|
في ارتكاب الفظائع والمحاسبة عليها
جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)
الحوار المتمدن-العدد: 7211 - 2022 / 4 / 6 - 10:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن الفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا هائلة ومثيرة لاشمئزاز إنساني عميق. وليس المقصود هنا تلك الفظائع التي تم الكشف عنها في ضواحي العاصمة كييف والتي تدّعي موسكو أنها من صنع الأوكرانيين أنفسهم، أو أنها محض إخراج سينمائي، بل إن المقصود هنا هو ما لا مجال للجدال في حقيقته على الإطلاق: كثافة أعداد الضحايا المدنيين، وهول شهادات النساء المغتصبات، وتدمير مدن بكاملها بحيث لم يبقَ فيها مبنى واحد إلا وتحطّم واحترق. إنها فظائع تمرّس عليها الجيش الروسي في هجومه الوحشي على بلاد الشيشان تحت إشراف فلاديمير بوتين في عامي 1999-2000 وتدميره الأسطوري للعاصمة غروزني. وقد مارس الجيش ذاته جانبها التدميري بكثافة في سوريا، في حلب وسواها، بينما تمارس الجوانب الأخرى قوات روسية غير رسمية منتشرة في دارفور (السودان) وفي بعض مناطق أفريقيا جنوب الصحراء. إنها فظائع مقيتة، مثلما هي مقيتة الفظائع التي ارتكبها الجيش الأمريكي وحلفاؤه في العراق وفي أفغانستان، والفظائع التي ارتُكبت في اليمن الحزين، ومثلما هي مقيتة الفظائع التي ارتكبها الجيش الصهيوني طوال تاريخه، لاسيما في حروبه على لبنان وغزواته المتكررة لغزة. لا شك في ذلك، كما لا شك في أن الحكومات الغربية التي تُعرب عن استنكارها، إنما يُبدي بعضها درجة عليا من الصفاقة في التغافل عما ارتكبته قواته في ساحات شتى. أما الحكومة الصهيونية فإذا لم يعلُ صراخها المنافق استنكاراً للفظائع الروسية، بل اكتفت بتصريح لأحد وزرائها، فليس بالتأكيد لتواضعها وإدراكها أن بيتها من زجاج بحيث لا تستطيع أن تراشق الآخرين بالحجارة، بل فقط لأنها داخلة في تحالف مع روسيا البوتينية المتخصصة في اللعب على الأضداد، كما في لعبتها المثلثة في سوريا بين إيران وتركيا وإسرائيل. لكن هل يعني ما سبق أن كل هذه الدول أسواء، فلا فرق بينها من وجهة نظر الضحايا؟ بكلام آخر، هل أن التعرّض لاجتياح روسي أو أمريكي أو إسرائيلي أو فرنسي، إلخ، أمر واحد لا فرق فيه؟ من يدّعي الجواب إيجاباً يكون غير صادق، وهذا لسبب بسيط، لا يكمن في اختلاف حكام هذه البلدان، بل في اختلاف خضوعهم للمراقبة من قِبَل المحكومين واختلاف مدى تأثرهم بأنظار العالم إلى ما يفعلون. ولنأخذ حالتنا في وجه عدوّنا الصهيوني: لا تعزية في الأمر بالتأكيد، لكن لا بدّ من أن نعترف أننا نستفيد من كون دولة إسرائيل خاضعة لمراقبة دولية مشدّدة وأنها مرتهنة بالدعم الغربي، تتأثر بالتالي بالرأي العام في البلدان الداعمة لها كما تتأثر بالمدافعين عن حقوق الانسان داخل حدودها بالذات. ونتذكر كلام إسحاق رابين في تبريره تولية أمر الأراضي المحتلة في عام 1967 للسلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو، عندما قال إن السلطة الفلسطينية لن تكون مقيّدة بمنظمة حقوق الإنسان «بتسيلم» ولا بالمحكمة العليا الإسرائيلية (وبالفعل، فأول ما قامت به السلطة الفلسطينية كان تنفيذ مجزرة قمعية في غزة في خريف 1994 وكأنها أرادت تصديق كلام رابين).
فلولا الضوابط المذكورة التي تحدّ من قدرة آلة الحرب الصهيونية على ارتكاب الفظائع، لما بقي فلسطيني واحد في الضفة الغربية، ولقامت إسرائيل بتنفيذ حملة «تطهير عرقي» على نطاق واسع بغية تهويد الضفة الغربية خلال أسابيع قليلة في عام 1967، أو في مناسبات أخرى كانتفاضة الأقصى في عام 2001. لذا أيضاً تنزعج إسرائيل وتغتاظ لحملة المقاطعة الدولية ضدّها، ليس لأنها تخشى تلك الحملة اقتصادياً، بل لأنها تخشى وقعها على الرأي العام في الدول الغربية مصدر دعمها. ويكفي النظر إلى ما تقوم به روسيا في شرق أوكرانيا ومقارنته بما حلّ بنا على يد الدولة الصهيونية لندرك أهمية تأثير رقابة الرأي العام في الحدّ من الفظاعات، ولو نسبياً فقط. وكذلك، فإن الاحتلال الأمريكي قد ارتكب فظاعات في العراق، لاسيما في فلوجة وأبو غريب، لكنّ الكشف عن هذه الفظاعات قد أربك الحكومة الأمريكية شديد الإرباك، وقد واجهت في عقر دارها حركة مناهضة للحرب ساهمت في هزيمة مشروعها العراقي. وفي الماضي، ارتكبت أمريكا فظاعات أعظم بكثير في فيتنام، لكنّ المجتمع الأمريكي أصيب بأزمة أخلاقية حادة عند الكشف عنها، وبلغت الحركة الأمريكية المناهضة للحرب آنذاك حجماً عظيماً سرّع في الانسحاب الأمريكي من فيتنام الشهيدة. وقد أصبح هذان الاحتلالان لطختين كبيرتين على ضمير الأمة الأمريكية، كما تعكسه الأفلام العديدة التي خُصّصت لتصوير فظاعة الاحتلال الأمريكي لفيتنام، وبعده تلك التي تناولت احتلال العراق. فلنقارن ما سبق بما يجري في روسيا: تعتيم إعلامي كامل على الحرب الدائرة في أوكرانيا التي يصوّرها الإعلام الرسمي وكأنها «عملية خاصة»، وليست حرباً، غايتها اقتلاع «النازية» من أوكرانيا، بما يذكّرنا بادّعاء دولة الإرهاب الصهيوني أنها تحارب «الإرهاب» الفلسطيني كلما اعتدت على غزة؛ وأكثر من خمسة عشر ألف معتقل ومعتقلة من المناهضين للحرب داخل روسيا خلال أيام قليلة (تصوّروا لو اعتقل الحكم الأمريكي خمسة عشر ألف شخص كلما هبّت في وجهه حركة مناهضة للحرب)؛ وعقوبة سجن قد تصل إلى خمسة عشر عاماً لمن يصف اجتياح أوكرانيا بالحرب ويحتجّ على الفظاعات التي ترتكبها حكومته (ومثلما يجري عادة في الدول الاستبدادية، ينفّس المواطنون عن سخطهم بالتهكّم، كما في النكتة المتداولة بين الروس والقائلة بإعادة تسمية رواية تولستوي العظمى «العملية الخاصة والسلام»!). فليس ما يحدّ من فظاعات الحكم الروسي داخل روسيا سوى ما قد ينجم لاحقاً عن نتائج الحرب الشنيعة التي يخوضها. وهذا ما يجعل من السلطة الاستبدادية الروسية إحدى أفظع السلطات المجرمة في زمننا الراهن، وما يجعل من مقاومة شعب أوكرانيا ومعارضة قسم كبير من الشبيبة الروسية لتلك السلطة مقاومة ومعارضة بطلتين، تعملان لصالح كافة الشعوب إذ يقوم تقدّم البشرية من الهمجية إلى الحضارة على إرساء الرقابة الاجتماعية على الحكام وتقنين حقوق الإنسان وفرض حكم القانون، ولا بدّ من الدفاع عن هذه الأمور جميعاً وباستمرار إزاء نزعة الحكّام إلى قضمها.
#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)
Gilbert_Achcar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رقصة الدبكة فوق قبر بن غوريون
-
ستّةُ أسئلة بشأن مناهضة الإمبريالية اليوم والحرب في أوكرانيا
-
روسيا واليسار في المنطقة العربية
-
مذكرة حول الموقف المناهض للإمبريالية بصورة جذرية إزاء الحرب
...
-
تأملات عسكرية في حروب العراق وسوريا وأوكرانيا
-
صدّام حسين وفلاديمير بوتين
-
أوكرانيا… وقصة الذيل الذي «يهزّ الكلب»
-
البنك الدولي ولبنان… وكيف ينبغي على الناقد أن يبدأ بنقد ذاته
-
حين يصبح السجن طريقة للحكم
-
حكام القوى العظمى يلعبون بالنار
-
الثورة السودانية: إلى أين؟
-
«ديمقراطية المحاصصة» و«التوافق»على نهب الشعب
-
علامَ يتوقف مصير الثورة السودانية؟
-
في الحكم الفردي ونقيضه الديمقراطي
-
هل تليق الديمقراطية بشعوبنا؟
-
قيس سعيّد والدكتاتورية القراقوشية
-
الانتخابات الليبية بين المسخرة والمأساة
-
إيران إسرائيل: على أبواب الكارثة
-
على من يضحك البرهان وحمدوك؟
-
أبو ظبي… رأس حربة الرجعية الإقليمية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|