة وشكلية، كان المتهم خلالها في حالة من المرض الشديد والإعياء البالغ، بحيث بدا اقرب الى الغياب عن الوعي، وبالتالي عاجزا عن الدفاع عن نفسه. وصدر الحكم على الشيخ ضاري بالإعدام ثم ما لبث ان خفف الى الاشغال الشاقة المؤبدة.
كان ضاري في الثمانين من العمر لما صدر عليه حكم الاعدام. وفي لحظة وعي قال للقضاة انه على وشك الموت ولا يبالي بأي حكم يصدر عليه، وانه إذا لم يمت الآن، وفي هذا المكان، فسوف يموت غدا وفي السجن. وهذا ما حصل بالفعل، إذ ما كاد يصل الى السجن حتى اشتد مرضه ودخل في غيبوبة.. وبدل ان ينقل الى المستشفى فقد جرى تمريضه وأشرف عليه بعض السجناء خاصة من زوبع، لكن عند الفجر اسلم الروح، وهكذا انقضت حياة واحد من أبرز ثوار العراق في الأول من شباط عام 1928.
ما كاد يعلن الحكم ويصل الى اسماع الجماهير حتى هاجت وتجمع الكثيرون منهم عند مكان المحاكمة ثم بالقرب من السجن. أما عندما أعلن عن وفاة ضاري في اليوم التالي فقد بلغ غضب الجماهير حدا لا يوصف، فتجمع الآلاف وأرادوا انتزاع الجثمان، لكن قوى السلطة حالت بينهم وبين ذلك، بحجة تشريح الجثة ومعرفة أسباب الوفاة! وان السلطة ستلجأ الى نقل الجثمان لمقبرة الشيخ معروف. وبعد أخذ ورد، ومفاوضات شاقة، امكن الوصول الى اتفاق يحفظ الأمن والنظام أثناء التشييع.
كانت جنازة الشيخ ضاري يوما مشهودا في تاريخ العراق الحديث، نظرا لضخامة عدد المشيعين، والحزن الذي خيم على الجميع، والأهازيج المليئة بالتحدي في مواجهة سلطات الاحتلال والدمى التي نصبوها. مرت الجنازة في احياء عديدة، وعبرت النهر الى صوب الكرخ، وصدف ان كان المندوب السامي متجها الى دار الاعتماد حين كانت الجنازة تجتاز الجسر، فاضطر هذا الأخير الى ان يقفل راجعا.
بعد ثلاث ساعات، وهي المدة التي استغرقتها الجنازة الى ان وصلت الى المقبرة، ظلت الجماهير محتشدة ما يزيد على ساعتين لكي تنتهي المراسم. أما من انزل الجثمان الى القبر فقد كان تلاميذ المدارس، صغار السن، الذين اصروا على ذلك، واستجاب لهم الكبار، وكانت الدموع تنحدر على الوجوه وهلاهل النساء تملأ الفضاء، وكانت الأهزوجة التي تتردد كالرعد هي:
<<عاينوله للكاتل لجمن
هز لندن ضاري وبكاها
منصورة يا ثورة ضاري
ساعة ومضمومة يا لندن
الدنيا غدارة يا ابن العم
نام هنيه يا كاتل لجمن
يا شيخ اتهنه بها النومة>>
وهكذا انتهت احدى الصفحات المضيئة في تاريخ العراق الحديث، وهناك مثلها الكثير، لكنها وحدها تتصدر الآن، خاصة بعد الدم الغزير الذي نزف في الفلوجة أثناء مقاومة المحتلين الجدد، وقالت لهم الضحايا بالفم الملآن: ان دماء ضاري لا تزال تتواصل في عروق أبناء العراق، وان الشعب الذي هزم المحتلين الانكليز سوف يهزم المحتلين الأميركان، وما أشبه الليلة بالبارحة!
...
السفير