سعد الشديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1673 - 2006 / 9 / 14 - 00:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بدءاً وكي لا يقع القارئ في سوء فهمٍ لا داعي له فأنا من دعاة الفيدرالية. وكنت مع مجموعةٍ من المثقـفين العراقيين من اوائل الذين دعوا الى تبني نظام الحكم الفيدرالي في بلدنا مباشرةً بعد سقوط النظام الفاشي في بغداد.
كانت دعوتنا في بدايتها تنصبُّ على التعريف بتفاصيل النظام الفيدرالي. ذلك ان هذا المفهوم كان غريباً على العراقيين الذين نجح النظام الشمولي الصدّامي في تغييبهم عن ساحة العمل السياسي ونشر ثقافة احادية الجانب بينهم عن طريق قنواته الأعلامية التي دأبت على نشر ثقافة قوموية شوفينية منغلقة قمعت كل التيارات الفكرية بدءاً بتلك القريبة منه من الناحية العقائدية وصولاً الى التنكيل بالتيارات والأحزاب من الأتجاهات الأخرى حتى تلك التي تحالفت معه وعقدت نيتّها على الأخلاص له.
وبناءاً على ذلك كانت الدعوة لتبني الفيدرالية كنظامٍ يضمن حقوق الأقاليم التي اعتقدنا انها ستتشكل على اساسٍ من الولاء للوطن وتُقاد من قبل ابناء تلك الأقاليم نفسها. لقد اردنا بذلك عدم تكرار مآسي ومهازل الماضي, وكان من اهدافنا الرئيسية نشر مبادئ النظام الفيدرالي وأسسه كأسلوب من اساليب متعددة لضمان حصول المجموعات الأثنية في العراق على حقوقها الأقتصادية والثقافية والدينية وكذلك للحيلولة دون تسلط ديكتاتور جديد يرتقي سدة الحكم, بأرادة الشعب او عن طريق الأنقلاب العسكري, من التحكم بوطن بأكمله.
كانت الظروف السياسية آنذاك مختلفةً عما آلت اليه اليوم. فلم يكن الأستقطاب الطائفي قد وصل الى مرحلة الطوفان المدمر. ولم تكن الساحة السياسية قد امتلأت بعد بهذا الكم الهائل من الميليشيات المسلّحة التي اصبحت تتحكم بالوضع السياسي بناءاً على امزجة قياداتها ومصالحهم الشخصية والطائفية والمناطقية والعنصرية. كما لم تكن الدول المحيطة بالعراق قد بدأت لعبة التدخل المكشوف في شؤون بلادنا عن طريق التحكم بالأحزاب والميليشيات وضخ مئات الملايين من الدولارات لكسب الأعوان والعملاء وتجييش الميليشيات وتجهيزها بأحدث الأسلحة. كان الوضع في العراق مفتوحاً على آفاقٍ لا نهاية لها. واعتقدنا, وربما كنّا على خطأ في ذلك, بأن دماء شهداء الشعب العراقي ونضال المناضلين والمجاهدين من ابناء العراق عبر السنين سيخلقُ بستاناً عراقياً يتسعّ لآلاف الزهور.
ثم جاءت نتائج الأنتخابات الأولى والثانية لتجعل من الوطن دولاً طائفية وعنصرية يطالب فيها الجميع بحقوقه على حساب المجموعات الأثنية الأخرى. واشتدت مضاربات الكتل السياسية التي اصبحت بين يومٍ وليلة منابر للطائفية والعنصرية الأنعزالية المقيتة. ولم يعد سرّاً ان دول الجوار, خصوصاً تلك التي اعادت حساباتها بسرعة مذهلة مستغلةً الفراغ الأمني والسياسي في عموم العراق, قد اصبحت هي المتحكمة بثوابت العملية السياسية عن طريق طابور خامس على درجة عالية من التنظيم والتأهيل.
وكان من الواضح ايضاً ان للولايات المتحدة الأمريكية اصبعاً, ان لم يكن يداً, فيما حدث. فبروز القوى الطائفية وبهذه القوة لم يكن ليحدث لو لا تغاضي قوات الأحتلال المتعددة الجنسية عن ممارسات القوى التي كانت تهدف اساساً الى اثارة طائفة ضد اخرى ولأسباب سياسية بحتة. والسماح لدول الجوار بتمويل وتسليح المئات بل الآلاف من العراقيين العاطلين عن العمل في مجموعات مسلحة بدأت بعمليات تصفيات ثأرية بين الطائفتين الرئيسيتين في العراق وامتدت فيما بعد لتشمل اتباع الطوائف والديانات الأخرى. كلّ هذا وقوات الأحتلال المتعددة الجنسية تقف على التـلّ ولا تنوي ان تحرك ساكناً لضبط الأوضاع الأمنية ومنع المتسللين عبر الحدود وكبح جماح دول الجوار التي عملت دونما كلل على تجنيد العملاء والمتعاونين تحت سمع ومرأى الأمريكان والبريطانيين.
وفي هذا المناخٍ السياسي الذي تفوح منه رائحة الدمّ والتشرذم والأنعزالية وصيحات الثأر وتدّخل دول الجوار في الشأن العراقي الداخلي يطرح الأئتلاف الشيعي برنامجه للفيدرالية على البرلمان العراقي للمصادقة عليه. وعلينا ان نتسائل عن فحوى هذا المشروع واهدافه ومستقبله.
لم يكن بوسع احد ان يتوجه باللوم أو النقد الى الأئتلاف الشيعي لو طرح مشروعه في ظروف أمنية وسياسية طبيعية. فالوضع ليس على كفّ عفريت واحد فحسب بل على أكف المئات من العفاريت التي لو اشتعلت الحرب فيما بينها فلن يبق من العراق ذرة تراب واحدة. والمشروع الأمريكي لبناء شرق اوسط جديد يسير بخطى حثيثة. والخرائط التي تظهر كل يوم لتحددّ ملامح ذلك الشرق الأوسط الجديد او الكبير تقول بما لا يقبل الشكّ بأن الأمريكيين يعملون بجدّ لتفتيت دول المنطقة الى دويلات ذات ملامح عنصرية وطائفية ودينية.
قد لا يكون ذلك سهل المنال في هذه المرحلة ولكنّ شرقهم الأوسط الجديد ذو الدويلات العنصرية والطائفية قادمٌ بلا ريب اذا ما تراخت القوى السياسية في بلدان هذه المنطقة واستمرت في التأسيس لمشاريعها الخاصة دون النظر الى الأخطار المحدقة بالمنطقةِ بأسرها. فهل يريد الأئتلاف الشيعي ان يكون جزءاً من هذه اللعبة والأستمراربطرح مظلوميات طائفته, التي تمتد لأكثر من اربعة عشر قرناً من الزمان, على الملأ للحصول على دولته الخاصة التي حرمهم منها الأمويون والعباسيون ومن كان قبلهم ومن جاء بعدهم؟ لا يستطيع العاقل ان يصدق ان مشروع فيدرالية وسط وجنوب العراق هو مجرد مشروع برئ للحصول على حقوق الشيعة في العراق. ذلك ان النظام الديمقراطي يضمن عن طريق آليات مختلفة وأكيدة حق كل مواطن دون النظر الى قوميته او طائفته أو دينه أو انتمائه الآيديولوجي. واذا كانت الأحزاب الشيعية قد اصبحت الآن في صدارة الحركة السياسية العراقية وحصلت على حقها في ان يكون احد قادتها رئيساً للوزراء له من الصلاحيات الدستورية ما يجعله القائد الفعلي للعراق, فلماذا تثير القيادات الشيعية المخاوف من الطوائف الأخرى وتحاول الأنعزال في منطقة خاصة بها بعيداً عن الآخرين؟ لقد اصبح لشيعة العراق اليوم مكاناً بارزاً في العملية السياسية, وحصلوا على اهم المناصب القيادية, فلماذا الأستمرار بالتلويح بعودة الماضي ومآسيه؟ من الممكن جداً, من الناحية العملية, عودة نظام شبيه بنظام صدام حسين. ولكن ما هو دور هذه القيادات وأحزابها في منع حدوث ذلك؟ يبدو ان الحل الوحيد الذي تؤمن به هذه القيادات هو تأسيس مناطق منعزلة عن بعضها يصعب على اي حكومة, مركزية, ان تسيطر عليها اذا ما عزمت على ذلك. ويبدو واضحاً ان تلك القيادات لا تؤمن بقوة العملية الديمقراطية لمنع صعود دكتاتور جديد من طراز صدام حسين. ولكن, بحق السماء, ما هي الضمانات التي تستطيع هذه القيادات اعطاءها لأبناء اقليم الوسط والجنوب بعدم صعود صدام حسين جديد في الوسط والجنوب ليقيم نظاماً ديكتاتورياً في الأقليم نفسه؟ من المؤكد ان لا ضمان للحيلولة دون حدوث ذلك إلا عن طريق تعميق سيادة النظام الديمقراطي في الوطن بكامله. ان استمرار العملية الديمقراطية وعلى اسس متينة هي الضمان الوحيد لعدم تكرار المقابر الجماعية وقمع المواطنين ومصادرة الحريات وتهديد دول الجوار واحتلالها قسراً وغيلةً.
الفيدرالية في حقيقة الأمر آلية واحدة من آليات محاصرةِ الممارسات الديكتاتورية ووأدها في مهدها اذا ما ظهرت بوادرها. وهي وسيلة وليست غاية كما يعتقد السادة من قادة الأئتلاف الشيعي.
نعرف جيداً ان أكراد العراق يطالبون بالفيدرالية لضمان انفصالهم عن العراق في الوقت المناسب في مستقبلٍ قد لايكون بعيداً. فهل يعدّ الأئتلاف الشيعي عدتّه ويثير موضوع الفيدرالية منتظراً اشارة المراجع العظام في دول الجوار للأنفصال في الوقت المناسب ايضاً؟ وإلا فلماذا يتمّ طرح الموضوع في ظروف لم يشهد العراق مثلها حتى إبان الغزو المغولي لأراضيه؟ هل يعي السادة من قادة الأئتلاف الشيعي خطورة طرح هذا الموضوع على مائدة البحث في وقت ٍ تتوجه مئات السكاكين لتقّطع اوصال وطنٍ جريحٍ, ما زال يخطو خطواته الأولى نحو النجاة والعافية, بعد عقودٍ من الحروب المدمرة والقمع اليومي الذي يعرفه السادة من قادة الأئتلاف الشيعي وكانوا من أوائل ضحاياه؟
ما كان لأي مواطن عراقيّ الحقّ في ان يضع علامات الأستفهام أو التعجب على مشروع الفيدرالية هذا لو كان الأئتلاف الشيعي, الذي يسيطر عملياً على النواحي السياسية والأمنية في مناطق الوسط والجنوب, لو كان اثبت قدرته على قيادته لتلك المناطق وبدأ بعمليات اعادة البناء على سبيل المثال. فبعد مرور اكثر من ثلاث سنوات لم يقم الأئتلاف الشيعي بأعادة تأهيل البنى التحتية في مناطق الوسط والجنوب ليضرب مثلاً واضحاً على قدرة قياداته وعلى طموحه وبرنامجه لتأسيس اقليم يتمتع بالرخاء الأقتصادي والأمن والأمان ويوفر الخدمات الضرورية لمواطنيه.
كان عليهم على الأقل ان يعملوا لوقف الفساد, المستشري حتى العظم, في دوائر الدولة في مدن الوسط والجنوب. كان عليهم ان ينشروا الأمن في مدن تسيطر عليها ميليشيات الأحزاب التابعة لهم. فما زال ابناء مدن الناصرية والعمارة والبصرة والنجف والديوانية وكربلاء والحلة يعانون من انعدام الأمن. ففي كل يوم يُختطَف اكثر من عشرين طفلاً في مدن وسط وجنوب العراق من قبل عصابات اجرامية تعمل في وضح النهارولم تستطع هذه الأحزاب السيطرة على ذلك لا عن طريق ميليشياتها ولا عن طريق قوات الجيش والشرطة المتكونة بأغلبها من اعضاء ومناصري احزاب الأئتلاف الشيعي. ومازالت الخدمات البلدية معدومة بشكل شبه كامل, وتحولت مدن الوسط والجنوب الى تجمعات للقمامة والمياه الآسنة.
بعد كل هذا كيف يريد قادة الأئتلاف الشيعي ان نساندهم في طرحهم مشروع فيدرالية الوسط والجنوب؟
سؤال أخير للسادة قادة الأئتلاف الشيعي: الفيدرالية حق تطالب به الأقلية عادةً لضمان عدم وقوع اي حيف أو ظلم عليها من قبل الأكثرية. وهذا ينطبق على الأكراد والتركمان والكلدوآشوريين مثلاُ. فلماذا يطالب به الشيعة وهم الأكثرية في العراق الديمقراطي؟ اليس ذلك غريباً ايهاالسادة؟ أم ان ارقام النتائج الأنتخابية ليست ذات قيمة برأيكم ولا تمثل الواقع السياسي والسكاني؟ ولماذا تجعلوننا, نحن الشيعة ننظر لأنفسنا على اننا اقلية في وطن تعدادنا فيه اكثر من 60 % من عدد سكانه؟ الم يحن الوقت لندوس بأحذيتنا على عقدة الأقلية الخائفة وننطلق, مع جميع الطوائف والأعراق المكونة لشعبنا العراقي ممن يريدون البقاء جزءاً منه, لبناء عراق تعددي ديمقراطي متحضر؟ أم ان ذلك ليس من صميم أهداف الأئتلاف الشيعيّ اصلاً؟
#سعد_الشديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟