أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - الحسن الهلالي - السياسة التعليمية بالمغرب على عهد الحماية الفرنسية: الأسس والأهداف















المزيد.....


السياسة التعليمية بالمغرب على عهد الحماية الفرنسية: الأسس والأهداف


الحسن الهلالي

الحوار المتمدن-العدد: 7223 - 2022 / 4 / 19 - 01:32
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


- تقديم
كان التعليم السائد بالمغرب، إلى حدود مرحلة الحماية، تعليما دينيا تقليديا يقوم على تحفيظ القرآن وقواعد القراءة والكتابة في الكتاتيب التابعة للمساجد والزوايا. وبعد استظهار القرآن، وهي مهمة شاقة، يحق للتلميذ ولوج المدرسة الثانوية التقليدية، ليصل المحظوظون من أبناء الأعيان إلى جامعة القرويين أو جامعة ابن يوسف. وكان هذا التعليم يكسب المهابة لصاحبه ويحقق له مكانة متميزة داخل المجتمع. وعندما احتلت فرنسا المغرب، تذرعت بأداء مهمة عصرنة التعليم ونشره بين صفوف المغاربة والقضاء على الأمية لتبرير سياستها الاستعمارية والظهور أمام الرأي العام الدولي وكأنها تؤدي رسالة حضارية في الدول المستعمَرة. والواقع، أن هدفها الرئيس هو تكوين شريحة من المتعلمين لخدمة المشروع الاستعماري، وإعداد على المدى البعيد نخبة تحل محل المستعمِر وترعى مصالحه بعد رحيله. نهدف في هذه الورقة إلى الوقوف عند أسس السياسة التعليمية التي نهجتها الإقامة العامة في المغرب، وإبراز أهدافها المعلنة وغير المعلنة.
1- أسس السياسة التعليمية في المغرب في عهد الحماية
أخضع الجنرال ليوطي ومساعدوه المشروع التعليمي الذي ينبغي تطبيقه في المغرب للكثير من التدقيق والتصويب؛ فبعد مرحلة التجريب التي غلب عليها طابع الارتجال والاضطراب، سيكتمل هذا المشروع ابتداء من 1920. وقد انبنى على رفض فكرة توحيد التعليم ودمقرطته، وعلى تجريد المدرسة من وظيفتها التنويرية، وعلى الاعتراف بالحق في التمَيُّز وتعدد الحضارات. "إنه بالإمكان، حسب تعبير ليوطي، بناء مغرب صالح وجميل مع الاحتفاظ بالطابع المغربي والإسلامي"( ). لقد تجنب هذا المشروع تكرار تجربة التوحيد في الجزائر وتونس التي كان من نتائجها إفراز بروليتارية فكرية مهمشة يسهل استقطابها من قبل الحركات التحررية والثورية المناهضة للاستعمار والاستبداد. كما تفادى دمقرطة التعليم؛ لأن من شأن ذلك أن يجعل المدرسة وسيلة للترقي الاجتماعي، فيصبح "الانتماء إلى النخبة يعتمد الذكاء والشواهد بعد أن كان يتحدد بالولادة". مما يؤدي إلى فرز نخبة وطنية تشكل على المدى البعيد أكبر خطر على مستقبل الحماية بالمغرب.
لقد كان ساسة الاستعمار يدركون أن اتساع الشعور الوطني يرتبط بالتعليم الموحد الديمقراطي؛ لذلك تخَلّوا عن الطرق التربوية المعمول بها في وطنهم الأم، واقتدوا بالتجربة الأنجلوسكسونية، التي تزاوج بين التمارين الفكرية والأعمال اليدوية، مع الإلحاح على ألا يتعدى التعليم الابتدائي المغربي "نطاق درس في الأشياء يكون ملتصقا بالوسط حضريا كان أم قرويا"، وأن "ينصب درس الحساب على مشاكل الحياة اليومية المادية"، و"يبتعد عن كل تجريد أو تنشيط فكري". أما مادة الفرنسية، فينبغي "أن تلقن مبسطة تعلم الصغار مفردات الحياة المنزلية والعملية وتمرّن الكبار على تحرير رسالة إدارية أو تجارية وتلقنهم جميعا مبادئ اللياقة والأخلاق"( ).
واعتمادًا على هذه الأسس، نهجت مديرية التعليم العمومي سياسة تعليمية تقوم على التمييز بين ثلاثة أنواع من التعليم في المغرب: التعليم الأوربي والتعليم الإسرائيلي والتعليم الإسلامي. ويهمنا في هذا المقام أن نبرز تمفصل التفكير البيداغوجي التربوي والهدف السياسي في تخطيط ساسة الاستعمار للتعليم الإسلامي. وقبل ذلك نشير، باختصار شديد، إلى التعليم الأوربي والتعليم الإسرائيلي.
- التعليم الأوربي
هذا النوع من التعليم موجه لأبناء المستعمِرين، وكان صورة طبق الأصل للتعليم الفرنسي لا من حيث مستوياتُ التكوين ومراحلُه: ابتدائي، إعدادي، ثانوي فعالي؛ ولا من حيث تنويعُه إلى تعليم أساسي لفائدة المتفوقين من أبناء البورجوازيين الفرنسيين وتعليم مهني تقني لفائدة أبناء الكادحين والفقراء؛ ولا من حيث الموادُّ والبرامج والمناهج والشواهد المتحصّل عليها. ولم يتطور التعليم الخاص بشكل كبير، "لأن الجنرال ليوطي احتفظ للدولة وحدها برعاية هذا التعليم وكان يريد الاحتراس من المبادرات الأجنبية، كما وقع في تونس مع الثانويات الإيطالية". وقد وصل عدد التلاميذ الفرنسيين في سنة 1952 "إلى 75.000، منهم 8.400 أي 12% من المجموع في التعليم الثانوي والتقني، وهي نسبة جد مرتفعة عما هو عليه الحال في فرنسا"( ).
- التعليم الإسرائيلي
وهو تعليم خاص بأبناء اليهود المغاربة. وقد كان تابعا لمدارس الرابطة الإسرائيلية التي افتتحت مدرستها الأولى بتطوان عام 1872 وكان التعليم فيه يلقن بالفرنسية باستثناء خمس ساعات في الأسبوع تخصص للعبرية. وبلغت نسبة الأطفال اليهود البالغين سن التمدرس سنة 1952 معدل 67%، "غير أن معظمهم - وهم ينتمون إلى أسر الملاح الفقيرة - ينتهي بهم المطاف، بعد إتمام دراستهم الابتدائية إلى تعزيز عالم الصناع، بل وأكثر من ذلك عالم المستخدمين الصغار بالتجارة والمخازن والبنوك والنقل الضروري لنشاط المؤسسات الرأسمالية الكبرى المحلية والأجنبية"( ).
2- التعليم الإسلامي والمشروع الاستعماري
لقد رأى منظرو الاستعمار الفرنسي في التعليم الوسيلةَ الأمثلَ لإخضاع النفوس وغرس جذور الاستعمار. لذلك، اتُّخِذت جميع الاحتياطات حتى لا ينقلب تعليم الأهالي إلى وسيلة للتحرر. من هذا المنطلق طالب ليوطي وفريقه أن يأخذ تعليم المغاربة المسلمين "في الحسبان الفئات الاجتماعية، حتى يظل كل واحد في وسطه، فكما يوجد هناك فلاحون وصناع وبورجوازيون وأسر مخزنية كبرى، يجب أن توجد مدارس شعبية قروية وحضرية، مدارس ابتدائية لأبناء الأعيان بالنسبة للبورجوازيين، ومدارس عليا إسلامية، يجب أن تتحول بسرعة إلى ثانويات إسلامية للنخبة الاجتماعية"( ). لقد تفادت السياسة التعليمية الاستعمارية توحيد التعليم بالمغرب حتى لا يؤدي إلى تغيير تراتبية المجتمع، فيكون وسيلة للاضطراب. فسَنّت لكل شريحة اجتماعية ما يناسبها من التعليم، بحيث "سيكون على الفلاح الصغير عند تخرجه من المدرسة أن يعود إلى الأرض، وابن العامل بالمدينة يجب أن يصير عاملا (...) ويجب على الطفل من وسط اجتماعي معين أن يتلقى تعليما يتلاءم مع وسطه ويبقيه فيه ويجعله أكثر كفاءة للقيام بدوره الاجتماعي"( ). هكذا، تم تقسيم التعليم الإسلامي إلى تعليم شعبي مهني وتعليم نظري راقي، وأسند إلى كل واحد منهما تحقيق أهداف محددة.
2-1- التعليم الشعبي المهني
وهو تعليم خاص بأبناء جماهير الفقراء والكادحين وذو طابع مهني وعملي بالأساس، ومتنوع "بتنوع الوسط الاقتصادي؛ في المدن يوجه التعليم نحو المهن اليدوية، خاصّة مهن البناء وإلى الحرف الخاصة بالفن الأهلي. أما في البادية فيوجه التعليم نحو الفلاحة (...) وأما في المدن الشاطئية فسيوجه نحو الصيد البحري والملاحة"( ). وعلى هذا التعليم، الذي يلقن بالفرنسية بطريقة شبه كلية، أن ينحصر "في مبادئ الثقافة العامة، مع تخصيص حصة متواضعة لدروس القرآن"( ). وهدفه محصورٌ في تكوين يد عاملة ذات خبرة محدودة لاستغلالها في الصناعة والفلاحة والملاحة الاستعمارية الفرنسية.
2-2- مدارس أبناء الأعيان
وتتكلف هذه المدارس بتوفير تعليم نظري جيد لأبناء رجال المخزن والعلماء وكبار التجار الذين يتم انتقاؤهم بعناية من طرف سلطات المراقبة. يقدم هذا النوع من التعليم تكوينا عاما مزدوجا؛ حيث يتم تدريس المواد الدينية والأخلاقية بالعربية، وتخصص الفرنسية لتعليم باقي العلوم( )، ويُتوَّج بالحصول على شهادة الدروس الابتدائية التي تخول لحاملها ولوج الثانويات الإسلامية. إن هدف هذا التعليم هو تكوين نخبة من أبناء الأعيان قادرة على مساعدة الأوربيين في التسيير الإداري بالمغرب.
لقد كانت إدارة الحماية وهي تُحدِث هذا النوع من التعليم تستحضر البعد البيداغوجي والسياسي الاجتماعي في الآن نفسه؛ فبيداغوجيا، يكون أبناء الأعيان، لظروفهم الموضوعية المناسبة، أكثرَ تيقظا ونباهة من أبناء العامة وأقدَرهم على متابعة هذا المسار التعليمي. ويتجلى العامل السياسي الاجتماعي في استمالة وضمان تعاون الأعيان الذين يطمحون إلى تعليم أبنائهم تعليما خاصًّا يؤهلهم للعمل في الوظائف المخزنية.
2 -3 - المدارس الفرنسية البربرية
وتبعا للسياسة البربرية التي كانت تهدف إلى الفصل في سكان المغرب بين ما كانت تسميه "العنصر العربي" من جهة و"العنصر البربري" من جهة أخرى فصلا حضاريا شاملا، أقدمت سلطات الحماية على إنشاء ما أسمته بالمدارس الفرنسية البربرية الخاصة بالسكان المغاربة الذين يتكلمون باللهجات الأمازيغية. وقد كانت السياسة التعليمية في هذه المدارس واضحة تماما؛ "إن الأمر يتعلق، كما كتب بول مارتي، بمدارس فرنسية بربرية يتلقى فيها الأطفال الأمازيغ تعليما فرنسيا صرفا ذا توجه مهني فلاحي بشكل خاص. سيشتمل البرنامج الدراسي في هذه المدارس على دراسة تطبيقية (عملية) للغة الفرنسية، ومبادئ الكتابة وعلم الحساب البسيط، ونتف من دروس الجغرافيا والتاريخ وقواعد النظافة، والأعمال التطبيقية في المجال الفلاحي. إن المدرسة الفرنسية البربرية هي إذن فرنسية بالتعليم ونمط الحياة بربرية بالوسط والتلاميذ، معلموها فرنسيون وتلامذتها بربر. فلا وجود لأي وسيط أجنبي؛ سيُبعد بصرامة كل شكل من أشكال تعليم العربية وكل تدخل للفقيه وكل مظهر إسلامي"( ). وقد تم في أكتوبر 1923 فتح ست مدارس من هذا النوع في المناطق الجبلية، كإيموزار، وعين الشكاك، وأزرو، وخنيفرة، وعين اللوح، والقباب، بالإضافة إلى مدرسة هرمومو قرب مدينة تازة في آخر سنة 1923.
ولا يخفى أن الهدف من إقامة هذه المدارس هو تكوين جيل من المغاربة مقطوع الصلة بالتراث العربي الإسلامي ومتشبع بالتراث الفرنسي والقيم الحضارية الغربية تمهيدا "لعملية استيعاب الشعب المغربي وجعله تابعا إلى الأبد لفرنسا باعتباره ذيلا من ذيول الحضارة الغربية"( ). غير أنه مع صدور الظهير البربري سنة 1930، واجه المغاربة قاطبة السياسة البربرية، فتَمَّ التخلي عن هذه المدارس بشكل نهائي. ولم يتم تعويضها بإنشاء مدارس أخرى بديلة، بل بقيت المناطق الجبلية في بلادنا على كثرتها وارتفاع عدد سكانها محرومة من كل تعليم كيفما كان نوعه. ولم يكن العالم القروي أفضلَ حالا؛ فما كان يعرف "بالمدارس القروية" كانت على قلتها "عبارة عن صفوف أولية يلتحق بها بعض الأطفال بدون انتظام ويغادرونها نهائيا وهم دون مستوى الشهادة الابتدائية بكثير"( ).
ولتفادي هجرة أبناء الأعيان نحو مدارس وجامعات المشرق العربي وحتى أوربا لمتابعة دراستهم وما قد ينجم عن ذلك من تشبع بالحس الوطني والأفكار التحررية، أسّست سلطات الحماية الثانويات الإسلامية في المدن الكبرى لضمان مراقبة التلاميذ وتوجيههم وجعلهم مرتبطين أكثر بتراثهم. وقد اتخذت سلطات الحماية جميع الاحتياطات اللازمة في إعداد البرامج التعليمية لهذه المؤسسات حتى تؤدي وظيفة دعم المشروع الاستعماري. ذلك ما يكشف عنه البرنامج التعليمي الذي وضعه بول مارتي لثانوية مولاي إدريس بفاس؛ فقد كان على دروس التربية البدنية أن تتجنب كل ما يوحي بالتدريب العسكري، وكان على دروس التاريخ أن تركز على تعاون الأجناس البشرية وتكامل الحضارات، وعند تدريس تاريخ فرنسا وجب تلافي التطرق إلى المجالات الدينية والفلسفية والسياسية وكل ما من شأنه أن يسهم في تنوير فكر المتعلمين، وإبراز في المقابل كل ما يوحي بالخلود والشمولية في تاريخ البشرية. وعلى درس الأدب الفرنسي أن يركز على أعمال القرن التاسع عشر المتسم بالوضوح والتوازن، ويطمس أدب القرن الثامن عشر الذي يثير إعجاب الفاسيين بانتقاداته اللاذعة( ). وباختصار، كان هذا البرنامج التعليمي يروم تكريس فكر التعايش والتعاون مع المحتل وإبعاد الفكر التنويري التحرري. لقد كان يعمل على قولبة سلوك المتعلمين "وتعليب وعيهم وتعويدهم الطاعة والخضوع والاستسلام"( ).
إن هدف هذه الثانويات هو تكوين شباب ذي عقلية إسلامية ومنفتح في الآن نفسه على الحضارة الأوربية عبر تدريس "أدوات" الرياضيات وعلوم الطبيعة والتاريخ والجغرافيا والمحاسبة، وهي منزوعة من إطارها التاريخي محصورة في وظيفتها الأداتية. وهو ما أحدث "ازدواجية ثقافية مزمنة وتفاوتا كيفيا بين العربية والفرنسية. فكان على العربية أن تنحصر في دور اللغة الدالة على الماضي بينما رقيت اللغة الفرنسية إلى دور الانفتاح على الحضارة الصناعية، فكانت لغة المختبر والعقلانية العلمية تتعارض ولغة المتحف"( ). ومسعى هذه الازدواجية هو ترسيخ التفوق الفرنسي لغة وثقافة وحضارة، وجعل الشبان المغاربة "يشعرون بالنقص إزاء أنفسهم ولغتهم وثقافتهم، ووجودهم الحضاري، وربطهم بلغة المستعمر وثقافته ربطا آليا، إنه الاستلاب في أفظع مظاهره"( ).
ورغم الأزمة الخانقة التي كانت تمر بها القرويين، فإن ساسة الاستعمار كانوا على وعي بأنها لن تموت، لأن أساتذتها وعلماء فاس يستشعرون الحاجة إلى ضرورة تجديد جامعتهم العتيدة وإصلاحها؛ لذلك علينا، يقول مارتي، أن نبادر إلى القيام بهذا الإصلاح، لأننا إذا لم نقم نحن بهذا التجديد، سيتم من خارجنا وضدنا( ). إن تجديد جامعة القرويين سيمكن الحماية من الاحتفاظ في المغرب بهؤلاء الطلاب المنحدرين من عائلات مرموقة وتأطيرهم ومراقبتهم، بدل تركهم يهاجرون إلى المشرق العربي بحثا عن التعليم العالي الإسلامي هناك، ثم يعودون إلى المغرب وقد تأثروا برواد النهضة وحركات الإصلاح التي كانت تستنهض العرب والمسلمين لمقاومة الاستعمار والاستبداد. لقد استبقت الحماية الفرنسية الأحداث فأجرت إصلاحا شكليا. "وهكذا بقيت القرويين ومعها كلية ابن يوسف بمراكش.. تعمل عهد الحماية في نفس الإطار الذي عرفته من قبل، وبنفس المضمون الذي ساد فيها أيام انحطاطها"( ).
3- التعليم الاستعماري ورد فعل المغاربة
ساهم التعليم الذي أرادته الدولة المستعمرة أن يكون أداة خنوع وخضوع واستسلام في بلورة الوعي بضرورة تجديد وإصلاح التعليم التقليدي الذي كان سائدا في المجتمع المغربي، قبل مرحلة الحماية، وفي بعث الروح الوطنية وتنميتها لدى المغاربة، وفي ريادة المتعلمين للحركة الوطنية.
لقد رفض المغاربة في البداية إرسال أبنائهم للتعلم في مدارس "النصارى"؛ فإلى حدود 1914 لم يبلغ عدد التلاميذ بمدارس الحماية بالمغرب إلا 2853 تلميذا، وكان أغلبهم من أبناء الموظفين التابعين لإدارات الحماية والقنصليات أو المحميين وأبناء الأعيان مجاملة من آبائهم للدولة الحامية( ). غير أن موقف المغاربة الرافض للمدارس التي أنشأتها إدارة الحماية لم يكن ليثير قلقها، بل كانت تنظر إلى رفض أغلبية المغاربة للمدرسة الفرنسية بارتياح( ).
وبعد أن أدرك المغاربة أهمية التعليم، واقتنعوا بأنه أهم وسيلة يمكن بها مواجهة المستعمر وتفوقه الحضاري، بدأ الإقبال على المدرسة، بل والمطالبة بإصلاح التعليم ليلائم ثقافة المجتمع المغربي، وبتوفير العدد الكافي من المقاعد ومن المعلمين والأساتذة. وفي هذا السياق بادر الوطنيون ابتداء من 1919 إلى إصلاح الكتاتيب القرآنية وتحديثها بإدخال مواد جديدة في التدريس، كتدريس مبادئ اللغة العربية والنحو والفقه وعلم الحساب، وتخفيض الساعات المخصصة لحفظ القرآن، وتصنيف التلاميذ في أقسام وأداء واجب التمدرس، واختيار الأساتذة واستعمال الأدوات المدرسية من ورق ومداد، إلخ( ). وقد كان إصلاح الكتاتيب هذا "يطابق الرغبة في استلهام المدرسة الحضرية أو مدرسة أبناء الأعيان، ولم يكن أصولية دينية غير قابلة لأي اقتباس من الثقافة الأوربية"( ).
ولوعي الوطنيين بأن التعليم التقليدي بالمسيد لم يعد ملائما، ولتفادي ما قد تشكله مدارس الحماية من غزو فكري قد يهدد الثقافة المغربية الإسلامية واللغة العربية، أنشأوا مؤسسات خصوصية. وكان الهدف من إنشائها إعطاء التلاميذ تكوينا في التاريخ والجغرافيا والمنطق والنحو إضافة إلى العلوم الدينية، وكانت تعتمد اللغة العربية وسيلة واحدة في التدريس. لقد كان الآباء يعتقدون أن تكوين أبنائهم تكوينا متينا في اللغة العربية وفي الثقافة الإسلامية سيكون خير سلاح لمواجهة الثقافة الفرنسية بمبادئها الدينية والاجتماعية( ). وقد انتشرت هذه المدارس بشكل كبير خلال العقد الثالث من القرن العشرين في المدن التي نشطت فيها الحركة الوطنية بشكل كبير، كالدار البيضاء وفاس وتطوان والرباط وسلا.
وانطلاقا من التعليم الذي كان موجودا بالمساجد والزوايا، أسس الوطنيون التعليم الأصيل. ولم يكن هذا التعليم يُتَوّجُ بشهادة إدارية تعترف بها إدارة الحماية، رغم منح الشيوخ لطلبتهم إجازات تعترف بتمكنهم من علم معين. وقد ركز على العلوم الشرعية؛ فكان مقرر السنة الأولى والثانية يشتمل على الفقه وأصوله والنحو والصرف وفن النسخ والخط والحساب والجغرافيا والتاريخ. ويضاف إلى هذه المواد في السنة الثالثة التجويد، وتضاف في السنة الأولى من التعليم الثانوي، وهي السنة الرابعة، الهندسة، وفي السنة الثانية من الثانوي العروض والمنطق وفي السنة الثالثة الكتابة العدلية وفي الرابعة نفس المواد مع علم الحديث والبلاغة.
كما كان همُّ إصلاح التعليم حاضرا عند أقطاب الحركة الوطنية؛ فخصصت له كتلة العمل الوطني الفصل الخامس بأكمله في برنامج الإصلاحات لعام 1934. واحتلت المسألة التعليمية الصدارة في مشاريع المصلحين والمثقفين؛ فكتب علال الفاسي مثلا في 1950 مقالات متعددة على صفحات جريدة "رسالة المغرب" دعا فيها إلى الاهتمام بالتربية مبرزا أغراضها وأهدافها وجوانبها الفردية والجماعية. وطالب بضرورة إحلال اللغة العربية محل الفرنسية والإسبانية في جميع مدارس الدولة، وجعلِ "التعليم الابتدائي والثانوي موحد البرامج مجانيا وإجباريا لكل البنين والبنات". وحث الدولة على إنشاء "جامعات وكليات دينية وأدبية وعلمية وزراعية ومهنية، حيث يجد كل واحد من هؤلاء الحاصلين على ثانوية المدارس القومية الموحدة مراكز للتخصص الكامل الذي تقتضيه حاجة البلاد الروحية والمادية والفنية". ولأن تعليم الكبار لا يقل أهمية عن تعليم الصغار، دعا إلى مساهمة الجميع دولةً ومؤسساتٍ وأفرادًا في تعليمهم. وبَيَّن حاجة البلاد إلى التعليم المهني الذي ينبغي أن يراعيَ في توجيه التلاميذ وانتقائهم استعدادَهم وكفاءتهم وقابليتهم وليس الانتماء الاجتماعي. ووقف عند مهنة التعليم وما تتطلبه من قواعد وأسرار وطرق، وعند صفات المعلمين وتكوينهم تكوينا يؤهلهم للقيام بمهمتهم، وألحَّ على ضرورة تحسين وضعيتهم المادية( ).
وقد شكلت مبادرات وأفكار ومطالب الوطنيين وزعماء الحركة الوطنية أرضية انطلقت منها "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم" لصياغة البديل الوطني في ميدان التعليم، فأقرت في 1957 المبادئ الأربعة: التعميم، والتوحيد، والتعريب والتكوين. ولم يتم اعتماد هذه المبادئ الأربعة كمبادئ لتخطيط عام إلا مع المخطط الخماسي الأول 1960-1964 الذي أعدته أول وآخر حكومة "تقدمية" في فترة عرف فيها المد التحرري أوجه عالميا وإقليميا ومحليا. وقد ربط هذا المخطط التعليم بالتنمية الشاملة، الصناعية والفلاحية والثقافية، ونظر إليه باعتباره مشكلا وطنيا. ولما كانت برامجه تضر بمصالح البورجوازية الهجينة والأوساط الاستعمارية، نُظِّمت حملة قوية ضد الحكومة صاحبة المخطط، فاضطر محمد الخامس إلى إقالتها في 27 ماي 1960. وتخلت الحكومة الجديدة (والحكومات المتعاقبة) تدريجيا عن الاختيارات التي أقرها المخطط الخماسي الأول، لتتبنى في النهاية مخططا ثلاثيا مضادًّا 1965-1967، تَمّ التراجع فيه عن هدف "التحرير الاقتصادي" وإنشاء القاعدة الصناعية، وطرح اختيار آخر تحت شعار "الواقعية الليبرالية" يرتكز على الفلاحة والسياحة وتكوين الأطر( ).
- خاتمة
والحاصل أن سلطات الحماية قد حرصت، عند تخطيطها للتعليم بالمغرب، على الفصل بين العمل اليدوي والعمل الفكري، وتوفير لكل فئة اجتماعية تعليم يتلاءم ودورها الاجتماعي المحدد سلفا. وحددت هدف التعليم في تكوين يد عاملة مدربة، وإعداد نخبة مثقفة من أبناء الأعيان تقوم بدور الوساطة بين الأهالي والمستعمر، وتحل محله بعد تجاوز المرحلة الاستعمارية المباشرة، فتؤمِّن استمرارية التبعية البنيوية للإمبريالية الغربية. لكن لسلاح التعليم هذا وجه آخر تمثل في بعث الشعور الوطني لدى المغاربة وفي جعل موضوع المطالبة بإصلاح التعليم موضوعا مركزيا في نضال الوطنيين والحركة الوطنية. وقد شكلت أفكار ومطالب الحركة الوطنية أرضية لمشروع "المدرسة الوطنية"، المشروع الذي ظل ويظل، لحد الآن، مطلبا ملحًّا يدعو جميع القوى التقدمية والديمقراطية والوطنية إلى التكتل للنضال من أجل مدرسة وطنية عمومية موحدة ديمقراطية جيدة ومجانية.
- قائمة المصادر والمراجع:
- الجابري (محمد عابد)، التعليم في المغرب العربي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1989.
- الجابري (محمد عابد)، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985.
- الجابري (محمد عابد)، من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، الطبعة الخامسة، 1985.
- ريفي (دانيال)، المدرسة والاستعمار سياسة ليوطي في بداية العشرينات، ترجمة وحيد الرحماني، الثقافة الجديدة، العدد 12، السنة الثالثة، 1979.
- عياش (ألبير)، المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية، ترجمة عبد القادر الشاوي ونور الدين السعودي، مراجعة وتقديم إدريس بنسعيد وعبد الأحد السبتي، دار الخطابي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1985.
- الفاسي (علال)، النقد الذاتي، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة التاسعة، 2010.
- Marty P., Le Maroc de demain, Publication du Comité de l’Afrique Française, Paris, 1925.
- RIVET D., Le Maroc de Lyautey à Mohammed V le double visage du protectorat, Editions Denoël, Paris, 1999.



#الحسن_الهلالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السياسة التعليمية بالمغرب في عهد الحماية الفرنسية: الأسس وال ...
- قراءة في مشاريع إصلاح التعليم العالي بالمغرب


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - الحسن الهلالي - السياسة التعليمية بالمغرب على عهد الحماية الفرنسية: الأسس والأهداف