|
تغليب الانتماء الطائفي وتغييب الولاء الوطني ( القسم الثاني)
ثامر عباس
الحوار المتمدن-العدد: 7236 - 2022 / 5 / 2 - 17:14
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
القسم الثاني : تغليب الانتماء الطائفي وتغييب الولاء الوطني
بداية نشير إلى أن حالة الانتماء التي يكون عليها الفرد أو الجماعة ، لاتستولد بشكل تلقائي الإحساس بغبطة الولاء الذي يمحضانه لهذا الحزب أو تلك الطائفة في لاحق نشاطهما السياسي أو الاجتماعي ، برغم إن حقيقة الأول سابقة على الثاني ومتقدمة عليه من منظور أنثروبولوجي محض . إذ إن واقعة الانتماء تعبر عن معطى تأريخي ينسم بطابع الضرورة الاجتماعية / الموضوعية . في حين إن ظاهرة الولاء تعبر عن معطى حضاري يشي بطابع الاختيار الفردي / الذاتي . فالإنسان ، وفقا" لذلك ، لا يختار طبيعة المجتمع الذي يولد فيه ، أو نوع القومية التي ينتمي إليها ، أو نمط الدين الذي يؤمن به . بيد إن انخراطه في حزب سياسي أو انتسابه إلى منظمة اجتماعية أو ضلوعه بنشاط جمعية ثقافية ، يأتي في سياق اختياره الذاتي ورغبته الشخصية ، بعد أن يعتقد / أو يقتنع بأن تلك الأنشطة يمكنها أن تلبي جزء من طموحاته ، وتنسجم مع بعض ميوله وتطلعاته . وهذه الحقيقية أعطت للباحث العربي ( ناصيف نصار ) المسوغ المنطقي لأن يقول في أحد كتبه ما نصه : (( إن الفرد ، من حيث هو عضو في طائفة ، موجود إذن في كيان يحيط به من جميع الجهات . وهذه الاحاطة الشاملة مفروضة عليه بصفة كيانية غير قابلة للنقاش . فهو ( الابن ) للطائفة كما هو الابن للعائلة )) . على إن هذا الفصل النظري والتمييز الافتراضي لا يتبغي أن يقودنا إلى تفسير ظاهرة الولاء للوطن أو الأمة ، على سبيل المثال ، وكأنها تتعارض مع واقعة الانتماء للطائفة أو للعشيرة . فالذي لا يحسن تقدير روابط انتمائه الطائفي أو القبلي ، ويدرك حدود كل منهما بالنسبة لعلاقاته الاجتماعية ، لا يستطيع أن يثمن قيمة ولائه الوطني ويستشعر أهميته في إطار بلورة هويته السياسية . وبالعكس فان الذي يسهل عليه التفريط بفروض ولائه الوطني والتخلي عن رموز ثوابته ، لا يمكن أن يضمر الاحترام لطقوس انتمائه الطائفي أو انتسابه العشائري . هذا من ناحية ، أما من الناحية الثانية ، فان الحديث عن ضرورات ارتباط الولاء بالوطن وواقيعة الانتماء للطائفة ، لايعني إن المشاعر الوطنية تنبعث في وجدان المواطن من العدم بغير مقدمات تتداخل فيها الاعتبارات المادية والمعنوية ، للتفصح عن مغزى تعلقه بأصوله العضوية على خلفية رواسب التأريخ والاجتماع والثقافة والدين ، باعتبار إن (( التماهي مع الطبيعة – كما يقول عالم النفس الأمريكي اريك فروم - مع العشيرة ، مع الدين يعطي الفرد شعورا" بالأمان . فهو ينتمي إلى كلّ منظم ، ويشعر بجذوره فيه ، ويعرف إن له فيه مكانا" أكيدا" . قد يشعر بالجوع والحرمان ، ولكن لن يبتلى بأسوأ أنواع الأوجاع وهي العزلة الكلية والشك )) . كما إن إعلان المرء عن تمسكه بأعراف انتمائه الطائفي وإذعانه للالتزام بها ، لايعني التنصل عن الولاء أو التخلي عن ثوابت الهوية السياسية للوطن الواحد . والواقع إن التجربة التأريخية لمجتمعات العالم الإسلامي بشكل عام ونظيرها العالم العربي على وجه الخصوص ، تشير إلى إن هناك مجموعة من العناصر السوسيولوجية والمكونات السيكولوجية ، تنتظم فيما بينها – عند حصول الأزمات الاجتماعية الحادة التي تستهدف البنية التحتية للشخصية الوطنية – على وفق آليات معينة من المدخلات القيمية والمخرجات السلوكية ، لتشكل معادلة حضارية غاية في التعقيد والحساسية ، تتكون أطرافها من مخلفات الانتماء الطائفي وما يترتب عليه من جهة ، ومحددات الولاء الوطني وما يستلزمه من جهة أخرى ، بحيث إن أي تغيير يطرأ على محمولات هذا الطرف أو ذاك ، دون أن يفطن إلى حسابه بدقة ومراقبته بانتباه ، فان مردوده السلبي سيكون كارثيا" ليس فقط على سلامة الوحدة الوطنية المجسدة للعلاقات الاجتماعية القائمة على أساس قيم التعايش ومعايير التضايف فحسب ، وإنما على توافق الانتماءات الفرعية بكل أنماطها الطائفية والقبلية والأثنية أيضا" . لاسيما وان التداخل بين الحدود والاختلاط بين الفواصل بات من الصعوبة بمكان فصلها أو عزلها الواحدة عن الأخرى دون أضرار سياسية ومضاعفات اجتماعية وإشكالات ثقافية . ولأغراض الدراسة المقارنة يمكننا اتخاذ المجتمع العراقي كحالة عيانية ملموسة ، بعد أن أرهقت كيانه الحروب العبثية ، ومزقت نسيجه السياسات الهمجية ، للقدر الذي لم يكن بوسع منظماته المدنية أن تبادر إلى تأسيس هوية وطنية عامة تكون بمثابة القاعدة / المرجعية لكافة أطيافه وتياراته ، وبالتالي تتيح للجميع فرص الارتقاء بوعيهم التقليدي إلى مستوى إدراك ولائهم الوطني الموحد ، الأمر الذي دفع بكل فرد عراقي إلى تلمس سبيل خلاصه بنفسه والبحث حقيقة وجوده بمفرده . ولهذا كانت المؤسسات الطائفية والقبلية – برغم عجزها عن بلورة مبدأ المواطنة ، فضلا عن تقاطعها مع قيم المجتمع المدني – هي الملاذ الوحيد والملجأ الأخير التي تؤمن له حاجاته المادية كشخص وتعزز ثقته بنفسه كمواطن ، مما أستتبع أن تهيمن في وعيه قيم الماضي على قيم الحاضر ، وتستبعد هموم الحاضر ازاء انشغالات الماضي . وصار الوضع شبيها" بما وصفه المفكر المغربي ( محمد عابد الجابري) بقوله (( في ميكانزم الدفاع تلجئ الذات إلى الماضي وتحتمي به لتؤكد من خلاله وبواسطته شخصيتها ، ولذلك يعمد الإنسان إلى تضخيمه وتمجيده ما دام الخطر الخارجي قائما" . أما في ميكانزم النهضة فالإنسان لا يطلب الماضي بذاته بل يختزله في ( أصول ) يعيد إحيائها على صعيد الوعي ، بالصورة التي تساعد على تجاوز الماضي والحاضر ، على صعيد الوعي كذلك ، والانطلاق إلى المستقبل ، تفكيرا" وممارسة )) . ولهذا نجد إن الطائفة أو القبيلة تتحول ببطئ ولكن باستمرار من حاضنة اجتماعية لتلقين القيم الدينية وغرس المبادئ الأخلاقية ، إلى مؤسسة سياسية تتطلع نحو السلطة عن طريق تسييس الدين وتوظيف رموزه في السياسة ، الأمر الذي يسوقها – كما يقول الكاتب اللبناني جوزيف مغيزل – إلى أن تضع (( بين المواطنين وبين الدولة والوطن تبعية وسيطة ، هي التبعية الطائفية . لا بل تضع التبعية الطائفية قبل التبعية الوطنية ، وبالنتيجة تحل التبعية الطائفية محل التبعية القومية ، وبالنهاية يحول ذلك دون بلوغنا كجماعة مستوى الوجدان أو الوعي القومي )) . ولأن الولاء الوطني يستلزم – لكي يستوطن عقل المواطن ويمتلك جوارحه – تجاوز النعرات الطائفية وتخفيف حدة خطابها التعبوي ، المبني على المفاضلة المناقبية وتغليب المطالب الجزئية على حساب المصالح الكلية ، فان الحركة الطائفية لا تملك ، بما إنها كذلك ، سوى التأكيد على أهمية الانتماء الطائفي والتركيز على خصوصية الهوية الطائفية ، عبر إحياء الموروث الديني في المخيال الشعبي باستخدام الرموز والشارات ، ناهيك عن التعويل على تأثيرات السير الشخصية والملاحم البطولية التي تحمل مغزى سلطان المقدس وهيبة المتعالي في بنية الوجدان الجمعي لأفراد الطائفة المعنية ، مما يمنحها أفضليات ليس فقط القدرة على التمأسس في تجمعات أو منظمات حزبية ذات طابع شبه عسكري يتمتع بمستوى عال من الانضباط ولالتزام فحسب ، ولكن أيضا" قوة الشعور بالتواصل والترابط والتوحد إزاء غيرها من الطوائف الأخرى ، التي يفترض إنها سيقت إلى ذات المنزع الطائفي لعقلنة أهدافها ومثلنة طروحاتها . ومع اشتداد أزمة المجتمع المدني ، وتآكل مبدأ المواطنة ، وانشطار وحدة الهوية ، تأخذ العلاقات الطائفية المشحونة بالأضاليل الإيديولوجية والمشوبة بالمغالطات التأريخية ، طابعا" يساعد على تغيير المواقف وانقلاب الأدوار . إذ بدلا" من أن تكون الطائفة لبنة أساسية في كيان المجتمع لتماسك وحدته وترابط علاقاته وتعظيم قيمه على الأقل لحين تجاوز محنته وتخطي كبوته ، فإذا بها تسهم في نسف أسسه وتصديع مقوماته وتمزيق نسيجه ، بحيث يكون السعي باتجاه تغليب الانتماءات الفرعية وتغييب الولاء الوطني هو المثل الأعلى للطائفية السياسية المدججة بأفكار التعصب ضد قيم المجتمع المدني ، والتطرف ضد رموزه ومؤسساته ، مما يعتبر بمنظور التحول الديمقراطي خطوة نحو الانكفاء والتقهقر .
#ثامر_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اعاقة التحول الديمقراطي : من المجتمع المدني الى الطائفية الس
...
-
تساؤلات حول مسار المجتمع العراقي : خيارات الفوضى أم رهانات ا
...
-
الهلع من المعارضة : التقاليد الديمقراطية في السياسة العراقية
-
الذهنية الراديكالية : الادراك العربي بمفهوم السياسة
-
نعي الوطن في وعي المواطن
-
تأملات (تزفيتان تودوروف) : النقد العقلاني لهوس القوة
-
تشريح الذاكرة : أحداث التاريخ وأضغاث المؤرخين
-
دولة القانون وقانون الدولة : الدستور والديمقراطية (العراق ان
...
-
أماكن الذاكرة في سوسيولوجيا المعاش
-
الشعوب المقهورة وسيكولوجية التمرد
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
-
اغتراب الوعي : من الثقافة الى الخرافة
-
اقصاء العقل في ايديولوجيا الصورة
-
اشكالية الحرية بين نزوع الارادة واكراه الواقع
-
الأصول التاريخية لظاهرة (العسكرة) في المدينة العراقية
-
الأستاذ الجامعي وإشكالية الولاء الوطني !
-
أزمات المجتمع العراقي بين غياب (النقد) وانعدام (الوعي) التار
...
-
المثقف العصامي والثقافة العصامية
-
الدين والتضامن الاجتماعي : هل نحن بحاجة إلى ثورة عشرين أخرى
...
-
غربلة الذاكرة التاريخية : قيود الماضي .. وحدود المستقبل
المزيد.....
-
اصطدمتا وسقطتا في نهر شبه متجمد.. تفاصيل ما جرى لطائرة ركاب
...
-
أول تعليق من العاهل السعودي وولي العهد على تنصيب أحمد الشرع
...
-
بعد تأجيله.. مسؤول مصري يكشف لـCNN موعد الإفراج عن فلسطينيين
...
-
السويد: إطلاق نار يقتل سلوان موميكا اللاجئ العراقي الذي احرق
...
-
حاولت إسرائيل اغتياله مرارا وسيطلق سراحه اليوم.. من هو زكريا
...
-
مستشار ترامب: نرحب بحلول أفضل من مصر والأردن إذا رفضتا استقب
...
-
الديوان الأميري القطري يكشف ما دار في لقاء الشيخ تميم بن حمد
...
-
الجيش الإسرائيلي يواصل عملياته العسكرية في الضفة الغربية ويق
...
-
بعد ساعات من تعيينه رئيسا لسوريا.. أحمد الشرع يستقبل أمير قط
...
-
نتانياهو يندد بـ-مشاهد صادمة- خلال إطلاق سراح الرهائن في غزة
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|