امراض الرأسمالية
السارس وباء الرأسمالية
هل هناك علاقة بين انتشار وباء الالتهاب الرئوي الحاد (السارس) في الصين تحديدا، وبين حقيقة تحول الصين الى اكبر دولة مزودة للايدي العاملة الرخيصة في العالم؟ هذا السؤال لم تسأله الجهات المختصة التي تعالج الموضوع، ولكن الطبقة العاملة في كل دولة ستكون معنية بالبحث عن اجابة.
داني بن سمحون
في الرابع عشر من آذار (مارس) نشرت منظمة الصحة العالمية تحذيرا رسميا حول انتشار وباء الالتهاب الرئوي الحاد، اطلقت عليه اسم "سارس". ويتسبب المرض عن جرثومة "كورونا" التي تشبه من ناحية جينية جراثيم تصيب الطيور والقوارض. وقد تم حتى الآن اكتشاف اكثر من 5000 حالة مرضية في العالم، وبلغ عدد الوفيات 295 مصابا على الاقل في 26 دولة. معظم حالات الاصابات او الموت سجلت في الصين، هونغ كونغ، سنغافورة وكندا.
اوائل ضحايا هذا المرض كان بائع افاعٍ وطيور في مدينة شوندة جنوبي الصين، وسجلت اصابته في كانون اول (ديسمبر) 2002. وقبل وفاته نقل العدوى الى زوجته واصدقائه وطاقم المستشفى المحلي، ومن هناك بدأ انتشار المرض. اسواق بيع الحيوانات تعتبر ارضا خصبة لانتشار وتطور الجرثومة. مئات البسطات المتلاصقة التي تحتوي على الافاعي، القطط، الضفادع والسحالي، تستخدم ايضا كطاولات يتناول عليها عمال هذه الامكنة طعامهم. من هذه الاسواق انتشر المرض الى دكاكين الاكل السريع والمطابخ في المدن الصغيرة، ومن هناك عرف طريقه الى عاصمة اللواء ومنها لكافة انحاء العالم.
بدأ انتشار المرض في جنوب الصين منذ تشرين ثان (نوفمبر) 2002، الا ان السلطات الصينية منعت الكشف عنه، كما أخفت التقديرات بالنسبة لحجم انتشاره. هكذا حدث ان حالات مرضية عولجت في اقسام عادية كما لو كانت التهابا رئويا عاديا او انفلونزا، وبذلك انتقل المرض الى البيئة المحيطة التي لم يسلم منها الطاقم الطبي وافراد عائلاته.
مع بداية شباط (فبراير) انتشر المرض لاول مرة خارج حدود الصين، بواسطة طبيب يدعى ليو جيانلون اخصائي في امراض الرئة، كان قد تواجد في المنطقة التي انتشر المرض فيها، جوانددونج، وطار منها الى هونغ كونغ لحضور زفاف ابن اخيه. في الفندق الذي نزل فيه نقل العدوى الى عدد من الضيوف، وكان بينهم سياح من كندا وسنغافورة. هكذا اتسعت دائرة المرض وامتدت من القرويين في جنوب الصين الى تورنتو، سنغافورة وهونغ كونغ، حيث تم استيعاب المرضى في اقسام عادية دون معرفة خطورة المرض، ونقل هؤلاء العدوى لمن حولهم.
الربح على حساب الرفاه
تواجه الصين اليوم نقدا لاذعا بسبب اخفائها معلومات عن انتشار الوباء. ويتضح ان نوابا صينيين مهمين لم يتحمسوا لكشف مدى انتشار المرض امام العالم، خشية ان يسبب ذلك ضربة لاستقرار الاقتصاد الصيني وهروب الشركات الاجنبية الكبيرة.
في العقدين الاخيرين ركّزت الصين معظم مواردها ومجهودها لاحداث النمو الاقتصادي على حساب برامج الرفاه التي أُهملت، مما أدى لضرب عمال المدن و800 مليون من سكانها القرويين الذين تركوا بلا خدمات طبية اساسية. محاولة الصين الحصول على دعم اقتصادي من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، فرضت عليها الاستجابة لاملاءات هذه المؤسسات واولها تقليص تدخل الدولة في الخدمات الاجتماعية وخصخصة مؤسسات الرفاه وبضمنها الصحة.
لواء جوانجدونج الذي انتشر فيه المرض، هو احد الالوية الغنية في الصين. وتتكون ثروته من كونه اكبر مشغّل للعمال من السكان القرويين الذين يبحثون عن عمل في المدن، ويتقاضون نحو دولارين لليوم. هذه الشريحة السكانية لا تملك المال للعلاج الطبي او لعيادة المستشفى. وقد احتاجت الحكومة الى شهرين حتى قررت ان تعالج المصابين الذين لم يستطيعوا تأمين رسوم العلاج الطبي.
لماذا غطت الحكومة الصينية على انتشار المرض وفشلها في علاجه وهددت بذلك سلامة الجمهور؟ الجواب يزوده تقرير لشبكة بي. بي. سي. جاء فيه ان معظم السكان الصينيين لا يستطيعون السماح لانفسهم بالحصول على علاج طبي مجد في حالة الاصابة بمرض السارس، وانهم يستعملون بسبب انعدام اي حل آخر ادوية من البيت ابتداء بالشاي والاعشاب الطبيعية.
"انتشار الوباء"، تكتب ليلي تشي محررة نشرة الاخبار بالصينية في صحيفة الواشنطن بروفيل، "هو نموذج لفشل الجهاز الطبي في الصين، عقب انعدام الخدمات الطبية العمومية المناسبة". الصحافة الصينية التي تعتبرها تشي مجندة للحكومة، لم تسلم هي الاخرى من النقد. جريمتها الكبرى لم تكن في اخفاء المعلومات، بل في تضليل الجمور والادعاء بان الحديث عن الوباء هو مجرد اشاعات.
ناقوس خطر
اذا تساءلتم لماذا تصنع كل البضائع في الصين، فالاجابة واضحة. لكي تقبل في منظمة التجارة العالمية قامت السلطات الصينية بفتح ابوابها امام الشركات الكبرى دون شروط وبعد ان الغت قوانين العمل التي تحمي العمال.المراقبة الحكومية ازيلت لصالح السوق الحرة والمبادرين والمستثمرين الاجانب. الصين تبدو وكأنها تعيش ازدهارا اقتصاديا وتقدما حضاريا، ولكن الوباء يثبت العكس، فهي تجر العالم الى ازمنة غابرة مثل عهد انتشار وباء الطاعون. الفرق ان القدرة على منع الوباء متوفرة، ولكنها ليست في متناول الجميع.
لا يمكن فهم هذا الوباء دون التطرق للتحول الذي مرت به الصين في العشرين سنة الاخيرة، وتحديدا الانتقال من الشيوعية الى الرأسمالية. النظام الصيني حافظ على الشعارات الشيوعية، الا انه احدث انقلابا اقتصاديا وباع موارد البلاد والايدي العاملة الرخيصة للشركات العالمية الكبرى. النظام الشيوعي الذي تجلت قوته بنجاحه في تأمين اساس جيد من التعليم، العمل، الغذاء والصحة للجميع لم يعد موجودا.
هذا الوباء يجب ان يستخدم كناقوس خطر ليس بالنسبة للنظام الصيني فحسب، بل لكافة الدول الرأسمالية. من الوهم الاعتقاد انه بالامكان وجود عالمين منفردين اليوم، الاول يملك جهازا طبيا غربيا ومستوى معيشة مرتفعا، ويستند في الوقت نفسه الى العالم الثالث المحروم من الصحة والمعرض للاستغلال والفقر.
هذه هي العلاقة بين استغلال العمال الصينيين وبين انتشار المرض في الصين ومنه الى كل العالم. ان الغاء الحدود في ظل العولمة لم يتح المجال لانتقال رأس المال والبضائع والايدي العاملة الرخيصة لزيادة ارباح الشركات فحسب، بل فتح المجال لانتقال عدوى الامراض التي يعاني منها العالم الثالث بسبب الاستغلال الفادح. مؤخرا صرّح وزير الصحة في سنغافورة بانه "كما تغير العالم بعد الهجوم الارهابي على الولايات المتحدة في ايلول 2001، هكذا تغير العالم بعد شباط 2003، مع انتشار وباء السارس." (هآرتس، 27 نيسان ابريل). المجتمع الذي لا يملك جهازا طبيا وخدمات صحية، يمكن ان يتحول الى قنبلة موقوتة ومصدر لانتشار الامراض والجراثيم التي يمكنها ان تهدد صحة العالم اجمع.