عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7209 - 2022 / 4 / 3 - 23:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إذن الملحد لا ينكر الله من حيث هو خالق أو مدبر أو مسيطر بل ولا لكونه موجود أو عدمية الوجود , بل إنكاره مصبوب على أن ما يقدمه العقل الديني من صفات وتكوينات ذهنية عقلية لا تتناسب مع قوانين المادة ولا تتوافق مع منطق العلم في المعرفة بأسس التسليم العلمي , كل وجود لا بد له من خصيصتين الأول الإشغال والثاني المظهر , النجوم الكائنات الأخرى وحتى التي تتميز بالأثيرية كالأحلام مثلا أو المشاعر لها وجود واقعي في الذهن مرتبط بقوانين وخاضعة للقياس والرسم والتوقع ,ولها مظهر حقيقي يمكن تلمسه من خلال معدات ووسائل تقنية حتى تكشف مسارات هذا الوجود ومظهريته , فهي ليست غيب ولا من سنخ المقياس التقديري المرتبط بالخفاء , إنها عالم متكامل ووجودي عكس ما نجده مثلا في مفردات الدين الجنة والنار الملائكة الغضب المكافأة وغيرها التي ترتبط حصريا بمسمى عالم الله .
الملحد يتخذ موقف فاحص بموجب معيار العقل الذي يؤمن به فهو متدين به ومنحاز لما يؤشر له أو يستنتجه بموجب ذات القوانين التي يؤمن بها المتدين ويلزم بها نفسه ويطلب من الآخرين أن يصدقوا له وبه , العقل عند المتدين طريق إثبات ونفي وأداة تحرير اليقين وبرهان الفرض , الديني الذي يلم خلاف ذلك لا يمكن وصفه مؤمنا بالله بمعنى الإيمان الاختياري وهو نوع من أنواع البهيمية التي لا تفقه لماذا تؤمن أساسا , المتدين صاحب العقل يستصحب إيمانه بنتاج العقل ومشورته , وهو ذات ما يفعله الملحد مع فرق موضوعي أن الملحد أحادي الوجه مستغرقا في إيمانه بالدليل العقلي أما المتدين العاقل لا ينفي عن العقل قصور في الرسم أو قصور في النتيجة , ويمكننا أن نسمي الملحد عقلاني كامل بينما المؤمن العاقل عقلاني نسبي .
إذا الإلحاد كمفهوم ليس تجاوزا على الذات الإلهية التي يصفها المتدين بالحقيقة المطلقة التي لا تقبل النفي بمجرد الإنكار , كما لا يمكننا القبول بالتسليم بها لمجرد أننا بحاجة لتبرير حسب رد الملحد , كلا الطرفين قريب من الواقعية العقلية إذا أردنا أن نجعل العقل هو الحكم بين مقولتين وفكرتين متناقضتين , وهذا لا يعني أن العقل يمكنه النظر للقضية من زوايا مختلفة , ولكن العقل منقاد بالأساس لقواعد هندسة البناء الفكري والتصوري التي يتبعها , والتي على أساس نتاج المظهر الناتج من البناء الهندسي يمكن لنا أن نخمن النتيجة التي سيظهر عليها الجواب النهائي , العقل الإنساني ليس نمطيا مثاليا مصبوب بقالب ونسق تكويني واحد ,ولا يخضع في طريقة عمله لبرمجة موحدة حتى نتوقع نتائج متطابقة , هذه الميزة هي التي منحته هذا الإثراء والتراكم والتطور والإبداع الفكري الذي يقو في النهاية إلى تلون كامل للمشهد العقلي الإنساني .
الملحد لا ينطلق من فكرة النكران لأجل النفي ولا السعي من اجل أثبات ما هو خلاف الثابت ,بل يحاول أن يستكشف الوجود بقوانين وجودية محضة طالما أنها مهيأ بالأصل لذلك ومعتمدة في مجال الفرض والبرهان ,الفيزياء والكيمياء وكل العلوم التطبيقية الهندسية المتعلق بفهم الكيف والكون والقياس والمعايرة أدوات لا يمكن تجاوزها لأنه في العقيدة الذاتية للملحد مقدسات لا يمكن لأحد إنكارها لا المؤمن ولا الكافر ,وبالتالي فهو بنظره العلمي غير متعد ولا متجاوز الحقيقة التي يفهمها العلم ويتساوق مدلولها مع المنطق المجرد الذي يقود الأشياء للتحقق.
الفكرة التي يعتمدها الكثيرون وأظن أن البعض ممن يعلن عن نفسه ملحدا يعتقد أنه في الجانب الأخر من فكرة الله التي يطرحها الديني أو حتى الفهم العام المشترك لها ,المسألة ليست بهذا الاتجاه أبدا ,لو تهيأ للملحد من وسيلة علمية أو منهج منطقي يقود لإيضاح الفكرة فلن يزيده هذا إلا تمسكا بالعلم وعدم مغادرته ما يعتقد , الإمام علي عليه السلام في قول له مأثور يقول(لو كشف لي الغطاء ما ازددت إلا يقينا) الموضوع لديه محسوم ومحسوب وفقا لمنطق العلم الذي لديه , فك زيادة بالإثبات لا تغير من القناعة التي توصل لها ذاتيا من العلم الخاص به ,هكذا الملحد كل ما يكشف له العلم عن حلقة لا يزيده إلا يقينا بعقيدته العلمية سواء أدخل مفهوم الرب أو الغيب في هذا المنطق الجديد المزداد أو لم يدخل , فهو يسير على نسقيه عقلية لا يحيد عنها ولا يدخل أو يخرج مفهوم على أساس غير أعتباري أو لمجرد عدم الرغبة في أعتناقها .
التوهم الذي يصيب الكثيرون حينما يخلطون بين الإلحاد الذي هو نوع من أنواع التفكير المنطقي القائم على اليقينية التامة بدليل التيقن وبين فكرة كراهية الله أو الدين نتيجة موقف شخصي أو حتى موقف عام , الفكرة الثانية ليست من ما ينسب للإلحاد كما هي أيضا فكرة طارئة تتحكم بها عوامل ومتغيرات قادت إلى بلورة هذه الفكرة دون أن تدعمها رؤية عقلية منضبطة , وبالتالي كون الكراهية لله أو الدين أو الغيب هو عماد الموقف الشخصي الذاتي فمن يظن أنه ملحد بهذا الوصف إنما تشبه تماما موقف الملحد المتدين الذي يرى في تدينه نهاية العالم في الإيمان دون أن يكون إيمانه بالله أو النص الديني مبني على مقدمة عقلية أو منطق معقول يمكن الركون له, كلا الاعتقادين لا يمكن ضمهما تحت مسمى الإلحاد أو الإيمان ولكن من المجزوم به أن تبني قرار الإلحاد بحاجة إلى فلسفة تطرح البديل وتتبنى منهج يقوم على قبول الحقيقة أينما تكون حين يكون مصدرها العقل العلمي .
اللا ديني في الغالب ليس ملحدا بل متخلي عن الارتباط بدين أو عقيدة وقد يكون على عكس الملحد مؤمنا بوجود الغيب والقدرة التحكمية له وأيضا قد يكون مؤمنا بصدقية دعوى الدين , لكنه وتحت قناعات اختيارية جنح لعدم الالتزام بمحدد يبين أنتماءه الديني ,فهو يمارس خياره من خلال موقف شخصي وقد لا يكون عقلانيا بمعنى العقلانية الفلسفية المبنية على الحجة والبرهان, اللا دينيون في العادة ومن التسمية يؤكدون على هوية تحررية فقط مثل الذين يخرجون عن القانون ليس لأن القانون غير موجود أو غير نافع ولكن لأن القانون لا يلبي لهم تطلعات أو أنه يحد من حريتهم المتصورة ولكنهم ومن أسمهم خارجون عن القانون يعلنون اعترافهم به ,كذلك يفعل اللا دينيون يقرون بوجوده ولكن لا يقرون بمنهجه ألتحكمي .
الفرق بين الملحد واللا ديني أن الأول يتبنى موقفا علميا عقلانيا مرتبط بفلسفة وجودية ذات أبعاد وحدود ثابتة يمكن أن تستوعب كل نتيجة علمية يقبلها المنطق العلمي التجريبي الحسي , ولا يؤمن أيضا بالدوافع الشخصية التي تبتنى على مواقف ذاتية أو ردات فعل لموقف ذاتي , اللا ديني قريب من نكرانه للدين بالنتيجة البعيدة المتعلقة برفض نتاج فكرة الله والدين التي يصل لها الملحد ولكن ليس لنفس الأسباب والمبررات والعلل ,هذا عدى أن موقف اللا ديني موقف مطاط مرن قد يقبل ببعض الممارسات الدينية أو الأفكار التي تمنحه حق النكران كما تمنحه حق الاعتقاد وقد يتجاوز حقيقة رفض الملحد للجزئيات هذه في اتجاه موقف شمولي عام .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟