تأخذ العلاقة بين الدولة والمجتمع بشكل عام، ونظريا، مسارين مختلفين جذريا، يفضي الاول الى انتاج ما يعرف بالنظام الديمقراطي المؤسس على مبادئ الاختيار والاعتراف بالتعددية والفصل بين السلطات بموجب القانون، فيما يفضي الثاني الى انتاج ما يعرف بالنظام الاستبدادي المؤسس على مبادئ الاغتصاب والدكتاتورية والجمع بين السلطات بموجب القوة.
الى هذه المباديء المجردة، لكن النسبية والمستندة الى التاريخ، ينبغي ان نضيف الاقرار بوجود تنوعية داخلية تخص كلاّ من المسارين على حدة، تعبر عن نفسها بالطابع الخاص الذي يميز شكل ومضمون هذه التجربة او تلك دون ان يمس هذا التمايز الداخلي جوهر المسار نفسه. فالنظام الديمقراطي قد يكون ملكيا او جمهوريا او فوضويا من حيث الشكل، او ان يكون ارستقراطيا او نخبويا او شعبيا من حيث المضمون، الا ان التغاير الداخلي لا ينفي سمته الجوهرية العامة كمسار متميز جذريا عن الاستبداد. وهذا الاخير بدوره قد يكون سلطانيا او شموليا، تقليديا او حديثا، الا ان اعتماده على القهر يظل القاعدة الصلبة التي يستند اليها في وجوده وتجديد وجوده وانتاج آلياته اللازمة.
واذا اقتصرنا الآن على النظم الاستبدادية حصرا، نجد ان المفكرين والمؤرخين الذين تأملوا هذه الظاهرة يميلون عموما الى الاتفاق على التمييز بين النوعين المذكورين، التقليدي والشمولي، مستنتجين من دراستهما ان الاختلاف الجوهري بينهما يكمن في مصدر القوة التي يعتمد عليها كل منها في عقلنة شرعيته. فبينما يتمثل مصدر قوة دولة الاستبداد التقليدي في "تفوق طبيعي" يؤدي الى وضع السلطة في يد الجماعة "الطبيعية" التي تحرز انتصارا عضليا في لحظة ما من الصراع فتستبد بالسلطة بموجب مبدأ "انما العاجز من لا يستبد" كما هو الحال في ظهور الدولة الاستبدادية التي اقامها اباطرة الصين والفرس والسريان والخلفاء غير الراشدين وملوك الافرنجة والجرمان والقياصرة الروس، يتمثل مصدر قوة دولة الاستبداد الشمولي في "تفوق اجتماعي" يؤدي في لحظة ما من احتدام الصراع ايضا الى نقل السلطة الى الفئة الاجتماعية التي تنجح في حسم الصراع لمصلحتها في تلك اللحظة بموجب مبدأ "انما الجاهل من لا يستبد". وامثلة هذا "التفوق" الاخير كمصدر لقيام دولة الاستبداد الشمولي كثيرة نقتصر هنا على ذكر اكثرها شهرة لحد الآن وهي الامبراطوريتان الهتلرية في المانيا والستالينية في الاتحاد السوفيتي السابق.
بيد ان هناك برأينا نوعا جوهريا ثالثا من انواع الدولة الاستبدادية هو الابشع لم ينتبه لخصوصيته الباحثون من قبلنا كما نزعم، رغم اختلافه جذريا عن نوعي دولة الاستبداد السابقين على كافة الاصعدة تقريبا بما في ذلك مصدر القوة الذي عنه ينبثق وبه يبرر وجوده. وهذا النوع الثالت تحديدا هو ما نطلق عليه "سلطة الرقيق" او "الاستبداد التابع".
فإذا كان المستبد في الدولة التقليدية يشعر بانه حر كأمير ويتصرف بموجب ذلك، واذا كان المستبد في الدولة الشمولية يشعر بانه ذات متفوقة، كالفوهرر المنقذ كما لقب نفسه هتلر، او كأب الشعوب كما كان ستالين يريد من مؤسسات دعايته ان تنعته، ويتصرفان في نطاقهما الخاص كما الارباب في نطاق دولها الخاصة على الاقل، او كملك للجهات الاربعة كما سمى نفسه حمورابي، فان المستبد في دولة الرقيق، لا يشعر بهذه الحرية حتى اذا كان حاكما مطلق السطوة. انما يواصل التصرف بأخلاق التابع الاجير لسبب آخر قد يكون غائبا او بعيدا او وهميا. هذا الشعور بالتهميش الداخلي للارادة الذي مصدره قوة عادة سابقة لديه، يدفعه الى تدمير كل ذات حرة خارجه دون ان يستطيع ان يحرر نفسه من عبوديتها التي هي مضمونه الجوهري بشكل مطلق.
وبكلمة اوضح، ان مصدر القوة في هذا النوع من الاستبداد لا يتأتى من "تفوق" او انتصار لعصبية على اخرى كما في الاستبدادين السابقين، انما يتأتى اساسا من طروء حالة فراغ في السلطة كنتيجة موضوعية لانحطاط الصراع ذاته ولشلل كلي يصيب القوى الجوهرية المتصارعة ومعها عصبياتها الخارجية والداخلية في نفس الوقت مما يؤدي ودون صراع تقريبا انما عبر انقلاب قصر او "مؤامرة بيضاء"، وداخل البلاط دائما الى نقل السلطة من ايدي سادة البلاط الى ايدي خدمهم. ففئة الخدم والاجراء وغلاظ الجواري والجند التي كانت تبدو الفئة الدنيا والرثة والاحقر في الوضع السابق تبرز في لحظة لانحطاط تلك بالذات باعتبارها القوة المنظمة والمسلحة الوحيدة فيه، مما يسمح لها بالسعي الى تحقيق ذاتها عبر الاطاحة باستبداد الاسياد واقامة استبدادها الخاص.
اما المستبد الذي ينبثق بفضل هذه السيرورة فهو غالبا من كان من قبل رئيس الخدم او الحجاب او الطهاة او الجند المكلف بحماية السيد السابق نفسه. والامثلة التاريخية على هذا النوع من السيرورة كثيرة جدا في الغرب وفي الشرق بما فيه الشرق الاوسط الذي يقدم لنا اهم التجارب في هذا المجال لا سيما ابتداء من العصر العباسي الثاني المبتدئ بمقتل المتوكل في 247 هجرية (861 ميلادية) بانقلاب قصر من هذا النوع وذلك عندما ذبحه رئيس سقاته بغا الشرابي، وفي مجلس شراب الخليفة بالذات، واخذ السلطة منه. وكذلك فعل مؤنس الخادم مع المقتدر بالله بن المعتصم. هذه الحالة ستأخذ بعدا روتينيا في الفترة العثمانية لاسيما مع دولة الاستبداد الانكشاري حيث لم يكن المستبد الفعلي سوى شوربشي باشي (رئيس الطهاة)، وسقا اغاسي (آمر السقاة)، واودي باشي مجهز سرير السلطان. وفي 1807 كان قباقجي اوغلي (ابن رئيس طباخي البلاط) هو المستبد الفعلي وصانع الملوك في اعظم قوة في العالم آنذاك، الامبراطورية العثمانية، عندما امر بعزل السلطان سليم الثالث وجلب وزراء واعيان الامبراطورية وأمر بقطع رؤسهم كالسفاح على قدور المطبخ (رمز الانكشارية العسكري) في احتفال دموي رهيب لم يعرف به احد خارج البلاط. والى هذه الفصيلة من الاستبداد ينتمي ايضا انظمة موبوتو في زائير وبوكاسا في افريقيا الوسطى ودوفالييه في هايتي والعديد من انظمة العرفاء التي تعرفها آسيا الغربية وافريقيا في العصر الحديث. واليها في اعتقادنا ينتمي نظام البعث الحالي في العراق ومنذ 1968.
وكما بيناه في بحث في الفكر السياسي سيصدر قريبا، ان التباين الجوهري في سيرورة ولادة استبداد الرقيق، بالمقارنة مع سيرورتي ولادة الاستبداد السلطاني التقليدي والشمولي الايديولوجي، يوازيه ويرتبط به بالضرورة تباين جوهري في هدف دولة الاستبداد نفسه من جهة وفي طبيعة القانون العام الذي يحكمها.
بمعنى آخر، اذا كانت السيادة المطلقة للامير او السلطان او القيصر هي هدف دولة الاستبداد التقليدي، واذا كانت السيادة المطلقة للعرق او النخبة او الطبقة هو الهدف المعلن لدولة الاستبداد الشمولي - (المانيا فوق الأمم، الطبقة العاملة فوق الطبقات)، فان السيادة المطلقة للعبودية هي تحديدا الهدف الذي تسعى اليه دولة الاستبداد التابع. اما على صعيد ماهية القانون الذي يحكمها فهو تدمير كل ما هو حر عبر اذلاله، في حين ان قانوني دولتي الاستبداد الآخر هما الابتزاز عبر القمع بالنسبة للاستبداد الشمولي والولاء عبر الردع بالنسبة للاستبداد التقليدي.
بلا شك ان مضمون الاستبداد بانواعه المختلفة هو الاغتصاب بموجب القوة في كل الاحوال. بيد ان اطلاق العنان للقوة لتذهب الى حد تدمير البنى الاجتماعية الاخرى يمثل درجة اعلى من الاغتصاب مقارنة بحصر دور القوة بحدود الابتزاز او مجرد الردع. وهذا التمايز يبدو جليا في الآثار التي يتركها كل من انواع الاستبداد الثلاثة.
فالنظام الاستبدادي التقليدي وان كان يحكم بواسطة تعميم الخوف، الا ان ما يهدف الى تحقيقه هو سيادته المطلقة اساسا عبر ضمان ولاء البنى الاجتماعية الاخرى في الدولة له واعتراضهم به سيدا عليهم ومشاركتهم في الدفاع عن سلطته المطلقة عن الحاجة. اما ما عدا ذلك فانه يترك الآخرين وشأنهم بكل ما يتعلق بتنظيم وممارسة شؤونهم الخاصة ومعتقداتهم وحياتهم الداخلية وعلاقاتهم التقليدية بل يسعى غالبا الى حماية شرفهم الخاص وحتى حمايتهم جسديا عند الضرورة باعتبارهم جزءا من رعيته. ويكفي تأمل دول الاستبداد الكبرى في التاريخ، من الصين الى الشرق الاوسط ومن روسيا الى فرنسا، للتيقن من صدق هذه الافكار والتيقن ايضا من نتيجة كبرى وهي ان الاستبداد التقليدي لم يقف حاجزا امام انبثاق حضارات لامعة وعظيمة احيانا في نطاق هيمنته واحيانا بتشجيع ودعم منه ما دام ذلك لا يصب ضد سلطته المطلقة على المستوى المنظور او المباشر.
كما ان نظام الاستبداد الشمولي لا يهدف ايضا الى تدمير البنى الاجتماعية لمجرد التدمير على الرغم من انه يحكم عبر تعميم الارهاب. انه يدمر كل ما يعتبره خطرا عليه مباشرة او لاحقا وهذا لا شك فيه. كما انه لا يتورع في استخدام كل شيء خارجه لاهدافه الخاصة ولمصلحة القوى الشخصية او الفئوية او العرقية او الايديولوجية التي يمثلها. الا انه لا يذهب ابعد من ذلك في التخريب. بل ان القوى التي يستخدمها ملحقا بها الخسائر لا يندر ان تحصل منه على اعتراف بالمجد الثوري او العرقي او الايديولوجي. والحال ومهما كان هذا الاعتراف وهميا او زائفا فانه سيظل اعترافا مع ذلك، وينطوي بلا شك على منحها قيمة رمزية او ذهنية تعوض الى حد ما عن الخسائر المادية او الفعلية التي لحقت بها.
وهنا ايضا اثبت التجربة التاريخية ان الحقب التي حكمها الاستبداد الشمولي لم تخرج محطمة او جوفاء على كل الاصعدة انما على العكس نجدها احيانا قد حققت الكثير من المنجزات الحضارية الضخمة. فالتجربة النازية لم تدمر المانيا، انما الامريكيون دمروها خلال الحرب وبعد اندحار الهتلرية احيانا. والستالينية لم تحطم روسيا بل مكنتها من التحول الى قوة عظمى عالميا وقوة استعمارية اقليميا مما جلب لها الكثير من الثروات والتقدم والعلمي الصناعي والاقتصادي على الاقل.
وهذا الامر يفسر جزئيا تمسك او حنين قطاع مهم من المجتمع الروسي حيالها حتى بعد انهيارها بل حتى الآن احيانا. وعموما فان تجارب الاستبداد الشمولي لم تكن وبالا مطلقا على المجتمعات التي وقعت في اسرها على الرغم من ضخامة عدد الضحايا الذي يسقطون على ايدي دولته والخسائر الكبرى التي تلحقها بهذا الجانب او ذاك من جوانب حياة المجتمع.
الاستبداد التابع هو الوبال المطلق وهو الوباء المدمر الذي اذا استحوذ على السلطة المطلقة على مجتمع ما، يعقر ذاك المجتمع ويدمره تدميرا عن بكرة ابيه وبشكل قد لا تقوم له قائمة من بعد حتى بعد انهيار الدولة المستبدة ذاتها بفترة طويلة جدا وقد لا تقوم له قائمة ابدا، بل قد يحوله الى فريسة لعبودية الآخرين والاجانب. فالشعور بالدونية الذي يحاصر المستبد التابع ويقض مضاجعه، حتى عندما يكون سيد الدولة الاوحد، والتهميش الداخلي الذي يعاني منه كذات وينهمك في قراءته ليل نهار في وجوه الذوات الاخرى التي، حتى عندما لا تكون تعرف بذلك، يعتقد هو بانها تعرف وتخفي، لا تترك له اي فسحة تفكير بانه حر. لذلك يندفع كالثور الجامح والكاسر لتدمير كل شيء خارجه واذلال كل ما عداه في ذلك المجتمع، لكنه كلما اوغل في التدمير كلما شعر بتفاهته هو نفسه، لذا يعمه في غيه. وكلما بالغ في اذلال الذوات الاخرى تأكد من عبوديته التي تجثم على رأسه كالمطرقة. فالبطش المستورد من الاسياد لكن العشوائي، وتحويل الدولة الى "ارض بلا بشر" هو هدف الدولة التي تحكمها سلطة الرقيق.
لأن دولة استبداد الرقيق لا تكتسب مبرراتها الوضعية من السعي الى اقامة دولة جديدة انما على العكس من الحاجة الى منع الدولة القديمة من الانهيار المؤكد بعد ان تكون قد دخلت مرحلة التفسخ، او طورها الخامس بلغة ابن خلدون كما كتب في "المقدمة"، اي تحولت الى دولة صار صاحبها "يستعين على امره بالاجراء والمرتزقة" ويطفح فيها "اخوان السوء وخضراء الدمن وتقليدهم عظيمات الامور". والدمن ما بقي من الروث ويستعمل سمادا...
انتهى
*د. حسين الهنداوي، عراقي متخصص في الفلسفة الغربية، ورئيس تحرير القسم العربي في وكالة انباء يونايتدبرس انترناشنال. له مؤلفات فلسفية عديدة من بينها "التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل"، و"هيغل والاسلام" بالفرنسية، و"مقدمة في الفلسفة البابلية"، و"استبداد شرقي أم استبداد في الشرق"، و"على ضفاف الفلسفة" وغيرها.