اوردت بعض التقارير الاخبارية المتفرقة من بعض المدن العراقية وعلى وجه الخصوص مدينتي بغداد والبصرة محاولة جماعات اسلامية التدخل في شؤون المواطنين الخاصة من فرض ارتداء الحجاب واطلاق اللحى وغيرها من ممارسات تؤشر لمحاولة هذه الجماعة او الجماعات الى السيطرة على مجريات الحياة السياسية والادارية مستغلة الظرف الاستثنائي من غياب للسلطات والفوضى والفراغ السياسي. ويصعب توصيف هذه الممارسات في الواقع بانها فردية ومنعزلة في حال امكان ربطها مع مجموعة من الحوادث والممارسات لتيار سياسي بعينه هو مايسمى بتيار الصدر الذي استفاد من الزخم الشيعي حين برز الى العلن وباندفاعة قوية بعد سقوط النظام الفاشي فصّعد من نبرة طروحاته الايدلوجية والسياسية ان على الصعيد الوطني اوعلى صعيد الطائفة والحوزة من اجل بسط سيطرته والامساك بمقابض الاوضاع مستبقا كل الاحتمالات والممكنات المفتوحة امام المجتمع وقواه السياسية والفكرية وقاطعا الطريق على اي بلورة جدية لبديل يقدم الديمقراطية بصيغتها التعددية من اجل مشروعه الضيق في فرض دولة اسلامية او نظام ذا توجه اسلامي متشدد. وقد ابتدأ هذا التيار نشاطه المتشدد منذ اللحظة الاولى التي طُرحت فيها امكانية زوال خيوط السيطرة على الاوضاع من يده بقدوم الرجل المقرب من الدوائر الامريكية والبريطانية وصاحب الحضوة الاكبر في اداء دور لتعبئة الشيعة حوله، الى العراق، وهو السيد عبدالمجيد الخوئي المعتمد على الدعم الامريكي اولا وعلى خلفياته كاحد ابناء قائد المرجعية الراحل السيد ابو القاسم الخوئي ولعلاقته الطيبة مع قيادة المرجعية الحالية للسيد علي السيستاني ثانيا. فبادرت هذه الجماعة التي يقودها السيد مقتدى الصدر، وبطريقة تحمل اكثر من دلالة، على تصفية السيد عبدالمجيد ليشكل هذا الحدث رسالة غاضبة الى كل خصوم السيد مقتدى قائد التيار الصدري في الوسط الشيعي والى المجتمع باجمعه حيث ستلي الاغتيال سلسلة تحركات اشرت لهذا التوجه من محاصرة بيت السيد السيستاني ومحاولة ابعاده < فانقذ الموقف باستنجاده بالعشائر لحمايته> الى تحشيد المظاهرات المطالبة بفرض الحوزة ممثلا وحيدا للشيعة، والالحاح والضغط على السيد الحائري للعودة بالتلميح
< الى ان من لاياتي عند الحاجة له لاحاجة له!> الى اعلان السيد مقتدى انه الممثل الوحيد للحوزة والناطق باسمها، الى تطبيق سياسة السيطرة على المرافق الحيوية في بعض المناطق لسد فراغ السلطات الخدمية< كالمستشفيات> ليس فقط من اجل تامين حاجات ومصالح الناس بقدر ما هو معبر للسيطرة السياسية، وصولا الى ماقام به احد الشيوخ المحسوبين على التيار< محمد الفرطوسي> في خطبة الجمعة بالتهديد لمن لايستجيب لاوامره بالعقوبة< اقامة الحد حسب تعبيره> واخيرا وليس اخرا حرقهم لمصنع البيرة وقتل بعض ابناء الديانة المسيحية بسبب تجارتهم بالخمور، وان لم تثبت مسؤوليتهم عن الحادث الاخير الا ان طريقته تشي بتلك المسؤولية.
بات من المعروف ان للتيار السياسي الديني بقواه الاساسية مطامح مشهرة في اقامة دولة اسلامية ، وهذه القناعة والمسعى مبثوث في الكثير من مصادرهم الفكرية والايدلوجية< عدا استثناءات محدودة> وهي معروفة ومعلنة، وتيار الصدر هو من بين ابرز التيارات الطامحة لهذا المشروع باعتباره تيارا يدعوا الى تدخل الدين في السياسة < الحوزة الناطقة> والى تدخل رجال الدين بالشان السياسي.
لكن مايستوقفنا هنا هو الاوليات التي اقام عليها هذا التيار مقدمات تنفيذ مشروعه هذا وبالتالي المخاطر التي يؤدي اليها الاندفاع الخاطئ وراء هكذا تطلعات عليه اولا وعلى مستقبل الديمقراطية باعتبارها صمام امان لحياة سياسية ناضجة ومستقرة وفعالة ثانيا ومايؤدي اليه تجاوزها< الديمقراطية> او اجهاض مقومات قيامها من تخريب للحياة السياسية ومن تهديد للامن الاجتماعي ثالثا.
بنت هذه الاوليات، التي استوحى هذا التيار اوهام دوره وحجمه وبالتالي دفعه لتقديم مشروعه في حكم اسلامي- شيعي على خلفيات المتغيرات التي فرضتها طبيعة وممارسات النظام البعثي البائد. فقد مارس هذا النظام اقسى اشكال الكبت والضغط والقهر الاجتماعي والسياسي والمعنوي على ابناء الشعب العراقي وقام بشكل مكثف وعنيف، خلال مايزيد على العقدين الاخيرين من عمره بمصادرة كل اشكال الوجود السياسي وقمع بعنف كل نشاط سياسي معارض مما ادى الى فراغ كبير في الساحة السياسية. ومع قيام الثورة الايرانية ونشرها لفكر الثورة الاسلامية بطابع عالمي شامل يمكن تعميمه وتصديره، وشن النظام لحربه عليها، ولارتباط التيارات الاسلامية بايران من جهة ولضرب ايران على الوتر الطائفي من جهة اخرى، دفعت النظام، بعنجهيته وغروره المعهودين، لمصادرة ليس فقط الحقوق السياسية لابناء الشيعة الذين يعانون اصلا من الشعور بالغبن والتهميش، وانما حتى حق الممارسات الرمزية والشعائرية. فنشات بسبب ذلك ومعه ازمة وطنية شاملة بنفس طائفي واضح. وما ان قامت ازمة احتلال الكويت وتفجر الانتفاضة وقمع النظام الهمجي لها حتى قامت حواجز لايمكن تجاوزها وتحددت العلاقة بشكل نهائي بين النظام من جهة وابناء الشعب من جهة اخرى. وللاسباب التي اشرت لها توا اصطبغ هذا الصراع ومزاج المعارضة الشعبية بنفس شيعي طائفي وليس ديني. فشعور الغبن والضيم الذي لحق بابناء الشيعة من جراء ممارسات النظام دفع حتى من ليس له ميولا دينية صافية بالتحزب شيعيا ضد النظام.
وسط هذا التاجج من جهة والفراغ السياسي الناتج عن القمع الشامل قامت حركة الصدر الثاني باتباع السيد محمد صادق الصدر لاسلوب مواجهة ذكي جدا وفعال استطاع ان يخترق الموانع التي اقامها النظام مستثمرا نوع من التراجع في قدرات هذا النظام فاستطاع ان يلف من حوله الكتلة الشيعية بكل تفاصيلها لاسيما بعد الخلاف الذي نشا بين تياره وتيار السيد الحكيم المرتبط بايران. واثمر هذا الجهد التفافا اكبر حول تيار الصدر وتاييدا اوسع له بعد اغتيال النظام للسيد الصدر وولديه في عام 1999.
هذه العوامل، كما ارى، هي التي وراء هذا الاعتداد بالنفس الناشئ لدى هذا التيار ونزعة الغضب والتحدي التي صبغت اداءه بعد سقوط النظام.
لكن الظروف التي نشا بها هذا التيار هي ظروف شاذة لايعتد بها ولايقاس عليها وتغير هذه الظروف بعد سقوط النظام سيقدم معطيات لامكانات مختلفة وحراك سياسي واجتماعي متنوع وسيتاح المجال لبروز قوى متعددة ومختلفة سواء داخل التيار الديني او التيارات الوطنية العلمانية الاخرى. وستحد الظروف المستجدة من زخم اندفاعة هذا التيار المتشدد. ويستوجب، برايي، ان يمارس هذا التيار، او اي تيار اخر تحدوه امال او اوهام بتسيد الساحة السياسية، نوع من العقلانية في رسم خطواته بما يتناسب مع ممكنات الواقع ومن غير القفز على اولوياته في تفهم وقبول الاخر المختلف اجتماعيا وسياسيا لكي لايؤدي اي نهج او اندفاع مغامر الى جلب الاذى للنفس اولا وتقويض او عرقلة المطامح العامة والمشتركة لفئات المجتمع العراقي في بناء النظام السياسي التعددي.
قد يحاول البعض الارتكاز على هذه المكونات الرجراجة بسبب انعدام الاستقرار ووضوح مالات الوضع فيعتبر ان هذا المعطى المتحرك كاف للتاكد من اتساع وعمق الرابطة بينه وبين الشارع السياسي فيقدم نفسه بديلا شاملا عن الاخرين. وهذا ماتوحي به تحركات وشعارات التيار الصدري، وعندها سيجد من يحمل هذه الدعاوى نفسه وجها لوجه امام تحد صعب متمثل بالوجود الامريكي، وهو حاجز صعب ومحدد لسقف الوجود السياسي ولايمكن تجاوزه او اختراقه بحركة خاطفة- في المرحلة الانية على اقل تقدير- كما يمكن التوهم، فمن غير المعقول او الممكن ان تتنازل امريكا عن كامل مشروعها الذي يشكل وجودها في العراق احدى اهم محاوره او حلقاته الى قوى لاتمثل مصالحها ولاتحميها، بل اكثر تشكل خطرا ملموسا عليها. وعند بروز هذا التناقض فان الامريكان سيدعمون الجهة التي تلبي مطامحهم وسيمكنونها من التحكم بالامور او في اسوا الاحتمالات تقوم بتقويض التجربة كاملة بفرض نظام استبدادي يقمع الجميع. ولايجب ان ننسى ان لامريكا قدرات كبيرة للتحكم في الوضع العراقي الان وفي المستقبل القريب. وعندها ستتقوض كل المشاريع الوطنية ويبقى فقط المشروع الامريكي بشرعية الخراب الذاتي الذي نلحقه بانفسنا جراء الممارسات الخاطئة.
مااريد استخلاصه هو ان الوصول الشرعي لمواقع القرار السياسي الفاعل والمؤثر في حياة المجتمع لاياتي في حركة خاطفة وانما يتشكل وينمو بهدوء وصبر وعبر مراحل تحول وتطور طبيعية وسط مناخ ملائم ليقدم التكافؤ في الفرص للجميع وحينها ستفرز الظروف دور ومكانة صاحب الموقف والرؤية الاسلم والاقرب الى تطلعات الناس.
ختاما اقول ان القفز على مايفرضه الواقع ومحاولة لي عنق الوقائع وحرق المراحل للوصول الى اهداف فئوية ذات افق ضيق على حساب المشروع الوطني الطامح لبناء الديمقراطية التعددية سيؤدي الى خراب شامل يؤذي الجميع واولهم اصحاب هذه التطلعات.
مطلوب رؤية عقلانية متروية للواقع تراه كما هو في حقيقته ولاتسقط رغباتها واوهامها عليه، وان حسابات اللحظة السياسية هي اعقد واوسع من لحظة الفورات وردات الفعل .
والحياة شاهد!
21-05-2003